موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح بالي أفندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مصطفي سليمان بالي زاده الحنفي

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية


03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

(اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق) أي عند المطلعين بالحقائق الأسمائية (في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد) والله منزه عن التحديد والتقيد فنزه أهل الحقيقة عن التنزيه فهم ليسوا بمنزهين فقط، بل هم منزهون في مقام التنزيه والمشبهون في مقام التشبيه .
"ويقول محقق الكتاب : ليس المراد بالشبيه والتنزيه هنا ما أراده المتكلمون عندما تحدثوا في الصفات الإلهية ونفوها و أثبتوها وعلى أي نحو أثبتها المثبتون أو نفاها النافون. بل المراد بها معنى آخر لم يسبق ابن عربي إليه سابق، وهو المعنى الوحيد الذي يتمشى مع نظريته العامة وهي بمعنى "الإطلاق" أو "التقيد". فالله متزه بمعنى أنه إذا نظر إليه من ناحية ذاته فهو بتعالي عن كل وصف وكل حد وتقييد.
وهو بهذا المعنى غني عن العالمين يحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ولا علم ساري في كل موجود غير متعين في موجود دون آخر. فلا يصدق عليه وصف إلا الإطلاق وفي الإطلاق غاية تنزيهة."
فلا يمكن معرفة الحق من غير تحديد وتقييد (فالمنزه) فقط (إما جاهل) أي غير قائل بالشرائع كالفلاسفة ومقلديهم الذين ينزهون الحق بمقتضى عقولهم عن الصفات التي أخبر الحق عن اتصاف نفسه بها فهم ضلوا وأضلوا.
(وإما صاحب سوء أدب) أي قائل بالشرائع (ولكن إذا أطلقاه) أي التنزيه على الله تعالى (وقالا به) أي اعتقد بأن الله منزه عن الصفات الوجودية كالحياة والعلم والسمع والبصر وغير ذلك .
فغير القائل بالشرائع فهر الجاهل أي الكافر لا كلام فيه لظهور بطلانه لذلك ترلي هذا القسم (فالقائل) أي المعتقد (بالشرائع المؤمن) عطف بيان للقائل بالشرائع (إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك) أي ولم يشبه في مقام التشبيه .
(فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الغائب وهو كمن آمن ببعض) الشرائع (و كفر ببعض ولا سيما) كالمعتزلة فإنهم أنكروا بعض الشرائع كصفات الله وبعض أمور الأخرة.
ولما قال ووقف عند التنزيه فقد أساء الأدب واكذب الحق و الرسل أراد أن يبين التشبيه والتنزيه حتى ظهر تكذيبه الحق والرسل فقال : (وقد علم) على البناء للمفعول (أن السنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالی بما نطقت به) هذه الألسنة من التنزيه والتشبيه (إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول) يفهمه كل من يسمع ذلك اللفظ .
(وجاءت به على الخصوص)أي الخواص من المحققين جاءت به على كل مفهوم بفهم من وجود ذلك اللفظ بأني لسان كان سواء كان ذلك عربيا كالقرآن العظيم أو غير عربي كسائر الكتب المنزلة (في وضع ذلك اللسان) فبين الله للعباد كلها على حسب مراتبهم بألسنة الشرائع في حق نفسه من التنزيه والتشبيه فمن وقف عند التنزيه ولم ير التشبيه .
وهو آمن ببعض وكفر ببعض لكنه لا يشعر بذلك وهو معذور بذلك لذلك لا يكفر بل هو مؤمن عند أهل الظاهر والباطن لكونه معتقدا بالشرائع كلها في ظنه .
وإنما جاءت في عموم الناس على المفهوم الأول وعلى خصوصهم على كل مفهوم يفهم من وجود ذلك اللفظ (فإن للحق في كل خلق ظهورا) خاصة ظهور الحق في العموم غير ظهوره في الخصوص.
فتجلى الله تعالى في الكلام العزيز لعباده على حسب استعداداتهم فكلمهم على قدر عقولهم، فإذا كان للحق في كل خلق ظهورة خاصة (فهو الظاهر في كل مفهوم) أي في كل يفهم من اللفظ الذي نطق في حقه (وهو الباطن عن كل فهم) أي لا يفهم ظهوره في كل مفهوم (إلا عن فهم من قال إن العالم صورنه وهويته) أي إلا من عرف أن العالم بأعراضه مظهر صفاته و بجوهره مظهر ذاته فما في العالم شيء، إلا وهو دليل على صفاته ووحدانيته ذاته وفي كل شيء آية تدل على أنه واحد .
فإن من عرف هذا يظهر له الحق في كل مفهوم فتجلى الله له في كلامه كما تجلى له في عالمه (وهو) أي العالم مظهر (الاسم الظاهر كما أنه) أي كما أن الحق (بالمعنی روح ما ظهر فهو الباطن) والروح مظهر الاسم الباطن فإطلاق الروح على الحق مجاز (فنسبته لما ظهر) أي نسبة الحق إلى كل ما ظهر (من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة) فحذفت صلة النسبة وهي إلى الصورة لدلالة الصورة عليها فإذا كانت نسبة الحي إلى صورة العالم نسبة الروح إلى صورته
فيؤخذ الحق (في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره) فإن حذ الإنسان مركب من الحيوان الناطق فكان بروحه مظهرة لاسمه الباطن وبصورة جسده مظهرة لاسمه الظاهر فعلم أن الحق هو الظاهر والباطن بدلالة حد الإنسان.
(وكذلك) يومئذ في حد (كل محدود) إذ ما من شيء إلا وله ظاهر و باطن (فالحق محدود) أي معلوم (بكل حذ) وهو على طريق الاستدلال من الأثر إلى المؤثر
قال الشيخ رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها) أي من صور العالم حد الحق (إلا على قدر ما حصل لكل عالم) بالحد (من صوره) أي من صور العالم (فلذلك) أي فلأجل عدم انضباط صور العالم لأنها جزئيات غير متناهية (بجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده) من حيث مظاهره (إلا بعلم حد كل صورة وهذا) أي العلم بحد كل صورة (محال حصوله فحد الحق) الموقوف على المحال (محال) حصوله وليس المراد بالحد هو المصطلح عند علماء الرسول وهو المركب من ذاتيات المحدود تعالی عن ذلك .
