موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية


23 - فصّ حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

إنّما أضيفت هذه الحكمة إلى الكلمة اللقمانية ، لكون الغالب على لقمان عليه السّلام شهود مقام الإحسان ، وهو شهود علميّ على م يأتي في وصاياه لابنه سرّ : " وَوَصَّيْنَ الإِنْسانَ بِوالِدَيْه ِ حُسْناً " وغير ذلك .
" كان الغالب على حاله في كشفه وشهوده الإحسان ، وأوّل مرتبته الأمر بالعبادة على البصيرة والشهود ، كما أمر لقمان ابنه في وصيّته إيّاه " يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " نهاه عن الشرك للإخلاص في عبادته وعبوديته لله .
وهو أعلى مرتبة الإحسان ، ثم عرّفه بوصيّته تعالى الإنسان بالإحسان ، ولقد أحسن في بيان إحسان الله تعالى إلى المرزوقين ، كما ستقف على أسراره عن قريب."
قال رضي الله عنه : (إذا شاء الإله يريد رزق .... له فالكون أجمعه غذاء)
يعني رضي الله عنه : إذا تعلَّقت مشيّة الحق بإرادة الرزق له من حيث إنّه عين الوجود الحق المتعيّن بأعيان الممكنات ، فإنّ الكون كلَّه والأحكام الظاهرة الإلهية بالكون غذاء للوجود ، لظهوره بها في ملابس من الأسماء والصفات والنسب والإضافات ،
فإنّ الهوية الإلهية الحقّية - من حيث غيبها وتجرّدها عن المظاهر - غنيّة عن العالمين وعن الأسماء كما عرفت من قبل .
وأمّا تعلَّق المشيّة بإرادة الرزق فمن كونه ظاهرا ومتعيّنا في أعيان العالم ، والإرادة عين المشيّة من وجه ،
وكذلك قوله :" وإن شاء الإله يريد رزق .... لنا فهو المشاء كما يشاء "
أي هو المراد ، كما " شاء " و " أراد " بمعنى ، وإن تعلَّقت مشيّة الحق بإرادة الرزق من لدنه لنا فهو - من حيث كونه عين الوجود - يكون مرادا له في تعلَّق مشيّته ، فيكون رزقا لنا بوجوده كما شاء .
وإنّما نحن نقوش وصور وأشكال وهيئات وحروف وكلمات وسور وآيات ، والكلّ تعيّنات نسبية لا تحقّق لها في حقائقها ، لكن بالمتعيّن بها ، فما لنا وجود ولا حياة ولا بقاء إلَّا بالوجود الحق المتعيّن بن وفينا ،
فهو رزقنا وهو غذاؤن ، كما نحن غذاؤه بالأحكام ، فكما أنّ بقاءنا بالوجود ، فكذلك بقاء الأسماء الإلهية والنسب الربّانية والحقائق الوجودية الوجوبية بأعيان الأكوان ، وقد مرّ هذا الذوق في الحكمة الإبراهيمية ، فتذكَّر .
ثمّ قال رضي الله عنه : ( مشيّته إرادته فقولو .... به قد شاءها فهي المشاء )
يأمر رضي الله عنه بالقول : « إنّ المشيّة تتعلَّق بالإرادة مع أنّها عينها »
أي قولو : " شاء أن يريد " فمفعول المشيّة إذن الإرادة ، ولمّا كانت الإرادة تخصيص المعلوم المراد لما يقتضيه ، والإرادة من جملة المعلومات ، ولا سيّما الإرادة المخصوصة ، فإنّه من حيث ذاته ليست نسبة المشية أو اللامشيّة إليه أولى من إحداهم ، فهو من كونه إلها له أن يريد فتخصّص حقيقة الإرادة لتخصيص ما أراد .
ثم قال رضي الله عنه : (يريد زيادة ويريد نقص .... وليس مشاءه إلَّا المشاء )
يريد رضي الله عنه : أنّ المشيّة قد تتعلَّق بالإرادة كالإرادة الإيجاد ، وتتعلَّق بإرادة النقص بالإعدام ، فالإرادة تعلَّق المريد بالمراد المعلوم ليوجده ، كقوله تعالى " : فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي يوجد ، فإنّ فعله الإيجاد ،
وما تعلَّقت الإرادة حيث وردت في القرآن العظيم إلَّ بالمعلوم المعدوم العين ليوجده ،
كقوله تعالى : " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذ أَرَدْناه ُ " أي للإيجاد ( أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ ) وكقوله : " فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما " [الكهف : 82]
وقوله : " فَأَرَدْن أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْه ُ " [الكهف : 81]
وأمّا المشيّة فتعلَّقها أعمّ ، فإنّه تتعلَّق بالموجود للإعدام وتتعلَّق بالمعدوم أيضا للإيجاد ، كقوله - تعالى - : " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " .
