موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مؤيد الدين الجندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مؤيد الدين الجندي

مقدمة مع قراءة خطبة الكتاب

  السابق

المحتويات

التالي  

مقدمة مع قراءة خطبة الكتاب


شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

ولنشرع الآن - بعد حمد الله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا ،
والصلاة والسلام على الختوم الكمّل ، وعلى إخوانهم من كل إمام مكمّل وهمام مؤمّل .
ولا سيّما على سيّدهم محمد المصطفى ، وعلى عباده الذين اصطفى .
في شرح باقي الكتاب ، والله الموفّق للصواب .
قال الشيخ - رضي الله عنه -: " أمّا بعد ، فإنّي رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مبشّرة أريتها في العشر الأخير من محرّم سنة سبع عشر وستّمائة [ 617 ] بمحروسة دمشق " .
قال العبد أيّده الله له : صحّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال : « من رآني فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي »
وفي رواية « لا يتكوّنني » أي ليس في قوّته أن يتظاهر بصورتي ، ولا يتمكَّن في الترائي للأمّة بها . والتكوّن هو التكلَّف في الشخص أن يكون على صورته التي كان عليها حال حياة الدنيا .
فمن رآه في تلك الصورة كامل الخلقة ، فقد رآه حقيقة ، وليس للشيطان أن يظهر بها أبدا .
مع أنّ الشيطان قد يتظاهر بصورة الربوبية ودعوى الإلهية ، وذلك لسعة الحضرة والصورة الإلهية المحيطة بصورة الاسم الهادي المرشد .
وصورة الاسم المضلّ فإنّ الله - تعالى - كما هو ربّ للمهتدين والمؤمنين والهادين ، فكذلك هو ربّ الضالَّين والمضلَّين والكافرين والمشركين ، لا إله إلَّا هو ، ولذلك جعله من المنظرين ، وأعطاه التمكين في الإضلال والإغواء .
فقال : " وَاسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ في الأَمْوالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً " آية 17 سورة الإسراء .
والشيطان يظهر للضالَّين والكفرة والمشركين والفجرة والملحدين بصورة الاسم المضلّ وهو اسم
من أسماء الله تعالى قال الله تعالى : " يُضِلُّ من يَشاءُ وَيَهْدِي من يَشاءُ " ية 8 سورة فاطر.
- وسائر الأسماء في حضرة المضلّ بحسبها كما هو الأمر في غيرها من الحضرات ، ولكن ليس للشيطان أن يظهر بصورة الاسم الهادي ولا بصورة الاسم الجامع المحيط المتجلَّي بصورة الهادي الذي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على صورته قال الله - تعالى - :
"وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِراطِ الله الَّذِي لَه ُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ " آية 52-53 سورة الشوري.
فإنّ الضدّ لا يظهر بصورة الضدّ أبدا ، هذا ما لا يكون .
وكذلك النقيض لا يظهر بصورة نقيضه عصمة من الله في حقّ الرائي ، وإلَّا لجاز انقلاب الحقائق ، وتغيّرت الفصول ، وانخرمت الأصول ، وانحرفت العقول ، فافهم هذا السرّ فإنّه من لباب التحقيق . وفي هذا المقام أسرار أخر غامضة جدّا ليس لعقول البشر ، وأرباب الفكر والنظر أن يحيطوا بها إلَّا بنور الوهب والكشف والتأييد ، والله وليّ التوفيق والتسديد .
وأمّا من رأى صورة في الرؤيا ، وتيقّن في تلك الحالة أنّه رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو يقال : إنّه هو ، ولا يطابق ما رآه صورته الأصلية صلَّى الله عليه وسلَّم في الصور ، وسلَّم الثابتة في الصحيح من الأحاديث ، أو يكون مخالفا ، أو مطابقا من وجه ومخالفا من وجه ، فذلك صورة نسبة الرائي من الصورة الشرعية المحمدية .
فمن كان مقتديا به صلَّى الله عليه وسلَّم من كلّ وجه ، مهتديا بهديه صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأكمل ، واتّبعه حقّ المتابعة في العلم والعمل ، وكان له ورث تامّ من حاله ومقامه .
يكون ما يرى في وقائعه يقظة ومناما وما بينهما أكمل في المطابقة وأبين وأوضح في الشخص والتمثّل في شهوده ورؤيته لكمال اتّباع الرائي الوارث له في جميع الأخلاق والأوصاف والأحوال والسير والأعمال .
ويصحّ من مثله أن يقول : رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم .
وأمّا من رآه على صورته الخصيصة به فما رآه ، وما رأى إلَّا صورة نسبية لا غير .
ثم اعلم : أنّ الرؤية أعمّ من الإبصار لأنّه شهود المبصرات بحاسّة البصر ، والرؤية شهود المشهودات كلَّها - سواء كان مبصرا أو متخيّلا أو ممثّلا أو معقولا أو معلوما رؤية غير متقيّدة بحاسّة البصر .
بل بعين البصيرة والعلم والقلب ، ويصدق الإبصار في المتخيّلات والمتمثّلات لكونها مدركة بقوّة الإبصار ، وإن كان بصره مكفوفا عن ملاقاة سطح المبصر .
فلمّا قال رضي الله عنه : « رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم » وهو أعلم القوم بالحقائق علمنا أنّه رآه حقيقة .
فرآه بعين البصيرة ما منه صلَّى الله عليه وسلَّم مشهود بعين البصيرة والقلب ، وهو صورته الحقيقية والمعنوية .