وإنما المراد آثار أسمائه وصفاته يستدل بها على صفات الله تعالى وأسمائه على وجه التحديد والتعيين وإنما خصر عدم الانضباط إلى الصور دون المعاني لأن معاني المعالم أمور كلية منضبطة عند العقل لكن الصور أجزاء للحد فلا يحصل الحد بدون انضباطها.
(وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحده وما عرفه) حق معرفته وهو كمن آمن ببعض
وكفر ببعض كالمنزه الواقف عند تنزيهه (ومن جمع في معرفته) أي في معرفة الحق (بین التشبيه والتنزيه ووصفه بالوصفين) أي التنزيه والتشبيه (على الإجمال) وإنما قال على الإجمالي (لأنه يستحيل ذلك) أي التوصيف بالوصفين (على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل) فما أمكن للإنسان في مقام توصیف الحق بالوصفين من العلوم إلا العلم الإجمالي.
(ولذلك) أي ولأجل كون الجمع بين التنزيه والتشبيه والوصف بهما سببا لمعرفة الله تعالى لا غير (ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس. فقال "من عرف نفسه فقد عرف ربه) .
لأن باطن النفس الإنسانية تنزيه لكونه مخلوقا على صفة الله تعالی و ظاهرها تشبیه فمن جمع في معرفة نفسه بينهما ووصف نفسه بهما فقد جمع في معرفة ربه بينهما ووصف ربه بهما ونال بمعرفة نفسه درجة الكمال في العلم بالله تعالى.
قال رضي الله عنه : (وقال الله تعالى) أي ولأجل هذا قال الله تعالى: "سنريهم آياتنا "[فصلت: 33] .أي دلائلنا لهم على معرفتن (في الآفاق) وهو راجع إلى الآفاق باعتبار كل فرد .
أي كل فرد فرد من الآفاق أو باعتبار ما بعده ما خرج عنك (وفي أنفسهم) أي وسنريهم آياتنا في أنفسهم (وهو) أي كل فرد من الأنفس (عينك حتى يتبين لهم أي للناظرين) فيهم (أنه) أي الله تعالى (الحق من حيث إنك صورته) أي صفته (و) ينين (هو) أي الحق (روحك) .
لأن ظاهر العالم تشبيه وباطنه تنزيه فمن جمع في معرفة العالم بينهما ووصف بهما فقد جمع في معرفة رب العالمين بينهما ووصل إلى درجة الحقيقة في رتب العلم فما يعرف الحق أحد إلا بالعالم آفاقا كان أو أنفس (فانت له) بجميع أجزائك من الروح والجسد (كالصورة الجسمية لك) أي لروحك.
(وهو لك) في التدبير والتصرف فيك وفي الآفاق (كالروح المدبر لصورة جسدك والحد يشمل الظاهر والباطن منك) أي وحدك وهو الحيوان الناطق يشمل ظاهرك وهو صورة جسدك ويشمل باطنك وهو روحك المدبر لجسدك وإنما يشمل حد الإنسان ظاهره وباطنه (فإن الصورة الباقية) وهو جسده بعد مفارقة الروح (إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق) هذه الصورة (إنسانا ولكن يقال فيها) أي في حق هذه الصورة.
(إنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينهما وبين صورة من خشب أو حجارة ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة) باعتبار مجاورة الروح مدة (وصور العالم) وإن كانت متبدلة لكنه.
قال رضي الله عنه : (لا يمكن زوال الحق عنها أصلا) أي لا يمكن أن يخرج عن حكومته وتصرفاته في حال الموت والحياة وحال التبدلات وانحلال التركيبات إلى الأجزاء وفي حال البقاء كما في الآخرة فإذا لم يمكن زوال الوهية الحق عن الممكنات في أي الأحوال كانت (فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز) إذ تحديده بالألوهية لا يمكن إلا بالمألوه .
فإن الأجساد الباقية بلا روح مأهولة له فحد الألوهية له ليس كحد الإنسان لعدم خلو المألوه عنه فلا يزال هذه بالألوهية عن الحقيقة أبدا وأما حد الإنسان فتارة يكون بالحقيقة كما إذا كان حيا، وتارة بالمجاز كما إذا كان ميت (كما هو ).
عباره عن قوله : (حد الإنسان) ولم يرجع إلى شيء قبله إذا كان حيا أي كما أن حذ الإنسان حقيقة لا مجاز (إذا كان حيا) كذلك حد الحق بالألوهية حقيقة لا مجاز (وكما أن ظاهر صورة الإنسان يثني) أي يسبح (بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها) ولكن لا يفقه أحد تسبيح صورته إلا من تجلى الله تعالى له باسمه السميع .
وكما أن لكل واحد من أجزاء صورة الإنسان لسان خاص بثني به على مدبره .
كذلك الصورة المجتمعة من الأجزاء لها لسان خاص بثني به على مدبره وهذا التسبيح نابت لصورة الكافر لكن لا نفع له من ذلك التسبيح.
(كذلك جعل الله تعالی صور العالم تسبح بحمده ولكن لا تفقهون) أي لا ندر كون بسماعكم أي لا تسمحون كل واحد منكم بل البعض منكم لا يسمعون وهر أهل الحجاب والبعض الآخر وهو أهل الكشف يسمعون (تسبيحهم) أي تنزيه بعض الموجودات دون بعض ولا يسمعون من يسمع منكم تسبيح كل واحد من الموجودات.
(لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور) كله حتى نسمع تسبيح جميع الصورة فما كان السماع إلا لأهل الكشف وبقدر الإحاطة فقد وقع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين سماع تسبيح الجمادات .
وكذلك في بعض أهل الكشف فسبح الله تعالى جميع الموجودات حية في الحسن كان أو غير حي بلسان عربي فصيح بلغة فصيحة تكلم تسبيحهم كما تكلم لسان فمنا تسبيح خاص بنا لا يكون هذا التسبيح لغيرنا .
يسمع تسبيحهم أهل الكشف كما نسمع تسبيح لأننا الظاهر وليس التسبيح بلسان الحال الذي يقوله أهل النظر لسان الحال أنطق من لسان المقال.
قال رضي الله عنه : (فالكل) أي جميع الموجودات (السنة الحق) محددة معرفة الحق (ناطقة بالثناء على الحق ولذلك) أي ولأجل أن الكل ألسنة الحق (قال الحمد رب العالمين أي إليه يرجع عواقب الثناء نهر المثني) من كل ألسنة (والمثنى عليه) بكل ألسنة فهو المثني على نفسه بلساننا لا نحن لأن لساننا لسانه وليس لنا لسان في الحقيقة حتى أثني عليه إذ استناد كل شيء ينتهي إليه.