فتعلَّقت بهم وهم موجودون ليذهبهم ، وهو إعدام عينهم وتعيّنهم الشخصيّ العينيّ ، " وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " تتعلَّق بخلق معدوم الأعيان لم يأت بعد ليأتي به .
قال رضي الله عنه : (فهذا الفرق بينهما فحقّق ..... ومن وجه فعينها سواء)
يريد : أنّ المشيّة تتعلَّق بالزيادة عند الإيجاد ، وتتعلَّق بالنقص عند الإعدام والإفساد ، وليست الإرادة كذلك ، فإنّها مخصوصة بالإيجاد والفعل دون الإعدام ، فهذا هو الفرق بين المشيّة والإرادة ، وهما من حيث حقيقتهما - الأحدية الجمعية التي تشملهما - عين واحدة .
وإنّما أورد هذه المسألة في هذا الفصّ ، لما يتضمّن من حكمة الرزق ، وأنّه لا بدّ من إيصال كل رزق إلى كل مرزوق ، وكيفية توصيله بتفصيله .
قال رضي الله عنه : ( قال الله - تعالى : " وَلَقَدْ آتَيْن لُقْمانَ الْحِكْمَةَ " ،" وَمن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " [البقرة : 269 ]، فلقمان بالنصّ هو ذو الخير الكثير ، لشهادة الله له بذلك ، والحكمة قد تكون متلفّظا بها ومسكوتا عنها ) .
يعني : أنّ النطق في موضعه حكمة ، والسكوت أيضا في الموضع الأليق الأنسب بذلك كذلك حكمة ، كما سكت لقمان عن سؤال داوود عليه السّلام في صنعة السرد وعمل الدروع بمحضر من لقمان ، فلم يسأله عنه وسكت ، حتى إذا أتمّه وأكمله داوود ، فأفرغه على لقمان ،
فقال لقمان : نعم الآلة للحرب ، فقيل : إنّه قال له داوود عند ذلك : الصمت حكمة .
فمثل هذا السكوت لعمر الله حكمة يدفع بها الاستعجال ، ويورث التؤدة والوقار .
قال رضي الله عنه : ( مثل قول لقمان لابنه : " يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله " [لقمان : 16] ، فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل الله هو الآتي بها ، وقرّر ذلك الله في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله .
وأمّا الحكمة المسكوت عنها - وقد علمت بقرينة الحال - فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره ، وما قال " لإبنه ": يأت بها الله إليك أو إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عامّا ) يعني في " يَأْتِ بِهَا الله " فالإتيان بها عامّ من الله من كلّ مكان .
قال رضي الله عنه : ( وجعل المؤتى به في السماوات إن كان أو في الأرض ، تنبيها لنظر الناظر في قوله : "وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَفي الأَرْضِ " [الأنعام : 3 ] ، فنبّه لقمان بما تكلَّم به وبما سكت عنه أنّ الحق عين كل معلوم ، لأنّ المعلوم أعمّ من الشيء فهو أنكر النكرات ).
قال العبد : أمّا تنبيهه على أنّ الحق عين كل معلوم فمن حيث إنّ المعلومات إمّا علويات تسمّى سماويّات ، أو سفليات وهي الأرضيات :
فالسماوات الساميات العلويات حقيقة هي الحقائق والأعيان الأسمائيّة
والروحانية على كثرة اختلاف طبقاتها وصورها ومعانيها ومراتبه ، مع عدم تناهي شخصياتها في التعيّنات والنوعية ، فإنّها هي العلويات الأصلية البحتة .
والسفليات الحقيقية والأرضيات هي الحقائق الكونية ، لأنّها تحت أحكام الحقائق الإلهية الوجوبية ، فلحقائق الوجوب حقائق السماوات .
