موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية


19 - فصّ حكمة غيبية في كلمة أيّوبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

لمّا كانت أحواله عليه السّلام في زمان الابتلاء وقبله وبعده غيبية ، أسندت هذه الحكمة الغيبية إلى الكلمة الأيّوبية ، .
"" نبي اللهأيوبفي جميع أحواله عليه السّلام من أوّل حالة الابتلاء إلى آخر مدّة كشف الضرّ عنه غيبيّ حتى أنّ الآلام كانت في غيوب جسمه ، وابتلي بغتة غيبا ، ثم كشف عنه الضرّ ،
كذلك من الغيب من حيث لا يشعر ، فآتاه الله أهله الذين غيّبهم عنه " وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من الله غيبته ، كما سنومئ إلى ذلك عن قريب ."
أمّا قبل زمان الابتلاء فكان الله قد أعطاه من غيبه بلا كسبه - من الملك والمال والدنيا والبنين والخدم والخول - ما لم يحصّلها بكسبه ،
وكان يصعد له من الأعمال الزاكية مثل ما يصعد من أهل الأرض أو أوفى ،
فغار عليه إبليس وبنوه ، وقصده بالأذيّة هو وذووه ، وكانوا يستكبرون بعمل ويستكتم دونه ، وكان الله تعالى يشكره في الملإ الأعلى ، ويذكره ،
فقال إبليس : مع هذه المواهب والنعماء والآلاء - التي أنعم الله بها عليه - أعماله قليلة ، فلو كان في حال الابتلاء والفقر صبر ولم يجزع ، لكان ما يأتي من الأعمال أعظم قدرا وأعلى مكانة ، فأذن له في اختباره وابتلائه ،
والقصّة مشهورة في بلائه ، فسلَّط الشيطان على ما تمنّى ، فغارت العيون ، وانقطعت الأنهار ، وخربت الديار ، ويبست الأشجار والثمار ، وهلكت مواشيه ، ومات اثنا عشر من بنيه ، وهجره جلّ أهله وذويه ،
كل هذا ابتلاء غيبيّ من غير سبب معهود وموجب مشهود ، في مدّة يسيرة ، وبعد غيبته عن أهله وماله ، مسّه الشيطان بضرّ في نفسه ، فظهرت من غيوب جسمه الآلام والأسقام ، وتولَّد الدود في جسمه وغيوب أعضائه وأجزائه ، فصبر لمّا عرف السرّ ، ولم يجزع ولم يقطع الذكر والشكر ، متلقّيا بحسن الشكر والصبر ، وهذا الأمر الإمر ،
ولم يشك إلى غير الله إلى انقضاء مدّة الابتلاء ، فلمّا بلغ الابتلاء غايته ، وتناهي الضرّ نهايته ، ولم ينقص أيّوب عليه السّلام من أذكاره وشكوره وحضوره ، ولم يظهر الشكوى والجزع ، فتمّت حجّة الله على اللعين ، وعلى غيره من الشياطين ،
فتجلَّى من غيبه ربّه تجلَّيا غيبيّا فذكر لربّه ما أظهر الشيطان في حاله أمرا فريّ ، ممّا لم يكن به حريّا ،
فأزال الله عنه الآلام والأسقام ، وكشف ما به من ضرّ ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، رحمة أظهرها له من غيب الأمر ،
وأظهر له أيضا عن غيب الأرض مغتسلا باردا وشرابا ، عرّفه في ذلك حقيقة السرّ ، فبهذه العجائب الغيبية أسندت هذه الحكمة إلى هذه الكلمة .

قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ سرّ الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل الله من الماء كلّ شيء حيّ ، وما ثمّ شيء إلَّا وهو حيّ ، فإنّه ما ثمّ شيء إلَّا وهو يسبّح بحمده ) أي بحمد الله (ولكن لا نفقة تسبيحه إلَّا بكشف إلهي ، ولا يسبّح إلَّا حيّ ، وكلّ شيء الماء أصله حيّ ). "في بعض النسخ : فكلّ شيء حي ، فكلّ شيء الماء أصله ".
قال العبد : الاختلاف المذكور بين حكماء الرسوم في وجود الأركان والعناصر قد عرف في كتبهم وهو مشهور .