(شعر : فإن قلت بالتنزيه) أي إن وقفت عند تنزيهك (كنت مقيدا) لله تعالى بالأمر العدمي (وإن قلت بالتشبيه كنت محددا) للحق بالصفات الثبوتية (وإن قلت بالأمرين) أي التنزيه والتشبيه (كنت مسددا).
أي ظفرت طريق الهداية (وكنت إماما في المعارف سیدا) لأجل تصديقك الرسل في كل ما جاؤوا به .
(فمن قال بالإشفاع) أي فمن ثبت عند التشبيه (كان مشركا) أي جعل غير الحق شريكا معه في وصفه وقد ذهل عن وحدة الحق الواجب علمه (ومن قال بالإفراد) أي ومن وقف عند التنزيه (كان موحدا) أي فقد جهل بكثرة أسمائه وصفاته فما عرف الحق حق معرفته.
ولما بين حال صاحب الجمع وحال المنزه والمشبه وكان المنزه فقط والمشبه فقط خارجا عن طريق الرسل حذر السالكين فقال : (وإياك والتشبيه إن كنت ثانيا) أي إن وصفت بصفات ثبوتية (وإياك والتنزيه إن كنت مفردا)
بكسر الراء أي لم تثبت معه غيره ثم رجع إلى بيان جمع التنزيه والتشبيه في أنفسنا فقال
(فما أنت هو) بتنزيه الحق عنك بسلب نفسك عنه من حيث بإمكانك وإحتياجك إليه (بل أنت هو) من حيث حقيقتك لأنك مخلوق على صفة الله تعالى: (وتراه) أي وأنت ترى الحق (في عين الأمور) أي في ذوات الأشياء (مسرحا) أي مطلقة (ومقيدا) أي منزها ومشبها بعين ما ترى في نفسك.
قال رضي الله عنه : (قال الله تعالى :" ليس كمثله شيء" [الشورى: ۱۱]) من حيث أنه غني عن العالمين (فنزه "وهو السميع البصير") من حيث أسمائه ومظاهر صفاته وهو يقتضي إثبات المماثلة في السمع والبصر (فشبه) هذا ناظر إلى زيادة الكاف (قال الله تعالی "ليس كمثله شيء")
من حيث ألوهيته وتعلق قدرته إلى مقدوراته (فشبه وثني "وهو السميع البصير" ) إذ لا غير حتى يشترك معه من حيث أنه كان الله ولم يكن معه شيء (فنزه وأفرد).
أي فنزه الحق عن عدم السمع وعدم البصر وأفرد فيهما بحيث لا اشتراك لغيره فيهما هذا ناظر إلى عدم الزيادة .
وإنما كان قوله تعالى : "وهو السميع البصير" [الشورى : 11] تشبيها في الأول وبالعكس في الثاني .
وكذا قوله تعالى : "ليس كمثله شيء" تنزيها في الأون وبالعكس في الثاني .
لأن المراد بالتنزيه والتشبيه كلامان متغايران بالإيجاب والسلب مع اتحاد الموضوع والمحمول من جهة تغايرهما من جهة أخرى.
فأيهما سبق في حق الحق يقتضي تعقيبه بالآخر بلا نصل شيء خارج عنهما لوجوب اجتماعهما لكون أحدهما في المعنى جزءا من الآخر فلا يمكن حمل قوله في الموضعين على التنزيه مع وجود أداة الحصر فيهما .
وهما الضمير واللام في الخبر لئلا بفوت الجمع فما أنزل الله تعالى في حق نفسه كلاما إلا وهو على طريق الجمع ولا يخفى على من اطلع معاني كلام رب العزة وأسراره .
ولما أتم البيان في التنزيه والتشبيه أورد ما جاء من آيات القرآن العظيم في حق نوح عليه السلام وقومه ليظهر فضل القرآن على سائر الكتب المنزلة .
وبين ما قال إن ألسنة الشرائع الإلهية إنما جاءت في حق العامة على المفهوم الأول وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ .
فقال رضي الله عنه : (ولو أن نوحا جمع لقومه) أي لقومه الذين لم يجيبوا دعوته إذ القوم الذين أجابوه لا يحتاج في حقهم إلى الجمع (بين الدعوتين) أي دعوني التنزيه والتشبيه (لأجابوه) من كان شانه قبول الدعوة ولم تف الدعوة بدون الجمع ولو جمع لهذا الطائفة أجابوا دعوته لا بمعنى أنهم أجابوا كلهم .
كما أن رسول الله تعالی جمع بين الدعوتين ولم يجب من لا استحقاق لقبول الدعوة كأبي جهل وأضرابه .
فظهر أن الجمع لا يوجب إجابة الدعوة مطلقا ولم يفعل نوح عليه السلام كذلك لأنه لم يؤت بجوامع الكلم (فدعاهم جهارا) أي ظاهرا وهو دعوته قومه إلى الحق بالتشبيه.
(ثم دعاهم أسرارا) أي باطنا وهو دعوته بالتنزيه فقد دعاهم بالتنزيه والتشبيه لكنه لا على طريق الجمع لذلك أورد بثم المقتضي للتأخير والتراخي.
(ثم قال لهم) بعد الدعوة ("استغفروا ربكم" سورة هود : 3) .
يعني لما علم نوح منهم أنهم لا يجيبون دعوته أبدا ولا يصلون إلى المعارف الحاصلة من الإجابة وعلم أن طريق وصولهم إلى ما يدعو إليه قومه لا يكون إلا بالاستهلاك يدعوهم به ليحصل لهم هذا المقام فقال :
"استغفروا ربكم" أي اطلبوا ستر وجوداتكم بظهور الحق بالصفة النهارية حتى يحصل لكم الوصلة إلى الحق باستهلاككم فيه لعدم قابليتكم واستعدادكم إلى حصول كمالكم بغير هذا الطريق وهو الهلاك فإذا هلكوا فقد وصلوا كمالهم.
لكن لا يجديهم نفعا لعدم وقوعه في أوانه (أنه) أي الله تعالى (كان غفارا) أي ستارا لمن طلب الستر.
