موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح الجامي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرحمن الجامي

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية


23 - فص حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر
الفصّ اللّقماني
قال الشيخ رضي الله عنه : (
إذا شاء الإله يريد رزقا ... له فالكون أجمعه غذاء
وإن شاء الإله يريد رزقا ... لنا فهو الغذاء كما يشاء)
فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
لما كان لقمان عليه السلام آتاه اللّه الحكمة والإحسان ، فعل ما ينبغي فعله لما ينتهي كما ينبغي وهو من لوازم الحكمة سميت حكمته إحسانية ونسبت إليه ( إذا شاء الإله يريد رزق . . له فالكون أجمعه غذاء ) له .
اعلم أن المشيئة توجه الذات الإلهية نحو حقيقة الشيء ونفسه اسما كان ذلك الشيء أو صفة أو ذاتا ، والإرادة تعلق الذات الإلهية بتخصيص أحد الجائزين من طرفي الممكن أعني وجوده وعدمه فعلى هذا إذا توجهت الذات الإلهية نحو صفة الإرادة واقتضت تعلقها بأحد طرفي الممكن كما هو مقتضاها ل يبعد أن يسمى ذلك التوجه والاقتضاء مشيئة الإرادة ،
فهذا وجه تعلق المشيئة بالإرادة ، فمعنى البيت إذا توجهت الذات الإلهية نحو صفة الإرادة لتتعلق بتخصيص وجود الرزق وترجيحه على عدمه ليكون رزقا للّه تعالى ، فالكون أي المكونات بأجمعها غذاء له سبحانه ،
وإنما كانت المكونات غذاء له ، لأنه تعالى من حيث أسماؤه وصفاته لا يظهر في الأعيان إلا بها ، كما أن ذات المغتذي ل تنمو إلا بالغذاء ، فظهور أسمائه وصفاته بالمكونات بمنزلة نماء المغتذي فإنهم يشتركان في معنى الزيادة على الذات ،
وإذا كان الفعل الذي وقع في بيان معنى الإحسان منقسما إلى الفرائض والنوافل ، والفرائض تورث قربا يكون العبد فيه باطنا والحق ظاهرا ،
والنوافل تورث قربا يكون الحق فيه باطنا والعبد ظاهرا ونسبة الباطن إلى الظاهر حيث كان نسبة العبد إلى المغتذي ، فتارة يكون العبد رزقا للحق وتارة يكون الحق رزقا للعبد ، فلا يبعد أن يكون هذا البيت إشارة إلى قرب الفرائض الذي يكون الحق فيه ظاهرا والعبد باطنا ، كما لا يبعد أن يكون البيت الثاني إشارة إلى قرب النوافل الذي يكون العبد فيه ظاهرا والحق باطنا ،
فقوله : يريد رزقا مفعول المشيئة بحذف أن الناصبة وأثرها ( وإن شاء الإله يريد رزق . . لنا فهو الغذاء كما يشاء ) لاختفائه بصورتنا كما أن الغذاء يختفي بصورة المغتذي ، لأن إيجاده للموجودات ليس إلا اختفاءه بصورته
قال الشيخ رضي الله عنه : (
مشيئته إرادته فقولوا ... بها قد شاءها فهي المشاء
يريد زيادة ويريد نقص ... وليس مشاءه إلّا المشاء
فهذا الفرق بينهم فحقّق ... ومن وجه فعينهما سواء
قال اللّه تعالى :وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ[ لقمان : 12 ] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً[ البقرة : 269 ] . فلقمان بالنّصّ ذو الخير الكثير بشهادة اللّه تعالى له)
(مشيئته إرادته ) لأنهما متجهتان بالنسبة إلى هويتها الغيبية الذاتية ولكن للمشيئة تقدم ذاتي على الإرادة كما عرفت ( فقولو : بها ) ، أي كونوا قائلين بالإرادة ومغايرتها للمشيئة لكان ذلك التقدم وقول ( قد شاءها فهي المشاء ) ، حال من الضمير في بها إشارة إلى تعليل القول بمغايرة الإرادة للمشيئة ، فإنه لو لم يكن بينهما مغايرة كيف تتعلق المشيئة بالإرادة ، ويحتمل أن يكون المعنى : فقولوا يسبب له الإرادة ومغايرتها للمشيئة بواسطة تقدمها الذاتي هذا القول أعني قد شاءها فهي المشاء فيكون هذا القول على هذا التقدير مقول القول .
