موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

مقدمة مع قراءة خطبة الكتاب

  السابق

المحتويات

التالي  

مقدمة مع قراءة خطبة الكتاب


البحث الخامس من مباحث خطبة الكتاب في ما وقع على "قلوب الكلم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الرابع مفقود فى الكتاب والمخطوطات فلنمضي بالبحث الخامس من المباحث الكلَّية التي تحويها خطبة الكتاب
قال الشيخ - رضي الله عنه - : " على قلوب الكلم " .
يقال : أنزل إليه وأنزل عليه ، قال الله تعالى : " إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ " آية 105 سورة النساء.
وقال : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ " آية 7 سورة آل عمران.
قال العبد : العلم بحقيقة القلب من أغمض العلوم الحقيقية ، وقد وقع خبط عظيم قبلنا في تعريف المتقدّمين لحقيقة القلب وحقيقة الروح وحقيقة السرّ والنفس .
فمذهب الجمهور من المشايخ والحكماء والعارفين من أصحاب الرسوم والمترامين إلى طور التحقيق - أنّ هذه العبارات والألفاظ مترادفة على حقيقة واحدة ، سمّيت بهذه الأسماء في مراتبها ومقاماتها فسمّيت تارة روحا ، وأخرى نفسا ، ومرّة قلبا .
والكشف والتحقيق يقضيان بأنّها حقائق متمايزة بخصوصيات تميّز كلَّا منها عن الآخر ، ونحن نشير إلى حقائق هذه الأسماء والألفاظ ومدلولاتها بما يقضي به حقّ التحقيق ويقتضيه الكشف والله وليّ التوفيق .
ونقدّم لذلك مقدّمة نافعة :
في سعة عالم المعاني وإحاطته
فنقول : عالم المعاني والحقائق أوسع وأعظم من سائر العوالم لعدم خلوّ عالم من العوالم العلوية والسفلية جمليّا كان أو تفصيليا عن معان كثيرة قائمة .
بل التحقيق الأتمّ هو أنّ « العالم » عبارة عن معان قائمة بالوجود الظاهر بها وعالم المعاني عبارة عن صور علم الحق بحقائق الأشياء .
ولا خفاء في سعة الحضرة العلمية وهي حضرة تعيّن معنويات الأشياء فكان عالم المعاني أعظم سعة وأوسع فلكا وحيطة .
ثم العوالم بعدها في الوجود بعضها أوسع من البعض ممّا دونه في عالم الملكوت وهو عالم الأرواح أوسع فلكا وأعظم حيطة من عالم الخلق والملك والشهادة .
ثم من عالم الخلق أيضا العرش والكرسي والأفلاك والسماوات أعظم وأوسع من عالم الكون والفساد وبعض عالم الكون والفساد أيضا كذلك أوسع وأعظم ممّا دونه ، وهذا بيّن بين أهل النظر .
ولمّا كان الأعلى أوسع وأعظم ممّا دونه ، فبالأولى والأحقّ والأخرى أن يكون عالم الألفاظ والعبارات أقلّ وأضيق فلكا من عالم المعاني والحقائق . الذي هو أوسع العوالم وأعلاها وأوّلها وأولاها.
فلو كانت هذه الألفاظ والعبارات أوسع فلكا وأعظم حيطة من عالم المعاني وذلك بيّن البطلان على ما مرّ لكانت الألفاظ والعبارات أكثر من المعاني ووجدت ألفاظ لا معاني لها ، وليس الأمر كذلك .
ولا يقال : قد يركَّب من الحروف ألفاظ لا معاني لها لكوننا لم نضعها لمعان .
لأنّا نقول : هب أنّكم لم تضعوها لمعان في زعمكم ومبلغ علمكم ، ولكن لم قلتم بأنّ حروفها والتركيبات الخاصّة الواقعة فيها ممّا ركَّبتموها وما لم تركَّبوها .
وهي محتملة الوقوع فيها على اختلاف أنواع الأوضاع وكثرة أنحائها ليس في صلاحيتها الدلالة على معان علمها الحقّ الذي هو الواضع الأصل الأوّل ، الذي يضع منها ما شاء في نفوسكم وأذهانكم أن يضعوها على معان يعنونها .
فإنّ المعاني تعقّلات عناها العاني ؟
بل المعاني والحقائق في علم البارئ وعلم أرباب علم الحروف موضوعات بإزاء الألفاظ والعبارات .
وهي بحقائقها وبسائط حقائقها تطلب أنواع الأوضاع والتراكيب الواقعة فيها ..