فدعاهم بثلث دعوات إلى الباطن وهو التنزيه وإلى الظاهر وهو التشبيه وإلى الفناء في الله تعالى وهو " استغفروا ربكم" ولم يف استعدادهم بقبول الإجابة بلبيك فقبلوا دعوته بالفعل وإن لم يعرفوا نبولهم وهو إفناء وجوداتهم في الله تعالى لذلك أغرقوا بالطوفان وقال: رب إني (دعوت قومي) أي أخبر عن دعوته قومه (ليلا ونهارا) أي تنزيها وتشبيه (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) صلة الفرار محذوفة للعموم وهي من وإلى إذ الفرار حركة لا بد له من البدء والغاية فكان المعنى في حق الخواص إلا فرارا من وجوداتهم إلى الله تعالى.
أي تركوها ووصلوا إلى الله تعالی نكان ابتداء الفرار وهو الستر من وجوداتهم وذواتهم وغايته الحق .
فكان هذا الكلام منه في حقهم مدحا وثناء لازمة يفهمه العلماء بالله .
وكذلك في حق العامة مدح لكون ابتداء فرارهم من ذنوب أنفسهم وانتهاؤه إلى جناب الحق بحسب مراتبهم وأما في حق قومه من المشركين فذم لـ فرارهم من الحق إلى اللذات الحسية.
(وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته)
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله تعالی ما أشار إليه نوح عليه السلام في من قومه من الثناء عليهم بلسان الذم) أي كل واحد من العلماء من أي أمم كانوا ممن سمع كلام نوح عليه السلام من أي لسان كان علموا من وجوه نظم كلامه .
فإن هذا الثناء دعاء عليه في حق بعضهم بالمفهوم ودعاء له في بعضهم بالإشارة كما سنذكره.
(وعلموا) أي العلماء بالله تعالى أضمر الفاعل للعلم به (أنهم إنما لم يجيبوا دعوته) بالقول (لما فيها من الفرقان) بين التشبيه والتنزيه (والأمر) أي الدعوة الموجبة للإجابة (قرآن) أي جمع بين التنزيه والتشبيه (لا فرقان ومن أقيم) من الله تعالی
(في القرآن) أي في مقام الجمع الأسمائي كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم (لا يصغي) أي لا يميل في دعوة أمنه (إلى الفرقان) .
أي إلى القوم الذي لا جمع فيه أي لا يدعو أمنه إلا بالجمع بين التنزيه والتشبيه لأجل عدم إقامة نوح عليه السلام في القرآن أي في الجمع الاسماني لا يدعو قومه به بل بالقول الفرقاني (وإن كان فيه).
أي وإن الفرقان في القرآن (فإن القرآن يتضمن الفرقان) لكون الفرقان جزءا من القرآن (والفرقان لا يتضمن القرآن) لوجود الجزء بدون الكل والمراد من القرآن والفرقان أعم من أن يكون تولية أو مقامية فإن مرتبة محمد عليه السلام قرآني متضمن أي جامع لجميع المراتب الفرقانية من الأنبياء وغيرهم .
كما أن القرآن القولي متضمن لجميع الفرقان القوني من الكتب المنزلة (ولهذا) أي ولكون القرآن يتضمن الفرقان (ما اختص بالقرآن إلا محمد عليه السلام) لكونه متضمنا لجميع الفرقان المرتبي فما أنزل الله تعالى القرآن إلا إلى القرآن .
(وهذه الأمة التي من خير أمة أخرجت للناس) أي اصطفيت وفضلت بأن يكونوا أمة لهذا النبي لقربهم إليه في المرتبة القرآنية (فليس كمثله شيء فجمع) محمد عليه السلام (الأمر) أي التنزيه والتشبيه (في أمر واحد) أي في كلام واحد .
(فلو أن نوحا أنه بمثل هذه الآية لفظة أجابوه) لفظ (فإنه) أي النبي عليه السلام (شبه ونزه في آية واحدة) وهي قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". سورة الشورى : 11.
(بل) شبه ونزه (في نصف آية) وهو ليس كمثله شيء. لذلك قبل دعوته وكثر أمته يوما فيوما إلى يوم القيامة .
قال رضي الله عنه : (ونوح دعا قومه ليلا) إلى التنزيه (من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها) أي العقول (غيب) لا يكون الدعوة إلى مقام التنزيه إلا بها .
(ونهارا) إلى مقام التشبيه (دعاهم أيضا من حيث صورهم وجثثهم) فإنها ظاهر موجب للتشبيه (وما جمع في الدعوة بينهما مثل "ليس كمثله، شيء" فنفرت بواطنهم) أي عقولهم وقلوبهم .
(بهذا الفرقان) و لخشونة طبعهم المانعة للإجابة (فزادهم فرارا) فظهر الفرق بين المقام المحمدية والنوعية .
لأن دعوة محمد عليه السلام علة تامة مؤثرة موجبة للإجابة وأما دعوة نوح عليه السلام فليست علة تامة مؤثرة بل هي جزء من علة مؤثرة .
لذلك أسند الشيخ عدم إجابتهم ونفرتهم إليها فكان نوح على النصف من الدعوة .
لذلك لم يؤثروكم بين دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة نوح عليه السلام. فالمقصود بيان تفاوت المراتب فمقام نوح عليه السلام مرتبة من المراتب الإلهية ومر التنزيه يظهر منه الأحكام الإلهية بمقتضى مرتبة من غير نقص منها ولا زيادة عليها .
على أن الزيادة نقص .فعدم الجمع كمال بالنسبة إليه .والجمع نقص بالنسبة إلى مرتبته ومقامه. وهو تفضيل التنزيه إذ لا تفضيل في الجمع .
فلو أتي بالجمع فقد نقص عن مقامه لعدم إتيانه بالتنزيه على وجه التفضيل كما أن محمد عليه السلام لو لم يأت بالجمع لنزل عن درجته .
فمعنى قوله لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه أي لو كان مرتبة نوح عليه السلام مقام الجمع لأجابوه فزال توهم النقص .
العقول الضعيفة فلو جاء محمد صلى الله عليه وسلم في زمن نوح وغيره من الأنبياء عليه السلام لأجاب قوم هذا الزمان لجمعه بين الدعوتين.
(ثم قال عن نفسه) أي ثم أخبر عن دعوته قومه (أنه دعاهم ليغفر لهم) أي ليستر لهم الحق حقيقة الأمر (لا ليكشف لهم وفهموا ذلك منه) أي قصد نوح عليه السلام من دعوته.
(فذلك) أي لأجل فهمهم معنى الدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وهذه كلها صورة السر التي دعاهم إليها) هذا هو المعنى الذي يفهمه الخواص (فاجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك ففي " ليس كمثله شيء" إثبات المثل ونفيه) عند أهل الله تعالى لأن وجود المماثل عندهم اشتراك الغير في وصفه تعالى فكان الكاف حينئذ عندهم على تقدير عدم الزيادة لإثبات المثل في صفة لا لغيره .