وكان المشاء في موضعه الأول والثاني من هذه الأبيات في النسخة المقروءة عليه رضي اللّه عنه مقيدا بضم الميم في موضعه الثالث بفتحها ، وكأنه بضم الميم اسم مفعول من الثلاثي على صيغة من المزيد على خلاف القياس ويحتمل المصدرية ،
لأن قياس المصدر الميمي من المزيد صيغة اسم المفعول وبفتح الميم مصدر ميمي من الثلاثي ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ( يريد زيادة ) ، أي يزيد تارة زيادة الوجود عن الماهية وهي الإيجاد ( ويريد ) تارة ( نقص ) ، أي نقص الوجود عن الماهية وهي الإعدام ،
فالإرادة إذا تعلقت بالماهية يرجح تارة جانب وجوده وتارة جانب عدمه بخلاف المشيئة فإن متعلقها نفس الماهية من غير ترجيح أحد جانبيها وإلى هذا أشار بقوله ( وليس مشاءه إلا المشاء ) ،
أي وليس متعلق المشيئة في الحالين النفس متعلق المشيئة لما عرفت ، أوليس المشيئة إلا المشيئة في الحالين لعدم التغير في متعلقها ، وإنما قدر الميم من المشاء في موضعه الثالث بالفتح لئلا يلزم الإيطاء أعني التكرر في القافية وهو مرفوع على أنه اسم ليس ،
والمقدم عليه منصوب على أنه خبره ولا يجوز العكس ، وإلا يلزم الإقواء في القافية وهو اختلاف الروي بالحركة .
( فهذا ) ، أي الذي ذكرنا من التقدم الذاتي للمشيئة على الإرادة وإمكان الاختلاف في متعلق الإرادة دون المشيئة هو ( الفرق بينهما فحقق . . ومن وجه ) وهو وجه اتحادهما بالنسبة إلى الهوية العينية الذاتية ( فعينهما سواء . قال اللّه تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فلقمان بالنص ذو الخير الكثير بشهادة اللّه له)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بذلك . والحكمة قد تكون متلفّظا بها وقد تكون مسكوتا عنها .
مثل قول لقمان لابنه : يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ لقمان : 6 ] . فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل اللّه هو الآتي بها ، وقرّر ذلك اللّه في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله .
وأمّا الحكمة المسكوت عنها وقد علمت بقرينة الحال ، فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره وما قال لابنه يأت بها اللّه إليك ولا إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عاما وجعل المؤتى به في السّموات إن كان ، أو في الأرض تنبيها لينظر النّاظر في قوله :وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [ الأنعام : 3 ] .)
(بذلك ) ، أي بكونه ذ الخير الكثير .
( والحكمة قد تكون متلفظا به ) كالأحكام الشرعية ( وقد يكون مسكوتا عنه ) كالأسرار الإلهية المستورة عن غير أهلها فالمنطوق بها ( مثل قول لقمان لابنهيا بُنَيَّ إِنَّه) ، أي القصة (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالرفع كما هو قراءة نافع وحينئذ كان تامة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة (مِنْ خَرْدَلٍ) ، أي مقدار ما هو أصغر المقادير التي توزن بها الأشياء من جنس الخردل الذي هو أصغر الحبوب المقتاتة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) ، هي أصلب المركبات وأشدها منعا لاستخراج ما فيها (أَوْ فِي السَّماواتِ) مع بعدها (أَوْ فِي الْأَرْضِ) مع طوله وعرضها (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) [ لقمان : 16 ] للاعتداء بها ( فهذه حكمة منطوق بها وهي أن جعل ) ، أي لقمان ( اللّه هو الآتي بها وقرر اللّه ذلك في كتابه ولم يرد هذا القول على قائله ) لا عقلا ولا شرع .
(وأما الحكمة المسكوت عنها وقد علمت بقرينة الحال فكونه سكت على المؤتى إليه بتلك الحبة فما ذكره ولا قال لابنه يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إليك وإلى غيرك فأرسل الإتيان عاما ) ، غير مخصوص معين بتعين المؤتى إليه كما بين الآتي ، وهو سبحانه والمأتي به وهو مثقال حبة من خردل ( وجعل المؤتى به في السماوات إن كان ) فيه (" أَوْ فِي الْأَرْضِ" تنبيها لينظر الناظر في قوله : وهو اللّه في السماوات وفي الأرض ) ، حين يتنبه له وينتقل إليه من قوله : "أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ" وشاهد سريان هويته العينية بأحدية جمعها الأسمائية في جميع الموجودات العلوية والسفلية والروحانية والجسمانية فيعلم من ذلك أن الحق عين كل موجود عيني .
