موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية


12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

إضافة هذه الحكمة إلى الكلمة الشعيبية ، لكونها على شعب كثيرة ، كما أنّ القلب الإنساني ذو شعب كثيرة ، لتقلَّبه بين إصبعي الرحمن.
وكون شعيب حكمه وحكمه بحكمه لشعوبه وقبائله بالنصيحة والأمر بإيفاء الحقوق ، والإقلاع عن البخس والنقص ، والعدل والعذل على الجور ، وذلك عدل أقامه الله في النشأة الإنسانية بوجود القلب .
فإنّ منشأ العدل وقسمة مادّة الحياة الطبيعية وهي الدم للأعضاء الآلية والأعضاء المتشابهة الأجزاء علوا وسفلا من القلب ، فإنّ الله يوصلها من القلب إلى الكلّ بقدر استحقاق كلّ عضو عضو واستعداده بميزان العدل .
كان الغالب على دعوة شعيب الأمر بالعدل وإقامة الموازين والمكاييل والأقدار .
كم قال : " وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " كلّ هذه الإشارات تدلّ على رعاية العدل وأحدية الجمع والاعتدال .
وكم أنّ العدل في حفظ صحّة جميع البدن وسقمه إلى القلب ، والقلب له أحدية جمع القوى الروحانية والقوى الجسمانية ومن القلب ينشعب الروح الطبيعي إلى كل عضو عضو من أعلى البدن وأسفله على ميزان العدل ، فيبعث لكل عضو ما يلائمه من الروح الطبيعي ، فافهم .
واستفاد منه موسى عليه السّلام علم الصحبة والسياسة ، وأمره بالتخلَّي عن العامّة إلَّا في وقت معلوم وقدر موزون ، وكان الغالب على موسى عليه السّلامالظاهر .
فحصل له بصحبته جميع مقام الجمع .
قال رضي الله عنه : " اعلم : أنّ القلب - أعني قلب العارف بالله - هو من رحمة الله ، وهو أوسع منها ، فإنّه وسع الحق - جلّ جلاله - ورحمته لم تسعه ، هذا لسان عموم من باب الإشارة ، فإنّ الحق راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه " .
يشير رضي الله عنه إلى قوله تعالى على لسان أكمل الرسل عليه السّلام أنّه قال :
"م وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي " ففيه إشارة أيضا إلى ما ذكر آنفا من
قول أبي يزيد رضي الله عنه : لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة ، في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ به .
وإذ كان كذلك والعرش مستوى الرحمن برحمته العامّة التي عمّت العالمين ، والرحمة إنّم تنزل من العرش المحيط بالكرسيّ الذي وسع السماوات والأرضين ، فإنّها في جوفه كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، ومع هذا ، فهو كما ذكرنا لو كان في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به فالقلب أوسع من الرحمة التي وسعها العرش بما وسع المرحومين جميع .
وأمّ كونه لسان العموم فلما عمّت علوم علماء الرسوم المؤمن ، بقوله : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي » وأنّه راحم غير مرحوم ، وأنّ الرحمة التي هي صفة من صفاته الذاتية أو نسبة من النسب الإلهية لا تحيط به تعالى ، فإنّها لو أحاطت به تعالى ، لوسعته ، ولا تحيط به فلا تسعه ، مع أنّ القلب وسعه بما أخبر عن نفسه وتقرّر في العموم .
قال رضي الله عنه : « وأمّا الإشارة من لسان الخصوص فإنّ الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس ، وأنّ الأسماء الإلهية عين المسمّى وليست إلَّا هو ، وأنّها طالبة ما تعطيه من الحقائق ، وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء الإلهية إلَّا العالم ، فالألوهية تطلب المألوه ، والربوبية تطلب المربوب ، وإلَّا فلا عين لها إلَّا به وجودا وتقديرا ، والحق من حيث ذاته غنيّ عن العالمين ، والربوبية م لها هذا الحكم ، فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقّه الذات من الغنى عن العالم ، وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلَّا عين هذه الذات " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الربوبية لكونها ذاتية للربّ هي عينه ، لأنّها لو لم تكن عينه ، لكانت غيره من جميع الوجوه ، فلم تكن الذات بدونها ربّا ، واحتاجت إلى ذلك الغير في كونها ربّا والذات غنيّة ، وربوبيتها ليست غيرها ، فهي عينه .
قال - رضي الله عنه - : « فلمّا تعارض الأمر بحكم النسب ، ورد في الخبر ما وصف
الحق به نفسه من الشفقة على عباده ، فأوّل ما نفّس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية ، فثبت من هذ الوجه أنّ رحمته وسعت كل شيء « ووسعت ما وسعه القلب وهو الحق » فهي أوسع من القلب .
ولكن يقال في « كلّ شيء » : إنّ الشيء حيث أضيف الكلّ إليه جزئي مخصوص تخصّص بحسبه ، فيكون معناه كلّ واحد واحد من الأشياء ، وحينئذ لا يتناول الحق ، لأنّه يتعالى عن أن يكون جزئيّا ، وكذلك القلب الذي وسع الحق ، فإنّه كلَّي ، لكونه أحدية جمع جميع الحقائق القابلية المظهرية ، فلا يدخل تحت « كلّ شيء » إلَّا أن يكون معنى « كلّ شيء » جميع الأشياء .
قال - رضي الله عنه - : " أو مساوية له في السعة" .
يعني الرحمة ، من كونها وسعت الحق كما وسعه القلب .
قال رضي الله عنه : « هذا مضى . ثمّ لتعلم أنّ الله تعالى كما ثبت في الصحيح يتحوّل في الصور عند التجلَّي . وأنّ الحق تعالى إذا وسعه القلب ، ل يسع معه غيره من المخلوقات ،
فكأنّه يملؤه ،ومعنى هذا أنّه إذا نظر إلى الحق عند تجلَّيه له ، لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره"
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ أحدية الحق الذي لا يقتضي معيّة غيره تقتضي بأن لا يتعلَّق النظر القلبي عند التجلَّي إلَّا به لا غير .
قال رضي الله عنه : " وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطاميّ سلام الله عليه : لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ به .
وقال الجنيد - رضي الله عنه - : في هذا المعنى : المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر ، وقلب يسع القديم كيف يحسّ بالمحدث موجودا ؟!."
يشير رضي الله عنه : إلى أن لا وجود للمحدث من دون الله ولا معه ، لعدم الإثنينية في مقام وحدته .
قال رضي الله عنه : " وإذا كان الحق يتنوّع تجلَّيه في الصور ، فبالضرورة يتّسع القلب ويضيق بحسب الصور التي يقع فيها التجلَّي الإلهيّ ، فإنّه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلَّي .
فإنّ القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محلّ فصّ الخاتم من الخاتم لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة إن كان الفصّ مستديرا ، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفصّ مربّعا أو مسدّس أو مثمّنا ، أو ما كان من الأشكال .
فإنّ محلَّه من الخاتم يكون مثله لا غير ، وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أنّ الحق يتجلَّى على قدر استعداد العبد ، وهذا ليس كذلك ، فإنّ العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلَّى له فيها الحق " .
