موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية


11 - فصّ حكمة فاتحية في كلمة صالحية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي


قال رضي الله عنه : (من الآيات آيات الركائب .... وذلك لاختلاف في المذاهب )
ابتدأ رضي الله عنه بذكر الركائب وآياتها ، فإنّها من جملة معجزة صالح إتيانه بالناقة آية من الله في صحّة دعواه النبوّة ، من حيث لم يحتسبو .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ حكمته منسوبة إلى الفاتح والفتّاح ، فانفلق الجبل له في إعجازه ، ففتح الله له عن الناقة ، وفتح الله له على قومه بذلك ، فكان موجب إيمان بعض أمّته وإهلاك بعضه في وجود الناقة ومدّته .
قال رضي الله عنه : (فمنهم قائمون بها بحقّ .... ومنهم قاطعون بها السباسب)
يعني : أنّ أهل الحق السالكين والسائرين في المذاهب صنفان :
فمنهم : من يقوم بحقّها ، ويكون سيرهم وسلوكهم عليه - أعني على الركائب - في بحار الشهود والكشف ، فركائبهم الفلك المشحون .
ومنهم : من يقطعون عليها في برّ الشهادة والملك والحجاب ، فهم يقطعون بها السباسب الظاهرة وهم أهل الاستدلال .
قال رضي الله عنه : ( فأمّا القائمون فأهل عين ... وأمّا القاطعون هم الجنائب .)
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الناس وهم السالكون على ركائبهم ، إمّا أهل شهود وعين وهم الصادقون في الدعوة إلى الله على بصيرة ، وإمّا أهل حجاب ، والكلّ لهم
ركائب في مذهبه ومقصده ، فالقائمون بالحق هم أهل العين المقصودون فيما يقصدون على التعيّن .
والقاطعون مهامه الحجاب وسباسب الشرك والضلال غير مقصودين على التعيين من الإيجاد ، بل هم مخلوقون تبعا للأوّلين يستعملونهم في مقاصدهم كالحيوانات والجنائب .
فإنّهم غير مطلوبين لأعيانهم ، ولا بدّ للفريقين من فتح باب الغيب بنتائج أعمالهم وسلوكهم ، كما قال تعالى :" كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ "
قال رضي الله عنه : (و كل منهم يأتيه منه ... فتوح غيوبه من كل جانب )
"وكلّ منهم يأتيه منه " أي من الله " فتوح غيوبه من كلّ جانب " أي من جانب الله بوجه ، ومن جانب حقيقته وعينه الثابتة من وجه ، إمّا بالملائم أو بغير الملائم بالنسبة والإضافة ، لأنّ المدعوّ إلى الله إن أطاع وأجاب بما يلائم دعوة الداعي ، ويسلك على سننه ، ويسير بسيرته وسننه ، فتح له باب المجازاة بما يلائم ذلك من الثواب .
وإن أجاب الداعي بما لا يلائم من العصيان والكفر والجحود ، فتح له باب المجازاة بما لا يلائمه ، وفتح للداعي أيضا باب المجازاة بما يلائمه من النصرة على القوم المفسدين .
وأمّا نسبة هذه الحكمة الفاتحية إلى الكلمة الصالحية فلكون أمور صالح عليه السّلام في دعوته قومه وإقامة معجزته على نبوّته عن الفتوح الغيبي : كالناقة انفتح عنها الجبل وكان مغيب عنهم ، وكذلك ما سقتهم من اللبن المغيب ، وكانت تشرب الماء يوما وتغيب عنهم ، ثمّ تأتي بعد ذلك عوض الماء لبنا سائغا للشاربين .
وكذلك وجدان العذاب بالصيحة عليهم عن فتح غيبي واعدهم ثلاثة أيّام ، كما نذكر إن شاء الله ، ما يتيسّر ذكره ، والله الموفّق .