ورآه بعين روحه رضي الله عنه صورته الروحانية .
ورآه بعينه النورانية الإلهية صورته النورانية الإلهية ، ورأى بباطن بصره صورته المتمثّلة المحسوسة المبصرة فإنّ له ذلك على التعيين.
ولرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يظهر لمن كملت درايته منه - محسوسا مبصرا في عالم الحسّ لأنّه لا يتقيّد في عالم وليس محبوسا في برزخ من البرازخ.
وكذلك وارثه وكلّ من كملت وراثته منهما ، وصحّت نسبته معهما في العلم والحال والمقام والخلق والعمل ، وتوجّه إلى أرواحهما ولم يعرج إلى برازخهما ، نزلا إليه لطفا وعطفا ، وفي هذه الرواية والتنزّل تتفاوت مراتب الورثة .
سمعت سيّدي الشيخ صدر الدين محمد بن يوسف رضي الله عنه :
أنّه اجتمع هو والشيخ إسماعيل بن سودكين تلميذ الشيخ خاتم الأولياء مع شيخ الشيوخ سعد الدين محمد بن المؤيّد الحموي بمحروسة دمشق في سماع .
فقام الشيخ سعد الدين رضي الله عنه في أثناء السماع والناس في مواجيدهم إلى صفّة في ذلك البيت .
وبقي واقفا واضعا يديه على نحره مطرقا إطراق إجلال وتعظيم ، متأدّبا إلى أن انقضى السماع وقد سرى سرّ جمعيته وحاله في ذلك الجمع.
ثم قال في آخر المشهد وقد غمّض عينه :
"أين صدر الدين ؟ أين شمس الدين إسماعيل ؟ "
قال الشيخ رضي الله عنه فبادرنا إليه أنا والشيخ شمس الدين إسماعيل فتعانقنا وضمّنا إلى صدره .
ثم فتح عينه في وجوهنا ولحظنا مليّا ، وقال : "حضر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوقعت بين يديه كما رأيتموني الآن فلمّا انصرف ، أحببت أن أفتح عيني في وجوهكما ، فقد كانت في شهود وجه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم " .
وأمّا خاتم الأولياء الخصوصي فقد رأته بعد وفاته رضي الله عنه من بان له رضي الله عنه بها عناية من بعض سراريه وهي على الباب .
فلمّا رأته ، قالت : سيّدي ، سيّدي .
فقال لها الشيخ : كيف أنت ؟
وعبّر عنها ، فصاحت ، واجتمع أهل البيت عليها .
فقالت : عبر سيّدي عليّ إلى هذا الصوب فنسبها من لا تحقيق له إلى الجنون .
وأمّا أنا فكنت في دار السلام بغداد حرسها الله تعالى ، وكان نزيلي شخصا ادّعى أنّه المهديّ عليه السّلام وقال لي : اشهد لي .
فقلت : أشهد عند الله أنّك غيره ولست إلَّا كذّابا ، فعاداني وجمع عليّ الملاحدة والنصرية ، وآثار عليّ جماعة منهم وقصد إيذائي.
فلجأت إلى روحانية خاتم الأولياء ، وتوجّهت إليه رضي الله عنه بجمعية كاملة ، وراقبته في ذلك ، فرأيته رضي الله عنه وقد أخذ بيديه يدي ذلك المدّعي ورجله اليمنى وشماله:
وقال : أضربه على الأرض ؟
فقلت : يا سيّدي لك الأمر والحكم ، فانصرف عنّي وقمت وخرجت إلى المسجد ، فإذا المدّعي مع أتباعه مجتمعين مجمعين على ما نووا ، فلم أتلفت إليهم وجزت إلى المحراب وصلَّيت صلاتي ، ثم لم يقدروا عليّ ، ودفع الله عنّي شرّه ، ثم تاب على يدي وسافر عنّي ، والحمد لله .
فهؤلاء الكمّل يظهرون في عالم الحسّ مهما شاؤوا بأمر الله ، وقد أقدرهم الله على ذلك ، وليس غيرهم من النفوس البشرية ، المفارقة كذلك فإنّ الأكثر الأغلب محبوسون في برازخهم ، لا يظهرون ولا يتشخّصون إلَّا في المنام أو يوم القيامة ، فافهم هذا إن كان لك قلب ، أو ألق السمع وأنت شهيد ، وآمن فلا تكن من الممترين والمفترين .
واعلم : أنّ هذه الرؤية الأحدية الجمعية الكمالية الجامعة لجميع مقامات الرؤية بالنسبة إلى الحق وأكمل الخلق - صلَّى الله عليه وسلَّم وسائر الكمّل وغيرهم مخصوصة بالختمين وورثتهما من الأولاد الإلهيين والندّر من الأفراد المكمّلين ، والحمد لله ربّ العالمين .
قال الشيخ رضي الله عنه : « في مبشّرة أريتها في العشر الآخر من المحرّم سنة سبع وعشرين وستّمائة [ 627 ] ".
قال العبد : « المبشّرة » فيما عرفها الناس وتعارفوها هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو يرى لغيره .
كما نطقت به النبوّة الختمية للجمهور ، ومشرب التحقيق الختمي الكمالي الخاصّ يقضي بأنّها أعمّ.
فقد يبشّر الله أولياءه بغير الرؤيا يقظة وإلقاء وإعلاما وتجلَّيا كفاحا وواردا إلهيّا روحانيّا ملكيّا وغير ذلك على ما يعرفها أهلها ويتعارفونها بينهم .