قال العبد : مرآتية العبد الكامل أو قلبه للحق ليست كمرآتية غيره ، فإنّ العبد الكامل ليست له حيثية معيّنة ولا كيفية مقيّدة ولا قابلية جزئيّة من وجه دون وجه فيكون تجلَّي الحقّ له بحسبه ، بل حسب العبد بحسب ربّه ، بل هو هيولى لقبول صور تجلَّيه فيه ، وغيره ليس كذلك ، فإنّ لغيره استعدادا معيّنا وقابلية مخصوصة وخصوصية مميّزة له عن غيره ، فيقع التجلَّي بحسبه وبحسب خصوص قابليته ، فيتّسع التجلَّي ويضيق ويتكيّف بكيفية قلبه الجزئي .
وهذ حقيقة تحوّل الحق في الصور يوم القيامة لأهل المحشر على العموم ، والأمر في الإنسان الكامل وقلب المؤمن الذي هو مرآة المؤمن بعكس ذلك .
فإنّ قلبه يتقلَّب في التجلَّي للمتجلَّي بحسب المتجلَّى من أيّ حضرة تجلَّى ، فإنّ هذ العبد يتجلَّى بالتجلَّي كيف كان ، ولقلب هذا العبد السعة المذكورة لا لغيره ، ول خلاف في أصل البحث إنّ الحقّ يتجلَّى بقدر استعداد القلب ، فإنّه إذا كانت القلوب ذوات الأقدار والهيئات المخصوصة ، فالتجلَّي فيها بحسبها .
وهذ ما أشار إليه رضي الله عنه : من صور الأشكال المستديرة والمثلَّثة وغيرها ، ولكنّ القلب إذا لم يكن ممّا له حيثية معيّنة أو صفة مخصوصة مقيّدة أو الغالب عليه حكم أو كيفية على التعيين ، بل كان - كما مرّ هيولانيّ القبول ، دائم الإقبال والتوجّه إلى الحق المطلق بإطلاق قابليته وكلَّية قبوله الإحاطي الأحدي الجمعي وتلقّيه الكمالي ، فهو بحسب تجلَّي الربّ .
والذي أشار إليه الشيخ رضي الله عنه في: « و تحرير هذه المسألة أنّ لله تجلَّيين :
تجلَّي غيب وتجلَّي شهادة فمن تجلَّي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب وهو التجلَّي الذاتيّ الذي الغيب حقيقته ، وهو الهوية التي يستحقّها بقوله عن نفسه : « هو » فلا يزال « هو » له دائما أبدا ، فإذا حصل للقلب هذا الاستعداد ، تجلَّى له التجلَّي الشهوديّ في الشهادة ، فرآه فظهر بصورة ما تجلَّى له كما ذكرناه .
فهو - تعالى - أعطاه الاستعداد بقوله : " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " ، ثمّ رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده ، فهو عين اعتقاده ، فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلَّا صورة معتقده في الحق » .
فتلك الإشارة إلى الاستعدادات المجعولة الظاهرة من غيب العين الثابتة واستعدادها الغيبيّ غير المجعول ، فإنّ الهوية المشار إليها بالنسبة إلى المتجلَّى له غيب عينه الثابتة ، والتجلَّي الغيبيّ الذاتي يفيض من الذات والهوية الذاتية على الذوات والهويات الغيبية التي للأعيان الثابتة ، فتوجد من ذلك الاستعداد الكلَّي غير المجعول هذه الاستعدادات الجزئية المجعولة للتجلَّيات الشهادية من الحضرات الأسمائية الإلهية ، ولكن مع هذا فإنّ كل ما ذكر مترتّب على الاستعدادات الخصوصية التي تعطي أربابها الاعتقادات الجزئية التقييدية .
فإذا تجلَّى الحق مرآة قابلة لجميع الصور الاعتقادية ، رأى كلّ أحد صور معتقدة فيه لا غير ، فما رأى سوى نفسه وم جعله في نفسه من صور الاعتقادات .
والعبد الكامل ليس كذلك ، فإنّ له استعدادا كلَّيا ، وقابلية أحدية جمعيّة ، وخصوصه الإطلاق عن كل قيد ، والسراح عن كل حصر ، والخروج عن كلّ طور .
فهو يقابل - بإطلاقه عن نقوش القيود الاعتقادية - إطلاق الحق .
ويقابل كذلك كلّ حضرة حضرة من الحضرات - التي يكون منها وفيها وبحسبها التجلَّي بما يناسبه ممّا فيه من تلك الحضرة مرآة مجلوّة مستعدّة مهيّأة لتجلَّيات تلك الحضرة .
فيقبل جميع التجلَّيات مع الآنات بمرائيه ومجاليه التي فيه من غير مزاحمة ولا خلط ولا حبط ، والتجلَّي الذاتيّ الغيبيّ دائم الإشراق من الغيب المطلق الإلهيّ الذاتيّ على غيب قلبه المطلق الإلهي الأحدي الجمعي الكمالي ، جعلنا الله وإيّاك من أهله ، بحوله وطوله .
قال رضي الله عنه : « فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ، وهو الذي تجلَّي له فيعرفه ، فلا يرى العين إلَّا الحق الاعتقاديّ ، ولا خفاء بتنوّع الاعتقادات ، فمن قيّده أنكره في غير ما قيّده به ، وأقرّ به فيم قيّده به إذا تجلَّى .
ومن أطلقه عن التقييد ، لم ينكره ، وأقرّ له في كل صورة يتحوّل فيها ، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له فيها إلى ما لا يتناهى ، فإنّ صورة التجلَّي ما لها نهاية يقف عندها ، وكذلك العلم بالله ما له نهاية في العارفين يقف عندها ، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " إلى ما لا يتناهى من الطرفين .
هذا إذا قلت : حق وخلق ، فإذا نظرت في قوله : "كنت رجله التي يسعى بها ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي يتكلَّم به "إلى غير ذلك من القوى ومحالَّها التي هي الأعضاء ، لم تفرق .
فقلت : الأمر حق كلَّه أو خلق كلَّه ، فهو حق بنسبة وهو خلق بنسبة والعين واحدة ، فعين صورة ما يتجلَّى عين صورة من يقبل ذلك التجلَّي ، فهو المتجلَّي والمتجلَّى له ، فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق الأسماء الحسنى " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ هذه الأسماء المختلفة الواقعة على هذه العين الواحدة إنّما هي بالاعتبارات ، فإذا اعتبرت أحدية الذات .
قلت : حقيقة واحدة ليس غيرها أصلا ورأسا .
وإن اعتبرت تحقّقها الذاتيّ في عينها .
قلت : حق .
وإن اعتبرت إطلاقها الذاتيّ ،
قلت : ذات مطلقة عن كل اعتبار . وإن اعتبرت تعيّنها في مراتب الظهور

قلت : شهادة . وإن اعتبرت لا تعيّنه ،
قلت : غيب حقيقي . وإن اعتبرت الظهور في الكثرة ،
قلت : خلق كلَّه . وإن اعتبرت أحدية العين في التعيّن واللاتعيّن ،
قلت : حق كلَّه لا غير . وإن اعتبرت أنّ ظاهره مجلى لباطنه أبدا ،
قلت : هو المتجلَّي والمتجلَّى له .
ول عجب أعجب من حقيقة بذاتها تقتضي هذه الاعتبارات وهي صادقة فيها ، وذلك بحقيقة تجلَّيها في صور لا تتناهى أبدا دائما ، فلا يغيب عنها في جميع صورها كلَّها إذ تجلَّى في صورة على التعيين .