ومن حيث النظر العقلي الصحيح لا يترجّح أحد أقوالهم على الآخر إلَّا بالإقناعيات ،
فظاهر النظر العقلي ومقتضى التحقيق الكشفي الإلهي أنّ الاثنين من الأربعة في أصل الطبيعة أصلان ، والآخران منفعلان عنهما ،
فالأصلان هم الحرارة والبرودة ، وانفعلت عنهم اليبوسة والرطوبة ،
كما أنّ الاسم « الظاهر » والاسم « الباطن » أصلان في الأسماء الذاتية ، وانفعل عنهما الفعل والانفعال ، فصار كلّ من الأصلين فاعلا في الآخر منفعلا عنه ،
فإنّ الظاهر مجلى الباطن ، وانفعل عنهما الأوّل والآخر ، وكذلك الأسماء الإلهية ، فإنّ الحياة والعلم أصلان ، والإرادة والقدرة تابعتان لهم ، كما علمت ، وهذا في الأصول والطبيعة ،
وعلى هذا يجب أن:-
يتكوّن النار من الحرارة واليبوسة ،
ويتكوّن الماء من البرودة والرطوبة ،
والأرض من اليبوسة والبرودة ،
والهواء من الحرارة والرطوبة، هذا رأيي .
وقيل : إنّ كلّ ركن منها أصل في نفسه وسائرها غير متولَّد عن واحد منه .
وقيل أيضا : إنّ كلّ واحد منها أصل ، ويتكوّن الباقي من ذلك الأصل ، فإنّ النار يمكن أن تكون أصلا للباقي ، وكذلك كلّ واحد منه .
وهذه أقوال أربعة ذهب إلى كلّ قول منها قوم .
ويقال أيضا : إنّ الأركان مركَّبة من صور الطبائع وهيولاها ، والطبيعة حقيقة كلَّية هي عين الكلّ ، فيجب أن يكون تكوّن كلّ منها عن المجموع .
ويعضد هذا الرأي مشرب التحقيق ، وأنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء ، وهي من الأصول المقرّرة في طور التحقيق والكشف ،
وقد سبق لنا في هذا الكتاب ما فيه مقنع من هذه المباحث ، ولكنّ الشيخ رضي الله عنه جعل الماء أصل الأركان كلَّه .
لما صحّ كشفا أنّ العرش الإلهي وهو محلّ استوائه أحدية جميع الحياة والعلم والوجود ، كان على الماء قبل وجود الأرض والسماء ، فالماء عرش العرش ، والحياة إذا تمثّلت أو تجسّدت ، ظهرت بصورة الماء ، وهو ذلك الماء الذي كان عليه العرش .
وأيضا على ما قرّرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب أنّ الطبيعة ظاهرية أحدية جمع الألوهة ، والألوهية حقيقتها ، وأركان الإلهية أربعة : حقائق الحياة - وهي كمال الوجود - والعلم ، والإرادة ، والقدرة .
والحياة شرط في وجود ما عداه ، وعليها تبتني هذه الأركان ، فمن هذه الحقيقة الكشفية الأصلية يتحقّق أيضا أنّ الماء أصل الأركان ، فإنّه صورة الحياة ، ولهذا سرى سرّ الحياة في الماء .
قال رضي الله عنه : (ألا ترى العرش كيف كان على الماء ، لأنّه منه متكوّن فطفا عليه ).
يشير رضي الله عنه إلى أنّ العرش الجسمانيّ الذي هو على فلك الأفلاك الأطلس " قال الكاشاني : المراد بالعرش العرش الجسماني أي الفلك الأطلس " ، فإنّ حقيقة الجسم كانت في بدء الإيجاد مثل الجوهرة أو الدرّة ، فنظر الله
إليها بتجلَّية الحبيّ الإيجادي ، فذابت حياء وتحلَّلت أجزاؤها ماء ، فكان عرشه على ذلك الماء ، قبل وجود الأرض والسماء .