وفيها دلالات ذاتية على المعاني والحقائق واللوازم والعوارض واللواحق عرفها الواضع منّا أو لم يعرف وعدم علومكم بها لا يدلّ على عدم دلالتها على المعاني .
وأنّها غير ذوات المعاني إذ لا تعيّن لها في عرصة العلم الإلهي فإنّا نجد تراكيب حرفية وهيئات فيها اجتماعية تعطي خواصّ غريبة وآثارا عجيبة في التكوينات والتصريفات والتسخيرات .
كما تحقّق عند علماء علوم الأسرار والروحانيات والطَّلسمات ، ممّا لا يشكَّكنا في آثارها المشهودة مشكَّك .
فتحقّق لنا بهذا وغيره أنّ أنواع التراكيب الواقعة والمحتملة الوقوع في الحروف ، لها معان ومدلولات وإن لم نعلمها ولم نعثر عليها علمها الخلَّاق العليم بها .
فأنزل منها البعض في التعقلات والأذهان ووضع لها أن تضعها لمعان بعينها وتعقّلات تعتبرها وتدبّر بها ،فيضعها الواضعون المصطلحون كذلك.
ويظنّون أنّها أوضاع أول لعدم علمها وكشفها في عالم المعاني التي هي صور معلومات الحق ومعاني نسب علمه الأزلي القديم بالأشياء.
بل أوضاعنا لهذه الألفاظ بإزاء ما نعني من المعاني إنّما هي أوضاع ثوان وقعت بحسب تلك الأوضاع الأول المعنوية العلمية الأزلية الأوّلية ،بموجب الحقائق الحرفية.
عرف ذلك العارف المحقّق ، وكشفه الكاشف المدقّق ، وتحقّق بحقيّة ذلك ، المحقّق المحقّ ، وجهلها أهل الحجاب ، فلم يعثروا عليها وهم معذورون من وجه .
ولهذا السرّ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : « الألقاب تنزل من السماء » .
وفي هذا المقام وجميع الألفاظ المترادفة في زعم القائلين بذلك وفي الألفاظ المتواطئة والمشتركة أيضا لنا مع عامّة علم المعاني والبيان وظاهرية المنطقيين خلاف قديم ، ونظر قويم ، وبحث مستقيم .
ليس هذا موضع تفصيله ، وفيما ذكرنا غنية لمؤهّل الكشف . فينحلّ بما ذكر أنّ هذه الألفاظ المذكورة كالروح والقلب والنفس وغيرها هي ألفاظ دالَّات على حقائق متمايزة ومعان متغايرة .
ولا يتحقّق الترادف والتواطؤ حقيقة إلَّا مجازا ، وبعد تقرير هذا الأصل نرجع إلى ما كنّا بصدد بيانه .
بيان وجوه الفرق بين اللطائف السبعة الإنسانية
فنقول : اعلم : أنّ الإنسان في حقيقته وهيئته جمعية أحدية من جوهرين هم جسمه وروحه :
أحدهما وهو الجسم :
جوهر ، متحيّز ، مظلم ، كثيف ، مركَّب ، عنصريّ ، ثقيل ، ميّت ، منفعل ، سافل ، حادث ، متغيّر .
والثاني وهو الروح :
جوهر غير متحيّز يروّح الجوهر - المظلم الكثيف الميّت - عن ظلمته وكثافته وموته بنوره الذاتي وحياته الحقيقية وبساطته الوحدانية وحركته وخفّته .
وهذا الجوهر الثاني غير المتحيّز لا يفتقر إلى متحيّز في تقوّم حقيقته وتحقّق وجوده في عينه ، ويسمّى هذا الجوهر روحا مروّحا لجسمه عن خصائصه العدمية .
وبين الجوهرين تباين كلَّي في الحقائق ، فلا جامع غير الوجود والجوهر .
فأوجد الله من هذا الجوهر بهذه الحيثية والاعتبار جوهرا ثالثا هو النفس ، وهي جوهر غير متحيّز وغير متقوّم بالمتحيّز ، له تعلَّق التدبير والتعمير والتسخير بالمتحيّز ، وهو الجسم .
وذلك لأنّ النفوس الناطقة وإن كانت جواهر وحدانية نورانية فإنّها مشتملة على قوى كثيرة وخصائص وحقائق كذلك .
ظهورها متوقّف على تعلَّق التدبير والتسخير والتعمير والتنوير بجعل الله تعالى هذه الجواهر النفسانية الإنسانية وسائط بين الجوهر النيّر الحيّ الشريف الوحداني القدسي الروحي ، وبين الجوهر الآخر المظلم الميّت المركَّب.