قال رضي الله عنه : ( اعلم وفّقك الله تعالى : أنّ الأمر مبنيّ على الفردية ، ولها التثليث ، فهي عن الثلاثة فصاعدا ، والثلاثة أوّل الأفراد) .
قال العبد : قد علمت في الحكمة الرسمية أنّ العدد : إمّا زوج أو فرد ، والزوج الأوّل وهو الشفع اثنان فصاعدا ، وأوّل الأفراد الثلاثة فصاعدا ، والواحد غير داخل في العدد ، لكونه لم يتعدّد ، فالواحد وتر أبد .
وإذا نقص واحد من أيّ عدد فرضت ، بقي وترا وتر أهله ممّا يشفعه ويزوّجه أو يفرده ، فإذا تعدّد الواحد في مرتبته الثانية ، صار شفيعا زوجا أو فرد .
والأحدية أبدا لا تعطي النتيجة ، لكون الواحد في الواحد واحدا لا زائدا ، ثمّ الشفع يشفع في فتح باب الإيجاد ، لكون الإيجاد موقوفا على فاعل هو الموجد ، وقابل هو المكوّن .
فلو لا القابل الذي شفع وتريّة الواحد الأحد ، لما وجدت نتيجة أصلا ورأسا ، فلا نتيجة لواحد إلَّا من كونه واحدا وترا ، ولا من كونه شفعا ، بل من الفرديّة صحّت النتيجة .
قال رضي الله عنه : ( وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال : "إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ " فهذه ذات ذات إرادة وقول ، فلولا هذه الذات وإرادتها وهي نسبة التوجّه بالتخصيص لتكوين أمر ما ثمّ لولا قوله عند ذلك التوجّه "كن " لذلك الشيء ، لما كان ذلك الشيء ) .
بيّن رضي الله عنه حكم التثليث فيما هو بصدد بيانه من كون الإيجاد من حضرة الفردية الإلهية ، فكان الإيجاد من قبل الموجد الحقّ بالتثليث ، كما ذكر .
ثمّ قال رضي الله عنه : ( ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء وبها من جهته - أي من جهة القابل صحّ تكوينه واتّصافه بالوجود وهي شيئيته ، وسماعه ، وامتثاله أمر مكوّنه بالإيجاد ).
يعني : كما صحّ من قبل الموجد بتلك الفردية المشار إليها من قبل ، فكذلك من قبل القابل بهذه الفردية الخصيصة .
قال رضي الله عنه : ( فتقابلت ثلاثة بثلاثة : ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده ، وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله : « كن » فكان هو ، فنسب التكوين إليه ، فلولا أنّ في قوّته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكوّن ، فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلَّا نفسه) .
قال العبد : نسبة الكون إلى المكوّن - بفتح الواو - في قوله : « فكان » من جهة أنّ كونه كان كامنا فيه معدوم العين في رأي العين ، ولكنّه مستعدّ لذلك الكون بالأمر.
فلمّا أمر وتعلَّقت إرادة الموجد بذلك واتّصل أمره به ، ظهر الكون الكامن من الكائن فيه بالقوّة إلى الفعل ، فالمظهر لكونه الحق والكائن القابل للكون ، فلو لا قبوله واستعداده للكون ، لما كان ، فما كوّنه إلَّا عينه الثابتة في العلم باستعداده الذاتي غير المجعول ، وقابليّته للكون وصلاحيته لسماع قول : « كن » ، وأهليّته لقبول الامتثال ، فما أوجده إلَّا هو ، ولكن بالحقّ وفيه ، فافهم ، فإنّه دقيق .
قال رضي الله عنه : ( فأثبت الحق تعالى أنّ التكوين للشيء نفسه ل للحق ، والذي للحقّ أمره خاصّة ، وكذا أخبر عن نفسه بقوله : " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ " فنسب التكوين لنفس ذلك الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله. وهذا هو المعقول في نفس الأمر .)