وقوله : « أريتها » دالّ على أنّ الله أراها قصدا خاصّا اختصّه الله بذلك .
والمحرّم من المشهور اختصّ بهذه المبشّرة لأنّه - رضي الله عنه - فتح له في أوائل فتحه في المحرّم أيض على ما روّيناه عن الشيخ رضي الله عنه بالخلوة الخلق أوّل مبشّرة في إشبيليّة من بلاد أندلس تسعة أشهر لم يظهر فيها ، دخل في غرّة المحرّم ، وأمر بالخروج يوم عيد الفطر ، وبشّر بأنّه خاتم الولاية المحمدية ، وأنّه وارثه الأكمل في العلم والحال والمقام .
قال رضي الله عنه : « وبيده كتاب ، فقال لي : هذا كتاب فصوص الحكم ، خذه واخرج به إلى الناس ، ينتفعون به " .
قال العبد : « اليد » مظهر العطاء والمنع والقبض والبسط والأعمال الصالحة ، وهي صورة القدرة .
وكون الكتاب بيده إشارة إلى أنّ هذه العلوم والحكم التي يتضمّنها هذا الكتاب من خصوص أذواق كمّل الأنبياء - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيده وقبضه من كون أحدية جمع جمع الختمية النبويّة جامعة ومحيطة بها جميعا على التخصيص .
و " الكتاب" فعال - بكسر الفاء - يعني به المكتوب من الكتب وهو الجمع لكون كلّ كتاب جامعا بين جمل وفصول ، وفروع وأصول ، ومعان وعبارات ، وسور وآيات ، وحروف وكلمات ، وحقائق ودقائق وإشارات .
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « هذا كتاب فصوص الحكم » المنزلة على الكمّل المذكورين .
وفيه إجمال مضمون الكتاب لمن عقل عن الله وذلك أنّ الفصوص تدلّ على معان وحقائق معلومة للخاصّة.
ككون الفصوص محالّ النقوش والعلامات الاسمية التي يختم بها على الخزانة .
وأنّ النقوش التي في هذه الفصوص إنّما هي نقوش الحكم الإلهية الكلَّية الكمالية الأحدية الجمعية الختمية المحمدية المتفصّلة في قابليّات قلوب كمّل الأنبياء المذكورين في الكتاب .
فإنّ هذه النقوش الحكمية وإن نزلت على قلوبهم من الحضرات الإلهية الأسمائية بحسب استعداداتهم الخصيصة بكل حضرة حضرة منها .
ولكن أحدية جمع هذه الحكم والنقوش من حيث الأصل والمحتد في قبضة خاتم الرسل صلَّى الله عليه وسلَّم ، وتفصيلها وتبيينها وتوصيلها وتعيّنها .
إنّما يكون على يدي خاتم الأولياء المحمدي الخاصّ خاصّة .
لكون هذه الحكم إنّما تؤخذ من الوراثة الخاصّة المحمدية الختميّة ، وكونه رضي الله عنه هو وارثه صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الختمية الخصوصية .
وإن كان الكاملون جميعا ورثته في المقامات الكلَّية المحمدية المتفصّلة في جميع الأنبياء والأولياء لكن هذه الوراثة الختمية وارثة خاصّة ، لها ذوق خاصّ ، منه يعرف أذواق جميع الأنبياء والأولياء.
ولا يعرف من ذوق أحدهم ولا من أذواق الكلّ ، ويوجد في ذوقه مزيد أسرار وحكم على أذواق أهل المقامات .
يعرف ما أشرت إليه المحيط بأذواقهم ومشاربهم أوّلا ، الجامع لزوائد ما جاء به هذا الخاتم رضي الله عنه ثانيا ، والله الموفّق .
قال الشيخ رضي الله عنه : « خذه واخرج به إلى الناس ، ينتفعون به ".
قال العبد : أمره عليه السّلام بأخذ هذا الكتاب إشارة إلى أنّه رضي الله عنه هو الخاتم المخصوص بختمية ولأنّه المخصوص .
وذلك لأنّ الحكم التي في ضمن " فصوص الحكم " المخصوصة بمقامات الختمية المحمدية المتعيّنة في كل مقام من مقامات الكمالات الخصيصة بالحضرات الأسمائية الإلهية التي هي لهؤلاء الأنبياء المذكورين فيه جملة تجلَّياتها وعلومها وأحكامها ، فأمر خاتم الأنبياء بإخراج هذه الحكم الختمية يجب أن يكون لوارثه الأكمل في الختمية الجمعية إذ حقائق الختمية وعلومها لا تكون إلَّا للمتحقّق بالختمية ، فافهم الإشارة فإنّها لطيفة .
وهو مثل قوله تعالى لموسى بن عمران " فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها " .
يعني في زعمهم ومبلغ علمهم ، وإلَّا فكلّ ما فيها أحاسن ومنها تنبعث المحامد والمحاسن .
وقوله : « واخرج به إلى الناس ينتفعون به »
إشارة إلى أنّ هذه الحكم الأحدية الجمعية الكمالية المحمدية الختمية إنّما يظهرها الله به وعلى يديه ولسانه صلَّى الله عليه وسلَّم .
وسياق الكلام يقتضي ظاهرا أن يكون قوله : « ينتفعون به » مجزوما بإسقاط نون " ينتفعون " لكونه جواب الأمر ، وهو ظاهر ، ولكنّه صلَّى الله عليه وسلَّم بشّر الشيخ رضي الله عنه بأنّ الناس أي المتحقّقين بالإنسانية إلى يوم القيامة ينتفعون به، ويخرّج على أنّه ليس جواب الأمر ، ولكنّه إخبار ابتدائي منه صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك .
أي بصورة الحال الجارية لمزيد إعلام وبشارة .
فهو جواب سؤال مقدّر لو سئل صلَّى الله عليه وسلَّم : إنّ هذه الحكم تعلو وتجلّ عن فهم الناس الحيوانيين بأنّ فيهم ناسا مؤهّلين للكمال ينتفعون به .
قال الشيخ رضي الله عنه : "فقلنا السمع والطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر منّا ، كما أمرنا ".
المفهوم الظاهر ظاهر ، وهو امتثال أمر الله ورسوله وأولي الأمر بعد الرسل من المؤمنين والخلفاء والأئمة الذين يلون الأمر وباطنه وسرّه .
إنّه رضي الله عنه أشار في كلّ ذلك إلى طاعة الله الظاهر المتجلَّي في المظهر المحمدي الأكمليّ ، وإلى طاعته أيضا من حيث إنّه رسول الله.
ثم من كونه صلَّى الله عليه وسلَّم وليّ الأمر على جميع الكمّل ، فيخرّج أنّ طاعته رضي الله عنه أيضا في هذه الوجوه الثلاثة كلَّها لله في أكمل مظاهره وهو رسول الله من ثلاث حسنات كلَّية ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : "فحقّقت الأمنيّة وأخلصت النيّة " .
قال العبد : تحقيق كلّ شيء إدراك حقيقته ، والبلوغ إلى حقّيّته ، وإظهار حقيقته وحقّيّته عند الغير وله .
وقد يكون بمعنى أن يجعله حقّا ، كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام : " هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " آية 100 سورة يوسف .
أي كانت رؤيا مشهودة في حضرة الخيال ، فجعلها ربّي موجودة في الحسّ يقظة .
وحقّيّة كلّ رؤيا وصورة ممثّلة أن توجد في العين وتتحقّق في الحسّ .
فمعنى قوله : « حقّقت الأمنية » أظهرتها في الحسّ .
وتسوغ إضافة الأمنيّة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى الشيخ رضي الله عنه فبمعنى أنّ الرؤيا له ، وأنّه هو المتكفّل ببيانها والمتفرّد بتبيانها وعيانها ، وهي أمنيّته فحقّقها .
أي أظهرها على ما أمر به في رؤياه ، فالأمنية على هذا ذات جهتين حقيقيّتين :
جهة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالأصالة ومن كونه آمرا بذلك .
وجهة إلى الشيخ رضي الله عنه لكونه هو المحقّق لها في الوجود الحسّي .
قال رضي الله عنه : "وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب " .
قال العبد : تجريد القصد والهمّة هو أن يكون أحديّ التوجّه والعزيمة فيما همّ به ونوى من غير أن يتخلَّله متخلَّل في ذلك .
قال رضي الله عنه : " كما حدّه لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير زيادة ولا نقصان » لكونه ممتثلا أمره على ما أمره ، وعلى الوجه الذي أراده والحدّ الذي عيّنه ورسم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنّ مقام الأمانة لا يحتمل الزيادة والنقصان ".
قال رضي الله عنه : "وسألت الله أن يجعلني فيه و في جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وأن يخصّني في جميع ما يرقمه بناني ، وينطق به لساني ، وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبّوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي " .
يشير رضي الله عنه إلى قوله تعالى : " وَما أَرْسَلْنا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه ِ فَيَنْسَخُ الله ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياتِه ِ "آية 22 سورة الحج .
يعني رضي الله عنه : لمّا تمنّيت ما منّاني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم فإنّي أرجو من الله أن لا يكون للشيطان عليّ سلطان .
وقوله : « أرجو » لسان أدب مع الله فإنّه على اليقين ممّن قال الله فيهم : " إِنَّه ُ لَيْسَ لَه ُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " آية 99 سورة النحل .
لكونه رضي الله عنه مستكملا درجات الإيمان ، فحائز منه إلى حقيقة الشهود والإحسان ، متحقّقا على مقامات التوكَّل على الإيقان والإتقان .
فيخرج قوله : « أرجو » مخرج قوله : إنّ في الحقيقة درجة واحدة لا يصلح أن تكون إلَّا لرجل واحد ، وأرجو أن أكون ذلك الرجل فإنّه محقّق عند المحقّقين أنّه - صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك الرجل على التعيين ، ولكنّ الأدب مع الله أعلى مقامات المحقّقين ، وأكمل درجات الكمّل المقرّبين .
ولأنّ مواضع إلقاء الشياطين - التي يستعيذ بالله منها جميع العائذين - إنّما تكون في النطق عند التلاوة ، أو حال كتابة إلقاء الله ووحيه إلى أهل وحيه ، أو في الخاطر والهاجس ، وذلك في الجنان وهو محلّ الضمائر من القلب في ظاهره ، لأجل ذلك .
قال رضي الله عنه: « في جميع ما يرقمه بناني » .
يعني عند الكتابة « وينطق به لساني » في الكلام « وينطوي عليه جناني » حتى يعمّ مواضع الإلقاء أجمع.
فلم يترك محلَّا مخلَّى يتخلَّل منه شيطان ولكن هذا أيضا لسان أدب في العموم من أهل الإلقاءات ، وإلَّا فإنّ الكامل الملقى إليه من الله قد وسع الله قلبه ووسعه فأملأه ، فليس لغيره فيه موضع أو مطمع .
والهواجس إنّما تهجس في ظاهرية القلب ممّن لم يطهّر محلّ الإلقاء .
