موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة فردية في كلمة محمدية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فردية في كلمة محمدية


27 - فصّ حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

قال العبد : قد قدّمنا في شرح فهرس الفصّ ، علَّة استناد هذه الحكمة الكليّة الفردية إلى الكلمة الكاملة الإلهية ، وسيرد في متن الفصّ وشرحه ما فيه بلاغ ، ولكنّا نومئ إلى أوّلية المرتبة الفردية ، فإنّ للفردية مراتب ظهور ، وهي في كل مرتبة علَّة للإنتاج وسبب للإثمار .
"" قال العبد : جاء الوارد في هذه الحكمة بعبارتين دالَّتين على حقيقة واحدة :
إحداهما : حكمة كلَّية لكونها أحدية جمع جميع الحكم الجمعية الكلَّية المتعيّنة في كلّ كلّ منها كلَّية فهي كلّ كلّ منها .
والثانية : حكمة فردية لأسرار وحقائق يكشف لك عن أصولها وفصولها في شرح حكمته صلَّى الله عليه وسلَّم . ""
فنقول والله المؤيّد بأيد أيّدة لعبده المؤيّد بها ثمّ بما من عنده - :
قد علمت فيما تقدّم :
أنّ أوّل المراتب الذاتية الإطلاق واللاتعيّن ، وهو غيب غيب ذات الذات الإلهية .
والمرتبة الثانية التعيّن الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الذي به تعيّنت العين لعينها ، وتحقّقت الحقيقة الذاتية لذاته وحقيقتها التي هي عين الذاتية ، وتسمّى حقيقة الحقائق الكبرى عندنا ، ولهذ التعيّن الأوّل الأحدية من وجه ، والوترية من وجه ، والشفعية من وجه .
أمّا شفعيته فلأنّه شفع مرتبة الغيب الذاتي الإطلاقي بتعيّنه وتميّزه عن اللاتعين .
وأمّا وتريّته فلأنّه امتاز بنفس التعيّن عن اللاتعين الذي نسبته إلى العين كنسبة التعيّن سواء ، فإنّ العين المتعيّنة بالتعيّن الأوّل من حيث هي هي اللامتعيّنة في اللاتعين والإطلاق ، بل التعين واللا تعين نسبتان لها ذاتيتان ، ليست إحداهما أولى من الأخرى ،
ومع كونها عينهما فهي مطلقة عن الجمع بينهما والإطلاق عنهما ، ولكنّ المتعيّن الأوّل بالتعين الأوّل لمّا امتاز بنفس التعين عن اللاتعين وليس ثمّة من يشفع أحديته ،
إذ هو أحدية جمع جميع التعينات المعنوية المرتبية للحقائق ، بقي وترا وهو أوّل مرتبة الوتريّة ، إذ ليس في مرتبة اللاتعين والإطلاق حكم ولا اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ولا علم ، فلا شفع ولا وتر ولا واحد ولا فرد ولا غير ذلك .
وأمّا أحديّته فلكون هذ التعين عين المتعيّن ، لا زائد عليه إلَّا في تعقّلنا ، فإنّه تعيّن الذات بذاتية الذات ، فلا اثنينية ولا كثرة ، فلها الأحديّة ، فالأحدية والوترية والشفعية مستندها إلى هذا التعين الأوّل الذاتي العيني ، وللعين الجمع بين التعين والل تعين ، والقيد والإطلاق ، وللتعين الأوّل الجمع بين الشفعية والوترية والأحدية ، كما مرّ .
فظهرت في مجموع هذه المراتب الثلاث الفردية الأولى ، وكذلك للتعيّن الأوّل وللعين ، فتعيّنت الحقيقة البرزخية الجمعية بين الإطلاق والتعيّن ، وبين التعيّن والمتعيّن ، وبين الشفعية والوترية ، بمعنى أنّ هذه الحقيقة البرزخية ، لها الجمع ولها الفصل بين الطرفين ، وهي عين الطرفين في هذه المراتب كلَّه .
وهذه البرزخية برزخية الحقيقة الإنسانية الأحدية الجمعية الأزلية الأبديّة المحمدية التي هي الأحدية الجمعية الكمالية الذاتية الأولى ، ولها جمع الجمع الأوّل ، وصورته في أوّل المرتبة النبويّة الإنسانية البشرية آدم عليه السّلام ، وفي آخر المرتبة النبويّة الكمالية الجمعية الختمية محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وله أحدية جمع جمع الحقائق الإلهية والحقائق الكمالية الإنسانية ، ولهذه الحقيقة المحمدية المشار إليها الفردية الأولى ، ومنها تفرّعت الفرديات في جميع المراتب المعنويّة والروحانية والإلهية والكونية وغيرها ، فأسند الشيخ رضي الله عنه هذه الحكمة للكلمة الكاملة المحمدية ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( إنّما كانت حكمته فردية ، لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، ولهذا بدىء به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطين ، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيّين وأوّل الأفراد "الثلاثة" .).
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الفردية له من كونه أكمل النوع الإنساني الكمالي ، لأنّ الفردية مخصوصة كما ذكرنا بالإنسان الكامل ، ولا أكمل من محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فله الفردية الحقيقية الغيبيّة العينية المشار إليها من حيث حقيقته ومعنويته.
أوّلا في عالم المعاني ، ثمّ بنشأته الروحانية كان نبيّا مبعوث إلى كافّة الأرواح النبوية ،
ثمّ بنشأته العنصرية كان خاتم النبيين ، فحصلت الفرديّة الأولى ، وله الفردية الجامعة بين البدء والفاتح ، والختام الواضح ، ونبوّة روحانيته بالكمال الراجح ،
وثمّ سر آخر :
وهو أنّ الفردية جامعة بين الشفع الأوّل الذي هو اثنان والوتر الأوّل لأنّ أوّل الأفراد « الثلاثة » ، وهي تجمع بين الاثنين والواحد ، وبالجمع تحصل فرديته ، فهو أعني الثلاثة الفردية من الأعداد - الأوّل ، وليس هذ للأحدية ولا للواحد ولا للاثنين ، فافهم .
فإن قلت : الاثنان يجمع بين الأحدية والاثنيّنية .
قلنا : ليس له الفردية كم لأوّل الأفراد .
قال رضي الله عنه :( وما زاد على هذه الأوّلية من الأفراد فإنّه عنها ، فكان عليه السّلام أدلّ دليل على ربّه ، فإنّه أوتي جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم ).
يعني رضي الله عنه : مسمّيات الأسماء التي علَّمها الله آدم والكلمات الإلهية ، وإن كانت لا تنفد ، فإنّها لا تتناهى ، وهي أعيان الممكنات ، لكنّها تنحصر في أمّهات ثلاث :
الأولى : هي الحقائق والأعيان الفعلية المؤثّرة الوجوبية الإلهية .
والثانية : الحقائق الانفعالية الكيانية المربوبية الإمكانية .
والثالثة : الحقائق الجمعية الكمالية الإنسانية .
والكلّ أمّهات الشؤون الذاتية ، وللحقيقة العينيّة الذاتية الإحاطة والإطلاق ، فهذه الكلم هي الكلم التي أوتيها محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فجمعها ببرزخيته المذكورة .
قال رضي الله عنه : ( فأشبه الدليل في تثليثه ) .
يشير رضي الله عنه : إلى التثليث المذكور في أوّل الفصّ المحمدي الصالحي فتذكَّر ، وهذا التثليث يتضمّن التربيع - كما ذكرنا - فإنّ الدليل وإن كان مثلَّث الكيان ، فإنّه مربّع الكيفية ، وقد ذكر ، فلا نعيد ، فاذكر .
قال رضي الله عنه : ( والدليل دليل لنفسه ) أي دلالته ذاتية له وهي أيضا ثلاثية ، إذ لا بدّ من دليل ومدلول ودلالة .
قال رضي الله عنه :( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلَّث النشئ ) يعني بروحه وجسمه وحقيقته الجامعة كما مرّ « ولذلك قال في المحبّة التي هي أصل الوجود .
" في بعض النسخ : أصل الموجودات ."
قال رضي الله عنه :(« حبّب إليّ من دنياكم ثلاث » بما فيه من التثليث ، ثم ذكر النساء والطيب ، وجعلت قرّة عينه في الصلاة ، فابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه ، لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم -: "من عرف نفسه عرف ربّه " )
قال رضي الله عنه :(فإن شئت ، قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر ، والعجز عن الوصول ، فإنّه سائغ فيه .