يعني رضي الله عنه : لمّا ذكر الكون عقيب الأمر ، فلا ينسب إلَّا إلى المأمور بذلك وهو الأنسب وإن احتمل اللفظ أن ينسب الكون إلى الآمر ، أي يكون هو من كونه عين المعلوم المعدوم العين المأمور بالكون من كونه ثابتا في العلم .
فيكون فيه هو بموجب ما أمر والمأمور مظهر لكونه فيه ، لأنّ الكون أمر وجودي ، فالأنسب أن ينسب الأمر الوجودي إلى الوجود الحق المتعيّن في قابلية المظهر لا إلى ما لا وجود له ، فإنّه ليس للممكن القابل إلَّا أن يمكن الكون فيه بموجب الأمر.
فالمظهر القابل صالح لظهور كون الوجود فيه متعيّنا بحسب ما كان كامنا في عينه الثابتة بموجب أمر الآمر .
وقد ذهب إلى هذ القول ، جلَّة من المحقّقين ، ولكنّ الشيخ رضي الله عنه بيّن سياق الآية فبموجب ذلك ينسب التكوين إلى المأمور ، ثمّ التحقيق يقتضي ما ذكرنا من كون ذلك الكون المأمور به كامنا في القابل ، فظهر بأمر الآمر فينسب إلى المأمور لا إلى الآمر ، فإنّ الكون وإن كان وجوديا ، ولكن إنّما يكون بحسب القابل وفيه ، فالأنسب إذن أن ينسب إليه ، فافهم مقتضى الذوقين .
قال رضي الله عنه ممهّدا لما هو بصدد بيانه من نسبة الكون إلى المظهر المأمور :
(كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده : « قم » فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده ، فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام ، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد) .
فظهر على ما قرّر رضي الله عنه من جميع الوجوه ، أنّ الإيجاد من الفردية الثلاثية أمّا مطلقا فمن جهة القابل والفاعل والفعل فثلاثة ، ومن جهة الفاعل ثلاثة كما مرّ ، ومن قبل القابل أيضا كذلك .
فقال رضي الله عنه : ( فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين:
من جانب الحق ، ومن جانب الخلق ، ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلَّة ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ التثليث لمّا كان سببا لفتح باب النتيجة في أصل التكوين ، سرى هذا السرّ في جميع مراتب الإيجاد ، ومن جملة ذلك إيجاد الأدلَّة المعنوية .
قال رضي الله عنه : ( فلا بدّ في الدليل أن يكون مركَّبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ، وحينئذ ينتج ، ولا بدّ من ذلك .
وهو : أن يركَّب الناظر دليله من مقدّمتين ، وكلّ مقدّمة تحوي على مفردين ، فتكون أربعة ، واحد من هذه الأربعة يتكرّر في المقدّمتين ليربط إحداهما بالأخرى كالنكاح ، فتكون ثلاثة لا غير ، لتكرار الواحد فيهم .
فيكون المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص ، وهو ربط إحدى المقدّمتين بالأخرى بتكرار ذلك الوجه المفرد الذي به صحّ التثليث .
والشرط المخصوص هو أن يكون الحكم أعمّ من العلَّة ، أو مساويا له ) .
يعني عموم اقتضاء « كلّ حادث » مثلا على ما يورد للسبب المحدث - بكسر الدال - إذ لولا عموم هذا الحكم في الحوادث كلَّها ، لما أنتج أنّ العالم الحادث ، له سبب ، وهذا ظاهر .
قال رضي الله عنه : « أو مساويا له » يريد تساوي الحكم للعلَّة.
قال رضي الله عنه : (وحينئذ يصدق ، وإن لم يكن كذلك ، فإنّه ينتج نتيجة غير صادقة ، وهذا موجود في العالم) .
يعني صدق النتيجة مع حصول التركيب على الترتيب الموجب الخاصّ ، وعدم صدق النتيجة في غير ذلك .