ولا يتوهّم أنّ هذه الدرّة أو الجوهرة هي حقيقة الجسم وجوهرته ، تكوّنت من الهيولى الرابعة التي هي الهيولى الأولى في صورة أحدية جمعية إجمالية اندمجت فيها حقيقة الأجسام كلَّها ، كالأكرة الكلَّية الكبيرة المصمتة فتجلَّى لها الرحمن ، فذابت أي تفصّلت ولاحت عليها أنوار سبحات وجه الرحمن فحلَّلتها تحليلا بخاريّا دخانيّا بعد ما كان التحليل في إشراق التجلَّي الأوّل مادّيّا " مساويا " ،
فيكون فلك الأفلاك الأطلس والعرش عليه من ذلك التحليل البخاري الأحدي الجمعي الكمالي ، فغمر الخلاء بوجوده جسما طبيعيا كلَّيا إحاطيا ملأ فضاء الخلاء المقدّر في مرتبة الإمكان ، فصلح هذا الفلك المحيط العرشي أن يكون عرشا للرحمن المحيط بنور وجديّ وتجلَّيه من خزائن وجوده ، أحاط بالموجودات كلَّها ،
فلمّا ألحّ التجلَّي بإشراق على ذلك الجوهر المحلول المائي ، وتحكَّمت في أجزاء بحره المسجور حرارة التجلَّي ، فدخنت الجوهرة المحلولة - كما قلنا - بخارا أحديا جمعيّا إحاطيا ، وأحاط بمركز الجوهر الأصل في أنّها مراتب البعد ، فأحاط بالماء المذكور وطفا كما أشار إليه الشيخ .
قال رضي الله عنه : ( فهو يحفظه من تحته ) أي الماء ( كما أنّ الإنسان خلقه الله عبدا فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، وهو سبحانه و تعالى مع هذا يحفظه من تحته ، بالنظر إلى علوّ هذا العبد الجاهل بربّه. "في بعض النسخ:بنفسه).
يشير رضي الله عنه إلى أنّ العبد صورة تعيّن للوجود الحق المتجلَّي عليه والمتولَّي لإيجاده ، ثمّ التعيّن لا بدّ أن يعلو على المتعيّن به وهو الوجود الحق ،
فهو مستور بالتعيّن العبدانيّ ، ولولا حفظ الوجود الحق المتعيّن به وفيه ، لانعدم ، إذ لا تحقّق للتعيّن بدون المتعيّن ، فإنّه بلا هو هالك ، فالحق يحفظ العبد من تحته .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو قوله عليه السّلام : « لو دلَّيتم بحبل ، لهبط على الله » فأشار إلى أنّ نسبة التحت إليه كنسبة الفوق في قوله تعالى : "يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ " وقوله : " وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه ِ " ، فله الفوق والتحت ، ولهذا ما ظهرت الجهات الستّ إلَّا بالنسبة إلى الإنسان ، وهو على صورة الرحمن ) .
يعني : لمّا كانت نسبة الفوق والتحت إليه سواء ، فحفظه لعبده من تحته ما ينافي فوقيّته ، فإنّه - بإحاطته - فوقه وتحته .
وقال رضي الله عنه :( ولا مطعم إلَّا الله ، وقد قال في حق طائفة : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ " ثمّ نكرّ وعمّم ، فقال " وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " فدخل في قوله : " وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " كلّ حكم منزل أو ملهم ، " لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه "وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ "وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه عليه السّلام ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه في الحياة ينحفظ وجود الحيّ ، ألا ترى الحيّ إذا مات الموت العرفيّ ، انحلَّت أجزاء نظامه ، وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاصّ ؟ )
يعني رضي الله عنه : إذا عدم الحيّ الحياة التي الماء صورته ، انحلَّت أجزاء نظامه ، وذلك لأنّ الحرارة الغريزيّة التي بها حياة الحيّ إنّما تنحفظ بالرطوبة الغريزيّة ، فحياة الحرارة أيضا بالرطوبة ، وهي صورة الماء ، فبفقدانه وجود الموت الذي هو افتراق أجزاء الإنسان ، فافهم .
ثم عدل رضي الله عنه بعد هذه المقدّمات إلى أن
قال رضي الله عنه : « قال الله تعالى لأيّوب : "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ " يعني ماء " بارِدٌ وَشَرابٌ " لما كان عليه من حرارة الألم ، فسكَّنه الله ببرد الماء ، ولهذا كان الطبّ النقص من الزائد والزيادة في الناقص ) .
يعني : طبّة الله تعالى بنقص حرارة الألم وزيادة البرد والسلام منها ، فإنّها كانت أعني الآلام نارا أوقدها الشيطان سبع سنين في أعضاء أيّوب ، فشفاه الله عنها بهذا الطبّ الإلهي
.
ثم قال رضي الله عنه : ( والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه إلَّا أنّه يقاربه ، وإنّما قلنا : « ولا سبيل إليه » أعني الاعتدال ، من أجل أنّ الحقائق والشهود تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلَّا عن ميل يسمّى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي حق الحق إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاصّ دون غيره ، والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع ) .