وإن شئت ، قلت بثبوت المعرفة ، فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربّك . والثاني أن تعرفها فتعرف ربّك ، فكان محمّد أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربّه فافهم . )
يشير رضي الله عنه إلى أنّ نفس الإنسان الكامل من حيث إنّ الحق هو المتعين في عينها على إطلاقه الذاتي غير المنحصر في تعيّن وإطلاق لا تعرف ، فل يعرف الحق ، فإنّه لا يتعلَّق العلم بالحق من حيث لا تعيّنه ، ولكن من حيث تعيّنه بعينه يعرف ، فيعرف نفسه من هذه الحيثيّة فيعرف الحق ولا يعرفه إلَّا هو ، فل يعرف الحق إلَّا هو فلا يعرف الحق إلَّا الحق المتعين بالتعين الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الكمالي .
ولكن هذه المعرفة - من كونها استدلالية - على وجهين : من حيث الدلالة العينيّة ، ومن حيث الدلالة بالصورة ، ولأنّ الصورة المحمدية الكمالية لمّا كانت جامعة بين الصورة الإلهية الأحدية الذاتية ، وبين الصورة الأسمائية الجمعية ، كان أكمل دليل على ربّه وأتمّه .
وأمّا دلالته من حيث العين فهي أنّ العين - من كونها متعيّنة بالبرزخية الكبرى المذكورة - نفس العين المتعيّنة بالتعين الأوّل الذاتي ، فهذه دلالة نفسية .
وأمّا دلالته من حيث الصورة فإنّ دلالة الصورة المحمدية - من حيث تعين الحق في وجوده الكامل الجامع بين المعنى والروح والصورة - دلالة على الحق من حيث أحدية جمعه بين الكمال الذاتي والاسمائي ، والجمعيّ الإنسانيّ .
وكل واحدة من الدلالتين على وجهين أيض :
دلالة بالكمالات الثبوتية الظاهرة في الصورة المحمدية ، ودلالة من حيث الكمالات النسبية السلبية كالغنى والإطلاق واللا تعين واللاانحصار ، فإنّ محمّدا بصورته وحقيقته دليل دالّ على ربّه ، فهو أتمّ دليل ، لكونه أكمل المظاهر الجمعية الكمالية الإلهية الإنسانية ، وصورته أجمع الصور ، وسورته أفضل السور .
قال رضي الله عنه : (إنّما حبّب إليه النساء فحنّ إليهنّ، فإنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه).
يعني رضي الله عنه : أنّ كلَّية الكلّ لا تكون إلَّا بالجزء ، إذ الكلّ بالجزء كلّ فهو حنين الشيء إلى نفسه باعتبارين وحيثيّتين .
قال رضي الله عنه : ( فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية "وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " ثم وصف نفسه بشدّة الشوق إلى لقائه ، فقال للمشتاقين : يا داوود إنّي أشدّ شوقا إليهم ، يعني للمشتاقين إليه ، وهو لقاء خاصّ ، فإنّه صلَّى الله عليه وسلَّم قال في حديث الدجّال : إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتى يموت ، فلا بدّ من الشوق لمن هذه صفته .) .
يعني رضي الله عنه : لمن يحبّ أن يموت شوقا إلى الحق ، والسرّ أنّ الحق - من حيث تعيّنه بعين العبد المشتاق - يشتاق إلى نفسه من حيث تعيّنه في الأصل ، ثم إنّه من حيث الأصل يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد ، فيكون حينئذ اشتياق الحق أشدّ ، لكون شوقه تعالى ضعف الشوق الظاهر من المسمّى عبدا ، إذ هو المشتاق إلى نفسه من حيثيّتين في مرتبتين له ، ذاتيّتين ، فافهم ، فإنّه عاد من مقام قوله : من تقرّب إليّ شبرا ، تقرّبت منه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراع ، تقرّبت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة .
قال رضي الله عنه : ( فشوق الحق لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم ، فيحبّ أن يروه ) .
يعني : بارتفاع حجابية التعيّن من العين ، الموجب في زعمه بالبين في البين ، وبارتفاعه يرتفع الغين من العين ، فتقرّ العين بالعين ، فيقرب أين العين من العين ، إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : ( ويأبى المقام ذلك ، فأشبه قوله : "حَتَّى نَعْلَمَ " مع كونه عالما ، فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصّة التي لا وجود لها إلَّا عند الموت ، فيبلّ بها شوقهم إليه ، كما قال في حديث التردّد وهو من هذا الباب : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بدّ له من لقائي " يعني ليس ذلك إلَّا بارتفاع الحجاب واندفاع الحجّاب من الباب . "
فبشّره بلقائه ، وما قال له : ول بدّ له من الموت ، لئلَّا يهمّه بذكر الموت ، ولمّا كان لا يلقى الله إلَّا بعد الموت - كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتى يموت » .
لذلك قال تعالى : ولا بدّ له من لقائي ، فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة ) .
قال العبد : ولأنّ الشوق إنما يكون ممّن أحبّ وشهد محبوبه ، ثمّ وقع الفراق ، وامتنع الوصال والاعتناق ، فينبعث باعث طلب الاتّحاد والاشتباك بتقوية ما به الاشتراك ، والتعرية عمّا به المباينة والانفكاك ، والتبرئة عن حجاب التعين القاضي على الشائق بالهلاك ، المفضي إلى الارتياب والارتباك ،
فذلك الانبعاث العشقي لطلب الوصال في الفراق هو الشوق ، والاشتياق الذي يزداد ويشتدّ إنّما يكون للقاء خاصّ في عين الشهود والوصال ، وهو بارتفاع التعيّن العبدانيّ ، وفنائه في العين الأحدية بالبقاء الربّاني ، فيتّسع سعة وطنه ، بعد ضيق عطنه ، ويرتفع من حضيض تقييده ، إلى ذروة إطلاقه وتوحّده ،
وإلَّا فهي في الشهود دائما لربّه ، الذي هو متعلَّق شوقه ووجده ، وربّه دائم الشهود لعبده ، في جميع مراتب قربه وبعده ، شهود جمع في جمع ، على ما هو عليه الأمر في نفسه ، فناء في بقاء ، وبقاء في فناء من جهة العبد ، وبقاء في بقاء من جهة الربّ .
ثمّ الذي يشهد التعيّن نسبة ذاتية للمتعيّن ، ويراه عينه ، ويرى عينه إيّاه ، وفإنّه دائما في لقاء وهو في فناء فناء وبقاء بقاء ، ولكن هذ النوع من الاشتياق المنسوب إلى الأبرار إنّما يكون بالنسبة إلى من ليس مشهده م ذكرن .
وأمّا اشتياق العبد البالغ فإنّه لا يزول مع دوام الشهود ، ولا يحول مع اتّصال الوصال والوجود ، جعلنا الله وإيّاكم ممّن امتنّ عليه بهذ التجلَّي الدائم ، إنّه وليّ الوهب والجود .
وأمّا من حيث هذا الاشتياق واللقاء الخاصّ ، فشوقه أضعاف أضعاف جمع الشائقين والمتلقّين للقاء ربّ العالمين ، وله شوق آخر من حيث أحديّة جمع الشوقين والاشتياقين ، أعني شوق أهل الحجاب واشتياق أهل الشهود ، بمعنى أنّ هذا العبد يموت في عين حياته الدنيا ، ويتوفّاه الله إليه ، ويلقاه ويلقى ربّه ، فيبلّ كلّ واحد من صاحبه شوقه ، ويشهد كلّ منهما كلَّا منهما جمعا وفرادى في الصور البرزخية النورية والهيئات المثالية والفلكية الصورية التي لا وصول إلى شهود الحق فيها بهذا التعين النقلي السفلي وبعد ذلك اللقاء والموت عن هذه النشأة ،
إن اشتاق إلى الحق المتعين في هذه التعينات ، وحجبه ذلك المقام والتعيّن اللائق به عن شهوده هنا ، فيردّه الله إليه في هذه النشأة ، فأقرّ عينه به وبشهوده في هذا المقام ، وهكذا يداوم على هذين الشوقين والاشتياقين إلى اللقاء ، حتى تتّحد الأشواق ، وتبقى في شهود أحدية جمع الجمع بين القيد والإطلاق ، كما هو الأصل في الأصل ، والله وليّ التوفيق بالإطباق والاتّفاق .