وما هذا إلا وهو بعينه مذهب أهل الشرع لذلك أورد الدليل عليه بقوله : (وبهذا) أي بسبب كون إثبات المثل ونفيه في " ليس كمثله شيء". (قال) أي أخبر (عن نفسه) عليه السلام (أنه) أي الرسول (أوتي جوامع الكلم) وهو قوله: "أوتيت جوامع الكلم" يعني ما أنزل الله تعالى علي في حق نفسه أية بل نصف آية إلا وهي جامعة بين التنزيه والتشبيه .
ومن جملتها قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " الشورى : 11 . فإذا أوتي جوامع الكلم (فما دعا محمد عليه السلام قومه ليلا ونهارا) أي تفريقا بين الجمع (بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل) . أي دعاهم بالجمع بين الدعوتين.
قال رضي الله عنه : ( (فقال نوح في حكمته لقومه) أي أشار نوح عليه السلام إلى قومه في حكمة دعوته قرمه ويزيل الماء به أي يرسل الله من عالم الأرواح عليكم (مدرارا وهي) أي المدرار (المعارف العقلية في المعاني) المعقولة.
(والنظر الاعتباري) أي المدرار هي النظر في الأشياء للاستدلال بها على وجود الصانع (ويمددكم بأموال أي بما يميل بكم إليه) أي ويمددكم الحق بسبب تجلي جمالي جاذب بكم إلى الحق.
(فإذا مال بكم) أي جعلكم موجها إلى جناب الحق وهي التجليات الجاذبة إلى الحق (إليه) أي إلى الحق (رأيتم صورتكم فيه) أي في الحق (فمن تخيل منكم أنه راه)، أي الحق (فما عرف ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف فلهذا انقم الناس) من أهل الكشف.
(إلى عالم غير عالم) كما مر في الفص الشيثي وهذا كله يستفاد من وجوه الكلام بند به حمه الخواص (وولده) أي المراد من قوله وولده (هو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري) أي العلوم الحاملة لهم بنظرهم الفكري (والأمر) أي ما دعا إليه نوح عليه السلام (موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الأفكار) فهم عصوه واتبعوا إلى نتائج أفكارهم وكانوا محرومين عن حكمة دعوته لعدم علمهم ما أشار إليه نوح عليه السلام ولعدم حصول هذا العلم بنظرهم الفكري قال رضي الله عنه : (إلا خسارا) إلا ضياعا من عمرهم لصرفهم بما لا ينبغي لما أن في زعمهم.
أن نظرهم الفكري وصل إلى الحق وصرفوا عمرهم في ذلك وما عرفوا أن حكمة دعوته لا بحصل بذلك وما عرفوا زوال ما في أيديهم من الملك الذي يتعلق به نظر هم الفكري (فما ربحت تجارتهم) وما كانوا مهتدين بما يدعوهم نوح عليه السلام إليه (فزال عنهم) بالطوفان (ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم) وما سبب تخيلهم إلا عدم علمهم ما أشار إليه نوح عليه السلام في دعوته من المفهوم الثاني وقصرهم بمقتضى عقولهم على المفهوم الأول وتصرفهم بنظرهم الفكري ولم يعتبروا بنظر الاعتبار .
وكانوا بعيدا عن طريق المشاهدة بذلك فإياك أن تقتصر كلام الله تعالى وكلام الرسول على المفهوم الأول فإن الأمر ما كان على طريق المشاهدة لا على طريق النظر ألا ترى قوم نوح عليه السلام كيف كان حالهم لصرفهم ما جاء نبيهم على المفهوم الأول بمقتضى عقولهم.
فلا يعرفون أن ما في أيديهم ليس بملك لهم لاتباعهم نظرهم فضلوا عن طريق الهدى وهو طريق المشاهدة.
(وهو) أي ما كان في أيديهم من الملك ليس بملك لهم حقيقة بل هو ملك لله وهم مستخلفون فيه ولم ينكشف لهم حقيقة الأمر ويدل على ذلك ما جاء (في المحمديين) أي في حق هذه الأمة (وأنفقوا مما جعلكم) الله (مستخلفين فيه).
فأثبت الملك لنفسه والوكالة لهم لكونهم عالمين الأمر على ما هو عليه في نفسه فأنزل الله كلامه في حقهم على الحقيقة (وفي نوح عليه السلام :" ألا تتخذوا من دوني وكيلا" [الإسراء: 2] فأثبت الملك لهم والوكالة الله فيه) أي في الملك فأخرج الله كلامه في حقهم على تخيلهم لا على الحقيقة فلما مكروا الله مكر الله معهم.
والمحمديون لما عرفوا بالكشف صدقهم الله وما مكر معهم في أن ما في أيديهم من الآلات البدنية والأولاد والأموال ليس ملك لهم (فهم مستخلفون فيه) أي فيما في أيديهم (فالملك لله) في الحقيقة (وهو وكيلهم فالملك لهم) أي الحق وكيل المحمديين والملك حينئذ لهم لأنهم لما جاء في حقهم "وأنفقوا".
فقد أثبت التصرف لهم في ملك الحق، ولما أخبر الله بهم عن معاملته مع قوم نوح عليه السلام بقوله: ألا تتخذوا وكيلا دعاهم إلى طريق المشاهدة .
وفي حق المحمديين معناه : استخلفوني فيما كنتم مستخلفين فيه و اتركوا تصرفكم في ملكي من الإنفاق وغيره . وأثبتوا إلى التصرف كما أثبت لكم .
بقولنا: وأنفقوا فإن ذواتكم وصفاتكم وأفعالكم كلها في الحقيقة وأنتم مستخلفون فيها فهو مالك الملك كلها .
وهو عزل الوكيل فكانت هذه الآية مكر في قوم نوح عليه السلام وأمرا في حقنا إلى الفناء في الله فجاء المستخلف في حقنا صريحا بفتح اللام وضمنا بكسر اللام فنحن جعلنا الحق مستخلفة بفتح اللام بأمر الله تعالى بإثبات الملك كله لله في ضمن قوله تعالى: "ألا تتخذوا" فكن وكيله . بقوله : "وأنفقوا" وكان وكيلنا بقوله : "ألا تتخذوا" مجازاة لنا وأما لهم فلا، لأن هذه الآية ما جاءت في حقهم إلا لإثبات الملك لهم والوكالة لله على زعمهم .