قال العبد : كان رضي الله عنه يريد الكون الخلقيّ والحقيّ الأسمائيّ وبموجب النظر العقلي لا غير ، فإنّ الوارد ورد بأنّ ذلك الاعتدال المفقود في الأكوان قد انفرد به الله ، فهو له وهو فيه ، فلا يقبل الزيادة ولا النقص ، ولا يقبل الكون والفساد تبارك وتعالى من حيث ذاته الغنيّة عن العالمين ، وحقيقته العينية الغيبيّة الجامعة بين التعيّن واللاتعيّن ، والقيد والإطلاق ، وقبوله كلّ حكم وضدّه من كل حاكم ، وكونه عين النقيضين والمتباينين والمتناسبين والمتنافيين والمتشاكلين معا أبدا دائما ، فما بها أبدا ميل عن مقتضى ذاته ، ولا حيد عمّا وجب له لذاته الأحدية الجمعية الكمالية المطلقة عن كلّ قيد حتى عن الإطلاق عنه .
قال رضي الله عنه : ( فلهذا منعنا عن الاعتدال ، وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتّصاف الحق بالرضى والغضب وبالصفات ، والرضى مزيل الغضب والغضب مزيل للرضي عن المرضيّ عنه ، والاعتدال أن يتساوى الرضى والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ، فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ،
وما رضي الراضي عمّن رضي عنه وهو عليه غاضب ، فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ، وإنّما قلنا هذا من أجل من يرى أنّ أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه ، فما لهم حكم الرضي من الله ، فصحّ المقصود ، وإن كان - كما قلنا - مآل أهل النار إلى إزالة آلام أهل النار ، فذلك رضى ، فزال الغضب ، لزوال الآلام ، إذ عين الغضب عين الألم ، إن فهمت ) . " في بعض النسخ : إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار "
قال العبد : الغضب والرضي إذا اتّصف الحق بأحدهما ، زال الآخر ، ولكن بالنسبة إلى مغضوب عليه أو مرضيّ عنه معيّنين ، وإلَّا فهو بالنسبة الكلَّية الغضبيّة القهرية الجلالية أو الرضى الكلي اللطفي الجمالي لا يزال اتّصافه بهما من كونه إلها وربّا ،
وأمّا من حيث غناه الذاتيّ الكليّ اللطفي الجمالي لا يزال اتّصافه بهما من كونه إلها وربّا ،
وأمّا من حيث غناه الذاتيّ فلا يتّصف بشيء منهما ، فهو غنيّ عن العالمين ،
فصحّ أنّ الميل والانحراف ليس إلَّا من قبل القابل ، لظهور حكم الرضى أو الغضب في القابل وغير القابل ، لا بالنسبة إلى الحق وإن كانت حقيقتا الرضى والغضب - الكلَّيّين الإلهيين الظاهر أحكامهما أبدا دائما في المرضيّين عنهم والمغضوبين عليهم من العالمين - ثابتتين لله ربّ العالمين على السواء ،
لا يتّصف بأحدهما دون الآخر إلَّا بالنسبة والإضافة إلَّا بحسب حكم سبق الرحمة الغضب - وهو ذاتيّ - وبالنسبة الأحدية الجمعية ، فحكم الغضب والرضى المتضادّين باعتبار ما ذكرنا ،
وفي صلاحية الوجود الحق الإلهي من حيث ظهوره في الأعيان والأكوان بحسب القوابل ، وظهور الميل والانحراف بحسب القابل وغير القابل ، وفي وقت دون وقت ، وبالنسبة إلى أمر دون أمر ، فافهم .