فإنّه في عين تعيّنها في كل عين عين ومعتقد معتقد متنزّهة عن الحصر على إطلاقها ول تعيّنها الذاتي المطلق عن كل قيد ، وفي عين لا تعيّنها وإطلاقها عن كل تعيّن ظاهرة بكل عين لكل عين ، وكلّ ذلك لها بالفعل من حيث هي هي في حقيقتها ، وبالقوّة بالنسبة إلى اعتبار المعتبر .
فأعجب من هذا العجب ، وإن تحقّقت فلا تعجب وحدّث عن البحر ، فلا حرج ولا عجب ، سبحانه وتعالى عن أن يكون معه غيره في الوجود .
قال رضي الله عنه :
فمن ثمّ ؟ وما ثمّ ؟ ..... وعين « ثمّ » هو ثمّة
يستفهم رضي الله عنه على بصيرة بـ « من » و " م " في نفس الحقيقة عنها ، ويثبت أنّ الحق هو هو في كل عين عين .
« ثمّ » أي في الواقع الموجود المشهود .
قال رضي الله عنه :
فمن قد عمّه خصّ .... ومن قد خصّه عمّه.
أي : الحق الذي عمّ ما ثمّ بالوجود خصّ كلّ متعيّن بخصوصية وحكم وصورة وهو إن خصّه كذلك بخصوصية تخصيصه بعين عين ، فقد عمّها بالحقّية والوجود ، فكان عين الكلّ هو هو ول غير .
قال - رضي الله عنه - :
فما عين سوى عين .... فنور عينه ظلمة
فمن يغفل عن هذ ..... يجد في نفسه غمّة
ولا يعرف ما قلن .... سوى عبد له همّة
"إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " لتقلَّبه في أنواع الصور والصفات .
ولم يقل : لمن كان له عقل ، فإنّ العقل قيد يحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر ، فما هو ذكرى لمن كان له عقل ، وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفّر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا وما لهم من ناصرين " .
قال العبد : نسب الله - تعالى - الذكرى من عبيده لمن كان له قلب ، وأضافها أيض في آية أخرى إلى ذوي الألباب ،
فقال : " إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لأُولِي الأَلْبابِ " وكذلك قلب كلّ شيء لبّه ، ولا يذكر اللبّ إلَّ اللبّ من ذوي الألباب ، ولبّ كلّ شيء حقّه من الحق ، فالحق الذي في كل شيء وفي كل خلق هو لبّ ذلك الشيء .
وإلى ذلك أشار لأهل الإشارات ، بقوله : "كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " .
أي لا تحقّق له ولا حقيقة إلَّا حقيقة الحقيّة ، وهو ما يشير إليه المحقّق المحنّك : في كلّ شيء إنّ له وجها ، فذلك الوجه هو لبّ ذلك الشيء وحقّه وحصتّه الخصيصة به من مطلق الحق الساري في حقيقة كل شيء بأحدية الجمع والوجود ، وهو الحق المستجنّ .
الذي يشير إليه شيخنا رضي الله عنه في كتاب « مفتاح غيب الجمع والوجود »وفي « النفحات » و « إعجاز البيان » وغيرها من تصانيفه : والقلب وإن كان هو ذلك اللبّ من كلّ شيء ، ولكنّ الحق الذي هذا القلب عرشه لبّ اللبّ .
ثمّ اعلم : أنّ في معنى القلب مثل ما في لفظ حقيقة القلب لتقلَّب حقيقة القلب في أطوار القبول للتجلَّيات غير المتناهية ، وبين لفظة « القلب » ومعنى « القبول » و « القابلية » اشتراك لفظي ومعنوي وحقيقي ، ولولا قلبيّة بعض حروف للقلب والقابل ، وقبليّته وبعديّته ، لكان هو هو ، وقلب الشيء لغة أن يجعل أوّله آخره أو ظاهره باطنه ، جمعا وفرادى .
وكيف ما قلت وقلبت لفظ القلب فإنّ القبول والقابلية معه بالدوران .
وأمّ العقل لغة فهو القيد والربط والضبط والتشكيك والوشي ، فمقتضاه التقييد ، وحقيقة الذكرى بالحق عن الحق المطلق عن كل قيد حتى قيد الإطلاق الذي يقابله التقيّد ، تنافي العقل الذي حقيقته القيد والضبط .
ولهذ أظهرت هذه الحضرة القيد أوّلا في العقل الأوّل الذي عقل نور التجلَّي المطلق من المتجلَّي المطلق باستعداده الخصوصي التقييدي ، فأقامه الله لمظهرية هذا السرّ وهو القيد بحقيقته تقييد النور المطلق .
فقال له الحق : اكتب ، أي قيّد واجمع علمي في خلقي إلى يوم القيامة ، وذلك قيد لقيد في قيد ، وليس له القبول للمطلق مطلقا على الإطلاق دائما ، وقبول جميع التجلَّيات غير المتناهية دائما أبدا ليس إلَّا للحقيقة الإنسانية الأزلية الأبدية الكمالية الجمعية الأحدية ، فهي قلب الوجود الحق ، وكلّ تجلّ وظهور فإنّما هو قلب ظاهر التجلَّي بباطنه أو بالعكس .
أي تقليبه ، فإنّ باطن التجلَّي هو المتجلَّي بذلك التجلَّي ، وهو الذي ينقلب إلى نفسه وينقلب عند التجلَّي من عين المتجلَّى له ويقبل على المتجلَّي ويقبل تجلَّيه عليه ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا وسابعا إلى ما ما لا يتناهى.
وليس ذلك تقلب القلب حتى ينقلب القلب قابلا ، وينقلب الحق إلى نفسه بالقبول ، وينقلب أبدا في أطوار التعيّنات وأنوار تنوّعات التجلَّيات ، فهو كلّ يوم أي كلّ آن من الزمان في شأن ، وما أعظم شأن ذي الشأن الذي هذا شأنه في كلّ آن وأنّ الآن هو يوم الذات لا ينقسم أبدا من الزمان .
ثمّ اعلم :أنّ من بعض صور التقلَّبات القلبية الإنسانية أيضا ضبط ما يرد عليه منه ، وربط ما فيه ومنه وبه ، وحصر ما لكلّ مقام ومرتبة بذلك المقام والمرتبة ، فالعقل للقلب منه فيه ، والقلب للعقل فيه بحسبه ، فللقلب عقل مطلق دائم ، كهو .
وللعقل قلب قابل لما يرد عليه كهو ، فإنّ العقل إنّما يعقل من الله ويقبل ، ويقبل ما يرد عليه من الحق الحقيقة قلبيّة في قابليّته لكنّه قبول معيّن لتجلّ معيّن بقابلية معيّنة إلى أمد مقيّد معيّن لا غير ، ولكنّ قبول كل تجلّ في كل آن وزمان لا يكون إلَّا للحقيقة القلبية الإنسانية الكمالية الإلهية الأحدية الجمعية التي أشرن إليها وهي حقيقة الحقائق وقد مرّ حديثه
مرارا ، فتذكَّر ، إن شاء الله تعالى " فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ " ( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبابِ ) جعلنا الله وإيّاك منهم في أهله بفضله .