ولما وقعت الإشارة من الحكمة أعني الحكمة المسكوت عنها إلى ما يقابل الموجودات العينية أعني الموجودات العلمية الغير الخارجة من العلم إلى العين ، فإنها في حكم المسكوت عنها حيث لم تذكر بالذكر الوجودي ولا شك أن موجود الموجودات العلمية بسريان الوجود الحق فيها كوجود الموجودات العينية من غير فرق ، فالحق عين كل موجود علمي أيضا ، والعبارة الجامعة لهذين الاعتبارين أن الحق عين كل معلوم ، لأن المعلوم أعم من الشيء الموجود بالوجود العيني المشار إليه بالحكمة المنطوق بها ومن الوجود بالوجود العلمي فقط المشار إليه بالحكمة المسكوت عنها . وإلى جميع ما ذكرنا أشار رضي اللّه عنه بقوله
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنبّه لقمان بما تكلّم به وبما سكت عنه أنّ الحقّ عين كلّ معلوم، لأنّ المعلوم أعمّ من الشّيء فهو أنكر النّكرات .
ثمّ تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النّشأة كاملة فيها فقال : « إنّ اللّه لطيف » فمن لطفه ولطافته أنّه في الشّيء المسمّى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشّيء ، حتّى لا يقال فيه إلّا ما يدلّ عليه اسمه بالتّواطؤ والاصطلاح . فيقال هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام . والعين واحدة من كلّ شيء وفيه .
كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلّه متماثل بالجوهر : فهو جوهر واحد ، فهو عين قولن العين واحدة . ثمّ قالت : ويختلف بالأعراض، وهو قولن ويختلف ويتكرّر بالصّور والنسب حتّى يتميّز فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه)
( فنبه لقمان بما تكلم به وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم، لأن المعلوم أعم من الشيء) ، لأنه يعم الموجودات والمعلومات والشيء مختص بالموجود .
( فهو ) ، أي المعلوم ( أنكر النكرات ) ، أي لا مفهوم أعم منه إذ هو شامل للموجودات العينية والموجودات العلمية من الممكنات والممتنعات .
( ثم تمم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة ) اللقمانية ( كاملة فيه ) ، أي في الحكمة والمعرفة باللّه ( فقال :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ فمن لطافته ) الصورية ( ولطفه ) المعنوي ( أنه في الشيء المسمى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشيء ) المسمى المحدود ( حتى لا يقال فيه ) ، أي في ذلك الشيء ولا يحمل عليه ( إلا ما يدل عليه اسمه ) ، أي إلا المفهوم الذي يدل على ذلك المفهوم اسم ذلك الشيء ( بالتواطؤ والاصطلاح فيقال هذا سماء وأرض وصخرة ) فيما فيه المؤتى به .
( و ) يقال : ( شجر ) وهي ما في الصخرة ( وحيوان وملك ) في المغتذي ( ورزق وطعام ) في الغذاء ( والعين واحدة ) ، أي والحال أن العين واحدة منتزعة ( من كل شيء و ) سارية ( فيه ) ولا يقال فيها ما يدل على هذه العين الواحدة لاختفائها فيها لكمال لطافتها وقولنا بوحدة العين بعينه ( كما تقول الأشاعرة إن العالم كله متماثل بالجوهر فهو جوهر واحد فهو عين قولنا العين واحدة) .
(ثم قالت ) الأشاعرة : ( ويختلف ) ، أي الجوهر الواحد ( بالأعراض ) المختلفة ( وهو قولنا ويختلف ويتكثر ) ، أي العين الواحدة ( بالصور والنسب حتى يتميز) ببعض الصور والنسب عن بعض ( حيث يقال : هذا ليس من حيث صورته ) في عرفن ( أو ) من حيث ( عرضه ) في عرف المتكلم ( أو ) من حيث ( مزاجه ) في عرف الحكمة
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كيف شئت فقل . وهذا عين هذا من حيث جوهره .
ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كلّ صورة ومزاج ، فنقول نحن إنّه ليس سوى الحقّ ؛ ويظنّ المتكلّم أنّ مسمّى الجوهر وإن كان حقّا ، ما هو عين الحقّ الّذي يطلقه أهل الكشف والتّجلّي ، فهذ حكمة كونه لطيفا .