قال رضي الله عنه: ( فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بالملامة " بإيلامه " إلَّا ليجد الغاضب الراحة بذلك ،
فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه، والحق إذا أفردته عن العالم، يتعالى علوّا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحدّ، وإذا كان الحق هويّة العالم، فما ظهرت الأحكام كلَّها إلَّا فيه ومنه، وهو قوله :" وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " حقيقة وكشفا " فَاعْبُدْه ُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ِ " حجابا وسترا ، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنّه على صورة الرحمن ، أوجده الله ، أي ظهر وجوده بظهور العالم ، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية ، فنحن صورته الظاهرة ، وهويّته روح هذه الصورة المدبّرة لها ، فما كان التدبير إلَّا فيه ، كما لم يكن إلَّا منه ، فـ هُوَ " الأَوَّلُ " بالمعنى و"الآخِرُ " بالصورة ، وهو "الظَّاهِرُ" بتغيير الأحكام والأحوال ، و"الْباطِنُ " بالتدبير "َهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فهو على كل شيء شهيد ، ليعلم عن شهود لا عن فكر ، فكذلك علم الأذواق ، لا عن فكر ، وهو العلم الصحيح ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ العبد بتعيّنه حجاب على الحق المتعيّن به وفيه ، فهو هوية العبد ، والعبد صورة إنّيّة ربّه وأنانيّته ، ف "الإنّي " المقيّد العينيّ و "الأنا " يقيّدان "الهو " الغيبيّ العينيّ ف « الهو » المطلق روح هذ « الأنا » و « الإنّي » المقيّدين المتعيّن وحصّة هذ « الإنّي » المقيّد من « الهوية » المطلقة روحه المدبّر لصورته ، ف « إنّا » و « إنّي » و « نحن » و « أنا » و « أنت » و " أنتم " كنايات عن الحق المتعيّن في الصور والتعيّنات ، و « هو » كناية عنه في الغيب الذاتي ، وهو غيب الذات وما لا يعلم ولا يضاف من العين المطلقة تعالى ، والهويات المقيّدة بالأعيان المتعيّنة في الصور وبها باعتبار الأنيّات والإنيّات الوجودية الشهودية ، وبدون هذا الاعتبار ليست إلَّ هو هو ،
فنحن صور تفصيل الإنّية العظمى الإلهية وشخصيات أنانيتها من حيث ظاهرنا وجسمانيتنا وصورتنا ، ومن حيث الباطن والروحانية فصور تفصيل هويته الكبرى ، فنحن له ، وهو لنا ، وهو فينا نحن ، ونحن فيه هو ، فافهم.
قال رضي الله عنه : ( وما عداه فحدس وتخمين ، ليس بعلم ، ثم كان لأيّوب عليه السّلام ذلك الماء شرابا بإزالة ألم العطش الذي هو من النصبوالعذاب الذي مسّه به الشيطان أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه ، فيكون بإدراكها في محلّ القرب فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا ، من المسافة ، فإنّ البصر يتّصل به من حيث شهوده أو يتّصل المشهود بالبصر كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر ) .
قال العبد : سمّي الشيطان شيطانا ، لبعده عن الحقائق ، فاشتقاقه من شطن : إذا بعد ، أو من شاط : إذا نفر ، وإذا بعد عن إدراك الحقائق ، فقد بعد عن الله في عين القرب ، لكونه صورة الانحراف التعيّني .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا كنّى أيّوب في المسّ ، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المسّ ، فقال : البعد منّي قريب لحكمه في ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أغلبية حجابية التعيّن بالنسبة إليّ ، وإلَّا لم يكن للانحراف فيه حكم ، وإنّما حكم عليه وفيه الانحراف والبعد ، لبعده عن حقيقة الاعتدال الذي انفرد به العين والحقيقة ، كما أشرنا إليه ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه : ( وقد علمت أنّ البعد والقرب أمران إضافيّان فهما نسبتان لا وجود لهما في العين ، مع ثبوت أحكامهما في القريب والبعيد .
واعلم : أنّ سرّ الله في أيّوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا يقرؤه هذه الأمّة المحمدية ، لتعلم ما فيه ، فتلحق بصاحبه تشريفا لها ، فأثنى الله على أيّوب بالبصر مع دعائه في رفع الضرّ عنه ، فعلمنا أنّ العبد إذا دعا الله في كشف الضرّ عنه ، لا يقدح في صبره ، وأنّه صابر ، وأنّه " نِعْمَ الْعَبْدُ " ، كما قال : "إِنَّه ُ أَوَّابٌ " أي رجّاع إلى الله لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل عند ذلك بالسبب ، لأنّ العبد مستند إليه )
.
يعني : في وجوده المقيّد أو المطلق إلى الحق المتعيّن في السبب ، فلمّا حمد الله تعالى أيّوب عليه السلام، علمنا أنّ رجوعه أوّلا وآخرا ما كان إلى الأسباب من حيث حجابياته .
قال رضي الله عنه : ( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبّب واحد المعيّن ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاصّ ربما لا يوافق علم الله فيه ، فيقول : إنّ الله لم يستجب لي وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب معيّن لم يقتضه الزمان ، فعمل أيّوب بحكمة الله إذ كان نبيّا ، لما علم أنّ الصبر هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة ) .