فالحق لا يكون وكيلا منهم إذ الوكالة باستخلاف الموكل فهم لم يجعلوا الحق مستخلفا فيما بين أيديهم فظهر أن الضمير في قوله: وكيلهم يرجع إلى المحمديين.
وبعضهم قال : يرجع إلى قوم نوح عليه السلام وهو صحيح لكن الأول أنسب بالمقام وهذا هو المعنى الذي يفهمه العلماء بالله .
لذلك نصبوا أنفسهم بأمر الله تعالى لإرشاد العباد إلى مثل هذه المعاني الشريفة والعلوم الحقيقة من لطائف القرآن وأسراره التي لا يحصل إلا بطريق التصفية. (وذلك) أي كون الملك للمحمديين والحق وكيلهم أو كون الملك لقوم نوح عليه السلام والحق وكيلهم على تقدير إرجاع ضمير وكيلهم إلى قوم نوح عليه السلام أو قوله : "ألا تتخذوا من دوني وكيلا" [الإسراء:2].
(ملك الاستخلاف) وهم الذين جعلوا الحق مستخلفا في ملك الحق الذين جعلهم الحق مستخلفين فيه وهذا هو معنى ملك الاستخلاف الذي يسر الله لعباده الكمل وهم الذين أفنوا أفعالهم وصفاتهم وذواتهم كلها في الله ولم يروا شيئا لأنفسهم حتى تعرفوا فيه فتركوا الحق ينصرف لهم في ملكه.
قال رضي الله عنه : (وبهذا) أي وبسبب ملك الاستخلاف (كان الحق مالك الملك كما قال الترمذي) إذ الموكل ماله التصرف في الوكيل بجعله وكيلا فكان الحق مالكة لملكه في اصطلاح أهل الله في ملك الاستخلاف. (ومكروا) أي قوم نوح عليه السلام بنوح (مكرا كبارا لأن الدعوة) أي دعوة الأنبياء (إلى الله تعالی مكر بالمدعو) أي قومه "يقصد قوم نوح عليه السلام" .
(لأنه) أي الله تعالى وهر المدعو إليه (ما عدم من البداية) وهي ما يعبدون من الأصنام إذ لا ينكر أحد وجود الحق وربوبيته وإنما وقع الغلط في تعيينه وإضافة ربوبيته فبعضهم أضائها إلى أنفسهم وبعضهم إلى الأصنام أو غير ذلك والأنبياء يدعون قومهم من هؤلاء وهي البداية فلا عدم الحق من هؤلاء (فيدعى إلى الغاية ادعو إلى الله) وهو معبود بالحق
(فهذا) أي الدعوة من البداية إلى الغاية ذكر الإشارة باعتبار القول (عين المكر على بصيرة) لعلمهم ما يدعونه فكانت دعوة الأنبياء وإن كان مكرا لكونها على بصيرة حق واقع.
(فنبه) يعني لما دعا نوح عليه السلام قومه من البداية إلى الغاية نبه (أن الأمر له كله) لكون دعوته يشير ذلك وهو "استغفروا ربكم" حيث أضاف الرب إلى كل واحد منهم أي استروا كل واحد منكم ربكم الخاص بكم فشبه أن هوية الحق بالربوبية سارية في كل موجود و مكروا بسبب ذلك
(فأجابوه مكرا كما دعاهم) يعني لما نبه نوح عليه السلام في دعوته لقومه (مكرا) أجابوه مكرا كما دعاهم جزاء عن مكره .
لأنه وإن دعاهم إلى الله من حيث أسمائه لكنه نبه في دعوته ثبوت الحق في كل موجود فكانت الدعوة من حيث الأسماء مختفية مستورة بهذا التنبيه .
فلما علموا منه ذلك مكروا فقالوا: فالحق معنا ومع أصنامنا فنحن على دعوتك لم تركنا أصنامنا بل نعبد الحق في صورة أصنامنا .
لكون الحق ظاهرة في أصنامنا فلم يعلموا دعوة النبي بسبب التنبيه فأجابوا مكرا.
قال رضي الله عنه : (فجاء المحمدي) للدعوة والمراد محمد عليه السلام وإنما جاء بياء النسبي إشارة إلى أن الداعي هو الروح الظاهر في صورة الجسد المحمدي وهو الروح الجزئي المنسوب إلى الروح الكلي لا الروح الكلية المحمدية .
(وعلم) هذا المحمدي قبل أن يؤمر بالدعوة (إن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسمائه) فصدقه الله فيما علم.



(فقال يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا فجاء بحرف الغاية وقرنها بالأسم فعرفنا أن العالم كان نحت حيطة اسم إلهي أوجب) ذلك الاسم (عليهم) أي على أهل العلم كله (أن يكونوا) أي أهل العالم (متقين) أي حافظين محترزین عبادة غير هذا الاسم الإلهي من الأسماء التي تحت حيطة .
فما مکر قوم محمد عليه السلام معه لانعدام موجب المكر وهو التنبيه في الدعوة إلى هوية الحق فدعا قومه إلى الله من حيث أسمائه بلا تنبيه إلى هويته.
فما مكر في الدعوة حتى أجابوه مكرا بخلاف دعوة نوح عليه السلام ولو دعا قومه بمثل هذه الدعوة لأجابوه بلا مکر وكم بين الدعوتين .
وما علم الدعوة مثل ما علم محمد عليه السلام فلا يدعو مثل ما دعاه محمد عليه السلام فكانت إجابة كل قوم بحسب دعوة نبيه (فقالوا) بعضهم لبعض (في مكرهم) مع نوح عليه السلام: ("وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) ") [نوح: 23] كل ذلك أسماء الأصنام والآلهة شاملة لها .
وإنما قالوا ذلك (فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء) وإنما لزمهم الجهل من هذا الترك لأنهم حصروا التقريب إلى الله والعلم به في الأصنام لذلك قالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله" [الزمر: 3]. فليس في شأنهم عرفان بغير هذه الطريقة فلم يقبلوا دعوة النبي البتة حذرا عن الجهل.
(فإن للحق في كل معبود وجها) و هو اسم جزئي من أسماء الله داخل تحت حيطة الاسم الجامع بربه ذلك المعبود (يعرفه) أي وجه الحق (من عرفه) أي الحق وهو مرتبة الكاملين .
