موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح الجامي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرحمن الجامي

فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية


06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .شرح الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فداء نبي ذبح لقربان ... و أين ثؤاج الكبش من نوس إنسان)
الفص الإسحاقي
فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية
وصف رضي الله عنه هذه الحكمة بالحقية ، لأن إسحاق جعل ما رآه أبوه عليهما السلام في حضرة الخيال حقا ثابتا في الحس حيث استسلم للذبح ولهذا اختصت به .
ثم إنه رضي الله عنه أورد هذه الحكمة تلوا للحكمة المهيمية لأن تلحكمة المهيمية نسبة إلى المهيمين الذين هم من الأرواح المجردة .
وهذه الحكمة متعلقة بعالم المثال الذي هو تلو عالم الأرواح .
(فداء نبي) بتقديم النون مصدر مضاف إلى مفعوله يقال : فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه وهو مبتدأ خبره (ذبح ذبح) الذبح الأول بفتح الذات مصدر .
والثاني بكسرها ما يتهيأ للذبح.
وجعل بعضهم الفداء بمعنى المفدی مبتدأ ، والذبح بكسر الذال مضاف إلى مثله خبره. وأراد بالذبح المضاف الكبش و بالمضاف إليه إسحاق عليه السلام.
وعلى التقديرين فالجملة إما خبرية أو استفهامية بتقدير الاستفهام للتعجب .
وذهب بعضهم إلى أن الفداء خبر مبتدأ محذوف، أي نفسي فداء نبي.
وقوله : ذبح بكسر الذال فيهما ورفع الأول خبر بعد خبر .
وقوله القربان : أي لأن يتقرب به إلى الله تعالی متعلق.
إما الذبح إن كان مذكورا بصريحه أو بما يفهم من الذبح الأول أو الثاني.
(وأين ثواج الكبش) الثواج : بضم الثاء المثلثة صوت الغنم (من نوس إنسان) والنوس صوت سوق الإبل يقال : نست الإبل ، أي سقته يعني این مرتبة الثواج الذي هو من خواص الكبش، وهو صوت طبيعي له عن مرتبة النوس الذي هو من خواص الإنسان.
ومن جملته الحد المشتمل على ألفاظ فصيحة ومعاني دقيقة والحان لطيفة ، فكما بين خاصيتهما من التفاوت الظاهر فكذلك بين ذاتيهما فأين الكبش من الإنسان فكيف يكون فداء له. والفداء ينبغي أن يساوي المفدى عنه .
اعلم أنه ذهب إلى كون الذبيح إسحاق عليه السلام طائفة كبيرة من السلف واليهود قاطبة وذهب الأكثرون إلى أنه إسماعيل.
والشيخ رضي الله عنه فيما ذهب إليه معذور فإنه بمقتضی مبشرته مأمور.
قال الشيخ رضي الله عنه : (
وعظمه الله العظيم عناية ... بنا أو به لا أدر من أي ميزان
ولا شك أن البدن أعظم قيمة ... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ... شخيص كبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب ... وفاء لإرباح ونقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد وبعده ... نبات على قدر يكون وأوزان)
(وعظمه)، أي الكيش (الله العظيم) حيث جعله فداء لنبي عظيم عناية به ، أي الكبش (أو بنا) معشر بني آدم ويدخل فيه النبي دخولا أوئية (لا أدر) بحذف الياء اكتفاء بالكسر.
و هكذا في النسخة المقروءة على الشيخ رضي الله عنه وفي بعض النسخ:
لم أدر من أي ميزان أي لم يذر (من أي ميزان) وقع من ميزان عناية الله بنا أو من ميزان عنايته بالكبش وإنما جعل عنايته بالكبش وإنما جعل عنايته سبحانه میزان أو بعنايته تعرف مقادیر الأشياء ومراتبها كما يعرف بالميزان أوزانه (ولا شك أن البدن) جمع بدنة بالفتحنين وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة (أعظم) من الكبش (قيمة ولهذا صارت عوضا عن سبعة من الضحاي (وقد نزلت) ، أي انحطت هي بل ذبحه (عن ذبح كبش القربان)، لأنه جعل فداء عن نبي دون البدن وبه تقرب إلى الحق دونه
(فيا ليت شعري كيف نابت بذاته شخيص إلى كبش) ، إنما صغره مع وصفه بالعظم إشارة إلى حقارته بالنسبة إلى المندي عنه الذي عبر عنه بقوله : (عن خليقة رحمن) يعني إسحاق عليه السلام.
ولما استغرب رضي الله عنه في الأبيات السابقة جعله فداء لنبي رفيع القدر لعدم المناسبة بينهما أراد أن يدفع ذلك الاستغراب فقال : (ألم تدر أن الأمر، أي أمر الوجود فيه)، أي في ذلك الأمر (مرتب)، أي واقع علی ترتیب خاص (وفاء)، أي كمال وتمامية لبعض الأمور الموجودة (لأرباح) : أي لأجل كسب ربح الشرف فإن الأرباح بكسر الهمزة كسب الريح يقال : تجارة مربحة، أي كاسبة الربح (ونقض) و عدم تمامية لبعض آخر منه (بخسران) ، أي بخسران ذلك الكسب.
والحاصل أن بين الموجودات تفاوتا في الشرف والخسة فقوله : مرتب، خبر أن وقوله : وفاء مع ما عطف عليه فاعل له أو هو مبتدأ و مرتب خبره.
والجملة خبر و تقول : معناه أن أمر الشرف والخسة فيه ، أي في الكبش مرتب، أي واقع في مرتبة خاصة فيها وفاء وتمامية لكسب ربح انشر في بالنسبة إلى بعض وهو الأناسي الحيوانيون، وعدم تمامية بخسران ذلك الكسب بالنسبة إلى بعض آخر وهو النبات والجماد فإنهما أشرف من الحيوان الذي من جملته الكبش.
ثم شرع رضي الله عنه في بيان مرتبته بقوله : (فلا خلق) من المولدات (أعلى من جماد)، فإنها بأسرها مفطورة على معرفة الله كشف و شهودة بحسب الذات، وأعلاها في هذه المعرفة الذاتية الفطرية الجماد.
فإنه ليس فيه تغير أصلا عن فطرته الأصلية يدل على ذلك كمال انقياده الله تعالى وثباته تحت تصرفاته (وبعده)، أي بعد الجماد و دونه (نبات على قدر) منوع .
(يكون) بحسب نوعه لظهور قوة النمو فيه (وأوزان)، أي أقدار معينة بتعيين صنفي أو شخصي بحسب أصنافه وأشخاصة في أن الوزن أيضا هو القدر والمرتبة.
يقال : فلان لا وزن له عند السلطان، أي لا قدر له ولا قيمة عنده، وإنما كان النبات بعد الجماد و دونه ، لأنه زاد فيه على أصل الفطرة الجمادية النمو، وذلك نوع نصرف طبيعي يضاف إليه ، فبقدر هذا التصرف والإضافة تنص معرفته من معرفة الجماد، فإنه إذا كان صاحب معرفة وشهود ولا يبعد أن يصير شنود هذا التصرف والإضافة حجابا على شهوده الحق تعالى
قال الشيخ رضي الله عنه : (
وذو الحس بعد النبت والكل عارف ... بخلاف كشفا وإيضاح برهان
وأما المسمى آدما فمقيد ... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل والمحقق مثلنا ... لأنا وإياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ... يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء في أرض عميان)
(وذو الحس) يعني الحيوان (بعد النبت)، ودونه لزيادة الحس والحركة الإرادية فيه وإضافتهما إليه فبقدرهما تنقص معرفه الما عرفت في النبات
(والكل) ، أي كل من الجماد والنبات والحيوان (عارف بخلاقه )وموجده (كشفا)، أي معرفة كشف (وإيضاح برهان) كشفي لا برهان فطري فإن ذلك من خواص الإنسان .
وحمل الكلام على أن كون الكل عارفا بخلافه؟ معلوم لن «كشفا و إيضاح برهان» لا يلائم البيت الآتي أعني قوئه :
(وأما المسمى آدم) الذي ليس له من الآدمية إلا اسم وهو الإنسان الحيوان (فمقید بعقل وفكر) مشوب بالوهم إن كان من أهل النقر.