ثمّ نعت فقال :خَبِيرٌ[ لقمان : 16 ]أي عالم عن اختبار وهو قوله :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ[ محمد : 31 ] . وهذا هو علم الأذواق . فجعل الحقّ نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما . ولا تقدر على إنكار م نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه. ففرّق تعالى ما بين علم الذّوق والعلم المطلق.
فعلم الذّوق مقيّد بالقوى . وقد قال عن نفسه إنّه عين قوى عبده في قوله : « كنت سمعه » ، وهو قوّة من قوى العبد ، « وبصره » وهو قوّة من قوى العبد ، « ولسانه » وهو عضو من أعضاء العبد ، « ورجله ويده » فما اقتصر في التّعريف على القوى فحسب حتّى ذكر الأعضاء : وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى . فعين مسمّى العبد هو)
( كيف شئت فقل و ) يقال : ( هذا عين هذا ) ، أي ( من حيث جوهره ) مثلا تقول الأشاعرة : ( ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كل ) ذي ( صورة و ) ذي ( مزاج فنقول نحن أنه ) ، أي الجوهر المأخوذ في كل حدّ ( ليس سوى الحق ويظن المتكلم أن مسمى الجوهر وإن كان حقا ) ، أي متحقق ثابتا ( ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي ) ، وهو الوجود الحق الذي أوجد الأشياء بلطف سريانه فيها .



( فهذا حكمة كونه لطيفا ثم نعت ) اللّه سبحانه ( وقال خَبِيرٌ، أي عالم عن اختبار وهو ) ، أي العلم الاختباري ما يدل عليه ( قوله :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ، وهذا هو علم الأذواق فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيد علما ولا يقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه ففرق ) ، تعالى مبين ( ما بين علم الأذواق والعلم المطلق ( ، من الفرق بقوله : حتى يعلم الدال على تقييده بالذوق .
( فعلم الذوق مقيد بالقوى ) إذ الذائق لا يذوق ذلك إلا بالقوى الروحانية والجسمانية ( وقد قال ) تعالى : ( عن نفسه إنه عين قوى عبده في قوله : كنت سمعه وهو قوة من قوى العبد وبصره وهو قوة ) أخرى ( من قوى العبد ولسانه وهو عضو من أعضاء العبد ورجله ويده فما اقتصر في التعريف ) ، أي تعريف الحق بسريانه بالعبد ( على القوى فحسب حتى ذكر الأعضاء وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى فعين مسمى العبد)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الحقّ ، لا عين العبد هو السّيّد .
فإنّ النّسب متميّزة لذاتها ؛ وليس المنسوب إليه متميّزا، فإنّه ليس ثمّة سوى عينه في جميع النّسب . فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات .
فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين لطيف خبير سمّى بهما اللّه تعالى . فلو جعل ذلك في الكون وهو الوجود فقال : «كان» لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ . فحكى اللّه تعالى قول لقمان على المعنى كما قال لم يزد عليه شيئا .
وإن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان : 16 ]من قول اللّه فلما علم اللّه تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا .
وأمّا قوله :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ[ لقمان : 16 ]لمن هي له غذاء ، وليس )
مجرد عن نسبة العبدية ( هو الحق لا عين العبد ) المقيد بنسبة العبدية ( هو السيد ) ، أي الحق مأخوذا مع نسبة السيادة ( فإن النسب متميزة ) تقتضي التميز ( لذاته ) ، وليس بعضها نفس بعض فإن العبدية ليست نفس السيادة ( وليس المنسوب إليه متميزا فإنه ليس ثمة سوى عينه في جميع النسب فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات فمن تمام حكمة لقمان في تعليم ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين ) يعني ( لطيفا خبيرا سمى بهما اللّه تعالى فلو جعل ذلك ) المعنى الذي جاء به في هذه الآية مؤدى
( في ) صيغة ( الكون وهو الوجود ) ، أن أخذ فعل ماضيا ( فقال : كان ) اللّه لطيف خبيرا ( لكان أتم في الحكمة وأبلغ ) لدلالته على أزلية اتصافه تعالى بهاتين الصفتين لأن الماضي بالنسبة إليه تعالى هو الأزل والأزلية تسلتزم الأبدية .
واعتذر من قبله بأن مقام التعليم يقتضي أن يلقي إلى المتعلم ما هو أقرب إلى القبول ، ولا شك أن اتصافه تعالى بهم في الجملة أقرب بالقبول من اتصافه بهما أزلا وأبدا ، وكان في قوله في تعليمه ابنه إشارة إلى هذا الاعتذار .