ولكنّه رضي الله عنه محفوظ معصوم في أعلى درجات الحفظ والعصمة من مبدأ أمره وفتحه فقد بقي سبعة أشهر بلا خاطر كونيّ ، فلم يخطر له في هذه المدّة المديدة ولم يرو عن غيره من المتقدّمين والمتأخّرين مثل ذلك - على ما سيتلى عليك في موضعه .
ولكن هذا سرّ للخواصّ ، وهو أنّه لمّا كان الكامل بحيث ليس شيء إلَّا وله نسبة إليه ورقيقة منه رابطة في جميع العوالم .
ومن تلك الرقيقة تصل إليه المادّة من الفيض الإلهي ، وإلَّا لانعدم ذلك الشيء ، والشيطنة مرتبة كلَّية عامّة لمظاهر الاسم « المضلّ » ، فلا بدّ من نسبة ورقيقة بها تجيء حقائقهم في وجودهم ، فطردها رضي الله عنه بأمر الله الذي لا يردّ عن مواضع إلقاء الله التي للشيطان فيها مدخل .
فلهذا ولأنّه بصدد كتابة ما يلقي الله إلى قلبه وينطلق به ويكتبه ، سأل الله تعالى أن يخصّه في كلّ ذلك بالإلقاء السبّوحي.
أي من حضرة الطهارة والنزاهة فإنّ الإلقاء يكون من جميع الحضرات الأسمائية ، فسأل أن يخصّه الله في كل ذلك بالإلقاء الذي يكون من حضرة السبّوح ، فيخلص لله طاهرا مقدّسا عن كلّ شرب .
وأمّا النفث فهو إرسال النفس بجمعية الباطن والعزيمة ظاهرا عند الدعوات ، وهاهنا هو صورة كلام روحاني يظهر في باطن النفس من الأرواح الكلَّية العالية .
أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ أحدا لن يموت ، حتى يستكمل رزقه » وقد يكون الوحي والإلقاء والنفث من الأرواح الخبيثة الشيطانية في النفوس الملوّثة بالأغراض النفسية .
وقد استعاذ من ذلك وأمر بالاستعاذة منه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « ومن همزة ولمزة ونفثه ونفخه » .
ولولا صحّة ثبوت تلك الرقيقة والنسبة التي منها تصل المادّة الوجودية إلى هذه الصور الشيطانية الانحرافية وتحقّقها من الإنسان الكامل ، لما استعاذ ، و لما أمر بالاستعاذة لتحقّق التنافي والتضادّ وعدم الاحتياج لعدم الجامع ، كما في الملائكة مع الشياطين ، فافهم .
فنفث الشيطان كإلقائه إلى أوليائه ، كما قال تعالى : " وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ "
ولمّا اختصّ رضي الله عنه بالإلقاء السبّوحي ، فكان جميع ما ألقي إليه مدّة عمره في جميع تصانيفه من حضرة الله السبّوح القدّوس .
أو من التجلَّيات الذاتية الاختصاصية وإن لم يكن سند الإلقاء العلمي للذات المطلقة من حيث هي هي ، ولكنّ القدس الذاتي والتنزيه الإطلاقي سار في جميع الحضرات التي منها يلقي الله إليه .
والنفث الروحي إشارة إلى روح الله الملقى في صورة روحانية محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - .
قال رضي الله عنه : « في الروع النفسي » يعني في محلّ نفث الروح ، وهو باطن النفس وظاهر القلب ، فيكون نفث الروح من باطن القلب إلى ظاهره في باطن النفس حتى يردعها عن الرذائل وينزعها ويروعها ، ويودعها الرغبة في الفضائل ، ويضعها فيها فتنفعها .
فيكون من الله العاصم للمعتصمين به بالعصمة الإلهية الفرقانية من علم الهداية عن الإلقاءات النفسانية والشيطانية .
كما قال الله تعالى: " وَمن يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
قال رضي الله عنه : "حتى أكون مترجما لا متحكَّما ليتحقّق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب " .
يعني رضي الله عنه مترجما عن المقامات بموجب الشهود والعيان ، أو عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمقتضى نصّ القرآن .
لا متحكَّما عن مأخذه الرسول بالزيادة أو بالنقصان إذ لو زاد أو نقص على ذلك ، لكان متحكَّما من تلقاء نفسه أو بإلقاء رأيه وحدسه ، ولم يكن قد وفي حقّ مقام الوراثة وهو وارث ممتثل أمر نبيّه في إخراج هذه الحكم من الغيب إلى الشهادة ، فهو ترجمان رسول الله ، خاتم النبيّين . " من أهل الله أصحاب القلوب " .
قال العبد : يريد بأهل الله من له مشرب الكمال الأحدي الجمعي الإلهي ، لا المتقدّرين بالمشارب والأذواق الجزئية التقييدية الأسمائية ، فمن كان له قلب ينقلب مع الحقّ كيف تجلَّى ، ووسعه ، فما أنكره ولا أعرض عنه في تنوّعات ظهوره بشؤونه ، ولا يولَّي .
قال رضي الله عنه : "أنّه من مقام التقديس المنزّه عن الأعراض النفسية التي يدخلها التلبيس" أي يتحقّق أنّه كذلك .