قال رضي الله عنه : « فإنّ الإله المعتقد ما له حكم في إله المعتقد الآخر ، فصاحب الاعتقاد يذبّ عنه - أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه - وينصره ، وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره ، ولهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع [ له ، وكذ المنازع ] ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده ، فما لهم من ناصرين » يعني : فيهم ومنهم . « فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته ، والمنصور المجموع ، والناصر المجموع " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ النصّ الوارد بنفي النصرة وارد بنفيها عن كل واحد من أهل الاعتقادات على انفراد نصرة المجموع بقوله : « وَم لَهُمْ من ناصِرِينَ » ولكنّه ما نفى نصرة كلّ واحد لمعتقده ، فالكلّ منصور بنصرة كل واحد واحد من المعتقدين معتقده ، وكذلك كل واحد ناصر لمعتقده لا للكلّ ، فم لكل واحد منهم من ناصرين ، بل ناصر واحد هو هو لا غير .
قال رضي الله عنه : « فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة " .
يعني رضي الله عنه : أهل الله الذين هم أهله في الدنيا هم أهل الله في الآخرة وهم الذين لا ينكرون الحق في أيّ صورة تجلَّى من صور تجلَّياته الاعتقادية والإشهادية .
قال رضي الله عنه : « فلهذا قال : « لمن كان له قلب » يعلم تقلَّب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف نفسه ، وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شيء من الكون - ممّا هو كائن ويكون - بغير لهوية الحق بل هو عين الهوية " .
يعني : أنّ الحق الواحد الأحد الذي لا موجود على الحقيقة ولا مشهود في الوجود إلَّا هو ،
فم ثمّ ما يقال فيه : إنّه غير الهوية ، وإلَّا لزم تحقّق الاثنينية في الحقيقة وهي واحدة وحدة حقيقية ، هذا خلف .
قال رضي الله عنه :" فهو العارف والعالم والمقرّ في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم ، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى ، هذا حظَّ من عرف الحق من التجلَّي " .
يشير - رضي الله عنه - إلى أنّ المعرفة الحاصلة لأهل التجلَّي من التجلَّي بالمتجلَّي تقتضي أن يكون إقراره وإنكاره بحسب اعتقاده وبحسب ما تجلَّى له المتجلَّي في صورة اعتقاده ، والعارف هو الذي يعرف الحق بحقيقته ويعرف تجلَّي الحق له بالحق ، وهو العالم إذ لا معلوم ولا معروف على الحقيقة إلَّا الحق .
قال رضي الله عنه : « والشهود في عين الجمع ، وهو قوله : "لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يتقلَّب في تقليبه .
وأمّا أهل الإيمان فهم المقلَّدة الذين قلَّدوا الأنبياء والرسل ، فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلَّد أصحاب الأفكار والمتأوّلين للأخبار الواردة بحملها على أدلَّتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلَّدوا الرسل عليهم السّلام هم المرادون بقوله : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ " لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء و " هُوَ " يعني هذا الذي ألقى السمع "شَهِيدٌ " ينبّه على حضرة الخيال واستعمالها ، وهو قوله عليه السّلام في الإحسان :
"أن تعبد الله كأنّك تراه " والله في قبلة المصلَّي ، فلذلك هو شهيد " .
قال العبد اعلم : أنّ الشهود قد يكون بمعنى الحضور بالمشهود ، وقد يكون بمعنى الرؤية والشهود للمبصر بالبصر ، وقد يكون للحقائق بالبصائر ، وقد يكون بأحدية جمع البصائر بالأبصار .
وللشهود مراتب : فقد يشهد التجلَّي في حضرة الخيال ، وقد يكون المشهود ممثّلا في عالم الحسّ ، كما مثّلت الجنّة للرسول في عرض الحائط ، وكتمثّل جبرئيل عليه السّلام في صورة دحية والبشر السويّ المذكور في القرآن .
وتحريض الرسول على تمثيل الحق في حضرة الخيال ، بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله في الثناء على العالمين العابدين له : « قد مثّلوني في أعينهم » إنّما هو إرشاد وترقية لهمّة العارف ، أن يرى ويشهد الحقائق والمعاني ظاهرة كفاحا ، فإنّ في قوّة الحقيقة الإنسانية ذلك ، فاعرفه .
وقوله : « كأنّك تراه » استحضار لصورة المعبود بموجب المعتقد ، فإذا قوي الاستحضار وغلب الحال ، كان المعلوم مشهودا بالبصيرة ، وإذا كمل الشهود كان مشهود بأحدية جمع البصر والبصيرة .
كم أشرنا إليه في الغرّاء الداليّة لنا :
ومتّحد أبصارنا ببصائر .... لإبصار وجه الحق حقا حدائد
" فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ " .
وهذ أكمل ما في مقام الشهود ، أن يشهد الحق كما يشهد الحق نفسه ، يعني شهود الحق نفسه في نفسه بنفسه وبه فيه ، فافهم فإذا تحقّق العبد بهذا المقام ، فهو الشاهد وهو المشهود ، وذلك أوّل مراتب الولاية ، فهذا المشاهد الشاهد وليّ الله والله وليّه .
قال رضي الله عنه : " من قلَّد صاحب نظر فكري وتقيّد به ، فليس هو الذي ألقى السمع وهو شهيد ، فإنّ هذا الذي ألقى السمع ، لا بدّ أن يكون شهيدا لما ذكرنا ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية ، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا " والرسل لا يتبرّؤون من أتباعهم الذين اتّبعوهم " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ نتائج النظر العقلي تقييدية حاصرة للأمر فيما هو خلاف الواقع ، فإذا قلَّدهم مقلَّد لهم وألقى إليهم السمع ، فكأنّه لم يبلغ إلى العلَّة الغائيّة من التقليد وإلقاء السمع وهو الشهود ، لكون المشهود الموجود خلاف الحصر في معيّن مقيّد ، بل كون المشهود عين كل معيّن وغير متعيّن غير مقيّد ، بل على إطلاقه الذاتي الوجودي ، فافهم ، فإنّ الفكر ليس من مقتضى الشهود ، ولكنّ الإيمان بأنّه مشهود يوجب طلب الشهود أوّلا في التمثّل والتخيّل ، ثمّ في الشهود والرؤية الحقيقيين آخرا بما ذكرنا من اتّحاد البصر بالبصيرة ، فتحقيق ذلك التحقيق والله وليّ التوفيق .
قال رضي الله عنه : « فحقّق يا وليّي ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية . وأمّا اختصاصها بشعيب فلما فيها من التشعيب أي شعبها لا تنحصر ، لأنّ كل اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلَّها أعني الاعتقادات ، فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل واحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم ، وهو قوله : "وَبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " فأكثرهم في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة ، فإذا مات وكان عند الله مرحوما قد سبقت له عناية بأنّه لا يعاقب ، وجد الله غفورا رحيما ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب" .
هذا ظاهر بما تقرّر آنفا أنّ التجلَّي يوم القيامة بصورة الاعتقاد ، والمتجلَّي هو الإله المعتقد - اسم مفعول - ولكن لمّا كان هذا التحوّل الإلهي الرحماني في صورة الاعتقادات ليقرّبه عبدة العلامات الاعتقادية ، فيرحمهم ويوجرو ويربحوا على ربّهم .