قال رضي الله عنه : (
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي .... وإنّي إليه أشدّ حنين
وتهفو النفوس ويأبى القضا ..... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا)
يريد رضي الله عنه : أنّ الحق يقول على لسانه من حيث المرتبة ، فإنّ المحبّ للعبد العارف به العالم له فحنينه عين حنينه إلى محبّه ، ولكن حنين الحق القائل : « أحببت » إليه أشدّ ، كما بيّنا في سرّ التقريب العبداني والرباني ، من حيث تعيّنه في عين عبده يشتاق ويتقرّب إلى نفسه ، ثمّ يجازيه عن شوقه إليه أيضا ، ويقرّ به بالشوق والتقرّب إلى العبد المشتاق المتقرّب ، والمجازاة بعشر أمثالها ، فيكون شوق الحق إلى العبد أضعاف أضعاف شوقه إليه ، فافهم هذا السرّ أيضا ، فإنّه عزيز .
قال رضي الله عنه : ( فلمّ أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلَّا إلى نفسه ، ألا تراه في خلقه على صورته ، لأنّه من روحه ؟ ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) .
يعني رضي الله عنه : الرطوبة الغريزية التي هي مادة الحرارة الغريزية وبها بقاؤه .
قال رضي الله عنه : ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ) .
يعني رضي الله عنه: الحرارة الغريزية التي هي مركب حياة الروح النفساني ، أعني النفس الناطقة ، فإنّ النفس على صورة نارية ، والروح في صورة نورية .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا ما كلَّم الله موسى إلَّا في صورة النار ، وجعل حاجته فيها ، فلو كانت نشأته طبيعية ، لكان روحه نورا وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنّه من نفس الرحمن فإنّه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نور ) .
يشير رضي الله عنه إلى الجوهر النوري ، الظاهر بصورة النار ، المشتعل لفتيلة جسده ودهن رطوبته الغريزية المشار إليها في بعض وجوهها بقوله : " يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه ُ نارٌ "
وإنّما فسّرت قوله : " روحه " بالنفس ، لأنّ الروح غير متعلَّق وإنّما المتعلَّق هو النار ، والنور محمول في النار ، كقيام العقل - وهو الروح - بالنفس الناطقة .
قال رضي الله عنه : ( فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا ، ثم اشتقّ له شخصا على صورته ، فسمّاه امرأة ، فظهرت بصورته ، فحنّ إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه ، فحبّب إليه النساء ، فإنّ الله أحبّ من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطبيعية ، فمن هناك وقعت المناسبة ، والصورة أعظم مناسبة وأجلَّها وأكمله ، فإنّها زوج أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل ، فصيّرته زوجا ، فظهرت الثلاثة : حق ، ورجل ، وامرأة ، فحنّ الرجل إلى ربّه الذي هو أصله حنين المرأة إليه ) .
يعني رضي الله عنه : لمّا كان على صورة ربّه ، بل هو صورة ربّه في عصره والحق هوية هذه الصورة وروحها ، فهو بصورته شفع الحق الواحد الأحد الوتر ، فإنّ الإنيّة تشفع الهوية ، كما يشفع الزوج الزوج بوجوده .
قال رضي الله عنه : ( فصيّرته زوجا ) أي شفعت الزوجة الزوج ، فصيّرته زوجا ، لأنّ كل زوج على صورة زوجه .
قال رضي الله عنه : ( فحبّب إليه ربّه النساء ، كما أحبّ الله من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلَّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبّه لمن تكوّن منه وهو الحق ،
فلهذا قال : « حبّب إليّ » ولم يقل : أحببت من نفسي ، لتعلَّق حبّه بربّه الذي هو على صورته ، حتى في محبّته لامرأته ، فإنّه أحبّها بحبّ الله إيّاه تخلَّقا إلهيا .
ولمّا أحبّ الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية لوصلة التي تكون في المحبّة - فلم يكن في صورة .
النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمّ الشهوة أجزاءه كلَّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإنّ الحق غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره ، فطهّره بالغسل ، ليرجع بالنظر إليه ، فيمن فني فيه ، إذ ل يكون إلَّا ذاك ، فإذا شاهد الرجل الحقّ في المرأة ، كان شهودا في منفعل ، وإذ شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة من تكون عنه ، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة ، فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة ، فلهذا أحبّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - النساء ، لكمال شهود الحق فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحق مجرّدا عن الموادّ أبدا ، فإنّ الله بالذات غنيّ عن العالمين ، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلَّا في مادّة ، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله ).
أي في منفعل حالة انفعاله وفعله ، فإنّه جامع لشهود الحق منفعلا في عين كونه فاعلا في عين انفعال فعلا في عين انفعال وانفعالا في فعل ، وهاهنا أسرار مكتّمة ، وعلى من ليس من أهلها محرّمة .
قال رضي الله عنه : ( وأعظم الوصلة النكاح ، وهو نظير التوجّه الإرادي على من خلقه على صورته ليخلفه ، فيرى فيه نفسه ، فسوّاه وعدله ، ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حق ، ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى "يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ " وهو العلو " إِلَى الأَرْضِ " وهو أسفل سافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلَّه ) .
يشير رضي الله عنه إلى النكاحات الخمسة الكلَّية الإلهية الموجبة لإنتاج العوالم المعنوية والروحية والنفسيّة والمثالية والحسيّة على اختلاف صوره ، كما مرّت فيما سلف ، فاذكر .
قال رضي الله عنه : ( وسمّاهنّ بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم - : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء » ولم يقل : المرأة ، فراعى تأخّر هنّ في الوجود عنه ، فإنّ النسأة هي التأخير ، كما قال تعالى : "إِنَّمَ النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ " والبيع بنسيئة يقول : بتأخير ، فلذلك ذكر " النساء "فم أحبّهنّ إلَّا بالمرتبة ، فإنّهنّ محلّ الانفعال ، فهنّ له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجّه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمّة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ، وكلّ ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ، فمن أحبّ النساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهي ، ومن أحبّهنّ على جهة الشهوة الطبيعية خاصّة نقصه علم هذه الشهوة ، وكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت - لمجرّد الالتذاذ ولكن لا يدري لمن ، فجهل من نفسه ما يجهل الغير ما لم يسمّه هو بلسان حتى يظهر .
كما قال بعضهم :
صحّ عند الناس أنّي عاشق ..... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن.
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ ، فأحبّ المحلّ الذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها ، لعلم بمن التذّ ومن التذّ وكان كامل ) .
يشير رضي الله عنه إلى شهود الحق في المحلّ الذي فيه يلتذّ عينه ، فلو شهد الحقّ إذ ذاك شهودا أحديا جمعيا عين الفاعل والمنفعل مع شهوده عدم انحصاره وتقيّده بالتعيّن في أحدهما أو كليهما معا أو في الجمع أو الإطلاق عن الجمع ، بل شهودا مطلقا عن هذه الاعتبارات والتنزّه عنها جمعا وفرادى ، كان حينئذ هو ذلك الرجل الكامل الملتذّ بالحق في كل عين عين وتعيّن تعيّن ، وهو أوحد زمانه ونسيج وحده في أقرانه وأخدانه ، وهو من الكمّل أو من ندّر الأفراد .
قال رضي الله عنه : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله تعالى - : " وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته ، فبتلك الدرجةالتي تميّز بها عنه كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصورة فاعل ثان ، فم له الأوّلية التي للحق ، فتميّزت الأعيان بالمراتب ، فأعطى كلّ شيء خلقه ، كم أعطى كلّ ذي حق حقّه كلّ عارف ، فلهذا كان حبّ النساء لمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم عن تحبّب إلهي وإنّ الله أعطى كلّ شيء خلقه ، وهو أي المعطى عين حقّه ، فم أعطاه إلَّا بالاستحقاق ، استحقّه بمسمّاه أي بذات ذلك المستحقّ ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الحق لمّا تعيّن في كل متعيّن من كلّ زوج عارف وغير عارف ، أعطى كلّ ذي مرتبة ما يستحقه لحقيقته ، فأعطى المنفعل خلقه في انفعاله وتأخّره عن الدرجة وهو حقه ، وأعطى كلّ الفاعل خلقه كذلك في فاعليّته وتقدّمه وذلك حقّه ، وأعطى العارف بذلك شهود الحق في الكلّ والالتذاذ به وهو خلقه وحقّه ، وأعطى غير العارف خلقه وهو صورة الالتذاذ بلا روح عنده وذلك حقّه وخلقه .
