موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية


13 - فصّ حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

سبب استناد هذه الحكمة الملكية إلى هذه الكلمة الكمالية يذكر في شرح نصّ الفصّ ، وقد ذكرنا ما فيه مقنع .
أضيفت حكمته إلى الملك من طلبه القوّة والركن الشديد ، فإنّ الملك القوّة والشدّة ، كم سيأتيك .
قال رضي الله عنه : ( الملك : الشدّة . والملك : الشديد .
يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، قال قيس بن الحيطمة يصف طعنه :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ….. يرى قائم من دونها ما وراءها
أي شددت بها كفّي يعني الطعنة ، فهو قول الله عن لوط : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ".
فقال صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أخي لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » فنبّه صلى الله عليه وسلم أنّه كان مع الله من كونه شديدا ، والذي قصد لوط عليه السّلام القبيلة بالركن الشديد ، والمقاومة بقوله
: "لو أنّ لي بكم قوّة ". )
يشير رضي الله عنه : إلى سبب استناد حكمته إلى لوط من كونه مع القويّ الشديد ، حتى يقوى على أعداء الله ، ويشدّد على أولياء الشيطان ، وكذلك كان عليه السّلام فإنّ هذا النفس من شديد في شدّة ، ولولا القوّة التي كان عليها ، لما قهر الأعداء بقوّة همّته وشدّة أثر باطنه ظاهر .
قال رضي الله عنه: ( وهي الهمّة هنا ) يعني القوّة المذكورة في قوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " .
قال رضي الله عنه : ( من البشر خاصّة ).
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لكونه صلى الله عليه وسلم سمع الله يقول : " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " بالأصالة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً " فعرضت القوّة بالجعل فهي عرضيّة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ".
فالجعل تعلَّق بالشيبة ، وأمّا الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه .
وهو قوله : "خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فردّه لما خلقه منه " ثمّ " يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً " فذكر أنّه ردّ إلى الضعف الأوّل . فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف .

وما بعث نبيّ إلَّا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف ، فلهذ قال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة)
.
قال العبد : كلّ هذه الحكم والأسرار ظاهرة بيّنة الإشارة لأهل الخصوص بلغتهم ، وهي أنّ المخاطب بهذا الخطاب ظاهرية الخلق وحجابيّتهم من جسمانيّتهم .
فإنّ كناية الكاف من قوله : « خلقكم » وفي قول لوط : " بكم " عائدة إلى التعيّن والحجابية التي لأنانيّة كلّ شيء ، ولا شكّ أنّها من الخلقية ، والخلقية صورة عرضية من أصل عدميّ في حقيقة الممكن من جهة إمكانه ، فإنّ أصل الممكن يقتضي الضعف ، إذ القوّة والشدّة من حقائق الوجود ، وأصل خلقيّته من العدم الإمكانى الذاتي له ، فكان له الضعف بالأصالة ، والقوّة بالجعل من حيث ترجيح الحق وتقويته جانب الوجود بالنسبة إلى الممكن ، هذا سرّ خلق الله لنا بالأصالة من ضعف ، وحكمة كون القوّة له عرضية .
وأمّا حكمة الشّيبة من باب الإشارة بلسان أهل الذوق ، فهي أنّ الشعور التي على ظاهر الإنسان صور الشعور الذي لباطن الإنسان بالأشياء ، ولمّا كان شعور كل إنسان بكل شيء في المبدأ أوّلا من حيث حجابيات الأشياء وتعيّناتها ، وهو علمه بما سوى الله من كونه سواه وغيره وحجابا عليه ، فلهذا غلب على لون الشعور وصبغها في بدء النشأة حجابية ظلمانية كالسواد وقبيله ، وإشارة إلى إظهار الحجابية التعيّنية والظلمة الكونية على نوريّته الوجودية أوّلا بالنسبة إليه كذلك ، فإنّه في زعمه وزعم أمثاله غير الله وسواه .
