موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب نقد النصوص
في شرح نقش الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الرحمن الجامي

فص حكمة وجودية في كلمة داودية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة وجودية في كلمة داودية


17 – شرح نقش فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص الشيخ عبد الرحمن الجامي

كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي
إنّما خصّت الكلمة الداودية بالحكمة الوجودية لأنّ الوجود إنّما تمّ بالخلافة الإلهية في الصورة الانسانية، و أوّل من ظهر فيه الخلافة في هذا النوع كان آدم عليه السلام.
و أوّل من كمل فيه الخلافة بالتسخير- حيث سخّر الله له الجبال و الطير في ترجيع التسبيح معه.
كما قال تعالى: "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ"- و جمع الله فيه بين الملك و الحكمة و النبوّة، .
في قوله تعالى: «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ»، و خاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا، هو داود عليه السلام.
و لمّا كان التصرّف في الملك بالتسخير أمرا عظيما لم يتمّ عليه بانفراده، وهبه سليمان و شرّكه في ذلك، كما قال:«وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى‏ كَثِيرٍ من عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ»
و قال تعالى: "فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً."
و كان تتمّة لكماله في الخلافة بما خصّصه الله به من كمال التصرّف في العموم. فبلغ الوجود بوجوده كماله في الظهور.
وهذا هو السرّ في اقتران الحكمة الداودية بالحكمة السليمانية.
و تقديم السليمانية على الداودية للمزية الظاهرة له بخصوصيته:
فانّ داود عليه السلام كان مظهر كليات الأحكام الأسمائية و الصفات الربّانية و الآثار الروحانية و القوى الطبيعية و مجتمعها، فاستحقّ لظهور مقام الخلافة و أحكامها و أحكام الحكمة و فصل الخطاب .
وورثه سليمان في الجمع وزاد في التفصيل الفعلى والحكم الظاهر الجلي والتسخير العامّ الكلى العلى.
فما ظهر في الوجود أحد من الناس أعظم ملكا ولا أعمّ حكما منه، ولا يظهر بعده، لأنّه لمّا بلغ ظهور ما قدّر الله ظهوره من أسرار الربوبية و الأمور التي سبق ذكرها المضافة إلى الحق وإلى الكون من حضرة العلم إلى أقصى درجات الظهور المعلومة عند الله، وقع التحجير باجابة دعوته.
فعادت هذه الأمور بعد كمال ظهورها راجعة من حضرة الظهور إلى حضرة البطون بنحو من التدريج الواقع في أزمنة بروزها من حضرة البطون إلى حضرة الظهور فانّه ما ثمّ إلّا ظهور من بطون أو بطون من ظهور.
فما نقص من الباطن، أخذه الظاهر، و بالعكس.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهب داود فضلاً معرفة به لا يقتضيها عمله.
فلو اقتضاها عمله لكانت جزاء، ووهب له فضلاً سليمان عليه السلام: " وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " [ص: 30].
وبقي قوله: " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ " [سبأ: 10].
هل هذا العطاء جزاء أو بمعنى الهبة؟.)
اعلم أنّ النبوّة و الرسالة تكونان بالاختصاص الإلهي و ليستا بكسب و لا مجازاة عن عمل أو ثوابا عن سابق حسنة و طاعة تكونان نتيجة عنها، و لا لشكر أو عبادة متوقّعة منهم عليهما.
و إذا كانتا كذلك، فلا تحصلان لأحد بتعمّل و كسب و عمل، كما توهّم القائلون من أهل النظر الفكرى بأنّهما تحصلان لمن كمل علمه و عمله فانّ النبوّة عندهم عبارة عن كمال العلم و العمل فمن كمل علومه و أعماله، فهو نبى في زعمهم. و هذا باطل.
و إلّا لكان كلّ من تكامل علمه و عمله رسولا نبيا يوحى إليه، و ينزل عليه الملك بالوحي و التشريع.
فصحّ أنّهما ليستا إلّا من اختصاص إلهى، من لوازمهما كمال العلم و العمل.
فلا يتوقّف تحقّقهما على لوازمهما: فانّ‏ تحقّق وجود اللازم إنّما هو بتحقّق وجود الملزوم، لا بالعكس و هذا ظاهر.
و لمّا كانتا من اختصاص إلهى، لم يطلب منهم عليهما جزاء و لا شكورا.
و إن وقع الشكر منهم دائما، و أتوا بالأعمال الصالحات في مقابلتهما، فليس ذلك مطلوبا بالقصد الأوّل من الاختصاص، و لا هم مطالبون بذلك عوضا عنهم.
فلو اقتضاها، أي تلك المعرفة، عمله عليه السلام- كما قال النبي صلّى الله عليه و سلّم، «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم»- لكانت تلك المعرفة جزاء، لا هبة و عطاء. و قد سبق أنّ النبوّة و الرسالة اختصاص إلهى، لا مدخل فيهما للكسب و التعمّل، و كذلك أكثر ما يترتّب عليهما من المواهب و العطاي.