(ويجهله) أي الوجه (من جهله) أي الحق وهم لا يعرفون الحق ولا الوجه لكنهم قالوا ذلك عن جعل مكرا معه .
وإنما قال في كل معبود ولم يقل في كل موجود مع أن وجه الحق لا يختص بالمعبود إشارة إلى أن كل موجود معبود إما بشخصه أو بنوعه أو بجنسه .
فما جاءت في حقهم الدعية من عبادة الأرباب الجزئية إلى الاسم الجامع. وجاء ذلك (في المحمديين "وقضى ربك") [الإسراء: 23] . فإن رب محمد هو الاسم الجامع ("ألا تعبدوا إلا إياه") [الإسراء: 23] .
أي حكم بالعلم الأزلي أن العبادة في أي معبود ?انت لا يكون إلا إياه إلى غيره في الحقيقة .
وإن كان إلى غيره صورة فكانت العبادة في صورة الأصنام إلى الله تعالى حقيقة وإلى الأصنام صورة بالنص الإلهي.
لكن مثل هذه العبادة غير مقبولة عند الله بالنص الإلهي كما إن العبادة لا تكون إلا لوجه الله تعالى بالنص "فأينما تولوا فثم وجه الله" البقرة : 115.
لكن الصلاة لا يجوز بالنص إلا بالتولي إلى الكعبة فما جاء نوح عليه السلام بمثل هذا الحكم حتى لا يعبد قرمه الأسماء الجزئية فإن ربوبية الرب بحسب مربوبه (فالعالم بالله) أي بالاسم الجامع (يعلم من عبد) بضم العين (وفي أي صورة ظهر حتی عبد) فإنه يرى الوجه المطلق أي الاسم الجامع في الوجه الخاص يعبده فيه.
وأما الجاهل فعبادته عن جهله ولا يعلم أي شيء يعيده (و) يعلم (أن التفريق والكثرة) الأسمائية بالنسبة إلى الاسم الجامع وهو قوله : "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " [الإسراء: 110].
(كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية) يعني أن جميع الأسماء والصفات أمور مجتمعة في حضرة الذات الإلهية ?إجتماع أجزائنا في صورنا المحسوسة و كاجتماع قوى أرواحنا في صورنا من العقل والوهم والمفكرة وغير ذلك فمن شاهد حضرة الجمع فقد شاهد فيها جميع الأسماء مجتمعة وعبد جميعها من حيث الجمعية لا من حيث الانفراد .
فإنه لا يصلح أن يكون معبودة فإن كان كثرة الأسماء بالنسبة إلى حضرة الجمع متصلة كأعضائنا لا أمورا منفصلة (فما عبد غير الله في كل معبود).
لأن الأسماء حينئذ عين المسمى من وجه ولا يعرف هذا إلا من عرف الحق بالمشاهدة فإذا كان العبادة في كل معبود إلى الله لا إلى غير الله تعالى .
قال رضي الله عنه : (فالأدني) كانت مرتبة العابدین متفاوتة أي فأدني العابدین مرتبة (من تخيل) بالبناء للفاعل (فيه) أي في معبوده (الألوهية).
يعني لا يعلم يقينا أنه مظهر للاسم الإلهي ولا يصدق أنه إله بل تخيل (فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره) إذ لا سبب للعبادة لمثل هذا غير التخيل لأنه جماد لا تأثير له بشيء أصلا يعلم عابده أنه ليس بآلة فما عبد الحجر إلا للتخيل (ولهذا) أي ولأجل كون عبادة الحجر للتخيل لا لغيره (قال الله تعالى لنبيه إلزاما) للعابدين إليه (قل سموهم فلو سموهم السموهم حجرا أو شجرة أو كوكبة ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا "نعبد إلها" ) بالنكرة لعدم علمهم ربهم إلا بالتخيل .
وزعمهم أن الأرباب متفرقة لا مجتمعة في الحضرة الواحدية المعبودة لكل العابدین (ما كانوا يقولون) نعبد (الله ولا إلا إله) فلو لم يتخيلوا الألوهية لقالوا عند السؤال نعبد الله تعالى أو نعبد الله تعالى أو نعبد الإله بالاسم الجامع المعرف والمعين للمعبودية للكل.
فإذا قالوا إلها بالنكرة المجهولة علمنا أنهم ما عبدوهم إلا لتخيل الألوهية (والأعلى) أي وأعلى العابدین (ما تخيل) أي لا يتخيل الألوهية فيه (بل قال هذا مجلي إلهي ينبغي تعظيمه) على كل أحد كما إذا سئلنا: لم صلیتم إلى الكعبة.
قلنا: هذه أعظم مظهر من المظاهر الإلهية فعظمناها لأجل ذلك فأما عبادتنا فلا يكون إلا لله في أي مظهر ?ان لا من حيث كونه في ذلك المظهر (فلا يقتصر) هذا العابد عبادته للحق في مظهر دون مظهر بل يعبده من حيث ظهوره في جميع المظاهر لعلمه بالله وبأسمائه .
(فالأدنى) أي أدنى العابدین (صاحب التخيل) عطف بيان إذا سئل وقيل : إذا كان حجرة لأي شيء عبدتم (يقول) في جوابه ("ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3]) وهم المشركون أي قربا.
(والأعلى العالم) بخبر عن مشاهدته على ما كان عليه الأمر مخاطبة لصاحب النخيل (ويقول: "إنما إلهكم إله واحد" [النحل: 22]) ظاهر في جميع المظاهر لا إلهة متعددة متفرقة (فله أسلموا) أي انقادوا واعبدو (حيث ظهر) أي في أي مظهر ظهر لا إلى غيره .
إذ لا إله غيره حتى يعبد فلا تقتصروا مظاهره إلى أصنامكم واعلموا أن جميع الأشياء كلها مظاهره واعبدوه من حيث ظهوره في جميع المظاهر.
ولما فرغ عن ذكر ما وجب عليه أراد أن يشرع إلى بيان إشارات نوح في دعائه لقومه وأورد آية مناسبة لما قبلها في المعنى ليبني عليها بيان إشاراته ("وبشر المخبتين" الذين خبت نار طبيعتهم) أي طفئت .
(فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة) يعني كانت طائفة من عباد الله طفئت نار طبيعتهم بحيث لا يصدر منهم من الآثار الطبيعية شيء فظهر لهم من كل طبيعة الصفات الإلهية والأنوار الذائبة فغابوا عن طبائع الأشياء ولم يميزوا الإله.