ثمّ بعد تكامل الإنسان في قواه الروحانية والإلهية النورانية وغلبتها على القوى الظلمانية الجسمانية واستيلاء حقيقته على خلقيته وشعوره بحقيّات الأشياء من حيث حقائقها ووجوداتها من جهة ما يدري ولا يدري .
فإنّ الحقيّة الخفيّة في الخلقية التعيّنية غالبة في الآخر ولا بدّ ، ولم يعثر عليها في العموم ، فقد علم ذلك أهل الخصوص والخلوص ، والله غالب على أمره .
وقد سبقت رحمته غضبه ، فلا بدّ أن يغلب في شعوره النورية والبياض على الظلمة والسواد بظهور خفيّات الحقائق على خلصانها وحجابياتها ، فاعرف ذلك وتنبّه ، تنبّه على م بيّنت ممّا تبيّنت ، والله الموفّق .
ول تظنّنّ من قولنا : شعور باطن الإنسان بخلقيات الأستار وحجابياتها أو بحقّياتها ، الشعور الفكريّ الذهنيّ ، فلا يعنى بذلك إلَّا شعور باطن النفس وهي التعلَّقات والتعشّقات النفسية المنبعثة بالتعلَّق في أوّل النشء بحجابيات الأشياء وظلمانياتها ، فافهم هذه اللطيفة الروحانية الشريفة في سرّ غلبة الشيب آخرا وعموم غلبة السواد على الشعور الظاهرة على الإنسان أوّل .
وأمّ من لا يظهر عليه حكم الشيب فهو صورة من لم يدرك طول عمره إلَّا الحجابية الغيرية ، وذلك في العموم ، وفي الخصوص غلبة الغيب على الشهادة بالنور الأسود الذي هو من أعلى الأنوار ، فافهم .
وأمّ معنى قوله عن لوط عليه السّلام : لمّا سمع " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فإنّه سمع بسمع روحه روح هذه الآية من روح محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في عالم
الأرواح ، حين بعثه إلى الأرواح نبيّا ، وكان آدم بين الماء والطين ، فسمع الآية روح لوط كذلك.
وذلك عين تحقّقه عليه السّلام بأنّ الله خلقه وسائر بني نوعه من ضعف من حيث إنّه كان نطفة ، ثمّ صار علقة ، ثمّ مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة ، ثم جنين حيّا مولودا ، ثمّ طفلا رضيعا ، وصبيّا وشابّا وشيخا ومائتا ، ثمّ الله ينشئ النشأة الآخرة ، فتحقّق عليه السّلام كيف خلق من ضعف ، وكيف ردّ إلى ضعف ، وهذا الاعتبار يحصل للأنبياء المكمّلين وحيا ، وللأولياء إخبارا وإلقاء وواردا وتجلَّيا بغتة ، ولغيرهم بالفكر والتدريج ، فافهم .
قال رضي الله عنه :( فإن قلت : وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السالكين والأتباع ، والرسل أولى بها ؟
قلن : صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا ، فكلَّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين : الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي .
والوجه الآخر أحدية المتصرّف والمتصرّف فيه ، فلا يرى ، على من يرسل همّته ؟ )
يعني : لا يرى من يرسل همّته عليه ، ويكون مفعول « يرى » محذوفا بمعنى ل يرى أحدا ويكون « على من يرسل همّته » بيان علَّة عدم التصرّف ، فحذف المرئيّ لما لم تتعلَّق به الرؤية ، والتقدير : لا يرى أحدا غير الحق ، فعلى من يرسل همّته ؟ وهو صحيح فيه حذف واستفهام للمخاطب عمّن يرسل همّته .
قال رضي الله عنه : ( فيمنعه ذلك ، وفي هذا المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فم ظهر في الوجود إلَّا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدّى حقيقته ، ول أخلّ بطريقته ، فتسميته لذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضي أظهره الحجاب على أعين الناس .