وكان ذلك في هذه الصورة الخاصّة موجودا في التجلَّي على خلاف اعتقاده ، تجلَّى له الحق الرحمن الوجيه في صورة غير معتقده ، لما في ذلك من فائدة عائدة على عبده ، ول محذور في ذلك ، فإنّ الله تجلَّى له بنفسه في صورة معتقده ، ولكنّ المجازاة وقعت على غير معتقده ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ، فعلم المعتزلي عند ذلك أنّ الله أعظم ممّا كان اعتقده وقيّده وعساه يرزق الترقي - إن شاء الله تعالى - في تفاصيل هذه الرؤية ، وما ذلك على الله بعزيز .
قال رضي الله عنه : « وأمّا في الهوية فإنّ بعض العباد يجزم في اعتقاده أنّ الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ورأى في صورة معتقدة وهي حق فاعتقدها وانحلَّت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة وبعد احتداد البصر ل يرجع كليل النظر ، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلَّي في الصورة عند الرؤية خلاف معتقده ، لأنّه لا يتكرّر ، فيصدق عليه في الهوية ، وبدا لهم من الله في هويّته م لم يكونوا يحتسبون فيها ، قبل كشف الغطاء " .
قال العبد : ظاهر التحقيق يقتضي أن لا ترقّي بعد الموت ، لانقطاع علمه وعمله واختتامهما على ما كان عليه حال وفاته .
كم أشار إليه الصادق عليه السّلام بقوله : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله » وحيث لم يشهد ولم ير الحق في حياته الدنيا ، وكان أعمى عن إبصار الحق ورؤيته ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، وليس المراد عمى البصر الجسمانيّ ، " فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ ".
ولكن رحمة الله من حيث باطن الحقيقة أن يحصل لبعض العبيد ، المؤمن بأهل كشف الغطاء في الدنيا ترقّ في تفاصيل ما آمنوا به أو ألقوا السمع إلى مجملات أصول وفصول من قوانين الحقيقة والتوحيد ، فإنّ القوم من لا يشقى بهم جليسهم ، ولا سيّما وخاتم الأولياء المحمديين الخصوصيين أمدّ بهمّته جميع الأرواح الإنسانية ، فخلَّف لمن خلف بعده من المؤمن قواعد علميّة بيّنة ، وضوابط كشفية يقينية ، يكمّل استعداداتهم للترقّي إلى مراقي أهل الشهود .
ثمّ إنّه لحق في معاريجه وإسراءاته رضي الله عنه الجمهور من الأنبياء والأولياء والصحابة الماضين في برازخهم ، فاجتمع بجميعهم كالحلَّاج وسهل وجنيد وغيرهم من الأكابر ، وكان يوافقهم ويباحثهم في صور معتقداتهم في الله وعلومهم ومعارفهم ، وينبّههم على ما فوق مدركهم ، ويرقّيهم ، ويحلّ عقد اعتقاداتهم ، ويفيدهم ما لم يكن عندهم بحسب عنايته بهم ، ويهبهم من علوم التوحيد وحقيقة الشهود ، من مشرب أحدية جمع الجمع والوجود .
ثمّ يرحل عنهم إلى من فوقهم هكذا حتى أتى على آخرهم رضي الله عنهم كما هو مذكور في كتاب « التجلَّيات » له وفي كتاب « الحجب » وفي « التنزّلات الموصلية » وفي "الإسراء والعبادلة " ، فليطلب كلّ ذلك طالبه منها ، والله الموفّق .

قال رضي الله عنه : « وقد ذكرنا صورة الترقّي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب « التجلَّيات » لن عند ذكرنا بعض من اجتمعنا [ به ] من الطائفة في الكشف ، وما أفدناهم في هذه المسألة ممّا لم يكن عندهم ، ومن أعجب الأمر أنّه » أي الإنسان « في الترقّي دائم ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب ورقّته وتشابه الصور مثل قوله : " وَأُتُوا به مُتَشابِهاً " وليس هو الواحد عين الآخر ، فإنّ الشبيهين عند العارف [ - من حيث ] إنّهما شبيهان - غيران وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أنّ مدلول الأسماء الإلهية - وإن اختلفت حقائقها وكثرت - أنّها عين واحدة ، فهذه كثرة معقولة في واحد العين ، فيكون في التجلَّي كثرة مشهودة في عين واحدة ، كما أنّ الهيولى تؤخذ في حدّ كلّ صورة [ وهي ] - مع كثرة الصورة واختلافها - ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها ، فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ، فقد عرف ربّه ، فإنّه على صورته خلقه ، بل هو عين هويته وحقيقته » .
قال العبد : اعلم أنّ للعبد من حيث استعداده الذاتيّ استعدادات غير متناهية ، مجعولة بحسب التجلَّيات والآنات وأطوار الوجود دنيا وآخرة برزخا وحشرا وفي الجنان ولثبت الرؤية وغيرهما من حيث يشعر ولا يشعر .
وكلّ ما دخل في الوجود ووجد صار واجب الوجود بواجب الوجود لذاته بذاته ، فلا ينقلب أبدا عدما ، فهو مع الآنات في الترقّي ، فإنّه دائم القبول للتجلَّيات الوجودية الدائمة أبد الآباد ، ولكنّه قد لا يشعر بذلك إن كان من أهل الحجاب ، للطافته ورقّته .
وأنّه أبدا في تجلَّيات تتوالى عليه ، وتزداد - بكل استعداد لتجلّ - تجلَّيات أخر علمية أو شهودية أو حاليّة أو مقامية أو جمعا أو أحدية جمع ، ولتشابه صور التجلَّي لا يعثر على ذلك كالأرزاق التي تؤتى بها متشابهة ، " كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَ الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ " ومعلوم أنّ هذا الرزق الآتي في زمان غير الآتي في غيره ، والكلّ رزق.
والفرق بين التعيّنات ظاهر وبيّن عند أهل الكشف ، خفيّ عند أهل الحجاب ، لأنّ الشبيهين على كل تقدير ، بينهما تغاير في التعيّن ، فهما غيران ، ولكنّ الصحيح لا يقتضي الغيرية في الحقيقة ، لكون العين واحدة مترائية ومتظاهرة في صور متشابهة غير متناهية من الكثرة .
كم أنّ مدلول القادر والخالق والرازق إنّما هو الله ، فإنّه هو الرزّاق القادر الخالق ، ولكن صور التجلَّي من جهة القادرية والخالقية والرازقية متغايرة ، والمسمّى واحد بلا خلاف .
ومثال ذلك على ما مثّله رضي الله عنه الهيولى تؤخذ ولا بد في حدّ كل صورة من حيث إنّ الصورة لا توجد إلَّ حالة في محلّ هو هيولاها ، وليست في الوجود إلَّا عينها ، لعدم امتياز أحدهما عن الآخر إلَّا عقلا لا وجودا ، فالكثرة في الصورة ، والجوهر واحد هو الأصل ، فالصورة عرض حالّ في جوهر هو محلَّه ، ولا يوجد إلَّا به وفيه بل هو هو في الوجود .
فكذلك كثرة صور التجلَّيات في عين واحدة هو حقيقة المتجلَّي الحقّ " وَلِلَّه ِ الْمَثَلُ الأَعْلى ".
فإنّ الصورة حالة في المادّة ، فهي محلَّها والفاعل لها فيها غيرهما على ما عرف في العرف الفلسفي الظاهر ، لا في نفس الأمر ، فإنّ التحقيق يقضي أنّ الكلّ في الكلّ من الكلّ عين الكلّ ، والحلول لا يتعقّل إلَّا بعد البينونة ولا بينونة ، فإنّه بإجماع الخصم لا وجود لأحدهما بدون الآخر ، فالقابلية والفاعلية والانفعال نسب في جوهر واحد هي أحكام له فيه ومنه ، فافهم ذلك واستشرف منه إلى ما نحن بصدد بيانه .