(و) كذلك (وهب) الله سبحانه (له) ، أي لداود، (سليمان عليه السلام)، ليكون تتمّة في كماله في خلافته، فقال تعالى، "وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ".
و بقي قوله تعالى، «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» في محلّ التوقّف، حيث لم يصرّح فيه بالهبة و لا بما يقابلها.
(هل هذا العطاء) المعبّر عنه ب «إيتاء الفضل» عطاء جزاء لعمله، فيكون فضلا على مثل العمل- كقوله تعالى، «من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها»- .
(أو) هو عطاء (بمعنى الهبة)، غير مترتّب على عمل
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقال: " وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " [سبأ: 13]، ببنية المبالغة.
ليعم شكر التكليف. وشكر التبرع.
فشكر التبرع : (أفلا أكون عبداً شكوراً)، قول النبي عليه السلام.
وشكر التكليف ما وقع به الأمر مثل: (واشكروا لله)، (واشكروا نعمة الله).
وبين الشكرين ما بين الشكورين لمن غفل عن الله.
وداود "منصوصٌ" على خلافته والإمامة. وغيره ليس كذلك.)
و لا مطلوب منه جزاء؟
لكنّ الظاهر هو الثاني، لأنّه تعالى ذكر أنّه آتى داود فضلا، و لم يذكر أنّه أعطاه ما أعطاه جزاء لعمله. و لم يطلب منه جزاء على ذلك‏ الفضل.
و لمّا طلب الشكر على ذلك بالعمل، طلبه من آله، لا منه، كما قال تعالى، «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً»، لأنّ النعمة على الأسلاف نعمة على الأخلاف فهو في حق داود عليه السلام عطاء هبة و إفضال، و في حق آله لطلب المعاوضة.
(و قال تعالى) بعد ما طلب من آل داود الشكر بالعمل، ("وَ قَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ". )
فأورد «الشكور» (ببنية المبالغة)- فانّ صيغة «فعول» هاهنا للمبالغة في فاعل- (ليعم) و يشمل (شكر التكليف)، الذي كلّف الله سبحانه به عباده، (و شكر التبرع)، الذي لم يكلّفهم به، لكنّهم أتوا به تبرّعا فانّ المبالغة في الشكر إنّما هو بالإتيان بقسميه كليهم.
(فشكر التبرع ) ما يشير إليه قوله، («أ فلا أكون عبدا شكورا»- قول النبي صلّى الله عليه و سلّم) حيث قام الليل كله حتّى تورّمت قدماه، فقيل له، «اقصر، فقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك‏[203] و ما تأخّر».
فقال‏ صلّى الله عليه و سلّم ذلك.
(و شكر التكليف ما وقع به الامر) التكليفي الإلهي، مثل قوله تعالى، (وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ)، و قوله تعالى، ("وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ الله")، و غير ذلك ممّا ورد في الكتاب و السنّة.
(و بين الشكرين) شكر التكليف و شكر التبرّع- من التفاوت و التفاضل (ما بين الشكورين) الشكور المكلّف و الشكور المتبرّع، فكما أن الشكور المتبرّع أفضل من الشكور المكلّف، فكذلك شكر التبرّع أفضل من شكر التكليف. و ذلك ظاهر جلى (لمن عقل) و فهم الأمور (من الله)، لا من نظره العقلي.
(و داود عليه السلام منصوص على خلافته) عن الله سبحانه في الحكم على الخليقة و التصرّف فيهم، كما قال عزّ من قائل، «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»، على صورة التفويض، مخاطبا إيّاه، آمرا له بالحكم، )و الامامة(، أي و كذلك هو عليه السلام منصوص على إمامته فانّ الامامة بالنسبة إلى الخلافة كالولاية بالنسبة إلى النبوّة، فكل خليفة إمام من غير عكس.
)و غيره ( ، أي غير داود، كآدم و الخليل عليهم السلام، )ليس كذلك (منصوصا على خلافته و إمامته معا: أمّا الخليل عليه السلام، فلأنّه تعالى قال في حقّه، «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»، و لم يقل، «خليفة».
و إن كنّا نعلم أنّ الامامة هاهنا خلافة، و لكن ما هي مثلها لو ذكرها بأخصّ أسمائها، أعنى «الخلافة».
و أمّا آدم عليه السلام، فلأنّه و إن نصّ على خلافته، فليس ما نصّ مثل التنصيص على خلافة داود عليه السلام فانّه تعالى قال للملائكة، «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، و لم يقل، «إنّى جاعل آدم خليفة».
و ما ذكر في قصّته بعد ذلك لا يدلّ على أنّه عين ذلك الخليفة الذي نصّ الله عليه.
و أيضا لم يصرّح سبحانه بتحكيمه في الناس.