قال رضي الله عنه : ( وإنّما قدّم النساء لأنّهن محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ، وليست الطبيعة على الحقيقة إل النفس الرحمانيّ ، فإنّه فيه فتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصّة .
وأمّا سريانها لوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ثمّ إنّه عليه السّلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنّه قصد التهمّم بالنساء فقال : « ثلاث » ولم يقل :
"ثلاثة " بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ فيها ذكر الطيب وهو مذكَّر ، وعادة العرب أن تغلَّب التذكير على التأنيث ، فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ولا تقول : خرجن فغلَّبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كنّ جماعة ، وهو عربي ، فراعى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المعنى الذي قصد به في التحببإليه ، م لم يكن يؤثر حبّه ، « فعلَّمه الله ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليك عظيما » فغلَّب التأنيث على التذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء ، فما أعلمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق .
ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهمالمذكَّر فبدأ بـ « النساء » وختم بـ « الصلاة » وكلتاهما تأنيث ، و"الطيب " بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ، كذلك « النساء » تأنيث حقيقي و « الصلاة » تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكَّر بينهما كآدم بين الذات الموجود هو عنها وبين حوّاء الموجودة عنه .
وإن شئت قلت : « الصفة » فمؤنّثة أيضا ، وإن شئت قلت : "القدرة " فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنّك لا تجد إلَّا التأنيث يتقدّم على أنّ أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحق علَّة في وجود العالم والعلَّة مؤنّثة ) .
يشير رضي الله عنه في تغليب رسول الله في كلماته الكاملات التامّة ، وعباراته العالية العامّة التأنيث على التذكير مع كونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أنفس أنفس العرب وغاية رعاية العرب لعكس ذلك في تغليب التذكير على التأنيث إلى أنّ ذلك لكمال تحقّقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعلم الحقائق ونهاية عنايته برعاية الحقوق ، وذلك ، الأصل في الكلّ الأمّ ، والتأنيث في الأم .
ثمّ إنّ الأمّ الأمّهات وأصل الأصول الذي ما فوقه فوق هي العين أو الحقيقة أو الذات المطلقة تباركت وتعالت وقد وقعت صورة التأنيث في هذه الألفاظ كلَّها ، وإن كانت هذه الأمّ من جهة المعنى أبا ، ولكنّ الحقيقة تجمع بالذات بين الفعل والانفعال الذاتيين الحقيقيين ، فهي أمّ باعتبارين وأب أيض باعتبارين ، فإنّ العين المطلقة أو الحقيقة أو الذات - تبارك وتعالت - تقتضي لحقيقتها الجمع بين التعيّن واللاتعيّن ، فيتحقّق لها بهذين الاعتبارين كما مرّ مرارا نسبتا الظهور والبطون فهي الموصوفة بهما معا ، والعين أو الحقيقة هي المتعيّنة بالتعين الأوّل ، واللامتعيّنة في اللاتعين وبه ، وأحدية العين تقتضي الاعتدال ، أعني بين الفعل والانفعال .
ثمّ التّعين بظهور الذاتي يقتضي أن يكون مسبوقا باللاتعين والإطلاق ، وكلّ مسبوق بأصل يستند إليه ، فإنّه منفعل عن ذلك الأصل ومظهر له ول بدّ ، والمتعيّن بالتعين الأوّل من العين المطلقة عن نسبتي التعيّن واللا تعين فهو منفعل من كونه متعيّنا عن نفسه من كونه مطلقا ، وأمّا اللاتعين فإن اعتبرناه بمعنى سلب التعيّن ، فإنّ المعرفة بذلك متوقّفة على المتعيّن ،
إذ لولا التعيّن لما تحقّق اللاتعين في العلم ، فهو في العلم منفعل التحقّق عن المتعيّن بالتعيّن الأوّل والمتعيّن به ، وإلَّا تعيّن باعتبارين لتحقّق الفعل لكلّ منها من حيث تحقّق الانفعال للآخر ، ومن كون العين المطلقة تقتضي اللاتعيّن والتعيّن معا دائما ، فإنّها تتعيّن وتظهر بالتعيّن الأوّل عن بطونها في اللاتعيّن وغيبها الذاتي إلى شهادتها الكبرى الأولى ،
وكلّ مظهر ومجلى من كونه معيّنا مقيّدا للمطلق بخصوصيّة - فاعل لتقييد المطلق وتعيين غير المتعيّن بتكييفه ، فصدق من هذا الوجه للمتعيّن والتعيّن الفعل والتأثير في غير المتعيّن المطلق عن التعين واللاتعيّن من قبوله لذلك ، والانفعال لذلك المطلق ، فصدقت الأمومة والأبوّة من حيث الفعل والانفعال للحقيقة .
ولهذا السرّ صحّ التأنيث في الحقيقة أو العين أو الذات ، فتحقّق أنّ الحقيقة الأصليّة - التي هي محتد الحقيقة الإنسانية - تقبل لحقيقته الفعل والانفعال والظهور والبطون ، فإنّ هذه النسب شؤونها الذاتية ، فلا تحول ول تزول ، والحقيقة الأحدية الجمعية توجب البرزخية الجامعة بين الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ،
والظهور والبطون ، والفعل والانفعال ، والبرزخية الإنسانية المشار إليها أيضا منفعلة عن العين بين التعيّن الأوّل ولا تعيّن الذات جامعا لهم وفاصلا بينهما ظاهرا بتثليث فرديته الأولى التي هي محتد نشأته وأصل وجوده ، صلَّى الله عليه ، والتأنيث نعت للمنفعل ، ذاتيّ ،
والتذكير كذلك وصف للفاعل ، والأمر بين حق باطن أو ظاهر ، وخلق باطن أو ظاهر كذلك في مقامي الأوّلية والآخرية بنسبتي الظهور والبطون ، أو الغيب والشهادة ، والحقيقة واحدة في الكلّ ، والفعل والانفعال صادقان لها في جميع هذه النسب أعني الظاهرية والباطنية ، والغيب والشهادة ، والخلقية والحقّية ، والربّ والعبد بالذات من حيث أحدية العين ،
فالبرزخ الجامع فاعل بين منفعلين كالتذكير بين تأنيثين ، فأظهر صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الأسرار والحقائق من كونه أوتي جوامع الكلم - في جميع أقواله وأفعاله ، وراعى الفردية كذلك في الكلّ ،
فقدّم التأنيث الحقيقيّ الذي للذات أو الحقيقة أو العين أو الإلهية أو الربوبية أو الصفة أو العلَّة على اختلاف المشاهد والنظر ، وأخّر التأنيث أيضا في الصلاة من حيث اللفظ وأدرج الطيب - مذكَّرا - بين مؤنّثين ، فم أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم كما ذكر ، رضي الله عنه بالحقائق ، فاعلم ذلك ، فإنّ هذه المباحث وإن تكرّر ذكرها في هذا الكتاب فهي على صعوبتها عند من لم تنكشف له حقيقة ، والله الموفّق .
قال رضي الله عنه : ( وأمّا حكمة الطيب وجعله بعد "النساء "فلما في النساء من روائح التكوين ، فإنّه أطيب الطيب عناق الحبيب ، كذا قالوا في المثل السائر ، ولمّا خلق عبدا بالأصالة ، لم يرفع رأسا قطَّ إلى السيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتى كوّن الله عنه ما كوّن ، فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطَّيبة ، فحبّب إليه الطيب ، فلذلك جعله بعد « النساء » فراعى الدرجات التي للحق في قوله : "رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ لاستوائه عليه باسمه "الرحمن" فلا يبقى فيمن حواه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية ، وهو قولهتعالى :- " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ والعرش وسع كلّ شيء والمستوي الرحمن فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ، كما قدّمنا في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكَّي ، وقد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحى في براءة عائشة فقال : "الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ " .
فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس وهو عين الرائحة ، فيخرج بالخبيث والطيّب على حسب ما يظهر به في صورة النطق ، فمن حيث هو إلهيّ بالأصالة كلَّه طيّب ، فهو طيّب ومن حيث ما يحمد ويذمّ ، فهو طيّب وخبيث ،
فقال في خبث الثوم : « هي شجرة أكره ريحها » ولم يقل : أكرهها ، فالعين لا تكره وإنّما يكره ما يظهر منها ، والكراهة لذلك ، إمّا عرفا بملاءمة طبع أو غرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب ، وم ثمّ غير ما ذكرناه ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّه من حيث برزخيته الجامعة لمّا كان منفعلا عن عين العين الجامعة ببرزخيته وفعله وانفعاله ، ظهر صلَّى الله عليه وسلَّم بتحقّق العبدانية المنفعلة بالأصالة عن الربوبية الفعّالة المؤثّرة - ولم يظهر بالربوبية والسيادة ، فآتاه الله الفعل من عين العين ، فتساوى فيه طرفا الفعل والانفعال ، فكان قاب قوسي بحر الوجوب والإمكان بوجوده ، كما كان جامعا بين التعين واللا تعين برتبته ،
وأوتي السيادة العظمى لما تحقّق بالعبودة الكاملة الكبرى ، فكان فاعليته في عالم الأنفاس لكونه أوتي جوامع الكلم ، وهي هيئات اجتماعية نفسية بحقائق الحروف كما علمت ، فلهذا حبّب الطيب إليه ، وتأخيره عن « النساء » كشفا من حيث إنّ النفس متأخّر عن الأصل والأمّ الذي هو المتعيّن الأوّل الذاتي ، وأوّل م تعيّن وخرج من غير انتقال عن هذا الأمّ هو النفس الذي نفّس الله عن الحقائق كلَّه به ، فظهرت به ، فهو مسبوق بالمتنفّس بذلك النفس المنفّس عن نفسه وعمّا في نفسه ، كما مرّ ، فتذكَّر .
ثمّ الكراهة والطيب المتقابلان عارضان على حقيقة النفس من جهة المتنفّس والمحلّ القابل ، فهو من حيث الأصالة النفسية طيّب كلَّه ، ثمّ غير الطيّب والطيّب بحسب المدرك والمدرك ، فيحمد ويذمّ ، ويكره ويحبّ بحسب القابل ومزاجه ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولمّا انقسم الأمر إلى خبيث وطيّب - كما قرّرناه - حبّب إليه الطيّب دون الخبيث ، ووصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالروائح الخبيثة لمّا في هذه النشأة العنصرية من التعفين ، فإنّ مخلوق من صلصال من حماء مسنون ، أي متغيّر الريح ، فتكرهه الملائكة بالذات ، كما أنّ مزاج الجعل يتضرّر برائحة الورد وهي من الروائح الطيّبة ، فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيّبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة ، أضرّ به الحق إذا سمعه وسرّ بالباطل وهو قوله :" وَالَّذِينَ آمَنُو بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله " ووصفهم بالخسران ، قال :"أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ " ، "الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ"، فإنّه من لم يدرك الطيّب من الخبيث ، فلا إدراك له ، فما حبّب إلى رسول الله إلَّا الطيّب من كل شيء وما ثمّ إلَّا هو ، وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلَّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث أم لا ؟ قلن هذا لا يكون فإنّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه ، وهو الحق ، فوجدناه يكره ويحبّ ، ليس الخبيث إلَّا ما يكره والطيّب إلَّا ما يحبّ ، فالعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين ، فلا يكون ثمّ مزاج لا يدرك إلَّا الأمر الواحد من كل شيء ، بلى ثمّ مزاج يدرك الطيّب من الخبيث مع علمه بأنّه خبيث بالذوق ، طيّب من غير الذوق ، فيشغله إدراك الطيّب منه عن الإحساس بخبثه ، هذا قد يكون ، وأمّا رفع الخبيث من العالم - أي من الكون - فإنّه لا يصحّ ) .
يشير رضي الله عنه إلى ارتفاع الخبيث عن الإدراك ، وإلَّا فمن حيث أعيان الأشياء وما به هي هي ، ومن حيث الوجود الحق المتعين بكل شيء فليس شيء في العالم خبيثا وما يكون بعض الأمور طيّبا أو خبيثا عند الحق فذلك من حيث تعيّنه في مرتبة ما ، فيطيب له ما يشاكل الحال والوصف والنعت الخصيص بتلك المرتبة ، وتكره أيضا كذلك من حيث هي ما يضارّها ويناقضه ويباينها وينافيها لا غير ، والكل - من حيث هو هو - طيّب له وعنده ، وهو عند الكلّ طيّب كلَّه ، كما مرّ .
قال رضي الله عنه : ( ورحمة الله في الخبيث والطيّب ) يعني بالنسبة والإضافة .
قال رضي الله عنه : ( والخبيث عند نفسه طيّب ، والطيب عنده خبيث ، فما ثمّ شيء طيّب إلَّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس .
وأمّا الثالثة التي بها كملت الفردية فالصلاة ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » لأنّها مشاهدة ) .
يعني رضي الله عنه أنّ قرّة عين الحبيب بمشاهدة الحبيب .
قال رضي الله عنه : ( وذلك لأنّها مناجاة بين الله وبين عبده » يعني الصلاة « كما قال :" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " وهي عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين ، فنصفها لله ونصفها للعبد ، كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى : أنّه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفه لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد :"بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " يقول الله : ذكرني عبدي.
يقول العبد : "الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " يقول الله : حمدني عبدي . يقول العبد :" الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " يقول الله : أثنى عليّ عبدي . يقول العبد :" مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " يقول الله : فوّض إليّ عبدي ، فهذا النصف كلَّه لله تعالى خالص .
ثم يقول العبد :" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " يقول الله : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فأوقع الاشتراك في هذه الآية .
يقول العبد :" اهْدِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " السورة يقول الله : هؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، فخلص هؤلاء لعبده ، كما خلص الأولىله تعالى ، فعلم من هذا وجوب قراءة « الحمد لله ربّ العالمين » فمن لم يقرأها ، فم صلَّى الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده ) .
قال العبد : لمّا ذكر الله تعالى على لسان رسوله الصادق صلَّى الله عليه وسلَّم في أوّل الحديث الصحيح نقلا وعقل وكشفا : يقول العبد : " بسم الله الرحمن الرحيم " فهو دليل لنا وللشافعي رحمه الله أنّ « بسم الله الرحمن الرحيم » من الفاتحة ، ولا سيّما ويعضدنا في الاستدلال بذلك قوله عليه السّلام : « لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب » مع ما ذكر في هذا الحديث على لسان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " .
ولمّا تمّم التقسيم في الفاتحة بل الفاتحة هي الصلاة المقسومة ومن لم يقرأها ، فلا صلاة له ، وأيضا لمّا كان الافتتاح شرعا في كل أمر إنّما هو بالبسملة ، ومن لم يبدأ بها في أمره ، فهو أبتر ، والفاتحة مبدأ كتاب الله ، فالأحق والأحرى عقلا أن يكون البسملة آية من الفاتحة بدأ بها الله أوّل هذه السورة التي افتتح بها كتابه الكريم ، وسمّاها فاتحة الكتاب . وفي ترجيح ما ذهبنا إليه دلائل شرعية ليس هذا موضع ذكرها ، نذكرها في كتاب الفقه إن شاء الله تعالى .
وأمّا الحق الذي قسم الصلاة بينه وبين عبده نصفين ، فهو الحق المعبود المعتقد في العقيدة الإسلاميّة وغيرها ، وذلك لأنّ الإله الذي في قبلة المصلَّي كما قال :" فَأَيْنَما تُوَلُّوا " هو الذي قسم الصلاة وهو الإله المعتقد وأنّ الله الذي هو ربّ العالمين غير منحصر في قبلة المصلَّي ، فإنّه كما قال :" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " و" هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ " ، فانظر التثليث والفردية في أمّ الكتاب الذي خصّ به محمّد صلى الله عليه وسلم فإنّ القسم الأوّل منه يختصّ بالحق ، والأخير يختصّ بالكون أو العبد ، وم بينهما مشترك بين الحق والعبد .