قال رضي الله عنه : ( وهو مثل إضافة الأفعال إلى العبد معرّاة عن نسبتها إلى الله ، أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا والحقّ ما أضافه إلَّا إلى الشيء الذي قيل له " كن").
يعني معرّى عن نسبته إلى القابل ، فإنّ ذلك لا يصدق ولا يصحّ ، إذ الأثر لا يتصوّر عن مؤثّر بلا قابل ، والأفعال وإن نسبت إلى العباد ، فلا بدّ من إضافة الوجود من الله على أعيان الأفعال وأعيان العباد ، وبدون إضافة الوجود من الموجد فلا يوجد عين الفعل .
قال رضي الله عنه : ( ومثاله إذا أردنا أن ندلّ على أنّ وجود العالم عن سبب فنقول : كلّ حادث فله سبب ، فمعن " الحادث " و " السبب ".
ثم نقول في المقدّمة الأخرى : والعالم حادث ، فتكرّر « الحادث » في المقدّمتين .
والثالث قولن : « العالم » فأنتج : أنّ العالم له سبب ، وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدّمة وهو السبب .
فالوجه الخاصّ هو تكرار الحادث ، والشرط الخاصّ عموم العلَّة ، لأنّ العلَّة في وجود الحادث السبب وهو عامّ في الحدوث عن الله أعني الحكم .
فنحكم على كلّ حادث أنّ له سببا ، سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم ، أو يكون الحكم أعمّ منه ، فيدخل تحت حكمه وتصدق النتيجة " .)
يشير رضي الله عنه إلى ما قرّر أوّلا أنّ الحكم وهو السبب أعمّ من العلَّة وهو الحدوث ، إذ العلَّة في وجوب السبب الحدوث وهي عامّة في كل حادث .
قال رضي الله عنه : ( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلَّة ، فأصل الكون التثليث ، ولهذا كانت حكمة صالح - التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيّام - وعدا غير مكذوب .
فأنتج صدقا وهي الصيحة التي أهلكهم بها ، فأصبحوا في دارهم جاثمين) أي أخذهم عذاب الهلاك ، فلم يستطيعوا على القيام .
(فأوّل يوم من الثلاثة اصفرّت وجوه القوم ، وفي الثاني احمرّت ، وفي الثالث اسودّت .
فلمّا كملت الثلاثة ، صحّ الاستعداد ، فظهر كون الفساد فيهم فسمّي ذلك الظهور هلاكا ، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعالى : "وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ " من السفور وهو الظهور ، كما كان الاصفرار في أوّل يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح .
ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء : " ضاحِكَةٌ " فإنّ الضحك من الأسباب المولَّدة احمرار الوجوه ، فهي في السعداء احمرار الوجنات ، ثم جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : " مُسْتَبْشِرَةٌ " وهو ما أثّره السرور في بشرتهم كما أثّر السواد في بشرة الأشقياء ، ولهذا قال في الفريقين بالبشرى ، أي يقول لهم قولا يؤثّر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتّصف به قبل هذ.
فقال في السعداء: " يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْه ُ وَرِضْوانٍ " .
وقال في حق الأشقياء : " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ " ، فأثّر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذ الكلام ، فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلَّا حكم ما استقرّ في بواطنهم من المفهوم ، فما أثّر فيهم سواهم ، كما لم يكن التكوين إلَّا منهم فيهم ، " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ").
يعني رضي الله عنه : أنّ ظهور العذاب ومباشرته بشرتهم ، إنّما كان منهم فيهم ولم يؤتهم الله ذلك لهم من الخارج ، كما لم يكن التكوين المأمور به في قوله : " كن "
لأنّهم الذين كانوا كما أمروا باستعداد خواصّ وأهليّة وصلاحية ذاتية فيهم لذلك الأمر والتكوين . وهذه المباحث المذكورة في هذه الحكمة ظاهرة لا يحتاج فيها إلى مزيد بسط على ما قرّرنا أوّلا من كون الفردية سببا للإيجاد والتكوين .