يعني أنّ المتقدّمين من المشرقيين من أهل التصوّف قالوا به .
قال رضي الله عنه : ( وليس ذلك بحدّ للصبر عندنا ، وحدّه حبس النفس عن الشكوى لغير الله ، لا إلى الله ، فحجب الطائفة نظرهم في أنّ الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء ، وليس كذلك ، فإنّ الرضي بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره ، وإنّما تقدح في الرضى بالمقضيّ ، ونحن ما خوطبنا بالرضى بالمقضيّ ، والضرّ هو المقضيّ ، ما هو عين القضاء ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ القضاء حكم الله بمقتضى حقيقة المقضيّ عليه وحاله واستعداده بالمقضيّ به كائنا ما كان ، فالقضاء هو الحكم غير المقضيّ به وهو المحكوم به ، فلا يلزم من الرضا بحكم الله الرضا بالمحكوم ، لتغايرهما ، فإنّ المتغايرين متفارقان بما هما متغايران .
قال رضي الله عنه : ( وعلم أيّوب أنّ في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضرّ مقاومة القهر الإلهي ، وهو جهل بالشخص ، إذا ابتلاهالله بما يتألَّم منه نفسه، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم، بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه، فإنّ ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف، فإنّ الله قد وصف نفسه بأنّه يؤذى،
فقال: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَه ُ " وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهي لا تعلمه لترجع إلى الله بالشكوى، فيرفعه عنك؟
فيصحّ الافتقار الذي هو حقيقتك، فيرتفع عن الحق الأذى بسؤلك إيّاه في رفعه عنك، إذ أنت صورته الظاهرة، كما جاع بعض العارفين فبكى،
فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفنّ معاتبا له،
فقال العارف: إنّما جوّعني لأبكي يقول: إنّما ابتلاني بالضرّ لأسأله في رفعه عنّي، وذلك لا يقدح في كونه صابرا،
فعلمنا: أنّ الصبر إنّما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله، وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه الله، وقد عيّن الله وجها خاصّا من وجوه الله وهو المسمّى وجه الهوية، فيدعوه في ذلك الوجه برفع الضرّ عنه، لا من الوجوه الأخر المسمّاة أسبابا، وليست إلَّا هو من حيث تفصيل الأمر فيه نفسه).
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ السبب الذي يتوجّه إليه غير العارف إنّما هو حجابية التعيّن ، والمتعيّن بذلك التعيّن الخاصّ هو السبب ، فهو من كونه متعيّنا في ذلك التعيّن والمعيّن وجه خاصّ من وجوه الله المتعيّنة في كل وجه وجهة ووجهة ، وهو وإن كان حقّا معيّنا من الله في تلك الجهة ، فإنّما هو وجه من وجوه الله ، ل هو هو.

فالأوّاب هو الرّجاع إلى الهوية الإلهيّة المحيطة بجميع الهويات المتعيّنة بالمسمّيات أسبابا ، وهي أيضا - من حيث عدم تحقّقها بدون المتعيّن ومن حيث تحقّقها بالمتعيّن فيها - وجه من وجوه الحق ، وأنت أيضا من حيث عدم تحقّقها بدون المتعيّن ومن حيث تحقّقها بالمتعيّن فيها وجه من وجوه الحق ، وأنت أيضا كذلك وجه من الوجوه الإلهية ، ولكن لا يتوجّه ولا توجّه وجه قلبك إلَّا إلى مستندك ، وهو الذي استندت إليه الوجوه كلَّها، ولا يتقيّد بوجه خاصّ، فقد لا يجيبك فيه، لعلمه أنّ ما تسأله في وجه آخر، فإذا سألت أحدية جميع جميع الوجوه وتوجّهتها ، فقد أصبت ، فالزم، ولا يلزم التقيّد ، فافهم.
قال رضي الله عنه : ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضرّ عنه ، عن أن يكون جميع الأسباب عينه ، وهذا لا يلزم طريقته إلَّا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله ، فإنّ لله أمناء لا يعرفهم إلَّا الله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ، وإيّاه - سبحانه - فاسأل ) .
يعني رضي الله عنه : وجه الهوية الذي عيّنه على لسان الشارع ، فعليك بالسؤال عن الحق من ذلك الوجه في كلّ قليل وكثير ، وبالجزم بالإجابة إيمانا وتصديقا لقوله تعالى : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " .
"وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
.
....


zSlDyuoR4HI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!