الكثير لمناسبتها الجوهرين بجهتيه :
الوحدانية المطلقة والكثرة النسبية.
والتقيّد بالتعلَّق بالمتعلَّق .
فأوصلت فضائلها القدسية وأنوارها الكمالية الروحية إلى الجوهر الآخر يحيا بها ، وتنوّر وتروحن واكتسب الفضائل كلَّها .
فالنفس جوهر غير متحيّز ، له تعلَّق التدبير بالمتحيّز للتعمير ، والتشريف بالتسخير والتصريف .
فحقيقة روح الإنسان نور التجلَّي النفسي الرحماني المتعيّن في ماهية القابل الإنساني يروّحه بنسيم القدس ، وينفّس عنه كرب الطمس والليس ، فافهم .
وأمّا النفس فنفس رحماني متعيّن من روح نوراني في مزاج جسماني إنساني وغيره .
فهذا الجوهر هو المدبّر للبدن والمتصرّف فيه أنواعا من التصرّف بقواها الذاتية لها ،كالقوّة العلمية والقوّة العملية اللتين هما ذاتيتان للنفوس.
وبهما تدبّر أجسامها وهياكلها ، وتظهر أحكامها وآثارها وقواها ، فبالقوّة العلمية تعلم ما فيه مصالحها ومصالحه .
وتدبّر في موجبات ما به قوام جسدها وبقاؤه ، وبالقوّة العملية تعمل الأعمال والصور .
ولها قوى كثيرة جزئية لازمة لهاتين القوّتين تظهر منها إذا تعيّنت في المزاج العنصري بالإشراف عليه ، وفي قواه .
وهذه المباحث معلومة في الحكمة الحقيقة الكشفية لا الوهمية الرسمية .
وهي أعني النفس متعيّنة من النفوس الكلَّية المتعينة بالأفلاك وفيها ، متعيّنة في الأمزجة القابلة لتعيّنها فيها من عالم الكون والفساد .
فبعد تعينها في المزاج وامتزاج الخواصّ والحقائق والقوى البدنية المزاجية بالحقائق والقوى والخواصّ النفسانية وتفاعل بعضها في البعض ، تحصل منها هيئة اجتماعية هي أحدية جمع حقائق الجوهرين جميعا .
وذلك لأنّ لكلّ واحدة من حقيقتي النفس والبدن خصوصيات وحقائق ليست في الأخرى .
وكما أنّ كل واحدة منهما متميّزة عن الأخرى بخصوصياتها الذاتية الجوهرية .
فكذلك بينهما وبين حقائقهما الذاتية ولوازمهما العرضية مناسبات هي ما به الاشتراك والإيجاد والجمع ، كالإمكان والحدوث والوجودية والجوهرية والافتقار إلى أحدية الجمع والوجود في ظهور آثارهما وأحكامهما وخواصّهما .
فكذلك لكل واحدة منهما قابلية واستعداد خاصّ تقبل به فيضا خاصّا وتجلَّيا معيّنا من الحق يتعين في مظهريته وقابليته من الحضرات الأسمائية الخصيصة به فإنّه ما استعدّ قابل كياني لتجلّ ربّاني إلَّا وفاض عليه من الرحمة الفائضة الوجودية الجودية ما يخصّه ويناسبه .
ولا يحجبك ما يحصل في زعمك أنّ الجواهر الروحانية والنفسانية إنّما قبلت الفيض الوجودي الذي وجدت به وقبلت الكمال الخاصّ بها كاملة دفعة واحدة في أوّل الإبداع . واستقلَّت بذلك أبدا فإنّ هذا وهم من القائلين به .
بل هذه الموجودات وإن قبلت الوجود على الوجه الأكمل وصارت بذلك واجبة الوجود .
ولكن ذلك لم يخرجها عن الحقائق الإمكانية ونسبها العدمية فإنّ كلَّا منها مع قطع النظر عن الوجود الفائض عليه وترجيح الموجد لجانب وجوده معدومة لأعيانها فإنّ نسبتها العدمية الإمكانية تطلبها ، ولكنّ الله يوالي ويتابع عليها التجلَّيات مع الآنات ، والتجلَّي الدائم بالوجود على ماهيات العقل والنفس والروح هو الذي يوجب دوامها لا غير .
فهي بوجوداتها التي قبلت أوّلا تستعدّ لتجلَّيات أخر أبدا دائما ، وكل ما دخل في الوجود لا يقبل العدم .