كما كان التثليث موجبا أيضا لتكوين الناقة أوّلا وتكوين الصيحة على الكافرين آخرا ، وقد صحّ أنّ التكوين والإيجاد في الذوات والصفات والمعاني والصور والأحكام والآثار إنّما هو من حضرة الفردية الإلهية .
قال رضي الله عنه : ( فمن فهم هذه الحكمة ، وقرّرها في نفسه ، وجعلها مشهودة له ، أراح نفسه من التعلَّق بغيره ، وعلم أنّه لا يؤتى عليه بخير ولا بشرّ إلَّا منه ، وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه ، وأعني بالشرّ ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.)
قال العبد : قد تقرّر في عقلك وفهمك ، وتحرّر بما سلف في علمك أنّ حقيقة كل إنسان وكلّ شيء هي صورة معلوميّته لله تعالى أزلا وهي إذ ذاك على صورة علمية في حقيقته ولوازمها القريبة ولوازم لوازمها وعوارضها ولواحقه .
وكل ذلك ذاتية حقيقية له ، ليس بجعل الله فيه ، لكونها غير موجودة إذ ذاك لها في أعيانها ، بل هي للحق في الحق ، وأنّه لا يمكن أن يكون في الوجود العيني ولا أن تتعلَّق القدرة والإيجاد به إلَّا بحسب ما اقتضته حقيقته أزلا ، سواء كان معتنى به ومجتبى مصطفى من الأنبياء والأولياء أو غيره.
وإذا كان الأمر على ذلك ، فلا يؤتيه الله ما يؤتيه من الخير على اختلاف أنواعه وأصنافه إلَّا بموجب ما اقتضته عينه الثابتة أو حقيقته أزلا ، ولا يأتيه كذلك الشرّ أيضا إلَّا من نفسه ، وإليه الإشارة " ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله " أي ايجاد عين الخير والحسنة ليس إلَّا من الله ، فإنّه المفيض للخير الحقيقي الذي لا شرّ فيه وهو الوجود ، والخير كلَّه كما قيل في الوجود ، ولكنّ الله يوجد خيرك منك ويأتيك به .
بمعنى أنّه محقّق ما كان بالقوّة فيك ويظهره بالفعل فيه لك ، وكذلك ضدّ الخير ، ولكنّ الشرّ لمّا كان من أحكام العدم ، - فإنّ الشرّ كلَّه في العدم - فلا يضاف الشرّ إلَّا إليك وإلى عدم قابليتك في عينك ، كضدّه ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا ، ويعلم أنّه منه كلّ ما هو فيه كما ذكرناه في أنّ العلم تابع للمعلوم ) .
يجيب رضي الله عنه عن سؤال مقدّر من جاهل بالأمر لو قال : إنّ العلم الأزليّ الذي قلن : إنّ الله علمه كذلك ، يعني جعله العلم كذلك بمعنى جعله العلم كذلك أنّ العلم تابع للمعلوم ، يعني إنّما يتعلَّق العلم بكل معلوم بحسبه ، وإلَّا لا يكون علم .
قال رضي الله عنه : « فيقول لنفسه » أي كلّ أحد يقول لنفسه « إذا جاءه ما لا يوافق غرضه : « يداك أوكت وفوك نفخ " والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل ".
قال العبد : المثل مشهور يضرب لمن يتحسّر ويضجر عمّا يرد عليه منه . وقد ورد في العبارة النبوية المصطفوية ما هو أحسن منه وأدلّ على التحقيق - إن تدبّرته بالنظر الدقيق وهو قوله عليه السّلام : " من وجد خيرا فليحمد الله " أي هو ينبوع الرحمة والخير ، " ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلَّا نفسه " .

.

....

LptqkGQgKnI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!