ثم اعلم : أنّ الأمر في الإنسان الكامل كذلك ، فإنّ قلبه يتقلَّب مع الحق في كل منقلب ، فيكون مع كل آن في شأن بربّه ، ومن عرف نفسه بهذه المثابة ، فقد عرف ربّه الذي هو كذلك ، لكونه خلق على صورته ، وهو هويّته .
قال رضي الله عنه : « ولهذا ما عثر أحد من العلماء والحكماء "يعني الظاهريّين" على معرفة النفس وحقيقتها إلَّا الإلهيّون من الرسل والصوفية ، وأمّ أصحاب النظر وأرباب الفكر - من القدماء والمتكلَّمين في كلامهم في النفس وماهيته - فما منهم من عثر على حقيقتها ، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا ، فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري ، فقد استسمن ذا ورم ، ونفخ في غير ضرم ، لا جرم أنّهم من " الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ".
قال العبد اعلم : أنّ حقيقة النفوس كلَّها من النفس الواحدة التي هي نفس الحق ، وأمّا صور النفوس فإنّها تجلَّيات نورية في النفس الرحماني ، تنفّس الحق بها عن الصور الجسمانية الطبيعية ، فإن كانت - أعني النفس - جزئية ، فهي صورة من صور النفس الكلية الواحدة الرحمانية متفرّجة في مادّة نفسية نورية رحمانية .
وإن كانت نفسا كلية من النفوس للإنسان الكامل ، فهي عين نفس الحق ظهرت في مرتبة حقيقة هذا العبد على نحو من الصورة ، ونفس الحق الإنسانية الواحدة هي التي خلقت منه النفوس كلَّها ، فقبلت في الصورة الذكورة والأنوثة من حيث حقيقتها ، الذاتيتين له ، وهما الفعل والانفعال .
قال : " خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً " فتلك النفس الواحدة - التي خلقنا منها ، ومنها خلق زوجها - هي نفس الحق التي يحذّركم منها ، وقد أمرنا أن نجعلها وقاية لربّنا في معرفتنا بها .
ونجعل الربّ وقاية لها عن كل ما يخاف ويحذر ممّا يذمّ ويحمد ، ونضيف المحامد كلَّها إلى النفس من كونها عين نفس الحق ، ونضيف المذامّ كلَّه إليها كذلك من كونها نفسا .
فإنّه ذات جهتين تقبل النسبة إلينا من كونها صور حقائقها الذاتية التي هي عينها ، فهي كثيرة لا تتناهى صور جزئيّاتها ، وكذلك تقبل النسبة إلى الحق من كونها نفس الحق الظاهرة في نفسه من مقامي قرب الفرائض والنوافل التي لها من جهتيها ، فإنّ الحق هو عين هويّتنا من كونه عين سمعنا وبصرنا ويدن ورجلنا وسائر قوانا ، وعين نفوسنا وأعياننا ، ونحن صورة التي نقول على ألسنتنا ، فنحن لسانه الذي يقول : سمع الله لمن حمده ، فنحن من هذا الوجه عين سمعه وبصره ولسانه ، فنحن بحسبه من هذا الوجه ، ومن الوجه الآخر هو ظاهرنا كما ذكرن .
فإذا ظهر بنا لنا ، فنحن وقايته عن الكثرة المشهودة في أحديته العينية ، إذ نحن الأعضاء والجوارح .
وإن ظهر هو في أحدية عينه ، فنحن باطنه وهو عين قوانا وأعضائنا ونفوسنا ولمّا كانت للنفس هذه السعة ، فهي من حيث توحّدها وأحديتها نفس الحق .
ومن حيث نسبها وشعبها غير المتناهية عيننا ، فمتى عرفناها بهذه السعة ، عرفناها عين الحق حقّ معرفتها .
وتحقّقنا بحقيقتها في قوله : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّ هذه النفس الواحدة من حيث هويتها الغيبية الواحدة هي نفس الحق ، ومن حيث أنانيّاتها وإنيّاتها الفرقانية نحن ، فإنّ لها إنّيات متعدّدة غير متناهية من حيث شخصياتها ، وهي صور نسب الهوية النفسية النفسية الرحمانية أو الأنانية كالأينية الظاهرة الطاهرة للهوية الباطنية ، والظاهر ظاهر الباطن وبالعكس .
فإن ظهرت النفس في تعيّنها بالهوية الواحدة ، استغرقتنا في هويتها الواحدة ، فكنّا باطنها مستهلكين فيها ، فنحن فيه حينئذ هي ، لا نحن .
وإن ظهرت النفس في صور إنيّاتها ، ظهرنا وكانت هي هويّتنا الباطنة ، فتحقّقت الوقاية لها من جهتها ، فعرفت واحدة كثيرة ، واحدة من حيث العين ، كثيرة من حيث الأين والبين ، والله بأحدية جمعه يقرب الأين ، ويرفع البين ، ويقرّ بذلك العين .
وأمّا تعيّنها فمن حيث أحدية الجمع النفسي الرحماني الذي به نفّس الحق عن حقائقنا العينية عن الكونه العدمية التي كنّا غيبا فيها ، وهي العدمية النسبية من حيث أعياننا ، فتنفّس الحق من قبلن وحيثيتنا ، ومن جهة أعياننا المستهلكة نفّس بذلك النفس الرحماني عنّا من ضيق كان قائما بحقائقنا في الاستهلاك ، تحت قهر الأحدية ، فأوجد أعياننا بعين نفسه ونفس نفسه الذي رحمنا به ونفّس عنّا ، فنفوسنا من حيث الحقيقة والعين نفس الحق ، ومن حيث تعيّناتها بشخصياتها أنفاسه الرحمانية المتعيّنة في حقائقنا وأعياننا ، فظهرن بنفس الحق في نفس الحق .
فافهم إن كنت نفسهم ، والله الملهم .
وأمّا المتفلسفة من حكماء الرسوم والأفكار ، قديما وحديثا ، فما تحقّقوا بحقيقتها ،
ولم يبلغ علمهم منها إلَّا إلى التعريف الرسمي من حيث صورتها الحجابية ، فتكلَّمو في صورها وقواها وكيفية تعلَّقها بالبدن ، وأنّها جوهر أو عرض ، وداخل البدن أو خارجه ، أو لا داخل ولا خارج ، دخولا وخروجا جسمانيّين ، فقد يصدق عليها كلّ ذلك من حيث المعنى .
فإنّ الجسم والقوى الجسمانية من كونها محالّ ظهور قوى النفس وحقائقها ومظاهرها ، فما هي خارجة عنها ، ولكن ما خاض أحد في بيان حقيقتها وإنّيتها وهويّتها وعينها وغيبه وحقيقتها وخليقتها وعبوديّتها وربوبيّتها ، وكل منهم بذل جهده وأقام قصده ، والكلّ مصيب من وجه ، مخطئ من وجه ، وإن طلبت التحقّق بها بموجب الكشف والشهود ، فعليك بشرح الغرّاء التائيّة لنا ، وهي ألف بيت نظمناها في علم الحقيقة واستقصينا فيه القول على النفس وأسرارها ، فإن ظفرت بها ظفرت بعلمها إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : « فمن طلب الأمر من غير طريقه ، فما ظفر بتحقيقه ، وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدّله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة ، فقال في حق طائفة بل أكثر العالم " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " فل يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس .
لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض ، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كلَّه ، وجهّلهم أهل النظر أجمعين .
ولكن أخطأ الفريقان :
أمّ خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدّل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلَّا بها كما لا تعقل إلَّا به .
فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر .
وأمّا الأشاعرة فما علموا أنّ العالم كلَّه مجموع أعراض فهو يتبدّل في كل زمان ، إذ العرض لا يبقى زمانين " .
قال العبد اعلم :أنّ صور العالم على ما عرّف عند الجمهور من أهل الحجاب :
بأنّه سوى الحق وغيره وهي أغيار بعضها للبعض ظاهر موجود مشهود ، والحق عندهم مغيب مفقود لا يعلم بالحقيقة والإحاطة ، وغير مشهود بما عرّفوا وعرفوا من الشهود .
وأمّا عند العارف المحقّق الكامل ، والمحنّك الفاضل ، فالحق هو الموجود المشهود بكل شهود في كل وجود ، والعالم متوهّم مفقود .
وأنّه مجموع أسامي موضوعة على كثرة متوهّمة أو متعقّلة وهي في الوجود والشهود واحدة ، فهي كثرة متوهّمة في جوهر واحد موجود مشهود .
ومع كونها متوهّمة فإنّها مضمحلَّة في أحدية العين .
وإنّما العالم جوهر واحد هو مجموع أعراض توحّدت فتجوهرت جوهرا واحدا تتراءى فيه صور لا تتناهى أبدا ، فهذه الصور - من حيث إنّها تراء وتظاهر وتمثّل - لا تحقّق لها بنفسها ، بل بجوهرها وفيه .
فهي أعراض جمعت إلى جوهر واحد وصارت جوهرا واحدا أو هي جوهر واحد لا حقيقة في الحقيقة إلَّا له ، وإذا كان العالم مجموع أعراض ، فإنّ الأعراض لا تبقى زمانين ، والجوهر المشار إليه يتبدّل فيه الأعراض ، وهو يتقلَّب فيها ، ولا يتبدّل ولا يتغيّر .
وبيان كون العالم مجموع أعراض :
أنّ العالم لا يخلو من أن يكون جوهر ، أو عرضا ، أو مجموع جواهر وأعراض ، أو لا يكون واحدا منها ، لا جائز أن لا يكون شيئا منها ، وإلَّا فهو لا شيء ولا وجود له ، وانحصر الأمر في هذا التقسيم لانحصار الأمر بين الوجود والعدم .
ثم نقول : لا جائز أن يكون جوهرا لا عرض فيه ، لعدم وجود جوهر بلا عرض وعدم تحقّق هيولى بلا صورة .
ولأنّا نقول أيضا : إن كان الجوهر ما يقوم بذاته ول يكون موجودا في موضوع ، بل موجودا لا في موضوع .
فالعلم إذن ليس بجوهر ، لأنّه ل قيام ولا وجود له من ذاته ، بل قيامه بوجود مستفاد من الحق ، فليس العالم ولا شيء من العالم بجوهر قائم بذاته .
وأيضا فإنّ الجوهرية أمر اعتباري في ذات الجوهر وماهيته ، ولا تحقّق للجوهرية إلَّا بالجوهر ولا تعيّن للجوهر إلَّ بالجوهرية المعقولة ، وهو كون الجوهر موجودا لا في موضوع ، وهذا أمر اعتباري ، والأمور الاعتبارية لا وجود لها إلَّا في الاعتبار والعقل أو الذهن ، والوجود أيض على ما عرّفوا في عرفهم الخاصّ عرض ، ولا يشهد أيضا من العالم إلَّا الصور والأضواء والسطوح والأبعاد وهي أعراض ، فبطل أن يكون العالم جوهرا أو جوهرا بل أعراض ، والحسّ والعقل يشهدان بذلك .
ول جائز أيضا أن يكون مجموع أعراض وجواهر ، فإنّ القائم بنفسه وحقيقته لا في موضوع آخر هو الوجود الحق المطلق ، فإنّه المتحقّق بنفسه لنفسه حقيقة لا بغيره ولا في غيره ، وهو يتعالى عن أن يكون جوهر العالم أو يقوم به عرض أو جزءا من مجموع .
وإذ صحّ أنّه ليس بجوهر أو جواهر بلا أعراض ولا قائما بذاته في ذاته ولا مجموعا من جواهر وأعراض ، لزم أن يكون مجموع أعراض ، وإذا كان العالم مجموع أعراض فإنّه يتبدّل برمّته وكلَّيته في نفس ، ولأن لا ينقسم من الزمان ، ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب وهو تشابه الصور والأمثال .
وأيض فإنّ العالم ممكن الوجود على كل حال أو واجبة لا بذاته ، بل بالواجب بالذات ، وامتنع امتناع وجوده بالإجماع ، فلزم أن يكون إمّا ممكنا أو واجب .
ل جائز أن يكون واجبا بذاته ، فإنّه الحق ، فلو كان واجبا بالواجب بذاته ، فقيامه إذا بالواجب بالذات لا بنفسه ، وإن كان ممكنا فلا وجود له إلَّا بالمرجّح ول تحقّق له إلَّا بالوجود المستفاد من الموجد المرجّح .
فهو إذن بدون ذلك غير موجود ، بل هو معدوم في عينه ، إذ لم يكن ، فهو لعينه عدمي يطلب العدم الأصلي لعينه ، ولكنّ الموجد المرجّح يوالي ويواصل بنور الوجود وإفاضته عليه ، ويوجده مع الآنات ، فتتجدّد الصور والأعراض ، والصور والأشكال من الوجود المطلق للحق ، ولا يفيض من الحق إلَّا الحق ، فيتحقّق به ما لا تحقّق له في عينه ، فيوجد هذه الأعراض والصور في هذه العين الواحدة التي هي كالمراة لهذه الصور المترائية فيه تماثيل وتمثّلات بها.
فلو شعر الذين شعروا بما شعروا من تبدّل المجموع وهم السوفسطائية المسمّون حسبانية ، أنّ وراء هذه التبدّلات والأبدال ، والتمثّلات والأمثال حقيقة حق لا يتبدّل عن مقتضى ذاته ، ولكن من شأنه الظهور بهذه الصور عند التجلَّي والتعيّن ، وأنّه عين الوجود الحق ، لكانوا من أهل العثور على حقيقة الأمر .
ولكنّهم شعروا بالتبدّل في مجموع العالم ، ثم لم يثبتوا فتزلزلوا ونفوا الحقيقة .
فقالو : وإذ صحّ تبدّل العالم وتغيّره جملة وتفصيلا ، فلا حقيقة له .
فلو ثبتوا وأثبتوا الحقيقة الأحدية الثابتة القابلة لهذه الصور العرضية لا من خارج ، بل من عينه ، وأنّها لا تقدح الكثرة العرضية والتعيّن والتجدّد في حقيقة هذه العين الأحدية ، لفازو بالحق .