قال رضي الله عنه :(« ولمّا كانت مناجاة » يعني الصلاة « فهي ذكر ، ومن ذكر الحق ، فقد جالس الحق ، وجالسة الحق ، فإنّه صحّ في الخبر الإلهي أنّه قال : أنا جليس من ذكرني . ومن جالس من ذكره - وهو دو بصر - رأى جليسه ، فهذه مشاهدة ورؤية ، فإن لم يكن ذا بصر ، لم يره ، فمن هنا يعلم المصلَّي رتبته ، هل يرى الحق هذه الرؤية في الصلاة أم لا ؟
فإن لم يره ، فليعبده بالإيمان كأنّه يراه ، فيخيّله في قبلته عند مناجاته ، ويلقي السمع لما يرد به عليه [ من ] الحق ، فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به وللملائكة المصلَّين معه ، فإنّ كلّ مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة يصلَّون خلف العبد إذا صلَّى وحده ، كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسول في الصلاة - وهي النيابة عن الله - إذا قال : سمع الله لمن حمده ،
فيخبر نفسه ومن خلفه بأنّ الله قد سمعه ، فتقول الملائكة والحاضرون : ربّنا لك الحمد ، فإنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده ، فانظر علوّ رتبة الصلاة والى أين تنتهي بصاحبها ، فمن لم يحصّل درجة الرؤية في الصلاة ، فما بلغ غايتها ، ولا كان له فيها قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يرد [ من ] الحق عليه فيها ، فما هو ممّن ألقى السمع ، ومن لم يحضر فيها مع ربّه مع كونه لم يسمع ولم ير ، فليس بمصلّ أصلا ، ولا هو ممّن ألقى السمع وهو شهيد ) .
قال العبد : الرؤية والشهود والسماع من العبد المصلَّي للحق ، قد تكون ببصر الإيمان ، وقد تكون ببصر البصيرة والفهم ، وقد تكون بالرؤية البصرية ، فيتمثّل الحق متجلَّيا مشهودا له ، قاسما للصلاة بينه وبين عبده ، وقد يجمع هذه كلَّها للعبد الكامل أو الفرد النادر ، وقد ينفرد كلّ واحد منها بواحد واحد منها ، وهكذا في السمع ، والذي يجمع له بين الكلّ فهو أكمل الكلّ .
قال رضي الله عنه :( وما ثمّ عبادة تمنع من التصرّف في غيرهام دامت سوى الصلاة ، وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال ، وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكَّيّة كيف تكون ، لأنّ الله يقول :
" إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ " لأنّه شرع للمصلَّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له مصلّ " لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ " يعني فيها ، أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله، والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها، لأنّ الكبرياء لله تعالى.
ولذلك قال :" وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ " وقال :" أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " وإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إيّاه فيها ، ...
ومن ذلك أنّ الوجود لمّا كان من حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود ، عمّت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث : حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلَّي ، وحركة أفقيّة وهي حال ركوع المصلَّي ، وحركة منكوسة وهي حال سجوده ، فحركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة وليس للجماد حركة من ذاته ، فإذا تحرّك حجر فإنّم يتحرّك بغيره .)
يقول العبد : يتحرّك الإنسان دوري بالإرادة ، ولكنّه بالطبع يتحرّك في نموّه على استقامة قامته ، والحيوان يتحرّك في نشئه بالطبيعة أفقيا ، والنبات يتحرّك بطبيعته منكوسا بالعروق بالأصالة ، ثم يتحرّك حركة فرعية على عكس حركته الأصلية منكوسا أيضا ، فيظنّ أنّ له حركة مستقيمة وليس ذلك كذلك ، فإنّ حركته الأصلية منكوسة ، فإنّ أصله ثابت في الأرض وإن كان فرعه في ظاهر الأرض إلى السماء .
ثمّ اعلم : أنّ الوجود الكونيّ ، لمّا كان عن حركة معقولة من حقيقة العالم ، خرجت بها من العدم العيني إلى الشهود الوجودي ، فكانت حركة الوجود على ثلاثة أنحاء من الحركات المعقولة الأولى كما مرّ في سرّ الألف - : حركة تنزّل ونذل من الفوق إلى التحت وهي حركة منكوسة لإيجاد عالم السفل وهو الكون ، وحركة من التحت إلى الفوق وهي حركة مستقيمة لإيجاد عوالم الأسماء الإلهية والنسب ، فإنّه إنّما توجد بوجود الكون ويندرج فيه الحركة المعراجية لإيجاد الأرواح والأنفس ، والحركة الجمعية لإيجاد العالم الإنساني الجمعي .
هذا في صلاة الحق ، الخصيصة به - وهو التجلَّي الإيجادي - وكذلك في صلاة العبد وهو الوصل والارتباط من قبل العبد بالحق ، فتمّت بهذه الحركات الثلاث القيام والركوع والسجود ، هذا في أفعاله ، وكذلك في أقواله . كما مرّ في الفاتحة ، فانظر سرّ الفردية والتثليث ساريا في هذا القسم الأخير الذي به تتمّ الفردية المحمدية ما أطفّها وما أشرفه لمن عقل .
قال رضي الله عنه : ( وأمّا قوله : " وجعلت قرّة عيني في الصلاة" ولم ينسب الجعل إلى نفسه ، فإنّ تجلَّي الحق للمصلَّي إنّما هو راجع إليه - تعالى - لا إلى المصلَّي فإنّه لو لم يذكره بهذه الصفة عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجلّ منه له ، فلمّا كان ذلك منه بطريق الامتنان ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » وليست إلَّا مشاهدة المحجوب ، التي تقرّ بها عين المحبّ - من الاستقرار - فيستقرّ العين عند رؤيته ، فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء ) .
يعني رضي الله عنه : في شيء موجود ، فعلَّقت المشيّة بوجوده من قولهم : كل شيء بشيئيّته أي بمشيئته . و « غير شيء » ما لم يتعلَّق به المشيّة من النسب .
وقوله : « من الاستقرار » لطيفة ، وذلك أنّ العبد إنّما يكون قرير العين إذا شاهد عين حبيبه ، لقرار عينه بعين الحق حين المشاهدة ، فلا يشاهد سواه ، ويفنى هو عن نفسه وعن كل ما يسمّى سوى الحق في هذا الشهود ، وعلى هذ القرار يثبت .
وتقرّ بفتح القاف - إذا ابتهج برؤية ما يسرّه . وقرّ يقرّ - بكسر القاف - إذا ثبت ، وإنّما يقرّ عين المحبّ إذا ثبت لمشاهدته محبوبه ببقاء عين الحق وفناء عين العبد فيه عن حجابية تعيّن غيريته واتّحاد بقائه ببقاء الحق ، وهذ الشهود فوق اللقاء المنتظر الموعود ، لأنّ اللقاء يقتضي الاثنينيّة ، وهذا الشهود يقتضي أحدية العين ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولذلك نهي عن الالتفات في الصلاة ، فإنّ الالتفات شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، فيحرمه مشاهدة محبوبه ، بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت إلى غير قبلته بوجهه ) .
يعني رضي الله عنه : إن وقع التفات بعينه في جهة القبلة من غير ليّ لوجهه إلى جهة غير القبلة ، فإنّ الحق قد يعفو عنه ، إذا هو في قبلته ولم يلتفت معرضا عن القبلة إلى غيره .
قال رضي الله عنه : ( والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة أم لا ؟ فإنّ "الإِنْسانُ عَلى نَفْسِه ِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَه ُ " فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشيء لا يجهل حاله ، فإنّ حاله له ذوقيّ .