ولمّا تعيّنت الأرواح الجزئية والنفوس البشرية والملكية وغيرهما في أمزجتهما الخصيصة بهما ، وتداخلت خصائص الكلّ في الكلّ ، وتمازجت الحقائق الروحانية والعقلية بالحقائق والأحكام البدنية المزاجية بأحدية جمع الخصوصيات والأحكام التي للحقيقة الروحية والحقائق والقوى والخواصّ والنسب الجسمانية ، فإنّ الهيئة الاجتماعية بين خصائص الجوهرين الجمع بين حقائق الطرفين .
ثم إنّ لها بحسب كل نسبة وحكم من أحكام الجانبين نسبة وحكما خصوصيا جميعا أحديا ، ليست في كل واحد من الطرفين ، تستهلك فيها صور الخصوصيات ، مع بقاء خواصّها في الحكم القلبي الجمعي .
فالقلب حقيقة جامعة بين الحقائق الجسمانية والقوى المزاجية الجسمانية وبين الحقائق الروحانية والخصائص والأحكام النفسانية .
والتجلَّي الخصيص بحقائق الجوهر النفساني والروحاني تجلّ متعيّن من حضرة القدس والنزاهة والوحدة والعلوّ والفعل والشرف والحياة والنورية .
والتجلَّي المخصوص بالجسم متعيّن بأضداد ما للروح والنفس ، وذلك كتعين التجلَّي في كل قابل بحسبه .
فلمّا ظهرت الحقيقة القلبية بأحدية الجمع ، استعدّت لقبول تجلّ إلهي وفيض جمعي كمالي إحاطي ثالث لا يمكن تعيّنه في كلّ واحد من الجوهرين ولا في خصائص كلّ منهما وحقائقهما على الانفراد .
وهذا الفيض المخصوص بالقلب الإنساني إنّما يكون تعيّنه من الحضرة الإلهية الكمالية الجمعية وأصل حقيقة التعيّن الأوّل وهو المتعين بذلك التعين من كونه مروّحا له عن نسبه العدمية ولأنّ المتعيّن بالتعين عن الحقيقة المتحققة في الإطلاق واللا تعين .
وفي التعين كذلك ، كان للروح نسبة الأحدية والبساطة والحياة والنور والشرف والنزاهة من جهة إطلاق التعين ، وحقيقة الجسمية من حقيقة الحقائق الإمكانية المظهرية ، ولهذا غلب عليها التركيب والكثرة والظلمة .
والحقيقة القلبية الكمالية ، لها الجمع بين البسيط الشريف العالي النزيه المنيف وبين المركَّب السافل الكثيف السخيف .
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : « قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ».
الإصبع الواحدة نعمة التجلَّي المتعين من حضرة الجلال والقهر والوحشة والستر و " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه " آيه 76 سورة يونس . إذ عيب العين ستر على نور السرّ .
والإصبع الأخرى نعمة التجلي المتعين من حضرة الجمال واللطف والأنس والنور والحياة والنشر .
والأوّل يختصّ بجسمانيته . والثاني يتعلَّق بروحانيته .
والإصبع في اللغة العربية هي النعمة.
فقلب المؤمن بين نعم التجلَّيات الجلالية الجمالية الظلمانية الموجبة لسكون النورية الروحية فيها وبين نعم التجلَّيات الجمالية الروحانية النورانية.
ولتحقّق الحقيقة القلبية بأحدية جمع الطرفين تختصّ بأحدية جمع النعمتين والتجلَّيين فلها التجلَّي الكماليّ الجمعي الأحدي الإلهي الإنساني من كمالات الإصبعين .
وهذا التجلَّي الثالث القلبي المتعين بسرّ الأحدية الجمعية الإلهية الكمالية من الله المستوي على عرش أحدية جمعه القلبي الذي وسعه قلب المؤمن حين لم تسعه السماوات والأرض .
وهو من حيث تعيّنه بالقلب يسمّى في عرف القوم بالحق المستجنّ في مظهرية الإنسان الكامل ، كما أشار إليه الكامل - صلَّى الله عليه وسلَّم حكاية عن الله تعالى أنّه قال : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقيّ المتّقي الوداع » .
يعني ما وسعه أرض الجسمانيات سماؤها وأرضها ، ولا سماء العلويات ، يعني الموجودات الروحانية العالية لاختصاص كلّ واحد من الطرفين بما يضادّ الآخر في التجلَّي ، وانحصاره في خصوصيته ينافي خصوصية الآخر ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ، القابل المصدّق لأخبار التجلَّيين ، فله الجمع بين الحسنيين ، والفوز بالجمع بين الكمالين .