قال رضي الله عنه : " وأرجو أن يكون الحقّ لمّا سمع دعائي قد أجاب ندائي فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ ، ولا أنزل في هذا المسطور إلَّا ما ينزّل به عليّ . ولست بنبيّ ولا رسول ، ولكنّي وارث ، ولآخرتي حارث " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى ما سبق ذكره من سؤاله العصمة عن إلقاء الشيطان ، وقد صرّح أيضا بأنّ « أرجو » من مثله لسان أدب في عين الإخبار المحقّق عن إجابة الحق نداءه بقوله : "فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ " .
وفي إضافة السمع إلى الدعاء ، والإجابة إلى النداء ، قد يقع لبعض الناس أنّ العكس أنسب عرفا لكون المراد من النداء الإسماع ، ومن الدعاء الإجابة .
كما قال الله تعالى : "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " .
ولكنّه رضي الله عنه مقيّد في جميع أحواله وأقواله بالله ورسوله .
فاعتبر فيما قال قوله تعالى : " إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ " .
ولمّا تحقّق الإجابة من الله تعالى قال : « فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ » من علوم ما تضمّنه هذا الكتاب.
والله الملقي إليّ من الحضرة المحمدية الختمية الكمالية الإلهية « ولا أنزل في هذا المسطور » يعني بالتدريج في كلّ فصّ فصّ وحكمة حكمة.
« إلَّا ما ينزّل » الله الظاهر في الصورة المحمدية الكمالية الختمية " به عليّ "
ولمّا علم رضي الله عنه سبق الأوهام إلى أنّ في قوله : " ينزّل به عليّ " تراميا إلى النبوّة أو الوحي لضعف الأفهام ، أو تقييدهم بظاهر الكلام ، أعقب بقوله : « ولست بنبيّ ولا رسول ، ولكنّي وارث ، ولآخرتي حارث » نفيا لأوهامهم ، وتوصيلا إلى مراده أوهامهم لإفهامهم .
وتأصيلا لأهل التحصيل أنّ الإنزال من الله إلى العبيد الكمّل مطلقا غير محجور ولا مهجور ، بل ذلك إنزال خاصّ يتعلَّق بتشريع وتأصيل للأوامر والنواهي والأحكام ، وتفصيل وتفريع ، فافهم .و « الوارث » هو الذي يرث من قبله من الأنبياء علومه وأحواله ومقاماته ، فيقوم بمقاماته ، وتظهر عليه أحواله بآياته ، ويظهر هو حقائق علوم الله التي أظهرها بذلك النبيّ في زمانه بتجلَّياته .
وهاهنا مباحث شريفة متعلَّقة بتحقيق قوله : « العلماء ورثة الأنبياء ، ما ورّثوا دينارا ولا درهما ، وإنّما ورّثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظَّ وافر » يعني أخذه عن الله وذلك لأنّ الوراثة لا تتحقق إلَّا في عين مال المورّث أو عوضه ، وكانت علوم الأنبياء إلهية وهبية وكشفية بالتجلَّي لا بالكسب والتعمّل.
فوجب أن تكون الوراثة الحقيقية كذلك وهبية لا نقلية ولا عقلية كذلك ، فيرث الوارث منّا العلم من المعدن الذي أخذ عنه النبيّ أو الرسول .
فليس العلم ما يتناقله الرواة بأسانيدهم الطويلة فإنّ ذلك منقول يتضمّن علوما لا يصل إلى حقيقتها وفحواها إلَّا أهل الكشف والشهود .
والنبيّ الرسول إنّما أخذ العلم عن الله لا عن المنقول فالوارث الحقيقي إنّما هو في الأخذ عن الله لا عن المنقول كما أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « ربّ مبلَّغ - بفتح اللام - أوعى من سامع ».
وبقوله : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » والناقل إنّما ينقل ألفاظا وعبارات حاملة معاني متشبّثة بها فحواها ، والمعنيّ بها العلم ، والمبلَّغ إليه منّا يفقه باطن المعنى المعنيّ .
والفحوى المطويّ في المنقول المرويّ ، والأكثر لا يفقهون ولا يعلمون ، والأقلّ الذي يفقه ذلك فهو منّا ، وداخل عنّا بحكم التوسّع والمجاز لا بالتحقيق ذاته إنّما أخذ العلم الحاصل له من الألفاظ لا من الحق ، فافهم.
ودقّق النظر فيه ، حتى لا يشتبه عليك ، وهذا فيمن يفقه والكلام في الحامل الذي لم يفقه ما يفقه وإن تقدّمنا بأزمنة متطاولة ، وإن لم يخل عن فهم وفقه بحسبه وبحسب استعداده .
وبعد هذا التحقيق والتدقيق والمحاقّة فإنّ علم الأفقه المذكور في نصّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مأخوذ من المنقول المحمول في عبارة الرسول ، وبهذا صدق عليه أنّه وارثه توسّعا ومجازا .
فإنّ الوراثة إنّما هي في العلم المأخوذ عن الله والحال والمقام ، وعلم الأفقه المذكور بعد المسامحة إنّما هو وراثة في العلم المودع في المنقول لا في حال الآخذ ومقامه .
وإنّما خصّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العلم في قوله : « وإنّما ورّثوا العلم » بالعلم بالله وبمضمون النبوّات وفحواها لعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم بعدم علوم عموم المخاطبين سرّ الحال والمقام ذوقا إلَّا خواصّهم فراعى الأغلب.
ولأنّ العلم إذا كان مأخوذا عن الله ، فإنّه يتضمّن الحال والمقام ، فما كان مراده صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا العلم
المأخوذ عن الله ، كما صرّح بذلك نصّ القرآن قال الله تعالى : " بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ".