والأشاعرة شعروا بأنّ العرض لا يبقى زمانين ، وأعراض العالم تتبدّل مع الآنات ، ولم يشعروا مع ذلك أنّها مجموع أعراض ، وأن لا شيء من العالم بجوهر قائم بنفسه ، وأنّ الموجود القائم بعينه في عينه لا في موضوع سواه هو الحق ، فأخطئوا ، فلو أثبتوا - حين أثبتوا جوهر العالم واحدا - أنّ ذلك الواحد هو الوجود الحق المتعيّن بهذه الصور كلَّها ، لكانوا من الفائزين بالأمر على الحقيقة ، فتبيّن بما ذكرنا خطأ الفريقين لمن عقل عن الله ، وما غفل عن التحقيق ، والله وليّ التسديد والتوفيق .

قال رضي الله عنه : « ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنّهم إذا حدّوا الشيء تبيّن في حدّهم تلك الأعراض ، وأنّ هذه الأعراض المذكورة في حدّه عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه ، فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيّز في حدّ الجوهر القائم بنفسه الذاتي » .
يعني على قول الأشاعرة مثلا « وقبوله الأعراض حدّ له ذاتيّ ، ولا شكّ أنّ القبول عرض ، إذ لا يكون إلَّا في قابل ، لأنّه لا يقوم بنفسه ، وهو ذاتي للجوهر ، والتحيّز عرض ولا يكون إلَّا في متحيّز ، فلا يقوم بنفسه ، وليس القبول والتحيّز بأمر زائد على عين الجوهر المحدود ، لأنّ الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويّته ، فقد صار ما ل يبقى زمانين - وهو العرض - يبقى زمانين وأزمنة ، وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه ، وهم لا يشعرون لما هم عليه » .
يعني رضي الله عنه : القائلون بأنّ الجوهر هو ما يقوم بنفسه مع تحقّق أنّ أجزاء حدّه الذاتي وحقائق حقيقته الذاتية لا تحقّق لها في أنفسها ، فإنّها أعراض ، فإنّ التحيّز للجسم - وهو الجوهر المتحيّز - والجوهرية وقبول الكمّ والكيف وغيرها من الأعراض ، كالأبعاد من الطول والعرض والعمق ، كلَّه معان لا تحقّق لها ولا قيام إلَّا في أمر هو المجموع من هذه الأعراض ، لأنّ الجوهر الطويل العريض العميق ليس بشيء زائد على مجموع هذه الأعراض ، وكونه مجموع هذه الأعراض أو أمرا غير مذكور ولا مشهور معنى أيض معقول لا وجود له بدون هذه الأمور التي لا تحقّق لها في أعيانها ولا قيام .
فهم - مع قولهم بأنّ العرض لا يبقى زمانين ، وأنّ أجزاء هذا المحدود أعراض ، ووجوب الاعتراف بأنّ لا زائد على هذه الأجزاء ، بعدم إثباتهم أمرا زائدا قائما بنفسه - كيف لم يقولوا بأنّ العالم مجموع أعراض ، أو أنّه يتبدّل مع الآنات ، خطأ بيّن .
فلم يشعروا بتبدّل الأعراض المجموعة تبدّلا جمعيا وحدانيا ، لا يشعر به إلَّا من شعر بتبدّل صورة النور المشهود في المصباح مثلا بشهادة العقل الصحيح أنّ الجزء المشتعل من مادّة الدهن والفتيل في كلّ آن آن يفنى ولا يبقى ويتلاشى ويتعلَّق النار القائم بها النور بجزء متّصل بذلك الجزء الأوّل المنطفئ .
فباتّصال التعلَّق وتواليه وتعاقبه مع الآنات يظهر الاتّصال بين التعيّنات النورية المنطفئة والمشتعلة على الدوام بلا توقّف بحيث لا يدرك الحسّ فاصلا بين صور الاشتعال والانطفاء ، فيظنّ أنّ النور الظاهر أوّل الليل هو بعينه ذلك النور المشهود في آخره .
ومع أنّ حقيقة النور واحدة ولكنّ التعيّنات متغايرة لا شكّ فيه ولا ريب .
فمن عثر على هذا التبدّل من ذوي الحسّ السليم والعقل الصحيح ، واعترف به ، فقد يعثر على تبدّل مجموع الصور من العالم مع الآنات ، والتبدّل أيضا عرض .
فلو أطلعه الله على المادّة المشتعلة أو العين الواحدة المظهرة بتعيّنها هذه الصور من نفسها في نفسها ، للحق بأهل الحق والتحقيق ، والله وليّ التوفيق .
قال رضي الله عنه : " وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد" .
يعني أهل الحجاب الذين يقولون بوجود الغيرية والسوي .

قال رضي الله عنه : « وأمّا أهل الكشف فإنّهم يرون أنّ الله يتجلَّى في كلّ نفس ، ولا يكرّر التجلَّي " .
أي لا يعيد عين التجلَّي الأوّل ، فإنّ حقيقة التكرار بالنسبة إلى مطلق التجلَّي من حيث تعيّنه من مراتب الأسماء متحقّقة ، ولكنّ التكرار بالنسبة إلى كل تعيّن معيّن محال عقلا وكشفا .
فإن اعتبرنا حقيقة التجلَّي الواحد الذاتيّ ، فلا يتصوّر فيه التكرار أصل ورأسا .
فإنّه تجلّ واحد أزلا ، وأبدا ، ولكن ظهوراته وتعيّناته بحسب حضرات التجلَّي ومراتب الأسماء وخصوصيّات القوابل والمظاهر ، والتجلَّي في كل آن وزمان يتجدّد ويتعدّد ، ولا تكرار فيه ، فإنّ القبول الأوّل غير القبول الثاني ، فتجدّد التجلَّيات بحسب قبول القوابل وتعدّدها .

قال رضي الله عنه : « ويرون أيضا أن كل شهود يعطي خلقا جديدا ، ويذهب بخلق جديد » .
يعني رضي الله عنه : أنّ التجلَّى الواحد - بالنظر إلى دوام انبعاثه من ينبوع الجود بتنوّع نور الوجود بحسب القوابل - يتعيّن بلا مكث ، وينسلخ متقلَّصا إلى أصله ، ويعقبه ما بعده بالتعيّن على التوالي والدوام .
فهو من كونه متعيّنا في قوابل بحسبه يعطي خلقا جديدا ، وبالنظر إلى انسلاخه يذهب ذلك التعيّن الذي هو الخلق ، فلا يزال الخلق يتجدّد بتجدّد التعيّنات ، ولا يزال التجلَّي يتعيّن بتعيّن الاستعدادات ، فالتجلَّي المتعيّن في قابلية العالم مثلا في الآن راجع إلى الغيب بما عليه من خلقه الخلق الجديد وبدله قائم بمثل صورته وشبهه .
فإنّ التجلَّي هو المظهر لصور العالم من استعداده الكلَّي ، وإذا ظهر في كل آن بكل صورة ، غاب الوجود المتعيّن بصورة ظهر بها ، وخلقه بمثل الصورة الغائبة حاضرا هكذا أبدا دائما .

قال رضي الله عنه : « فذهابه هو الفناء عند التجلَّي والبقاء لما يعطيه التجلَّي الأخير فافهم».
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ البقاء للوجود الحق الذي تظهر فيه هذه الصور مع الآنات ، والفاني هو التعيّن بما تعيّن به فيه قبله ، ومع قطع النظر عن هذه الاعتبارات ، فلا فناء ولا بقاء ، ولا تجلَّي ولا حجاب ، ولا بخل ولا نحل ، ولا بعاد ولا اقتراب .
.
....

CuWsGPSyVJg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!