(فحكى اللّه لنا قول لقمان على المعنى كما قاله لم يزد عليه شيئ ) من الزيادة والنقصان ( وإن كان قوله :إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌمن قول اللّه ) ، لا من قول لقمان كما تحتمله الآية .
(فلم علم اللّه) ، أي فورود ههنا لما علم اللّه (من لقمان أنه لو نطق متمم) الحكمة (لتمم بهذا وأما قوله :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ لمن هي غذاء له ) ،أي يأت بها لمن هي غذاء له (وليس) ، أي من هي غذاء له مما يسمى باسم ويذكر به بحيث يكفي في تغذيته حبة واحدة
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلّا الذّرة المذكورة في قوله تعالى :" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( 8 )"[ الزلزلة : 7 - 8 ] فهي أصغر متغذّ والحبّة من الخردل أصغر غذاء .
ولو كان ثمّة أصغر لجاء به كما جاء بقوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ ل يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةًثمّ لمّا علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال :فَما فَوْقَه[ البقرة : 26 ]يعني في الصّغر . وهذا قول اللّه - والّتي في « الزّلزلة » قول اللّه أيض .
فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذّرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة واللّه أعلم .)
( إلا الذرة المذكورة في قوله ) تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 )وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( 8 ) [ الزلزلة : 7 - 8 ] ، فهي أصغر متغذ والحبة من الخردل أصغر غذاء ولو كان ثمة ) ، أي في الوجود ( أصغر ) من الذرة وهي النملة الصغيرة في المتغذي وأصغر من حبة الخردل في الغذاء
( لجاء به كم جاء بقوله :إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةًثمّ لما علم أنه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال :فَما فَوْقَه[ البقرة : 26 ]يعني في الصغر وهذا ) ،
أي قوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَه( قول اللّه والتي في صورة الزلزلة قول اللّه أيضا فاعلم ذلك ) ، أي كونهما لقوله وتدبر فيهما لتعلم النكتة في الترقي عن البعوضة والاقتصار على الذرة في سورة الزلزلة وهي أن تلك النكتة ما أشار إليه بقوله : ( فنحن نعلم أن اللّه تعالى ما اقتصر على وزن الذرة ) من المتغذيات ( وثم ما هو أصغر منه ) ، كما لم يقتصر على البعوضة حيث كان ثمة أصغر منها ( فإنه جاء بذلك ) ، أي بذكر الذرة ( على ) سبيل ( المبالغة ) فلو كان ثمة أصغر منها لكان الإتيان به بذلك أبلغ وكذا الحال في حبة من خردل من الأغذية ، فالنكتة في قول اللّه تعالى :إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ[ لقمان : 16 ] ، أنه يتنبه من هذا القول لقوله :فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ[ الزلزلة : 7 ] ،
ولقوله :" إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلً " لاشتراك هذه الأمور الثلاثة في كونه مما يمثل بها الأشياء في الصغر والحقارة ، ويتنبه أيضا للفرق بينها بأن حبة من خردل والذرة ليس أصغر شيء منه بخلاف البعوضة ، ولهذا وقع الترقي إلى ما فوقها يعني من الصغر ، فإن قلت : الأصغر من الذرة نصفها وثلثها وكذ الحال في حبة من خردل .
قلنا : المراد أنه لا أصغر منها مما يسمى باسم ويذكر به كما أشرنا إليه لا مطلقا وليس شيء مما يسمى باسم ويذكر به أصغر من الحبة والذرة بخلاف البعوضة فإن ما فوقها من الصغر هو النملة ( واللّه أعلم ) بنكات كلامه فلا نحصرها فيما ذكرن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذ عمل بذلك .
وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أنلا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان : 13 ] .
والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام .
وهو عين واحدة فإنّه لا يشرك معه إلّا عينه وهذا غاية الجهل . وسبب ذلك أنّ الشّخص الّذي ل معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشّيء إذا اختلفت عليه الصّور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصّورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكلّ صورة جزءا من ذلك المقام .