(أو قلادة إيمان) إن كان من أهل التقليد الإيماني وتنقص معرفته عن معرفة سائر الحيوان بزيادة الآثار النفسية والتصرفات الغرضية من الفكر والتقليد و غيرها بنقص معرفته من سائر الحيوانات.
فظهر من هذا أن الكبش إن كان أدنى وأخس من النبات والجماد لكنه أعلى وأشرف من الأناسي الحيوانيين، فهذا العلو والشرف يستاهل أن يكون فداء لإنسان شریف.
(بذا)، أي بما ذكرناه من بیان مراتب الموجودات (قال سهل)، يعني سهل بن عبد الله التستري قدس الله سره (والمحقق) كانن من كان (مثلنا)، أي مثل قولنا بهذ (فإنا) يعني سهلا ونفسه (وإياهم)..
يعني سائر المحققين المماثلين لهما في هذا القول (بمنزل إحسان) و مقام مشاهدة فيعرف ويشاهد الأمور على ما هي عليه (فمن شهد الأمر الذي قد شهدته يقول بقولي في خفاء وإعلان)، أي في السر والعلانية.
(ولا تلتفت قولا يخالف قولنا) من أقوال المحجوبين من أهل النظر والمقلدين لهم وأصحاب الظواهر الذين لا علم لهم بالبواطن (ولا تبذر السمراء) يعني بيان الحقائق الذي هو غذاء القلب والروح كالسمراء يعني الحنطة للجسم (في أرض عميان) يعني في أرض استعداد، وهؤلاء الطوائف الذين لا يبصرون الحق ولا يشاهدونه في جميع الأشياء
قال الشيخ رضي الله عنه : (
هم الصم والبكم الذين أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن
اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك» والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها.
وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر.)
(هم) أي هؤلاء العميان (الصم) عن استماع الحق (والبكم) عن الإقرار به (الذين أتي بهما)، أي ذكرهم جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة (لأسماعنا ) النبي (المعصوم) عن تهمة الكذب صلى الله عليه وسلم (في نص قرآن) يريد قوله تعالى : "صم بكم عمى فهم لا يرجعون" ( البقرة : 18).
(اعلم أيدنا الله وإياك) لإدراك الحقائق على ما هي عليه (أن إبراهيم الخليل) على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال لابنه إسحاق علیه السلام "إني أرى في المنام أني أذبحك " [الصافات : 102] .
(والمنام حضرة الخيال) المقيد الذي من شأنه أن تعبر عن الصورة الممثلة فيها إلى المعاني المقصودة منه (فلم يعبرها) إبراهيم عليه السلام، أي لم يتجاوزها إلى المقصود من الصور المرئية فيها لما تعود به من الأخذ عن عالم المثال المضئق، وكلما أخذ منه لا بد أن يكون حقا مطابقة للواقع من غير تعبير . فلما شاهد عليه السلام صورة ذبح ابنه فيه ظن أنه مأمور به من غير تعبير و تأويل فتصدى له (وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام)، لمناسبة واقعة بينهما وهي الاستسلام والانقياد فكان مراد الله سبحانه به الكبش لابن إبراهيم (فصدق إبراهيم الرؤيا)، أي حقق الصورة المرئية وجعلها صادقة مطابقة للصورة الحسية الخارجية بالإقدام على الذبح و التعرض لمقدماته.
(ففداه) ، أي ابن إبراهيم (ربه) لينقذه من الذبح.
وذكر الفداء ههنا إنما هو من جهة وهم إبراهيم عليه السلام وظنه وإلا لم يكن فداء حقيقة (بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله وهو) : أي إبراهيم عليه السلام (لا يشعر) بذلك التعبير لما أخفاء الله سبحانه عليه لحكمة تقتضية .
والتفصيل في هذا المقام على ما يفهم من كلام الشيخ رضي الله عنه وشارحي كلامه.
أن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه كان قبل هذا المقام معودا بالأخذ عن عالم المثال الذي من شأنه أن تقلا بق الصور المرنية فيه الصور الظاهرة في الحس من غير اختلال، فلا حاجة فيه الى التعبير.
فلما تحقق الغناء في الله بالكلية واقتضى ذلك الفناء في الله عن هذا المشهد بأن يشاهد الأمور في مراتب هي أعلى مراتب المثال أو في نفسه وقلبه من الوجه الخاص من غير توسط أمر آخر، أراد الله سبحانه أن يظهر في الحس صورة ليحققه بالغناء في ذبح الكبش وأن يرقيه عن هذا المشهد فأراه في المنام أن يذبح الكبش .
ولكن في صورة ذبح ابنه وستر عليه المقصود منه، وأوقع في وهمه أن ابنه هو المقصود بعينه بناء على ما اعتاده من الأخذ عن عالم المثال.
فاعتقد صدق ما وقع في وهمه من ذبح ابنه فتصدى له وانقاد له ابنه، فظهر سر كمان استسلامهما وانقيادهما الله تعالى.
فجعل سبحانه الذبح العظيم فداء لابنه وأنقذه من الذبح، وما كان مراد الله من منامه وهو ذبح الكبش لنكون صورة حسية تتحقق إبراهيم بالفناء فيه وحصل له الترفي عن مشهده المعتاد، فإن الصورة المرنية لم تكن من عالم المثال بل فاض هذا المعنى عليه من مرتبة أخرى فوق عالم المثاني ، وانبعث من قلبه و صورته متخيلة بتلك الصورة، وعلم ذلك الترقي أيضا حيث وقع منه ذبح الكبش لا ذبح ابنه . ولا يخفى على المنصف أن ذلك بيان لحسن تربية الله سبحانه إبراهيم الخليل عليه السلام وليس فيه شائبة سوء أدب من الشيخ رضي الله عنه بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام، وكتب بعض من اشتهر بالفضل بخطه على الهامش في هذا المقام.
هذا كلام زخرفة الشيخ ولا أراه حقا بل كنه صادر عن سوء أدب أحسن محامله أن يقال أنه صدر عنه في حال كونه مغلوبا.
والحق في ذلك والله أعلم أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام أنه مباشر للذبح بمعنى أنه أضجع ابنه وأخذ المدية وأمرها على حلقومه ليقطعه ولكن لم يحصل القطع وهذا هو المراد بقوله : "إني أرى في المنام أني أذبحك". أي رأيت أني مشتغل بأفعال الذبح ولا يلزم منه تمامه، وقد وقع منه في اليقظة ما رآه في المنام ووطن هو وابنه للانقياد لذتك.
فلما تم العزم ووجد مقدمات الذبح حصل المقصود من الابتلاء فتداركه الله برحمته بإعطاء الذبح ليذبح فداء له فوقع ما رآه بعينه ، ولم تكن رؤياه وهما وخيالا حاشا منصب الخلة عن مثل هذا الخطأ والله ولي التوفيق.
والعجب من هذا الفاضل بل من كل معترض علي الشيخ رضي الله عنه في مثل هذا الكتاب، فإن ما ذكره الشيخ من مفتتح الكتاب من مبشرة أريها .
وإن ما أورده في هذا الكتاب ما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان إن كان مسلما عنده .
فلا مجال للاعتراض فإن ذلك يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يكن مسلما عنده بل أعتقد أن ذلك افتراء وكذب أو سهو وخطأ .
فالاعتراض عليه ذاك لا هذا وكيف لا يسلم ذلك من اطلع على أحواله ومقاماته و مكاشفاته مما أدرجه في هذا الكتاب وسائر مصنفاته .
فالتجلي الصوري في حضرة الخيال يحتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة .
(والتجلي الصوري في حضرة الخيال) المعبد (يحتاج إلى علم آخر) يسمى علم التعبير (يدرك به ما أراد الله تعالی بتلك الصورة) الظاهرة في حضرة الخيال بادائه، وهو معرفة المناسبات