فيجوز أن يكون خلافة في الأرض أن يخلف فيها من كان قبله، لا أنّه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم- و إن كان الأمر في نفسه كذلك- إذ ليس كلامنا إلّا في التنصيص عليه و التصريح به.
و قال بعضهم قدّست أسرارهم، إنّ في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، احتمالا في حق آدم عليه السلام من كونه أوّل الخلفاء و أباهم.
و لكنّ الاحتمال متناول غيره من أولاده: و قرينة الحال تدلّ على أنّ الاحتمال في حق داود أرجح، لأنّ آدم ما أفسد و لا سفك الدماء.
و محاجّة الملائكة مع الربّ تعالى في جواب قوله، «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، بقولهم، «أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ»، مرجّحة للاحتمال في حق داود، لأنّه سفك دماء أعداء الله من الكفرة كثيرا وقتل جالوت وأفسد ملكه وجعل كما قال تعالى حكاية عن بلقيس،
"إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ".
فظهر من داود عليه السلام هذا النوع من الفساد في الكفّار، الذين أمر الله داود و أولى العزم من خلفائه بإفساد ملكهم و حالهم، لأنّه عين إصلاح الملك و الدين.
فصحّت في حق داود عليه السلام ما قالت الملائكة.
فلقائل أن يقول : المراد على التعيين من قوله، «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، هو داود عليه السلام.
و في كتاب الفكوك قدّس سرّ من أفاده: «و من جملة ما رجّحت به خلافة داود على خلافة آدم عليهما السلام أنّ حظّ آدم من الأسماء- على ما صرّح به- كان علمه بها.
و أمّا داود، فتحقّق بها علما و عملا و حال:
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن أعطي الخلافة فقد أعطي التحكم والتصرف في العالم "ترجيع الجبال معهُ بالتسبيح والطير" تؤذن بالموافقة. فموافقة الإنسان له أولى.)
فأمّا علما ...، فلأنّه لا يخفى على الألبّاء أنّ أعظم الشروط في التحقّق بمرتبة الخلافة و أوّلها و أولاها هو العلم.
و أمّا تحقّقه من حيث العمل، فاخبار النبي صلّى الله عليه و سلّم عنه أنّه كان أعبد أهل الأرض. و أمّا تحقّقه بها أعنى بالأسماء- حالا، فكون الحق سبحانه قدّر له تزويج تسع و تسعين زوجة ضرب مثال للأسماء الحسنى ...
(و أيضا فانّه) ، يعنى آدم، حين أعطى الخلافة لم يكن ثمّة من الناس من يحكم عليه.
و أمّا الجنّ، فلم يكن إلّا إبليس، الذي أبى أن يسجد له أوّلا، و أزلّه و زوجته و دلّاهما بغرور ثانيا .
بخلاف داود وسليمان عليهما السلام: فانّه نفذ حكمهما في الجنّ والانس وغيرهما من الموجودات.
فكانت الجنّ و الشياطين محكومين لهما بين «بنّاء» و غوّاص و آخرين مقرّنين في الأصفاد.
"فشتّان بين الأمرين!".
(و من أعطى الخلافة) العامّة عن الله سبحانه، (فقد أعطى التحكم و التصرف في العالم) كلّه.
و داود عليه السلام من هذا القبيل: أعطى التصرّف في أنواع الموجودات، كما أشار إليه رضى الله عنه بقوله، ترجيع الجبال و ترديدها أصواتها معه،
أي مع داود عليه السلام، (بالتسبيح)، بحيث كلّما كان يرجّع التسبيح و يردّد صوته به، كانت الجبال ترجّعه و تردّد أصواتها به.
وكذلك ترجيع الطير معه بالتسبيح (يؤذن بالموافقة)، أي بموافقة هذين النوعين و انقيادهما له.
والوجه في تخصيص هذين النوعين بالموافقة و المتابعة هو أنّهما أشدّ أنواع الأكوان ترفّعا على الإنسان و علوّا عليه و إباء لقبول الإذعان له، لغلبة القساوة و الخفّة فيهما.
وبيّن أنّ كلّا منهما يمنع الانقياد وقبول التصرّف:
أمّا الأوّل، فلإفراطها في طرف الكثافة العاصية عن القبول.
وأمّا الثاني، فلتفريطه في طرف الخفّة و عدم استقراره بين يدي الفاعل عند التأثّر و القبول.
وبيّن أنّ الطرفين، مع غلوّ إبائهما وعلوّ هما على الإنسان، إذا دخلا في انقياده وموافقته، (فموافقة الإنسان) الذي هو ممّا في أواسطهما ممّا يقرب إلى حدّ الاعتدال (له) ، أي لداود، (أولى) وأحرى، ضرورة أنّ رقيقة نسبته إلى الإنسان أوثق وأظهر.
ولا يخفى على الواقف المستبصر أنّ تأويل الجبال والطير هاهنا بـ "العظام" و "القوى" لا يوافق كمال خلافة داود عليه السلام وانقياد البرية له و تسلّطه عليها.
ثمّ هذا المعنى وإن كان له وجه في حدّه عند الكلام على الحكم الأنفسية، لكن لا يوافق المقصود، فانّه في صدد تسخير الأكوان الآفاقية له على ما هو من خصائص خلافته عليه السلام.
.

YsddzTmlby4

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!