كما قال الله تعالى عنهم : "وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ"
وهو من المقلوب ، فإنّه من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ " ي في غلاف ، وهو الكنّ الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه . فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرّف في العالم . )
قال العبد : هذا ظاهر جليّ ، ولكن هاهنا بحث لطيف دقيق ، لعمر الله فيه تحقيق ، وهو أنّ شهود أحدية التصرّف والمتصرّف والمتصرّف فيه ، كما يوجب التوقّف عن التصرّف ، فكذلك يقتضي بالتصرّف ، فإنّ التصرّف من حيث وقع وممّن كان ، فليس إلَّ للحق ، فلو تصرّف العارف بأحدية عين المتصرّف والمتصرّف فيه بكلّ ما تصرّف في الأكوان .
فليس ذلك التصرّف إلَّا للحق ومن الحق ، ولا سيّما وأحدية العين توجب أن يكون لحقيقة العبد كلّ ما لحقيقة الربّ من التصرّف والتأثير ، وإلَّا يلزم أن يكون ناقص الاستعداد والقابلية في المظهرية الكاملة الجامعة الكليّة الإلهية ، حيث لم يتحقّق بكمال ظهور الربوبية والإلهية بالتأثير والتصرّف من حقيقته ، والحقيقة الكمالية الإنسانية الإلهية ، لها كلّ ما للحق من الحقائق ، وكلّ ما للعبد من العبدانية الإمكانية الكيانية أيضا كذلك على الوجه الأكمل ، ولها أيضا الجمع وأحدية الجمع وغيره .
وإنّم منع العارف الكامل عن التصرّف ما ذكرنا أوّلا من وجوب ظهور العبد بعبدانيته تحقيق ، وردّ أمانة الربوبية العرضية إلى الله تأدّبا .
فإنّ ذلك له تعالى بالفعل ، وللعبد الظهور بالعبودية ، وأتى بالفعل ، وذلك بالقوّة ، وعرضيّ ، فإنّ ظهور التصرّف عن هذا العبد الكامل فليس ذلك بتسلَّط الهمّة ، بل تجلَّى من عين الحقيقة من غير إخلال بمقام العبودية ، ولكنّ التصدّي لذلك والظهور به خلاف التحقيق .
والموجب لتوقّف العبد الكامل العارف عن التصدّي للتصرّف والتسخير بإرسال الهمّة وتسليطه هو أنّ الكامل مستفرغ بكليّته لله وشهوده من حيث إطلاقه الحقيقي الذاتي ، فل التفات له إلى تسليط الهمّة الكلَّية إلى الكوائن الجزئية بالتوجّه الكلَّي وجمع الخاطر ، فلا يجتمع الإنسان في نفسه لهمّته إلَّا للتوجّه الأحدي الجمعي الكمالي إلى الله الواحد الأحد ، وأن تتقيّد الهمّة المطلقة عن كل قيد ، المتعلَّقة أبد بالذات المطلقة بمثل ذلك ، كما أشار إليه - رضي الله عنه - بقوله : « فأمثاله » فافهم .
ولكن للحق ظهور بجميع التصرّفات الإلهية والتأثيرات الربّانية ، من عين العبد الكامل من غير تقييد منه بذلك ولا إرسال همّة ولا تسليط نفس ، وهو مشهود موجود ، ولله الحمد ، فتحقّق يا أخي بكلّ هذه الحقائق ، فإنّها غاية في المعرفة بالله " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
قال رضي الله عنه : ( قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن قائد للشيخ أبي السعود بن الشبل : لم لا تتصرّف ؟
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرّف لي كما يشاء .
يريد قوله تعالى آمرا : " فَاتَّخِذْه ُ وَكِيلًا " ، فالوكيل هو المتصرّف ولا سيّما وقد سمع الله يقول : " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه ِ " فعلم أبو السعود والعارفون أنّ الأمر الذي بيده ليس له ، وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ : هذا الأمر استخلفتك فيه وملَّكتك إيّاه اتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السعود أمر الله واتّخذه وكيلا ، فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها والهمّة لا تتعقّل إلَّا بالجمعية التي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟ !
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعية ، فيظهر العارف التامّ المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزّاق سلام الله عليه : قل للشيخ أبي مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ! لم ل يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان .
يعني : كان تعتاص عليه أمور « مع كون أبي مدين رضي الله عنه كان عنده ذلك المقام وغيره ونحن أتمّ في مقام الضعف والعجز منه ومع هذا قال له هذا البدل ما قال ، وهذا من ذلك القبيل .
وقال صلى الله عليه وسلَّم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " والرسول يحكم ما يوحى إليه به ، ما عنده غير ذلك .
فإن أوحي إليه بالتصرّف فيه بجزم ، تصرّف ، وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التصرّف ، إلَّا أن يكون ناقص المعرفة ) .
قال العبد : نقصان معرفة المتصرّف المخيّر قد يكون من حيث عدم العلم بأنّ حقيقة الفعل والتأثير والتصرّف من خصوص الحضرة اللاهوتية ، وأنّها ذاتية لحقيقة الله ، عرضية في العبد ، وأنّ الوقوف مع العبودية للعبد أولى ، لكون العبودة ذاتية له ، وأنّ الظهور بالذاتيات أعلى وأشرف من الظهور بالربوبية العرضية .
وقد يكون من حيث عدم التأدّب مع المرتبة الإلهية ، وأنّ استخلاف الله فيما خلَّف فيه ، واتّخاذه وكيلا كلَّيا أعلى مقام المعرفة والتحقيق ، ولهذا كمل الرسل والورثة بحكم ما يوحى إليهم ، فإن أوحي إليهم بالتصرّف ، كانوا مأمورين بذلك ، فتصرّفو كتصرّفهم في قومهم بالهلاك والنجاة . وإن أوحي إليهم بالامتناع تأدّبوا ووقفو أدبا .
وإن أوحى إليهم بالاختيار بين التصرّف وتركه ، علموا أنّه لو كان الأرجح في علم الله خلاف ما أمروا به ، لما خيّروا ، بل أمروا به ، وحيث خيّروا فالخيرة في الأدب والوقوف بمقتضى الحقائق .
قال رضي الله عنه :- ( قال أبو السعود لأصحابه الموقنين به : إنّ الله أعطاني التصرّف منذ خمس عشرة سنة ، فتركناه تطرّفا ، هذا لسان إدلال ، وأمّ نحن فما تركناه تطرّفا وهو تركه إيثارا وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم ، فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار .
ولا شكّ أنّ مقام الرسالة يقتضي التصرّف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ، ليظهر دين الله ، والوليّ ليس كذلك.
ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر ، لأنّ للرسول الشفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم ، فيبقي عليهم ، وقد علم الرسول أيضا أنّ هذا الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة منهم من يؤمن به عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ، ول يظهر التصديق به ظلما وعلوّا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام .
فلمّا رأت الرسل ذلك ، وأنّه لا يؤمن إلَّا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمّى إيمانا ، فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز ، فقصرت الهمم عن طلب الأمر المعجز ، لما لم يعمّ أثرها في الناظرين و لا في قلوبهم ، كما جاء في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأكملهم في الحال " إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " إلى صراط مستقيم « ولو كان للهمّة أثر ، ولا بدّ ولم يكن أحد أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همّة منه وم أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية التي ذكرناها .
ولذلك قال في الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه ما عليه " إِلَّا الْبَلاغُ " وقال : " لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ".
وزاد في سورة القصص ، " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم وأعيانهم الثابتة ، فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم ، فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده وقد علم الله بذلك منه أنّه هكذا يكون .
فلذلك قال: " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " فلمّا قال مثل هذا ، قال أيض "ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقي " وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ".
أي ما قدّرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلَّا بحسب ما علمناهم وما علمناهم إلَّا بم أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلم فهم الظالمون .
ولذلك قال :" وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " فما ظلمهم الله .
ولذلك ما قلنا لهم إلَّا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، وذاتن معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، و لا نقول كذا.
فما قلنا إلَّا ما علمنا أنّا نقول ، فلنا القول منّا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم .
قال كلّ منّا ومنهم ..... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونون منّ .... فنحن لا شكّ منهم )
قال العبد : يشير رضي الله عنه : بكلّ ذلك إلى أنّ كمال المعرفة والعلم بحقائق الأمور يوجب كمال الأدب مع الله تعالى وعدم التصدّي والظهور بالتصرّف والتأثير بالهمّة.
فإنّ العالم المحقّق يعلم أنّ الأمور الكائنة في الوجود لا تكون إلَّا بموجب ما كانت عليه في العلم الأزلي، ولا يجري في العالم إلَّا ما جرى في علم الله أزلا بجريانه ، فتنزّهت الهمم العالية العالمة بهذا عن تعليق الهمّة بما لا يكون .
إذ الواقع ما علموا أنّ يقع ، فلا فائدة في تعليق الهمّة ، وغير الواقع لا يقع بتعليق الهمّة به ، ولا يقع إلَّا ممّن يكون ناقص المعرفة ، كما أشار إليه من قبل ، فتحقّق أنّ الأمر بين فاعل عالم بما في قوّة القابل وبين قابل لا يقبل إلَّا ما في استعداده الذاتي غير المجعول .
فكان الأمر كما أشار منّا ومنهم ، منّا من حيث حضرة الجمع الأسمائي ، ومنهم من حيث الأعيان المظهرة بالوجود الحقّ حقائق الأسماء بقابلياتهم واستعداداتهم الخصوصية الذاتية ، وأخذه العلم الحقيقي منّا ، فإنّا نعطي منه من يشاء ما نشاء .
هذ ظاهر ما في هذا الشطر ، والذي فوق هذا أنّ العلم مأخوذ من المعلوم ، والمعلوم نحن ، فإنّا إنّما نعلم أنفسنا منّا ، إذ لا معلوم إلَّا نحن ، فالأخذ منّا ، وذلك العلم من الله متعلَّق أوّلا بنفسه ، ثمّ بالعالم الذي هو مظاهر حقائق نفسه ، وهذ معنى عاد في هذا الشطر .
وأمّ الشطر الآخر وهو أن يكون الأخذ عنهم ، أي عن حقائق العالم وأعيانه - فهذا ظاهر ، فإنّ العلم بالعالم إنّما يؤخذ من أعيان العالم وحقائقه ، وأنّهم أي المعلومات من أعيان العالم إن لم يكونوا منّا من كوننا أعيانهم بل تبعيض ، ولم يكونوا من حقائقهم مجعولين بجعل منّا ، فنحن معاشر الأسماء لا شكّ ، نكون منهم ، فإنّهم يعيّنون الوجود ويسمّون الحق بأسمائه ، فنحن من حيث حضرة الجمع الأسمائي منهم .
ومعنى آخر أن يكونوا بموجبنا وحسبنا مطلقا ، وليس في وسعهم ذلك ، لكون كلّ عين عين مخصوصا بخصوص ، ولكنّا لسعتنا لا شكّ نكون بموجب ما منهم عليهم ممّا يوجب عليهم ، فنكون بحسبهم .
قال رضي الله عنه : ( فتحقّق يا وليّي هذه الحكمة الملكية في الكلمة اللوطية ، فإنّها لباب المعرفة ) .
يعني : أنّ لباب المعرفة والعلم الحقيقي يوجب إقامة أعذار الخلائق من العلم بسرّ القدر .
ثمّ قال رضي الله عنه :
( فقد بان لك السرّ .... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشفع .... الذي قيل هو الوتر.)
يعني رضي الله عنه : من السرّ سرّ القدر وبالأمر أمر الوجود الحق أنّه بحسب ذلك السرّ ، وأنّ الواحد الحق الذي هو الوجود مدرج في الشفع الذي هو القابل ، وإنّما كان شفعا لظهوره في ثاني مرتبة الوتر .
وإنّم كان وترا لعدم الشافع التالي ، فالوتر بتحقّق الثاني شفع ، وبلا هو ، وتر ، فافهم .
.
....

19A4wQC5k0E

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!