فالعلم المذكور في نصّ الحديث هو العلم المؤتى والمأخوذ عن الله ، وهو المراد في فهم خواصّ أهل الله ، قال الأستاد أبو يزيد البسطاميّ قدّس سرّه لبعض علماء الرسوم ونقلة الأخبار والأحكام والآثار : « أخذتم علمكم ميّتا عن ميّت ، وأخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت » واعلم ذلك إن شاء الله .
في ذكر مباحث أخر ضمنية تفصيلية
البحث الأول الوراثة في التحقيق ليست إلَّا لله تعالى
بحث آخر
اعلم : أنّ الوراثة في التحقيق ليست إلَّا لله تعالى فإنّ الله هو خير الوارثين فإنّه وارث المورّثين والورثة أجمعين .
ثم يأخذ الوارثون الآخرون العلم والمقام عن الله تعالى ، وهذا من جوده الذاتي وعطائه الأسمائي ، فأهل الله الآخرون إنّما أخذوا العلوم عن الله تعالى ، فقاموا بالعلوم المختصّة بكلّ مقام من حيث مقامهم بإقامة الله إيّاهم في ذلك المقام ، كما أقام من قبله من المورّثين وأعطاه العلم الخصيص بذلك المقام والحال .
والآخذ والوارث منهم إنّما يأخذ ما يأخذ عن الله لا عن غيره ، فيورّثه الله ذلك العلم والمقام والحال عن ذلك النبيّ الذي قد قبلها قبله أي يعطيه إيّاها ويهبه كما أعطاها من قبله .
فنسبة ذلك العلم والحال والمقام إلى هذا الآخر كنسبته إلى الأوّل ، فافهم فإنّه غامض ويتضمّن أغمض منه ، والله الموفّق .
البحث الثاني الحقائق الثلاث للوراثة
بحث آخر
لمّا كنّا في بيان حقيقة الوراثة وهي تشتمل على المقام والعلم والحال
أردنا أن نتكلَّم في هذه الحقائق الثلاث :
أمّا العلم:
فقد ذكرنا حقيقته بتعريف ذوقي بلسان التقحيق الكشفي ، وسنزيد ذلك تتمّة وتكملة في الموضع الأليق به .
وأمّا الحال :
فحالة حالة بذي الحال تحيله عن الحالة التي قبلها ، وتحول بينها وبين ما ينافيها ، ويغيّره عن غيرها إلى ما فيها ، ثم تحول وتئول كحال العلَّة .
وحال الوصل والفصل ، والتخلَّي بالخاء المعجمة - والتحلَّي بالحاء المهملة - والتجلَّي - بالجيم - ، والانسلاخ والاستغراق والانزعاج ، والقبض والبسط وغيرها .
وأمّا المقام :
فمرتبة عبدانيّة للعبد السالك في مظهرية حضرة من الحضرات الإلهية الأسمائية ، وكلَّيات المقام ألف وواحد على عدد الحضرات الأسمائية الكلَّية في مظهريّاتها ، وهي منقولة مشهورة بين أهلها ليس هذا موضع تفصيلها .
وقد اختلف الجمهور من الصوفية في التفضيل بين الحال والمقام ، فمن مفضّل للحال على المقام ، ومن قائل بالعكس .
وكان الحقّ أن يحقّقوا النظر في الحقيقتين أوّلا ، ثم يتكلَّموا في الأفضلية ، والرافع للخلاف هو بيان الفرق بين الحال والمقام .
فنقول : كلّ ما حال وتغيّر من الواردات على السالكين يخصّ باسم « الحال ».
وكلّ ما يوجب الثبات والإقامة فهو المقام .
ويسمّى مقاما - بفتح الميم - بالنسبة إلى المحمديين الذين لا يقيمون فيما أقاموا فيه منها وإن ثبتوا فيه .
والمقام - بضمّه - بالنسبة إلى من أقام فيه وانحصر ووقف .
ثم الأحوال تبدو في كلّ مقام للسالك حال قيامه وثباته فيه ، ثم إذا جاوزه ظهر حال آخر بحسب ما فوقه من المقام .
فلا يخلو السالك من الحال والمقام ، والحال يوجب المقام وبحسبه .
وليس المقام بحسب الحال ، ومتحقّق عند التحقّق بالمقام صاحب المقام بالحال الخصيص به ، فإذا ظهر عليه حال خصيص بمقام ، عرف أنّه أهل ذلك المقام .
وبهذا الاشتباه وقع الخلاف ، ولا خلاف عند التحقيق ، فافهم والله الموفّق .
فإذا أقام الله أحدا في مقام آتاه حالا وعلما يتعلَّقان به ، وهذه المقامات معمورة دائما بأربابها فلا بدّ
فيقال في الآخرين القائمين فيها وبها من حيث إنّ أمّة قبلهم كانوا غمّاز تلك المقامات والعلوم والأحوال - : إنّ الآخرين ورثة الأوّلين ، فإن لم يأخذوها عن الله كما أخذ الأوّلون عنه .
بل حفظوا كلماتهم ومقاماتهم ورووها عنهم ، فليسوا وارثين على الحقيقة ولكن بالمجاز .
ومثل الأفقه منهم كالوارث عوض ما ضاع وتبدّل من مال المورّث لا عين المال ، ولكنّ الحافظ الفقيه إذا عمل بموجب ما علم من المحفوظ المنقول ، فقد يورّثه الله الأخذ عنه بعد ذلك ، فيكون وارثا حقيقة ، فافهم .
تتمّة في الباب
ثم الوراثة في العلم والحال والمقام ، إمّا أن تكون محمدية أو غير محمدية .