التي بين الصور ومعانيها، ومعرفة مرآة النفوس التي تظهر تلك الصور في خيالاتهم، ومعرفة الأزمنة والأمكنة و غيرها مما له مدخل في التعبير، فإنه قد ينقلب حكم الصورة الواحدة بالنسبة إلى أشخاص مختلفة المراتب بل بالنسبة إلى شخص واحد في زمانین و مكانین .
وبكمال هذه المعرفة ونقصانها يتفاوت حال المعبرين في الإصابة والخطأ في التعبير
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل. وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه:
«أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» [الصافات : 105] )
(ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا: أصبت بعضا وأخطأت بعضا فسأله)، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم و (أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل ) صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أبو هريرة يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل فأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعد فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا .
فقال أبو بكر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي لتدعني فأعبرها ، فقال : أعبرها؟
فقال : أما الظلة فظلة الإسلام وأما ما ينطن من السمن والعسل فهو القرآن لينة وحلاوته .
وأما المستكثر والمستقل فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فهو الحق الذي أنت به تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به بعد رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر بعده فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر بعده فينقطع به ثم يوصل له فيعلو.
أي رسول الله لا تحدثني أصبت أم أخطأت فقال النبي :
أصبت بعضا وأخطأت بعضا.
فقال : أقسمت بأبي أنت وأمي يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت.
فقال النبي : لا تقسم. " هذا حديث متفق على صحته
وقال الله لإبراهيم عليه السلام حين ناده " أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " [الصافات : 104 - 105]. أي جعلت ظاهرها مطابقا للواقع بالاقدام على مقدماته.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما قال له صدقت في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير. ولذلك قال العزيز «إن كنتم للرؤيا تعبرون».
ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر. فكانت البقر سنين في المحل والخصب. فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه،
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند الله. فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام.
فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر.
ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبين» أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟ )
(وما قال) الله تعالی (له) أي لإبراهيم عليه السلام (قد صدقت في الرؤيا) بالتخفيف، أي ما قال له : صدقت في رؤياك حيث حكمت (أنه)، أي المرئي فيها هو (ابنك) حقيقة (لأنه ما عبرها) بالتخفيف أو التشديد (بل أخذ بظاهر ما رأى)، أي من غير تعبير (والرؤيا تطلب التعبير) في أكثر الصور .
فلا ينبغي أن تحمل على ظهرها على سبيل القطع (ولذلك)، أي اطلب الرؤيا بالتعبير (قال العزيز : إن كنتم للرؤيا تعبرون ومعنى التعبير)، بل معنی العبور اللازم له (الجواز من صورة ما رأى إلى أمر آخر) هو المراد بها.
(فكانت البقر) العجاف التي راها العزيز في منامه (سنين في المحل)، أي القحط (و) الغلاء والبقر السمان سنين (في الخصب)، أي السعة (فلو صدق في الرؤيا)، أي لو كان إبراهيم عليه السلام صادقا فيما حكم به أن المرئي في رؤياه ابنه (لذبح ابنه) لأنه رأى أنه كان يذبحه .
(وإنما صدق الرؤيا) ، أي جعلها صادقة (في أن ذلك المرئي عين ولده) فتصدى لذبحه (وما كان) ذلك المرئي (عند الله إلا الذبح العظيم) متمثل (في صورة ولده ففداه)، أي الحق سبحانه فدى ولده بالذبح العظيم.
وإنما سماه فداء (لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام) من أن المرئي هو ابنه (ما هو)، أي ليس هو (فداء في نفس الأمر عند الله فصور الحس)، أي أدرك الحس (الذبح) بالكسر أي صورته المحسوسة حين ذبحه أو صور الحل.
أي حاسة البصر الذبح في الحس المشترك (وصور الخيال) قبل الذبح في المنام (ابن إبراهيم فلو رأي) إبراهيم (الكبش) بصورته ( في الخيال لعبر) الكبش غالب (بابنه أو بأمر آخر) يكون مرادا بتلك الصورة .""أي أن إبراهيم عليه السلام سيعبر الرؤيا بأن الكبش في الرؤيا فداء لابنه الذي كان يتمناه ويطلبه من الله""
(ثم قال الله تعالى إن هذا)، اي تصوير الكبش بصورة ابنه "لهو البلاء المبين" .
(أي الاختبار الظاهر) يقال : بلوته، أي اختبرته (تعين الاختبار في العلم)، فإن الحق سبحانه أختبر إبراهيم عليه السلام أنه (هل تعلم ما يقتضيه) غالبة (موطن التعبير) من الرؤي (أم لا) علم و إنما اخنبره
قال الشيخ رضي الله عنه : (لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤيا لهذا السبب كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي»
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا. ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما. فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب.)
(لأنه تعالى بعلم أن موطن الخيال). إذا تمثل فيه معنى (يطلب التعبير) غالب (فغفل) إبراهيم عليه السلام عما تستحقه مواطن الخيال (فما وفي الموطن حقه وصدق الرؤيا لهذا السبب، كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند) في الحديث .
(سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال من رآني) على ما أنا عليه من الحلية (في النوم) حقيقة (فقد رآني في اليقظة).
أي حكما أي لرؤيتي في النوم حكم رؤيتي في اليقظة فيما سيأتي (فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي) . رواه البخاري وغيره
وإنما لم يتمثل الشيطان بصورته عليه السلام، لأنه مظهر لاسم الهادي ومبعوث للهداية والشيطان مظهر للاسم المضل ومخلوق للإضلال.
فلو كان له تمكن من التمثال بصورته عليه الصلاة والسلام لاختل أمر الهداية.
فإن قلت : لا يلزم من عدم تمكن الشيطان من التمثال بصورته عليه السلام أن تكون صورته المثالية عينه عليه السلام لا غيره لجواز أن يتمثل بصورته ملك أو روح أو إنسان أو بمعنى من المعاني كشرعه وسننه و غير ذلك مما فيه نسبة إليه في معنى الهداية وغيرها.
قلت: يمكن أن تكون سنة الله تعالى جارية بأن لا يتمثل بصورته وحلبته عليه السلام شيء أصلا تعظيما لشأنه ويكون تخصيص الشيطان بالذكر الاهتمام بنفي تمكنه من التمثل بصورته عليه السلام لما لا يخفى وجهه .