ثمّ الأرواح العلَّية الكلَّية العليّة الإلَّيّة المحيطة بإشراق نورها على العوالم الجسمانية ، والسفل للحقائق الكونية أوّلا ، لأنّه منفعلة عن الحقائق العلَّية العلَّية كما ذكرن .
ثمّ عالم الأجسام ، فإنّها تحت آثار العقول والنفوس والأرواح ، وتحت أحكامها وتصرّفاته .
ثمّ الأجسام ، منها العلويات أيضا كذلك وهي السماوات المعروفة عرفا وفي الحقيقة السماوات هي العلويات كلَّها ، والسفليات كلَّها أرضيات ،
فلمّا قال :" يَأْتِ بِهَا الله " [ لقمان: 16] ، أي بما في السماوات وما في الأرض من الرزق ، فقد جعله إلها رزّاقا من السماوات والأرض ،
والكائن في السماء سماوي ليس بأرضيّ والأرضي كذلك ، لكون الوجود متعيّنا بحسبه وبحسب موطن المعيّن ، فإن لم يكن موجودا مطلق الوجود والتعيّن والتصرّف والعلم ، محيطا بالعين بما في السماوات والأرض من المرزوقين والأرزاق ،
لم يتأتّ أن يأتي بما في السماوات إلى من في الأرض أو في السماء ، ولا بما في الأرض لمن في السماء أو في الأرض من أرزاق المرزوقين ، وإحاطة عين الوجود الحق بما في السماوات والأرض من الأعيان بأن يكون عينها ،
وإلَّا لا تكون إحاطة كلَّية مطلقة من العلم إلَّا بالعين لائقة بجناب الله تبارك وتعالى فهو من كونه عين المرزوق والرزق يأتي بما في السماوات والأرض من الرزق .
وأمّا كون المعلوم أعمّ من الشيء فلأنّ الشيء هو الذي له وجود عيني وتحقّق في عينه ، والمعلوم يتناول ما له وجود عيني بل علمي ، فإنّ الموجودات معلومة للحق ، وكذلك علمه محيط بما لم يتحقّق له وجود ، فإنّ عينه يتعيّن به وفيه ، فالمعلوم أعمّ من الشيء .
قال بعض أهل النظر : قد يكون الشيء ثابتا وسمّى الماهيات أشياء ثابتة ،
فرجّح الشيخ رضي الله عنه قول القائل بالأوّل ، ويعضده وإيّان فيه التحقيق والنظر اللغوي ، فإنّ الشيء مشتقّ من المشيّة ،
كما قيل : كلّ شيء يشيّئه الله ، أي بمشيّته والشيء ما خصصته المشيّة ، وعيّنه الإيجاد من المعلومات ، وليس كل معلوم مرادا للإيجاد أو للإعدام ، وهو فعل بمعنى محلّ تعلَّق المشيّة ، وم يتعلَّق به المشيّة وما لا يتعلَّق به المشيّة ، فليس كل معلوم مرادا للإيجاد أو الإعدام ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ثم تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة كاملة فيها فقال :
" إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ " [ لقمان :16] ، فمن لطافته ولطفه أنّه في الشيء المسمّى بكذا لمحدود بكذ عين ذلك الشيء ، حتى لا يقال فيه إلَّا ما يدلّ عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح ،
فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة وشجرة وحيوان ورزق وملك وطعام ، والعين واحدة من كل شيء وفيه ، كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلَّه متماثل بالجوهر ، فهو جوهر واحد ، فهو عينقولنا : العين واحدة ، ثم قالت ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا ويختلف ويتكثّر بالصور والنسب حتى يتميّز ، فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه - كيف شئت فقل - وهذا عين هذا من حيث جوهره . ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كل صورة ومزاج ، فنقول نحن : إنّه ليس سوى الحق . ويظنّ المتكلَّم أنّ مسمّى الجوهر - وإن كان حقا - ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلَّي ، فهذا حكمة كونه لطيفا ).
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الأشاعرة مع قولهم بأحدية الجوهر في صور العالم كلَّها يقولون باثنينية العين . ولو كان كما قالوا ، لما كان الحق الموجود المشهود المطلق واحدا أحدا في الوجود .