ثمّ إنّ مسمّى الصلاة ، له قسمة أخرى ، فإنّه - تعالى - أمرنا أن نصلَّي له ، وأخبرنا أنّه يصلَّي علينا فالصلاة منّ ومنه ، فإذا كان هو المصلَّي ، فإنّما يصلَّي باسمه « الآخر » فيتأخّر عن وجود العبد ، وهو عين الحق الذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكري أو بتقليده ، وهو الإله المعتقد ، ويتنوّع بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد ، كما قال الجنيد - رحمة الله عليه - حين سئل عن المعرفة بالله والعارف فقال : لون الماء لون إنائه . وهو جواب سادّ ، أخبر عن الأمر بما هو عليه ، فهذا هو الله الذي يصلَّي علين ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ المصلَّي هو التابع للمجلي ، وهو عبارة عن كون التجلَّي بحسب المتجلَّى له ، فإنّ تعيّن الوجود الحق وظهوره في تجلَّيه إنّما يكون بحسب خصوص قابليّة المتجلَّى له ، كما أشار إليه الأستاذ بقوله : « لون الماء لون إنائه » يعني ليس للحق صورة معيّنة تسمّى ، فتميّزه عن صورة أخرى ، كالماء لا لون له ، ولكنّ لون الماء يتلوّن بحسب لون إنائه ، فإنّ الحق لذاته يقتضي القبول لكل نعت والظهور بكل وصف بحسب الواصف والحاكم والعالم به ، فإن كان العالم صاحب اعتقاد جزئي نسبي ، ظهر في معتقدة ، ومن ل حسبان له في علمه بالله ، بحسب عقد معيّن ولم يتقيّد في معرفته وشهوده بعقيدة معيّنه دون غيره ، بل يكون علمه ومعرفته بالله وشهوده له إحاطته بالجميع بحيث ل يشذّ عنه صورة إلا وعنده له وجه حقيقة ، وسع الحق وغمره بتجلَّيه وأنانيّته
كما قال رضي الله عنه :
عقد الخلائق في الإله عقائدا .... وأنا شهدت جميع ما اعتقدو
فذلك هو العارف العالم الذي لا لون له يخرج الماء إلى ذلك اللون ويكسبه ما ليس له إلَّا فيه لا في نفسه ، وفي قوله رحمة الله عليه دلالة على أنّ سائله لم يكنّ إلَّا صاحب عقد معيّن ، فأجابه الجنيد بجواب كلَّي يفيد الكلّ معرفة بالمعرفة بالله ، فرقاه إلى ما فوق معتقده ، فإنّ من كان على ما ذكرنا ل لون له ، فيظهر الحق بحسبه ، كما هو تعالى في نفسه ، ولقد أشرت إلى هذا المقام بأبيات وردت عقيب شهود كلَّي وفناء حقيقي ، اتّفق في عشر ذي الحجّة ، خلوت بالحق في بيت الخلوة الذي للجنيد عليه السّلام بمحروسة « دار السلام » ، وهي كثيرة منها في المقام ،
شعر :
حرام على عيني معاينة السوي .... وحلّ دمي إن كان غيرك في عيني
لقد كنت عيني حيث كنت ولم أكن .... وكنت عن الأغيار في عزة الصون .
فكن لك بي لا لي كما كنت دائم .... أكن لك عين الكلّ فيك بلا كوني
فلا أين يحويني ولا كيف حاصري .... ول في هيولى الكلّ منحصر عيني
يقولون : لون الماء لون إنائه .... أن الآن من ماء إناء بلا لون.
والله الموفّق المؤيّد للمؤيّد الموفّق .
قال رضي الله عنه : ( فإذا صلَّينا نحن ، كان لنا الاسم « الآخر » فكنّا فيه ما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ، فنكون عنده بحسب حالنا فلا ينظر إلينا إلَّا بصورة ما جئناه بها ، فإنّ المصلَّي هو المتأخّر عن السابق في الحلبة ) .
وذلك لأنّ مرآة الحق تظهرنا على ما نحن عليه ، فما نكون عنده إلَّا بحسب حالنا في صلاتنا ، ولو كنّا فيها بحسبه ، فقد كملت صلاتنا كصلاة أهل الكمال والرسوخ .
قال رضي الله عنه : ( وقوله :" كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه ُ وَتَسْبِيحَه " أي رتبته في التأخّر في عبادة ربّه وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ، فما من شيء إلَّا وهو يسبّح بحمد ربّه الحليم الغفور ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ للأشياء - في تأخّر وجودها عن ربّه بمظهريّاتها له أو ظهورها فيه - حكمين :
أحدهما ثبوتي والآخر سلبي فالسلبي هو الذي يسلب وينفى به عن الحق ما هي عليه من التقيّد والنقائص ونقائض الكمالات ، وهو تنزيهها للحق وتسبيحها من النقائص التي هي عليه .
والحكم الآخر : إثبات الكمالات التي هي عليها للحق على الوجه الأكمل الأليق بجنابه - تعالى - على ما مرّ مرار .
قال رضي الله عنه : ( ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحد . وثمّ قرينة بعود الضمير فيها على العبد المسبّح في قوله :"وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه" أي بحمد ذلك الشيء ، فالضمير الذي في قوله : «بحمده» يعود على «الشيء» أو بـ "لثناء" الذي يكون عليه ) .
يعني رضي الله عنه : لمّا كان كلّ شيء كم ذكرنا مشتملا على محامد وكمالات خصيصة به ، ولا تظهر تلك المحامد على الوجه الذي ظهرت فيه إلَّا منه وبه لا من غيره وفي سواه ، مستوعبا أيضا لكمالات يشترك فيها مع غيره ، فهو يحمد عين وجوده الظاهر فيه بتلك الكمالات ، بل يحمد بوجوده الخاصّ به عينه الثابتة وحقيقته التي هذه المحامد نسبها ولوازمها ، كانت كامنة في عينها الغيبي ، فأظهرها الوجود الحق لها ووصفه وعرّفها بها فيه أوله ، فإذن لم يحمد كلّ شيء بذاته ووجوده إلَّا نفسه ، فإليه يعود الضمير في قوله :" يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ ".
وأمّا تسبيحه وهو تنزيهه عن نقائص كونيّة فيكون بمعنى نفي النقص مطلقا ، أي كل ما ظهر به النقائص النسبيّة المتوهّمة كمالات حقّيّة خفيّة نسبية للوجود والعين بالنسبة إلى ذلك ، فينزّه وجوده وحقيقته جمعا وفرادى عمّ توهّمه متوهّم النقص فيه ،
إذ لا نقص إلَّا بالنسبة والإضافة ، ولكن ظهور الوجود في حقيقة الشيء هو كذلك ، وذلك درجة أو مرتبة لتجلَّي الوجود أو ظهور تلك العين والحقيقة في الوجود الحق بحسبه كذلك ليس إلَّا على هذا الوجه ، ولكنّ الناظر بنظره الوهمي يرى ذلك بالنسبة إلى ظهور آخر في مظهر ومرآة أخرى - نقصا ، فليس في الوجود نقص حقيقي ، بل بالنسبة والإضافة في وهم المتوهّم أو في التخيّل أو التعقّل لا غير ، ومقتضى التحقيق أنّه لمّا كان للوجود الحق صلاحية الظهور بتلك المحامد التي ذلك الشيء عليها ، وقبول الظهور لتلك الأحكام - التي توهم النقص من حيث التعيّن والظهور ، ذاتيّا ، كانت المحامد والمذامّ المتوهّمة عائدة على الوجود الحق بالأصالة في الحقيقة ، فاحتمل الضمير في قوله :"يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " الوجهين معا ، فافهم .
قال رضي الله عنه :( كما قلنا في المعتقد : إنّه إنّما يثني على الإله الذي في معتقده وربطه به نفسه ، وما كان - من عمل - فهو راجع إليه فما أثنى إلَّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصنعة فإنّما يمدح الصانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ، وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه ، فهو صنعته ، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ، ولهذا يذمّ معتقد غيره ، ولو أنصف ، لم يكن له ذلك إلَّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك ، لاعتراضه على غيره ، فما اعتقده في الله ،
إذ لو عرف ما قال الجنيد : « لون الماء لون إنائه » لسلَّم كلّ ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة وكلّ معتقد » . )
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الضمير في قوله : « بحمده » من " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " الراجع إلى المسبّح المعتقد لا يصلح أن يكون راجعا إلى الله إلَّا من حيث الوجه المحقّق الذي ذكرنا و لا إلى ما اعتقده ، فإنّ صورة معتقده مصنوعة له ومخلوقة له كذلك ، وليست لموجد الأشياء الذي يجب له التسبيح ، فإنّ الله أخبر عن نفسه بأنّه "سُبْحانَه ُ وَتَعالى عَمَّ يَصِفُونَ " فإنّ كل معتقد خاصّ فإنّما يصفه بصفة كمال هو عليه لا غير ،
إذ لا يعرف غير ذلك الوصف ، وأخبر أنّه " لا يُحِيطُونَ به عِلْماً " وكلّ ذي اعتقاد فإنّه محيط بصورة معتقدة ، وأخبر تعالى أيضا في كتابه الذي "لا يَأْتِيه ِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْه ِ وَلا من خَلْفِه " على خلاف ما هو عليه معتقده ، وذلك لأنّ المنزّة بالتنزيه العقلي صوّر في اعتقاده صورة ليست بجسم ولا جوهر ول غرض ولا كذا ولا كذا ،
وكذلك المشبّه حصره فيما شبّههه به وهو محيط بما صوّره ، لأنّه مصنوعه ، وصورة معتقد كلّ منهما محدودة بما يباين الآخر ويتميّز عنه ، وكل متميّز عن غيره متناهي الحدود إلى ذلك الغير ، ومحدود بما به يخصّص ويميّز ، فالإله الذي يعبده في زعمه هو ما صنعه في خياله ووهمه ، فما حمده به يرجع إليه ، فما حمد إلَّا نفسه ، لأنّه موجد تلك الصورة الذهنية في ذهنه ، فما سبّح الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ،
فإنّه غير محدود بحدّ ، ولا محصور في حكم ، ولا محاط به عقل ، فإنّه هو المحيط بالعقل وبكلّ شيء بالذات إحاطة ذاتية ، كما علمت ، فسبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّا كبير .