(فرآه تقي بن مخلد)، أي النبي صلى الله عليه وسلم ( وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه) بعدما استيقظ (فاستقاء فقاء لبنا، ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما ) تمثل بصورة اللبن فإن اللبن كما أنه يغذي الأبدان ويربها من أول الفطرة إلى آخرها كذلك العلم يغذي الأرواح في جميع أحواله (فحرمه) إليه ، أي تقي بن مخلد (علما كثيرا على قدر ما شرب) ثم قاء من اللبن فكان الأحرى بحاله أن يعبر اللبن بالعلم ولا يستقيء وإن أورث له ذلك زيادة طمأنينة بصدق ذلك الخبر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر». قيل ما أولته يا رسول الله؟
قال العلم، وما تركه لبنا على صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضيه من التعبير. وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه. كل روح بهذه المثابة فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيء.
فهو محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة)
(ألا ترى أن رسول الله و أتي في المنام بقدح لبن قال: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر قيل : ما أولته یا رسول الله قال : أولته العلم، وما تركه لبنا على صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضي من التعبير).
ولما ذهب الكلام إلى ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أراد أن يحقق أن المرئي حينئذ ما هو؟
فقال : (وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس) .
عند حياته صلى الله عليه وسلم : (إنها في المدينة مدفونة).
فقوله : إنه بكسر الهمزة على أن تكون مع اسمها و خبرها خبرا لأن المفتوحة أو بفتحها على أن تكون تكرارا لها تبعد وقع بينها وبين خبره (و) علم أيض (أن صورة روحه) ، أي روح النبي صلى الله عليه وسلم .
(ولطيفته) الروحانية (ما شاهدها أحد) بل شاهد أحد الصورة الروحانية مطلقة (من أحد ولا من نفسه) فإنها من المجردات التي لیس من شأنها أن تشاهد بالحس بل إنما يدركها العقل باثارها.
(كل روح) من الأرواح (بهذه المثابة) أي ليس من شأنه أن يشاهد الحسن .
(فيتجسد) أي يتمثل (له)، أي للرائي (روح النبي) في المنام (بصورة جسده) المطهر المكرم حال كون تنك الصورة (كما مات عليها) ، أي مماثلة للصورة التي مات عنها النبي صلى الله عليه وسلم (لا يخرم) بالخاء المعجمة والراء فمهملة من الخرم وهو القطع.
أي لا يقطع (منه) أي مما مات عليه (شيئا فهو) أي ما رآه في المنام (محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه) الظاهر (في صورة جسدية)، أي كالجسمانيات
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصما من الله في حق الرائي.
ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان فإن أعصاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها. وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم عليه السلام وتقي بن مخلد. ولما كان للرؤيا هذان الوجهان.
وعلمنا الله: فيما فعل بإبراهيم وما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل)
مثالية فإن الجسد في أصطلاح هذه الطائفة يطلق غالبة على الصورة المثالية (تشبه) الصورة (المدفونة) في البدنية (لا يتمكن الشيطان أن يتصور)، أي يتمثل (بصورة جسده) المثالي المماثل لجسمه المطهر ( صلى الله عليه وسلم عصمة من الله) تعالى (في حق الرائي) أن يتلبس الأمر .
(ولهذا من رأه بهذه الصورة) الجسدية المشابهة لصورته المدفونة في المدينة (يأخذ جميع ما يأمره به أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه) عليه السلام (في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون، أي يوجب (منه اللفظ الدال عليه).
أي عني ما يأخذه منه (من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان)، أي أو أي شيء كان من أقسام اللفظ بلا تعبير ولا تأویل (كأن أعطاه)، أي النبي صلى الله عليه وسلم و الرائي (شيئا) في المنام (فإن ذلك الشيء) المعطى (هو الذي يدخله التعبير ) في بعض الصور (كأن خرج) ذلك الشيء (في الحس كما كان في الخيال) بعينه (فتلك الرؤيا لا تعبير لها وبهذا القدر) الذي هو قسم من الرؤيا حرم (وعليه اعتمد إبراهيم الخليل عليه السلام وتقي بن مخلد) مع أن رؤياهما لم تكن من هذا القسم الذي يطلب التعبير.
(ولما كان للرؤيا هذان الوجهان)، أي التعبير و عدمه (وعلمنا الله فيما فعل بإبراهيم) من إرائته الكبش بصورة إبنه و عدم اطلاعه على المراد منها أو وإعطائه الفدية وتمكنه من ذبحها ليعلم المراد اخر (وما قال له) من قوله : "يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " لا صدقت فيه (الأدب) يعني دب موطن الرؤيا وهو عدم القطع بظاهرها وتعبيرها بالمراد منه إذا دل دليل على عدم إرادة ظاهرها.
وكله الأمر فيها إلى الحق ليظهر على الرائي أن المراد بها إما ظاهرها بلا تعير أو أمر آخر يعبر به .
وإنما وقع تعليم ذلك الأدب (لما يعطيه مقام النبوة)، أي لأن يقام النبوة مع جلالة
قال الشيخ رضي الله عنه : (العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا.
وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء.
فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر)
قدرها ورفعة شأنها يعطى ذلك الأدب ويستدعيه فكيف مقام المتابعة التي دونها.
وقوله : (علمنا في رؤيتنا الحق تعالی) جواب لما أي لما كانت الرؤيا تحتمل وجهين التعبير وعدمه وعند ظهور الدليل على عدم إرادة ظاهرها تعین التعبير علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في موطن الرؤيا.
(في صورة بردها الدليل العقلي أن تعبير تلك الصورة بالحق المشروع) أي بالحكم الحق الثابت الذي شرعه الحق سبحانه .
(أما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو) ما يعبر في حته صورة الحق بالحق المشروع (هما) أي الرائي والمكان (معا) أو غير ذلك الزمان مثلا.
وكان الظاهر في العبارة أن يقال : أو في حقهما معا، وكأنه عدى إلى الضمير المرفوع بتأويل الجملة كما ذكرنا.
وذلك كما يروى أن بعض الصالحين رأى الحق في المنام في دهليز بيته فلطمه في وجهه، فعبر بأنك أخللت بالحكم الشرعي في أخذ دهليز بيتك .
ففحص عن ذلك فإذا هو وقف مسجد بيع بغصب (وإن لم يردها)، أي رؤية الحق (الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما ترى الحق في الآخرة) بتحوله في الصور . يشير إلى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم
"" أن أبا هريرة، أخبرهما: أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب»
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: «فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب» .
قالوا: لا.
قال: " فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة.
فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها.
فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه.

فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم.
فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل.
وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم ،.... الحديث "" رواه البخاري ومسلم وغيرهم
(سواء ) من غير فرق.
(فللواحد)، أي الحق المتجلي في مقام أحديته بالفيض الأقدس بصور الأعيان الثابتة واستعداداته (الرحمن) المتجلي عليها بالفيض المقدس لترتب آثارها عليه (في كل موطن) من المواطن (من الصور) جمع صورة (ما يخفي) کالروحانيات (وما هو ظاهر).

قال الشيخ رضي الله عنه : (
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر
إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر
ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر
يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها. وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. )

(فإذا قلت) مشيرا إلى ما رأيته من تلك الصور (هذا). المرئي هو (الحق) تعالی (قد تك صادقا) باعتبار اتحاد الظاهر بالمظهر (وإن قلت) هذا المرئي (أمرا آخر) غير الحق (أنت عابر)، أي متجاوز من جهة الوحدة بين الظاهر والمظهر إلى جهة الكثرة والمغايرة بينهما.
(وما حكمه) الذي هو نجليه الوجودي منحصرة (في موطن دون موطن)، ولكنه سبحانه (بالحق)، أي بتجليه بالوجود الحق (للخلق سافر)، أي كاشف للخلق ومظهر إياهم بکشف حجاب الخفاء عن وجوه أعيانهم الثابتة (إذا ما تجلى للعيون).
الحسية أو الحالية التي من شأنها الاقتصار على التشبيه في صورة حسية أو مثالية (ترده عقول) ناقصة مقتصرة على التنزيه غير مهتدية بنور الكشف والمشاهدة إلى الجمع بين التنزيه والتشبيه وذلك الرد إنما هو (ببرهان) أي بسبب برهان (علیه تثابر) وتواظب تلك العقول ما ينتج تنزيهه تعالى عما يثني عن التشبيه.