بل كانا عينين موجودتين ، وانتهى حدّ كل منهما إلى الأخرى ، وتمايزا ، لكون كل منهما غير الآخر ، وليس عينه ، وحينئذ يتميّز كل منهما عن الآخر ويحدّ بامتيازه عن الآخر ،
والحق يتعالى عن أن يكون معدودا محدودا ، أو يكون معه غيره في الوجود حقيقة ،
فالحق أن يقال : ما في الوجود إلَّا عين واحدة ، هي عين الوجود الحق المطلق وحقيقته ، وهو الموجود المشهود لا غير ، ولكن هذه الحقيقة الواحدة والعين الأحدية ، لها مراتب ظهور لا تتناهى أبدا في التعيّن والشخص .
فأوّل مراتبها إطلاقه وعدم انحصارها ولا تعيّنها عن كل قيد واعتبار .
والمرتبة الثانية تعيّنها في عينه وذاتها بتعيّن جامع لجميع التعينات الفعلية المؤثّرة ، وهي مرتبة الله تعالى .
ثمّ المرتبة التفصيلية لتلك المرتبة الجمعية الأحدية الإلهية ، وهي مرتبة الأسماء وحضراته .
ثم المرتبة الجامعة لجميع التعينات الانفعالية التي من شأنها التأثّر والانفعال والانتقال والتقيّد ولوازمه ، وهي المرتبة الكونية الخلقية .
ثم المرتبة التفصيلية لهذه الأحدية الجمعية الكونية ، وهي مرتبة العالم ،
ثمّ هكذا في جميع الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص والأجزاء والأعضاء والأعراض والنسب ، ولا تقدح كثرة التعينات واختلافها وكثرة الصور في أحدية العين ،
إذ لا تحقّق إلَّا لها في عينها وذاتها لا غير ، لا إله إلَّ هو ،
فالعين بأحدية الجمع النفسي الفيضي الوجودي سارية في جميع هذه المراتب والحقائق المترتّبة فيها ، فهو فيها هي عينها لا غيرها ، كما كانت هي فيه في المرتبة المذكورة الأحدية الجمعية الأولى هو لا غيره ، كان الله ولا شيء معه ، فافهم.
قال رضي الله عنه : ( ثم نعت فقال : «خبير» أي عالم عن اختبار وهو قوله :" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ " ) [محمد : 31] .
يشير رضي الله عنه: إلى العلم الثابت للحق من حيث حقّية وجود العباد .
قال رضي الله عنه : ( وهذا هو علم الأذواق ، فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه - مستفيدا علما ، ولا تقدر على إنكار ما نصّ الحق عليه في حق نفسه ، ففرّق ما بين علم الذوق والعلم المطلق ، فعلم الذوق مقيّد بالقوى ، وقد قال عن نفسه :
إنّه عين قوى عبده في قوله : « كنت سمعه » وهو قوّة من قوى العبد ، و "بصره " وهو قوّة من قوى العبد و« لسانه » وهو عضو من أعضاء العبد و"رجله ويده " وما اقتصر في
التعريف على القوى فحسب ، حتى ذكر الأعضاء وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى ، فعين مسمّى العبد هو الحق ، لا عين العبد هو السيد ، فإنّ النسب متميّزة لذاتها ، وليس المنسوب إليه متميّزا فإنه ليس ثمّ سوى عينه معه فيتميّز عنه ، فهو هو وحده في جميع نسبه الذاتية التي هي عينه ، فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وأسماء وصفات ، فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين « لطيفا خبيرا » سمّى بهما الله ، فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » ، لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ ، فحكى الله قول لقمان على المعنى كما قال ، ولم يزد عليه شيئ ).
يشير رضي الله عنه: إلى أنّ قوله : « لطيف خبير » إخبار بأنّه موصوف باللطف والخبرة ، والإخبار بكونه كذلك - إذا كان عن كونه كذلك في وجوده ومقتضى ذاته من مقام كان الله - كان إخبارا بكونه خبيرا عن خبرة لرعاية النسبة ،
فإنّه يخبر حينئذ عن خبره أنّه كان كما كان أزلا في ذاته خبيرا فهو كذلك في نفسه بلا قرينة دالَّة على الخبرة ، بخلاف « كان » فإنه دلالة وجودية ، ولكن لقمان عليه السّلام لمّا كان بصدد بيان الإخبار عن الواقع ، قال بهذه الصيغة ، وهي اللطيف الخبير جزما ليتحقّق ابنه أنّه قد تحقّق ذلك ، فافهم ، فإنّه دقيق لطيف .