ويسمّى هذا التجلَّي الحاصل لأهل القلوب في عرفهم بالسرّ الإلهي .
وسمّاه بعض المتأخّرين من محقّقيهم بالسرّ الوحدانيّ الذات .
ويسمّى في مشرب الكمال بالحق المستجنّ كما قلنا أي الباطن المستتر بمظهرية القلب ، لاستجنانه واستتاره بباطن القلب الإنساني الكمالي ، فافهم .
وإذا فهمت فقد علمت :
حقيقة الجوهر الجسماني
وحقيقة الجوهر الروحاني النفساني
وحقيقة القلب
وحقيقة السرّ
والحقيقة الإنسانية المتحققة بالكلّ
والفرق بينه ، وما به يختصّ كلّ حقيقة وتمتاز عن الأخرى ، وما به تشترك وتتّحد .
وأمّا الروح فهو نفس رحماني يروّح ماهية الممكن وحقيقة المظهر الكياني القابل ، وينفّس عنها كرب العدم وحرج الصدر وضيق الفطن .
فالروح نور من الحق ينفّر ظلمة عدم الكون ، ويروّح القابل ، وينفّس عنه ، وذلك النور نور التجلَّي الوجودي والفيض الجودي المتعين في القابل والمقترن عن أمر الله ماهية الممكن أزلا .
فعلى هذا الروحيّة مرتبة تعمّ العقل والنفس والروح لأنّ حقيقة كل منها من نفس الرحمن وبعد تعيّن الفيض الجودي النوري في القابل أوّل مرّة يصدق اسم الروح عليه .
ثم الروح وهو أوّل وجود القابل إمّا أن يقبل ويضبط التجلَّي المتوالي عليه لإبقاء عينه ، ويعقل المتجلَّى عليه بذلك النور .
ويعقل ذاته وإمكانه وهو العقل ، وإمّا أن لا يعقل ذاته وإمكانه ، واستهلكه شهود التجلَّي ، وأخذه التجلَّي عنه ، فهو الروح المهيّم .
وتقرير هذا التقسيم بوجه آخر :
هو أنّ التجلَّي النفسيّ الفائض من النور : إمّا أن يغلب العين القابلة ، ويقهر الحقيقة الممكنة ، فلا تقوى على ضبطه ، فتستهلك في التجلَّي ماهيّة المتجلَّي له.
أو يكون القابل أغلب ، فلا يستهلك التجلَّي عينه ويقاومه بل يتعين التجلَّي فيه بحسبه ، فيكون الغالب على التجلَّي حكم المحلّ القابل ، أو لا يغلب حكم أحدهما على الآخر .
فالأوّل : عالم الأرواح المهيّمة تجلَّى لهم الله في جلال جماله ، فهاموا فيه ، فلا يعرفون أنفسهم لكون التجلَّي أفناهم منهم .
والقسم الثاني : وهو ما غلب فيه حكم المحلّ والمظهر على حكم التجلَّي هم على درجات :
فمنهم : من لم يغلب فيه حكم كثرة الإمكان على وحدة النور الفائض ، ولكنّه توحّد به لكمال مناسبة القابل للتجلَّي ، وهذا شأن العقل الأوّل .
ومنهم : من غلب فيه حكم كثرة الممكن على وحدة التجلَّي ، فتعيّن النور فيه مفصّلا تفصيلا لا يغلب فيه حكم الكدر على حكم النور ، بل يكون النور والروحيّة غالبا على الظلمة العدمية الإمكانية ، وهذا شأن النفس الكليّ وهو اللوح المحفوظ .
ومنهم : من غلبت حجابية الكثرة على نورية التجلَّي وهو عالم الجسم ، فالروحية إذن مرتبة محيطة بالعقول والنفوس والأرواح ، والعقل والنفس ، لهما خصوص مقام في الروح وقد قال بعض المحقّقين عن العقل : إنّه الروح الأعظم .
وهذا المقدار الذي ذكرنا في بيان هذه الحقائق وضّح للمستبصر المنوّر الفهم حقيقة القلب والعقل والنفس والروح والفرق المميّز بينها ، فلا يقع له خبط بين الحقائق والمراتب إذ لا خبط في التحقيق .
وإذا تحقّقت ذلك فاعلم :
أنّ إنزال الحكم من حضرة الأحدية الجمعية الإلهية إنّما يكون على القلوب الأحدية الجمعية الكمالية الإنسانية بين حقائق الروح والنفس والجسم .
.


OU0X0JhQZ7Y

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!