(ويقبل)، أي تجليه للعقول (في مجلی العقول)، أي في مجلی ترتضيه العقول وهو مقام التنزيه (و) يقبل للخيال (في) المجلی (الذي يسمى خيالا) فما تقبله العقول برده الخيال وما يقبله الخيال ترده العقول (و) الشهود (الصحيح النواظر)، أي شهود النواظر المشار إليها بقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"[القيامة : 22 - 23 ] التي تشاهد الحق سبحانه في المجالي كلها حسية كانت،أو مثالية أو عقلية.
(يقول أبو يزيد رضي الله عنه في هذا المقام)، أي مقام هذا الكشف التام والشهود العام (لو أن العرش وما حواه)، أي من السماوات والأرضين وما فيهم (مائة ألف ألف مرة) وقع (في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس)، أي العارف وقلبه (به) لحقارتها "لصغرها" بالنسبة إلى سعة قلبه لأنها متناهية، وسعة القلب غير متناهية لأنه بإطلاقه مقابل لإطلاق الحق الغير المتناهي وليس للمتناهي قدر محسوس بالنسبة إلى غير المتناهي.
(وهذا) الذي ذكرناه من قول أبي يزيد (وسع أبي يزيد)، أي بيان وسعه و تصویر سعة قلبه بل سعة قلب العارف مطلقا بالنظر (في عالم الأجسام) وقياسه إليه تقريبا إلى فهم المحجوبين ل بالقياس إلى الموجودات كلها فإن لها أيضا هذه النسبة إلى سعة قلبه بل قلب كل عارف ولهذا قال رضي الله عنه مترقيا عما قاله أبو يزيد البسطامي.


قال الشيخ رضي الله عنه : (بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه.
فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى.
وقد قال ذلك أبو يزيد. ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا: يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع )
(بل أقول لو أن ما لا يتناهی وجوده) روحانيا كان أو جسمانيا مما وجد ويوجد إلى الأبد.
فإن الموجودات بالفعل في كل زمان متناهية (يقدر)، أي يفرض (انتهاء وجوده) ولو كان مستحيلا وإنما قدر ذلك لأن غير المتناهي لا يحاط (مع العين الموجودة له)، أي التي هي واسطة في اتحاده وهي الحق المخلوق به المشار إليه بقوله تعالى؟ "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" [الحجر : 85] وقع (في زاوية من زوايا القلب العارف) سواء كان أبا يزيد أم غيره .
(ما أحس بذلك) حال كونه حاصل (في علمه) منطويا فيما بين معلوماته ونبه رضي الله عنه بهذا القيد إلى أن المراد بعدم الإحساس به أن لا يكون له قدر محسوس لاتفي العلم .
ثم استدل رضي الله عنه على ما قال بقوله (فإنه قد ثبت ) بما قال تعالى : "لا يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن".
"أن القلب وسع الحق" وذلك الاستعداده وتجلياته الذاتية والأسمائية الغير المتناهية واحدا بعد واحد (ومع ذلك لا بتصف بالري) .

أي لا يقنع بما يحصل له (فلو امتلأ)، أي القلب بالحق لانتهاء استعداداته وامتلائها بما يرد عليه من صور التجليات (ارتوی) و قنع بما يرد عليه ولكنه لا يمتلىء ولا يرتوي لأن كل تجلي يرد عليه يورث له استعدادا وتعطشة إلى تجل آخر.
وهكذا إلى غير النهاية فأين هو من الامتلاء والارتواء وإذا لم يمثل ولم يرتو فكل ما فرض متناهية لم يكن له قدر محسوس بالنسبة إلى استعداداتها الغير المتنامية. (وقد قال ذلك)، أي ما ذكر من عدم انصاف القلب بالري (أبو يزيد) في قوله : الرجل من بتحسي بحار السموات والأرض ولسانه خارج يلهث عطشا وقوله :
شربت الحب كأسا بعد كأس ….. فما نفد الشراب وما رويت
(ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا : يا خالق الأشياء)، يعني مقدر أعيانها الثابتة في العلم ومفيض الوجود على تلك الأعيان في العين (في نفسه)، أي في ذاته (أنت لما تخلقه جامع)، أما بحسب مرتبة الجمع فلكون الأعيان الثابتة والخارجية مندرجة مندمجة فيه بالقوة وأما بحسب مرتبة الفرق فلانه سرى في الكل وبهذه السراية يجمعها.

قال الشيخ رضي الله عنه : (
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟
بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام.
والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن لا تزال الهمة تحفظه. ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف )
(تخلق) علم وعينة (ما لا ينتهي كونه)، أي وجوده إلى حد لم يبق شيء (فيك) متعلق بتخلق، أي في ذاتك.
(فأنت الضيق) فإن خلقك إياه عبارة عن ظهورك بصورته وتفيدك بحسه والتقيد ضيق بالنسبة إلى الإطلاق (الواسع) لعدم تقيد ظهورك بشيء دون شيء يسع جميع المقيدات، وأنت الضيق باعتبار أحديتك الذاتية التي لا مجال للتنويه فيها أصلا ، الواسع باعتبار تجليك الأحدي الجمعي في الكل (لو أن ما قد خلق الله ما... لاح بقلبي فجره الساطع) فيه تقديم و تأخير.