قال رضي الله عنه : ( وإن كان قوله : « إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ » من قول الله ) يعني في القرآن ، ( فلما علم الله تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذ )
.
يعني في اللغة العربية ومن حيث دلالة لفظ لقمان بلسانه ولغته بهذا ، وذلك من حيث التحقيق والنظر الدقيق ، والعذر ما ذكرنا ،
فاذكر فإنّه بثبوت كونه أوتي الحكمة ، ثم هو فيما نحن بصدد بيانه في مقام التعليم والإرشاد لابنه وثبوت بنوّة ابنه مع أبوّته له ، وبصحّة ثبوته عند ابنه وعندنا ، فقام بهذه القرائن إخباره عن الواقع إخبارا حقيقيا جازم ،
فقام الإخبار عن خبرة ووجود ، كما لو قال : « كان الله لطيف خبيرا » وهذا وإن كان كذلك ، فالمبالغة والإتمام لسياق الكلام على الوجه الأنسب أنسب في الحكمة ، فأخبر الله عنه صورة ما جرى ، والحال الواقع من غير زيادة ول نقصان .
قال رضي الله عنه :(وأمّا قوله: " إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ " [لقمان : 16] لمن هي غذاء له ، وليس إلَّا الذرّة المذكورة في قوله : " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ُ * وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ُ " [ الزلزلة : 7 - 8 ] ، فهي أصغر متغذّ ) .
يعني رضي الله عنه : لو كان أصغر منها لذكره الله في هذه الآية ، لكونه تعالى في بيان أنهى درجة المبالغة .
( و ) أيضا لأنّ (الحبة من الخردل أصغر غذاء ولو كان ثمّ أصغر منه ، لجاء به ، كما جاء بقوله تعالى : "إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها " [البقرة :26 ]، ثمّ لمّا علم أنّ ثمّ ما هو أصغر من البعوضة ، قال : « فما فوقها » يعني في الصغر وهذا قول الله ، والتي في الزلزلة قول الله أيضا ، فاعلم ذلك ) .
قال العبد : فما فوق البعوضة في الصغر الذرّة ، وثمّ لطيفة أخرى ، وذلك أنّ الذرّة مع صغرها أخفّ في الوزن أيضا ، لكونها حيوانا ، إذ الحيّ أخفّ من الموات فانظر كمال البلاغ ، بأنّ العمل إذا كان مثقال ذرّة في الصغر والخفّة ، فلا بدّ من رؤية الجزاء .
قال رضي الله عنه : ( فنحن نعلم أنّ الله ما اقتصر على وزن الذرّة ، وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة والله أعلم . وأمّ تصغيره لاسم ابنه فتصغير رحمة ، ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك . وأمّ حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن " لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " [لقمان : 13]، والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام ، وهو عين واحدة - فإنّه لا يشرك معه إلَّا عينه ، وهذا غاية الجهل ، وسبب ذلك أنّ الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة ، وهو ل يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ، فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ، ومعلوم في الشريك أنّ الجزء الذي يخصّه بم وقعت فيه المشاركة ، ليس عين الآخر الذي شاركه ، إذ هو للآخر ، فما ثمّ شريك على الحقيقة ، فإنّ كل واحد على حظَّه ممّا قيل فيه : إنّ بينهما مشاركة فيه ، وسبب ذلك ، الشركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة ، فإنّ التصريف من أحدهما يزيل الإشاعة ، « قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن » ، هذا روح المسألة ) .
هذه المباحث الشريفة ظاهرة ، والشركة بين الصورة الإلهية متوهّمة عند أهل الحجاب ، فإنّ الدعوة للذات في الصورة الرحمانية ، أو الصورة الإلهية ، أو هما معا ،
والداعي للرحمن مختصّ به من وجه ، فلا شركة ، وكذلك المختصّ بدعوة الله هذه في المحجوب بالصورة ، وأمّا في دعوة صاحب الشهود فلا شركة ، لأحدية المدعوّ والمعبود ، ولهذا علَّل سوغان الإجازة في دعوة أحدهما بقوله :" فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى " [الإسراء : 110 ]
أي الدعوة للهوية العينية الغيبيّة الأحدية الجمعية بين صور الأسماء الحسنى والمسمّيات ، فل شركة أصل .
.
....

m8Koh6O4exM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!