ومعلوم في الشّريك أنّ الأمر الّذي يخصّه ممّا وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الّذي شاركه إذ هو للآخر . فإذن ما ثمّة شريك على الحقيقة ، فإنّ كلّ واحد)
(وأما تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ) وعطف ( ولهذا وصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ، وأما حكمة وصيته في نهيه إياه ألا يشرك باللّه فإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [ لقمان : 13 ] ، فتنبيهه لابنه ، ولما سمع كلامه على أن حقيقة الشرك منفية في نفس الأمر فقولنا : فتنبيهه جواب أما حذف لقرينة المقام ولا شك أن الظلم نسبة ظالم ومظلوم ، والظالم ههنا هو المشرك (والمظلوم المقام) ، أي مقام الألوهية (حيث نعته) المشرك (بالانقسام) ، بتعدد متعلقه (وهو ) ، أي ذلك المقام ( عين واحدة ) باعتبار متعلقه لا يقبل التعدد أصلا فلا ينقسم بتعدده مقام الألوهية ، وإنما لا يقبل التعدد ، لأن تعدده عبارة عن أن يشرك معه غيره في الألوهية وذلك باطل ( فإنه لا يشرك معه إلا عينه ) ، إذ كل موجود فرض شريكا فهذه العين الواحدة عينه .
( وهذا ) ، أي إشراك شيء ما هو عينه ( غاية الجهل وسبب ذلك ) الشرك تارة تجزئة الأمر المشترك فيه ، وهي ( أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه ) ، أي ذلك الشخص ( الصور في العين الواحدة وهو لا يعرف أن ذلك الاختلاف في عين واحدة جعل الصورة ) الواحدة ( مشاركة للأخرى في ذلك المقام ) ، بأن قسم المقام بالتجزئة بين الصورتين ( فجعل لكل صورة جزأ من ذلك المقام ومعلوم في الشريك أن الأمر ) ، أي الجزء ( الذي يخصه مما وقعت فيه المشاركة ليس غير) ، الجزء الآخر ( الذي شاركه ) ، أي الشريك الثاني الشريك الأول بسببه ( إذ هو ) ، أي الجزء الآخر إنما هو ( للآخر ) من الشريكين ( فإذا ما ثم شريك على الحقيقة فإن كل واحد منهم)
""أضاف المحقق :
غير أنه وردت في بعض المخطوطات كلمة عين بدل غير
واعتمد ذلك كل من القاشاني وبالي أفندي والقيصري في شرحهم كلمة عين.
واختار كل من الشيخ عبد الغني النابلسي وعبد الرحمن جامي كلمة غير. أهـ ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( على حظّه ممّا قيل فيه إنّ بينهما مشاركة فيه .
وسبب ذلك ، الشّركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة فإنّ التّصرّف من أحدهما يزيل الإشاعة .قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [ الإسراء : 110 ] هذ روح المسألة .)
( على حظه ) ، أي نصيبه ( مما قيل فيه أن بينهما مشاركة فيه وسبب ذلك ) عطف على قوله وسبب ذلك أي الشخص ، أي وسبب ذلك الشرك تارة أخرى ( الشركة المشاعة ) ،
وهو أن يجعل المشترك فيه مشاعا بين الشريكين يتوارد عليه الشريكان على سبيل البداية وذلك أيضا باطل ، فإن الشركة ( وإن كانت مشاعة ) بإشاعة الأمر المشترك فيه ( فإن التصريف ) ، أي التصرف والتأثير ( من أحدهم ) ،
أي أحد الشريكين في الأمر المشترك فيه بدون الآخر ( يزيل الإشاعة ) ، ويجعل الأمر المشترك فيه مختص بذلك الآخر فلا ينفي الشركة ، ولما أبطل رضي اللّه عنه الشركة التي تشفي صاحبه بوجهيه أعني التجربة والإشاعة .
أشار إلى شركة حقة يسعد العبد باعتقادها والقول بها بقوله تعالى : "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ" [ الإسراء : 110 ] ، فإنه يدل على شركة اسم والرحمن بل الأسماء كلها في الدلالة على الذات الأحدية الجامعة للأسماء كلها .
( هذه روح المسألة ) ، أي ما أشار إليه بهذه الآية من الشركة هو روح مسألة الشرك وحقيقتها ، إذ بهذا الوجه يتحقق الشركة في نفس الأمر ، بخلاف الشركة المتوهمة لأهل الحجاب في مقام الألوهية فإنها وهم محض ، أو هذا الذي ذكر من أول الوصية إلى آخرها روح المسألة وتحقيقها بقسميها الحق والباطل على وجه لا يلحقها فتور ولا قصور .
واللّه يهدي لنوره من يشاء ومن لم يهد فما له نور .
تم الفص اللقماني

m8Koh6O4exM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!