أي لو أن ما قد خلق الله بقلبي متلبس به متمكن فيه ما لاح فجره أو خبر أن مقدر بقرينة اللاحق.
أي لو أن ما قد خلق الله بقلبي ما لاح بقلبي فجره، أي فجر ما خلق الله يعني نور وجوده الساطع عن مرتبة خفاء العدم (من وسع الحق) الغير المتناهي (فما ضاق عن ... خلق) متناه (فكيف الأمر)، أي أمر سعة القلب (یا سامع)

ثم ذكر رضي الله عنه مسألة غريبة يفهم منها سعة القلب و عدم ضيقه عن الخلق.فقال : (بالوهم بخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها وهذا هو الأمر العام)، أي الشامل كل إنسان والعار في الكامل المتصرف في الوجود مع اشتراكه مع الكل في ذلك فله خصوص مرتبة في الخلق وهو أنه (بخلق بهمته)، أي بتوجهه وتسليط نفسه بجميع قواه على فعل حين تحققه بالاسم الخالق.
(ما يكون له وجود من خارج محل الهمة) يعني النفس والخيال احترز بذلك عن خلق أصحاب السيمياء والشعوذة فإنهم يظهرون صورة لكن في خيالات الحاضرين وهي محل الهمة منهم خلاف العارف المتصرف فإنه يخلق بهمته ما يخلق من الصور قائما بنفسه كسائر الموجودات العينية.
(ولكن لا تزال الهمة) أي همة العارف (تحفظه ولا يؤودها) أي لا يثقله (حفظه)، أي حفظ ما خلقته (فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق بهمته) فلا يشاهده ولا يحضر معه (عدم ذلك المخلوق) لانعدام علة بقائه وهي حضور العارف معه (إلا أن يكون العارف) لسعة قلبه.

قال الشيخ رضي الله عنه : (قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.)

(قد ضبط جميع الحضرات) الخمس الكلية التي هي حضرة المعاني وحضرة الأرواح وحضرة المثال المطلق وحضرة المثال المقيد وحضرة الحس والشهادة (وهو لا يغفل مطلقا)، أي والحال أنه ليس من شأنه أن يغفل غفلة مستوعبة لجميع الحضرات.
(بل لا بد له من حضرة يشهدها فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة) بالحضرات (ظهر ذلك الخلق بصورته) الخاصة له في كل حضرة وصارت الصور تحفظ بعضها بعض بسرابة جمعية همته من كل صورة إلى سائره (فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات حافظ لما فيها) أي في تلك الحضرة.
(من صور خلقه) التي في تلك الحضرات (انحفظت جميع الصور) في جميع الحضرات (بحفظ تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها).

وعدم غفلته عنها لما لا بد له من حضرة يشهده (لأن الغفلة ما تعم) الحضرات كله (قط) بأن لا يحضر أحد مع واحدة منه (لا في العموم)، أي عموم الخلائق (ولا في الخصوص)، أي خصومهم فإن غاب أتعارف من حضرة فلا بد أن يحضر مع حضرة أخرى فلا يغفل عن جميع الحضرات و إن لم يعمل عن جميع الحشرات ولهذا ينعدم مخلوق العارف بالإعراض عنه مطلقا.
ومثال ذلك ما إذا خنق العارف بجمعية المهمة خارج محل الهمة كالحس مثلا صورة محسوسة ، وحفظها بدوام شهودها والحضور معنا حسا فمتى طرأ عليه غفلة بالنوم مثلا وغاب عن الحس علمت هذه الصورة المحسوسة عن مرتبة الحس وتم تبق، لأن شرط بقائها إنما هو حضور العارف معها حسا.

وقد زال ذلك الشرط إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات فكان عارفا بحضرة الحس و حضرة المثال و الخيال و ارتباط بعضها ببعض وسرت جمعية همته من بعضها إلى بعض .
فإنه حينئذ وإن غفل عن حضرة الحس وعن شهود صور مخلوق و موجود بها لكنه يشهده في حضرة الخيال، أو المثال مخلوقا موجودا فيحفظه فتنحتفظ بصورته الخيالية صورته الحسية .

ومن فروع ذلك الأصل ما ذكره الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات:
أن الأبدال أنهم إذا فارقوا موضعا ويريدون أن يخلفوا بدلا منهم في ذلك الموضع الأمر يرونه فيه مصلحة وقربة تركوا شخصا على صورة رجل منهم ولا يشك أحد ممن أدرك رؤية الشخص أنه عين ذلك الرجل وليس هو، بل هو شخص روحاني بتركه بدله بالقصد علم منه ومنها أيضا ما هو مشهود عن بعض هذه الطائفة.
أنه حضر في آن في أماكن مختلفة أو دخل بيت مغلقة الأبواب مسدودة الكون أي خرج عنه إلى أمثال من الخوارق.


قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء.
فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق.
ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق.
ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.
وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب)


(وقد أوضحت هنا سر) و هو عروض الغفلة للعارف عن بعض الدورات (لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا) السر.
(أن يظهر لما فيه)، أي في خلفوز ذلك السر (من رد دعواهم أنهم الحق فإن الحق سبحانه (لا يغفل) عن حضرة ما أبد (والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء) في وقت دون وقت (فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول: أنا الحق)، لأن خلق ما خلق وحفظه له إنما هو من حيث كونه حقا لا من حيث كونه عبدا.
(ولكن ما حفظه لها)، أي ليس حفظ العبد صورة ما خنته مماثلا من كل الوجوه (حفظ الحق) سبحانه (وقد بينا الفرق) بين الحنين (من حيث ما غفل العبد)، أي من حيث غفلته (عن صورة ما وحضرتها وعدم حفظه لما خلق).
(فقد تميز العبد من الحق) تميزة ظاهرة من وجهين:
أحدهما : عروض الغفلة له.
وثانيهما : عدم انحفاظ مخلوقه هذا على تقدير عدم بناء الحفظ.
وأما على تقدير بناء الحفظ فهو وإن أشار إلى تميز العبد عن الحق ببيان الفرق بين الحفظين لكنه أعاده مرة أخرى لزيادة تفصيل.
فقال : (ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور لحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها فهذا هو حفظه) لما خلق (بالتضمن).
أي حفظ صورة ما خلق في حضرته إنما وقع في ضمن ما حفظ صورة أخرى في حضرة أخرى (وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين وهذه مسألة أخبرت) من جانب الحق تعالى (أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهي يتيمة الدهر وفريدته. فإياك أن تغفل عنها فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء» فهو الجامع للواقع وغير قرآنا في نفسه فإن المتقي الله «يجعل له فرقانا» وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. وهذا الفرقان أرفع فرقان.)