قال رضي الله عنه : ( فهو ظانّ ليس بعالم ، فلذلك قال : "أن عند ظنّ عبدي بي " أي لا أظهر له إلَّا في صورة معتقدة ، فإن شاء أطلق ، وإن شاء قيّد ، فإله المعتقدات تأخذه الحدود ، وهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإنّ الإله المطلق لا يسعه شيء ، لأنّه عين الأشياء وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه : يسع نفسه ، ولا : لا يسعها ، فافهم والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل).
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الأحدية الذاتية تستهلك ما يسمّى غيره ، فما ثمّ إلَّا هو هو ، حتى أنّ الأحدية ليست نعتا له ، بل الأحدية في هذ المقام عين الواحد الأحد ، فلا اثنينيّة ، فما ثمّ من يسعه سواه ، فآلهة الاعتقادات صور وهميّة تعقّلها المعتقدون من حيث إنّ اعتقاد كلّ معتقد على التعيين يخالف اعتقاد مخالفه ، وقد ميّز كل منهم معتقده عن معتقد مخالفه ، فحدّده بما به ميّزه وعقده ، وحصر الحق الذي في زعمه في صورة اعتقاده ، وعقد عليه عقده ، واعتقد عقيدة ، وأنكر الحق الذي في معتقد غيره وجحد ،
لكنّ الله الواحد الأحد محيط بكلّ ما توحّد فتأحّد ، وم تعدّد فتحدّد ، لا تقدح في أحديته كثرة ما يتعدّد في مراتب العدد ، ولا في إطلاقه تقيّد ما تعيّن وتقيّد ، فتحدّد ، فيتنوّع التجلَّي من ينبوع تعيناته في منصّات تجلَّياته ومجالي تعيناته بحسب خصوصيات شؤون ذاته ،
فيقبل كلّ ذلك لنفسه من نفسه باقتضاء له ذاتيّ فوسع الكلّ ، ولم يسعه الكلّ ، فالذي وسعه قلب عبده هو الإله الذي اعتقده ، فوسع قلبه وملأه ، فلا يسع معه غيره .
ولكنّ هاهنا تحقيقا لمن آتاه الله نظرا دقيقا ولطفا في الإدراك وتدقيقا وهو أنّ الله لمّا كان بوجوده عيّن ما ظهر وعيّن ما بطن واستتر ،
فهذه الصور الاعتقادية تكون من جملة ظهوراته وتعيّناته في مراتب الأذهان والأوهام والأفهام والبصائر والعقول والقلوب والشهود والوجود ، فقد وسع الحق هذه الصور كلَّها ، فإنّها صورة في تلك المراتب الخصيصة به .
ولا يقال : إنّه من حيث ظهوره في صورة عين ما ظهر بصورة أخرى : فإنّه - من حيث ظهوره في صورة ما - متعيّن فيها بحسبها ، محدود بحدّه .
ولا يقال أيضا : إنّه من كونه عين الكلّ هو هذا على التعيين ، فإنّ هذا هذا لا غير ، ليس ذاك وهو عين الكلّ ، والكل صورته وهو هوية الكل فمن لم يحصره في صورة معينة دون غيره فقد عرف الحق على ما هو عليه في نفسه ، فإنّه في نفسه مطلق عن كل قيد وحصر وهو المحيط غير المحاط ، من كونه هو هو هو هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ،
وما ثمّ إلَّا ظاهر أو باطن أو أوّل أو آخر ، فمن كونه عين في غيب عينه باطن أوّل لا اطَّلاع عليه من هذا الوجه أصلا ورأسا ، وهو من كونه عين ما ظهر من كل صورة حسّيّة جسميّة طبيعية أو عنصرية أو غير حسيّة بل عقلية أو وهمية أو خيالية عين الكلّ من غير حصر في صورة ما منها على التعيين ، ولا في الجميع ول في الإطلاق عن الجمع والجميع وعن كل قيد وحصر .
وقوله رضي الله عنه : ( الذي وسعه القلب هو الإله المعتقد يريد بذلك الاعتقادات الجزئية التقييدية من تنزيه أو تشبيه أو غير ذلك سوى الذي وسعه قلب الكامل ، فإنّ قلب الإنسان الكامل - المشاهد للأمر على ما هو عليه في نفسه - منقلب مع الحق أوله في صور شؤونه الذاتية أبدا دائما ، فهو مطلق لا قيد له في عقد ، فما له معتقد معيّن ، لحصر الحق فيه ول يكون صورا اعتقادية ، بل هو مع الحق في صور شؤونه التي فيه ، يتقلَّب ويتحوّل فيه لمقتضى ذاته وقد وسعه ، لأنّ قلبه أحديّة جمع جميع الشؤون الذاتية ، وهو عين الأعيان الغيبيّة العينيّة ، وهو قلب الوجود ، ولبّ الشاهد والمشهود والشهود ، لأنّه صورة التعين الأوّل الذاتي ،
وهو قلب الحق المطلق والخلق المقيّد ، فافهم إن كان لك قلب يسع الحق على ما هو عليه الحق في نفسه ، وإلَّ فألق السمع إلى الحق الذي أنزل القرآن على رسوله ، ونطق على لسان هذا الرسول بالحق ، فإنّه "ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ".
فليؤمن بما أنزل الله من الكتاب كلَّه وبجميع ما نطق به على السنة أنبيائه ورسله وأوليائه ، من غير تأويل نفسيّ أو تحكيم عقلي ورأي من عنده ظنّيّ أو حدسيّ أو علمي في زعمه فكريّ فعساه يكون من أهل النجاة والرشاد والسّداد ، ولله ولَّي التوفيق والإرشاد والإسعاد ، واهب الاستعداد أبد الآباد .
والحمد لله الأوّل الآخر الباطن الظاهر ، منتهى الأعداد ، ومبلغ الأمداد ، ومداد الإمداد ، وغاية الدهور والآماد ، ملء السماوات والأرضين وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما وما أحاط بهما ، عدد خلقه وزنة عرشه ورضى نفسه ومداد كلماته .
وصلَّى الله على خاتم الرسل والأنبياء ووارثه الأكمل في خصوص ختميته ، خاتم الأولياء المحمديين ، وخاتم الولاية العامّة المطلقة ، روح الله وكلمته وخاتم الأولياء أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته وسلامه على محمد وآله أجمعين الطَّيبين الطاهرين .
تمّ بتوفيق الله في أوائل ذي القعدة الحرام لسنة خمس وسبعين وثمانمائة الهجرية 875 اللهمّ اغفر وارحم لكاتبه ولجميع المؤمنين ، آمين .

قال رضي الله عنه :( ثم الله أطلعه على ما أودع فيه ، وجعل ذلك في قبضتيه :القبضة الواحدة فيها العالم ، والقبضة الأخرى فيها آدم وبنوه ، وبيّن مراتبهم فيه ) .
قال العبد أيّده الله تعالى به :
اعلم : أنّ الكمّل من الصورة الأحدية الجمعية الإنسانية لا بدّ لهم أن يريهم الله ويشهدهم صور تفاصيل ما أودع فيهم تشريفا لهم وتكميلا وتفهيما لهم بحقائقه التي أودعها فيهم وتوصيلا .
وكذلك أشهد آدم عليه السّلام صور تفاصيل النشأة الإنسانية في مقامي الجمع والفرق المشار إليهما بالآفاق والأنفس .
فأشهد جميع العالم في القبضة الواحدة وهي اليسار عرفا اصطلاحيّا وأشهد آدم وذرّيّته في الأخرى ، وهي اليمين كذلك ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة ، والحديث مشهور .
.
....

FCtiRnbrThw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!