فغير المحمدي كمن يرث عن موسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم في العلم والحال والمقام .
أو في العلم دون الحال والمقام ، أو في العلم والحال دون المقام ، كذي مقام آخر ينصبغ بحال ذي حال في مقام يوجب ذلك .
العلم والحال إمّا بتأثير الروحاني أو بكلامه وإرشاده ، فسرى فيه العلم والحال ، ثم إذا سرى عنه انصبغ بحال مقام هو فيه .
فهؤلاء الوارثون يأخذون هذه العلوم والأحوال والمقامات عن أرواح الأنبياء الذين كانوا فيها قبلهم ، ووصل إمداد هؤلاء من أرواحهم .
ومنهم من يأخذها كما ذكرنا عن الله ، إمّا في موادّ تلك الرسل والأنبياء ، أو في الحضرات الإلهية ممّن قبلهم .
والوارث المحمدي يأخذ العلوم النبويّة عن روح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بحسب نسبته منه في صورة نسبية كذلك .
والأعلى يأخذ عن الله في الصورة المحمدية النورانية أو الروحانية ، أو عن روح خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، أو عن الله فيه كذلك .
فالمقامات الإلهية والأحوال والعلوم مغمورة أبدا بعد الأنبياء بالورثة المحمديين وغير المحمديين .
ويسمّيهم المحقّق أنبياء الأولياء ، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل » وفي رواية " أنبياء بني إسرائيل " بلا كاف التشبيه ، والروايتان صحيحتان فالآخذون عن أرواح الرسل من كونهم رسلا ليست علومهم وأحوالهم ومقاماتهم جمعية أحدية محيطة .
والآخذون علومهم عن الله في الصورة المحمدية والختمية هم الكمّل من أقطاب المقامات ، وأكمل الكمّل وراثة أجمعهم وأوسعهم إحاطة بالمقامات والعلوم والأحوال والمشاهد .
وهو خاتم الولاية الخاصّة المحمدية في مقامه الختمي ، فوراثته أكمل الوراثات في الكمال والسعة والجمع والإحاطة بعلوم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأحواله ومقاماته وأخلاقه يقظة ومناما.
ويطابقه في الجميع حذو القذّة بالقذّة ، حتى أنّه جرى عليه ومنه رضي الله عنه مندوحة ، فما جرى على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومنه كما سيأتيك في الفصّ الشيثي ، فافهم إن شاء الله تعالى .
ثم الوراثة قد تكون كلَّية ، وقد تكون جزئية ، فالكلَّية لأقطاب المقامات المحمدية ، والجزئية لأقطاب المقامات الأسمائية ، والجامع للوراثات كلَّها هو الأكمل .
وآخر مقامات الوراثة الأدب والأمانة ، ولهذا قال رضي الله عنه : إنّه لا يزيد ولا ينقص عمّا نصّ عليه مورّثه صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال الشيخ رضي الله عنه :
فمن الله فاسمعو ....... وإلى الله فارجعو
يعني : لمّا لم يكن لي تصرّف في ذكر ما أذكره في هذا الكتاب ، فلا تسمعوا منّي واسمعوا من الله الذي فنيت فيه فناء لا ظهور لي أبدا ، وإذا اشتبه عليكم شيء منه ، فارجعوا فيه إلى الله .
قال :" فإذا ما سمعتم " أي من الله " ما أتيت به " أو ما أتيتم " فعوا " أي احفظوه في وعاء القلوب .
قال : ثم بالفهم فصّلو ..... مجمل القول واجمعوا
يعني : أنّي أجملت القول في المقامات الكمالية ، وذكرت في أثناء ذوق كل نبيّ بحقيقة الأمر على ما هو عليه في نفسه ، وهو أعلى مراتب الرحمة وأكملها وأفضلها .
قال الشيخ رضي الله عنه : « ومن الله أرجو أن أكون ممّن أيّد ، فتأيّد ، وأيّد ، وقيّد بالشرع المطهّر المحمدي ، فتقيّد ، وقيّد " .
قيّد رجاءه رضي الله عنه بالله بعد تقديمه تعالى على رجائه إيثارا لجنابة وتخصيصا بالحقّ أن يقيّده الله بالتأييد الاعتصامي .
فهو مؤيّد من الله ومؤيّد من آمن بالله وبما جاء ، فيقوى وتأيّد ، وأيّدنا وتأيّدنا ، فنحن المؤيّدون معاشر الأولاد الإلهيّين ، وتقيّد بالشرع المحمدي المطهّر بما قيّده به الله .
وقيّدنا بذلك كذلك وإنّ الأمر إطلاق التقييد المحمدي ، فهو أكمل الأمّة أبدا ، فتقيّد وقيّدنا - من حيث النفس والطبيعة - بهذه الشريعة الكاملة المحمدية التي لا أكمل منها أبدا ، على ما سيفضي القول فيه .
فانطلقت عقولنا و أسرارنا و أحوالنا وقلوبنا عن قيود التعشّق بالعقائد الجزئية التقييدية ، وأسرحت في فسح فيحاء فضاء الكشف والشهود ، و أحدية الجمع والوجود ، عن علوم الرسوم التقليدية ، مقتضيات المدارك والأفكار النظرية البشرية التحديدية .
قال رضي الله عنه : " وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمّته " .
يعني رضي الله عنه الحشر في الأنبياء فإنّ زمرة النبيّ الأنبياء والأولياء الكاملون ، كما جعلنا من أمّته .
اللهم آمين آمين آمين
.


OU0X0JhQZ7Y

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!