هذا الكتاب فهي يتيمة الوقت وفریدته فإياك أن نغفل عنها) وعلل رضي الله عنه الوصية بعدم الغفلة عن هذه المسألة.
بقوله : (فإن تلك الحضرة التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة)، أي صورة ما خلقه (مثلها)، أي حالها وشأنه (مثل الكتاب الذي قال الله) تعالى (فيه)، أي في شأنه (وما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38].

وإذا لم يفرط فيه من شيء (فهو الجامع للواقع) في الماضي والحان (وغير الواقع في الماضي والحال الذي يقع إلى الأبد في الاستقبال فكذلك تكون تلك الحضرة جامعة للصور الواقعة فيها و للصور الغير الواقعة فيها الواقعة في سائر الحضرات فإنها كالأثر من الحضرات التي تخصها فنعلم بها كما يعرف الأثر بالمؤثر.
أو نقول الحشرات كلها صور للحقائق الإلهية مرتبة بعد مرتبة، وكل واحدة منها متحدة مع سائرها من حيث تلك الحقائق.

فمعرفة كل واحدة منها على ما هي عليه تستتبع معرفة الباقية، فالحضرة الخاصة التي يحضر معها العارف مثلها مثل الكتابة الذي لم يفرط فيه من شيء .
(ولا يعرف) معرفة ذوق و وجدان (ما قلناه) من عدم التفريط في الكتاب من شيء ومماثلة الحضرة الخاصة التي يحضر معها العارف لذلك الكتاب (إلا من كان قرآنا في نفسه) جامعا للحضرات كلها تحقيقا و اجدا أحكامها في ذاته وإنما يعرف من كان قرآن في نفسه ما قلناه .

(فإن المتقي الله) يعني المتحقق بحقيقة الاتقاء الحائز بالتحقق بها مرتبة الجمعية القرآنية، فإن حقيقة الاتقاء هی: اتخاذ العبد الحق سبحانه وقاية لذاته وصفاته وأفعاله بإتصافها إليه سبحانه وانقطاع نسبتها من العبد .
وليست الجمعية القرآنية إلا ذلك (يجعل) الله (له فرقانا)، أي نورا في باطنه فارقة بين الحقائق التي من جملتها ما قلناه فلا جرم يعرفه .

(وهو)، أي الفرقان الذي يجعله الله تنتقي (مثل ما ذكرناه في هذه المسألة)، أي واحد من جزئياته ما ذكرناه (فيما يتميز)، أي في معنى يتميز (به العبد من الرب وهذا الفرقان أرفع فرقان)، لأن الفرقان إما بين الحقائق الإلهية والكونية أو بين الحقائق الإلهية فقط بأن تميز بعضها عن بعض، أو بين الحقائق الكونية.
كذلك فلا شك أن الفرق الأن أرفع

قال الشيخ رضي الله عنه : (
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك)

(فوقتا)، أي في مقام الفناء في الله (يكون العبد) الكامل (ربا بلا شك) لانقهار جهة عبوديته في ربوبيته.
(ووقتا)، أي في مقام البقاء بعد الفناء (يكون العبد) الكامل أيض (عبدا) محض (بلا إفك) محضا من غير شائبة مربوبية فيه (فإن كان) ذلك العبد (عبدا) كاملا قائما بربه (كان بالحق)، أي بسبب ظهور الحق فيه وفنائه في الحق تعالى.

(واسعا) في عيشة من غير ضيق فيها، فإنه لا يطالب بشيء حتى يقع في ضيق بالعجز عن الإتيان به .
(وإن كان ربما كان في عيشة ضنك)، أي ضيقة لأنه يطالب حينني بالأشياء ويعجز عن الإتيان بها، فيقع في ضنك وضيق (فمن كونه عبدا بری)، أي يبصر

عين نفسه من غير أن يرى الخلق معه علاقة مطالبة (وتتسع الآمال منه بلا شك)، أي تقع أمال الأملين، أي أصحابها في سعة من كونه عبدا لا بعطالبه الأملون بشيء.
بل يطالبون الحق سبحانه فيظهرون بمأمولاتهم فيقعون في سعة من حصولها بخلاف ما إذا كان ربا فإنهم طالبوه بأشياء لم يظفروا بها فوقعوا في ضيق (ومن كونه ربا يرى الخلق كله يطالب من حضرة الملك) بضم الميم (والملك) بفتحها وهو القوة.

والمراد به المنعوت بقرينة المثلث، وقوته من حضرة الملك والملك بيان للخلق كله (ويعجز عما طالبوه بذاته)، أي يكون ذلك العجز مسببة عن ذاته، فإن العجز والضعف من لوازم ذات الممكن (لذا تر) مخفف تری لاستقامة الوزن (بعض العارفين به)، أي بالحق وبهذا الحكم (يبكي) لعدم تمكنه من الإتيان بما يطالب به. (فكن عبد رب لا تكن رب عبد)، أي عبد الرب (فنذهب) عن مقام العبودية إلى مقام الربوبية أو تزول أو تضمحل حال كونك ملتبس (بالتعليق في النار)، أي نار الحرمان من إنجاح آمال الآملين.

(والسبك)، أي ملتبسا بالسبك، أي الإذابة فيها ولهذه الأبيات احتمالات أخر غير ذلك وليس المراد بما ذكرنا انحصار المراد فيه وبالله التوفيق .
.

_u9p4kmy8Ec

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!