والمألوه ولم يروا المألوه ولم يدركوا الطبائع فإذا سئلوا عنها أخبروا عن ما شاهدوه من آثار الألوهية فقالوا : "إلها" ولم يقولوا طبيعة أي حجرا أو شجرا أو غير ذلك من الطبائع.
ولا يقولون مجلي إلهي ينبغي تعظيمه إذ لم يروا غير الإله شيئا يغلبه تجلي الذات حتى أخبروا عن أسمائها .
وإذا قالوا : "إلها" أشار نوح في دعائه لقومه إلى هذه الطائفة الشريفة وجمع في الدعوة مع قومه للمناسبة الصورية بينهما في إسناد الألوهية إلى الطبائع فدل دعاؤه بالمفهوم الأول على المشركين . و بالمفهوم الثاني على هذه الطائفة الشريفة .
يعني هذه الدعوة تدل على كليهما بحسب الدلالتين فلما لم يقل المخبتون الطبيعة بل قالوا إنه (وقد ضلوا كثيرا) أي المحجوبين من أهل العالم كإضلال من يعبد الأصنام بقولهم: "لا تذرن آلهتكم" [نوح: 23].
(أي حيروهم) أي أعطاهم حيرة الجهل بقولهم إلهة (في تعداد الواحد بالوجوه والنسب) فلا يعلمون أن إلههم واحد حقيقي والكثرة والتفرقة كأعضائنا في صورنا المحسوسة فتحيروا في علمه فوقعوا في حيرة بسبب استماع كلامهم.
فكانوا أي المختبين ظالمين بوجهين ظلم لأنفسهم بإطفاء مقتضيات أنفسهم من الهوى بالمجاهدة وظلم لغيرهم بإيقاعهم في حيرة الجهل بسبب قولهم إلها، ولم يقولوا طبيعة.
فدعى لهم نوح بذلك على زيادة حيرتهم بالعلم بقوله: ("ولا تزد الظالمين" [نوح: 28] أنفسهم ) فكل المراد من الظالمين في دعاء نوح هم الظالمون في قوله : فمنهم ظالم لنفسه .
لذلك وصف بقوله : (المصطفين "الذين أورثوا الكتاب") [الشوری: 18].
وهو قوله : "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)" سورة فاطر.
(فهم) أي الظالمون لأنفسهم أكمل الناس وأعرفهم فأشار نوح عليه السلام في دعائه لقومه بلسان الدم إلى هذه الطائفة فقال : "ولا تزد الظالمين " (إلا ضلالا إلا حيرة) في العلم حتى لا يقولوا: إلها ولا يحيروا القوم في تعداد الواحد بالوجوه .
فدعاء نوح عليه السلام لهذه الطائفة ازدياد التحير في العلم بالله تعالى بصورة الضلال وهو ما دعي به (المحمدي) بقوله :( زدني فيك تحيرا) فإن ازدياد التحير في الله تعالى لا يكون إلا عن زيادة علم وهو في حق الظالمين لأنفسهم من أمة محمد عليه السلام بلسان المحمدي .
وجاء ما أشار نوح عليه السلام في حق قوم موسى في قوله : ( لما أضاء لهم ) أي كلما تجلى الله تعالى لهم باسمه النور ("مشوا فيه") أي ذهبوا علما بسبب ضياء هذا النور إلى حضرة جنابه .
قال رضي الله عنه : ("وإذا أظلم عليهم" ) أي إذا قبض منهم ضياءه وخفي عليهم لظهور التجلي الجلالي عليهم ("قاموا") حیاری فكلما ازداد علمهم ازدادت حيرتهم هكذا حالهم إلى آخر عمرهم كان ذلك أول الثلاثة من كل أمة لا تختص أمة دون أمة.
فلما انجر كلامه إلى الحيرة وكان مقام الحيرة أعلى المقامات وأشرفها شرع إلى بيان مرتبة الحائر وأحواله فقال : (فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب) وهو الذي مدار الوجود عليه وهو الحقيقة المحمدية قطب العالم فالوجود دوري فإذا دار الحائر حول القطب (فلا يبرح منه) أي لا يزال ولا ينفك من القطب لأنه أينما تولى يرى وجه الله تعالى في دائرة الوجود ويرى أن مطلوبه معه في كل موجود وهو مقام الواصلين من أهل الله تعالى
قال رضي الله عنه : (وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه) أي نفسه في خارج وزعم أنه يوصل إلى مطلوبه مجردة عن المظاهر نهر صارف عمره فيما لا يمكن حصوله (صاحب خيال إليه) أي إلى الخيال (غايته) فهر وأصل إلى ما يتخيله نفسه لا إلى مطلوبه (فله) أي لصاحب الطريق المستطيل (من وإلى وما بينهما) أي له ابتداء وانتهاء ومسافة فابتداؤه من نفسه وانتهاؤه إلى خياله ومسافته ما بينهما .
فلا يصل إلى مطلوبه بهذا الطريق وهو الطريق العابدين من أهل الظاهر فهم ليسوا من الحائرين الذين نحن في بيانه (وصاحب الحركة الدورية لا بدء له) في حركته (فيلزمه) من نصب بإضمار أن (ولا غاية له) لمشاهدة مطلوبه في كل مظهر ولا نهاية للمظاهر فلا غاية لصاحب هذه الحركة (فنحكم عليه إلى) كناية عن الانتهاء (فله) أي لصاحب الحركة الدورية (الوجود الأتم) أي الإحاطة بمراتب الوجود كلها وشاهد مقصوده فيها.
(وهو المؤتی جوامع الكلم والحكم) وهو محمد عليه السلام فمقام الحيرة جامع لجميع الحقائق الإلهية والحكم الربانية فأشار نوح عليه السلام في دعائه إلى هذا المقام بقوله : إلا ضلالا ثم رجع إلى الإشارات بقوله تعالى في حق قوم نوح عليه السلام .
(مما) أي من أجل (خطيئاتهم فهي التي خطئت) أي ساقت (بهم) وهي مجاهدتهم في السلوك بالتعدي حدود الله تعالى بأوامر أنفسهم (فغرقوا) بسبب ذلك (في بحار العلم بالله وهو) أي بحار العلم (الحيرة فأدخلوا نارا) أي نار المحبة (في عين الماء) وهو العلم وجاء كون النار في الماء.
(في المحمديين وإذا البحار سجرت. سجرت التنور إذا أوقدته) فكان المحمديون داخلين نارا في بحار العلم بالله فإذا أدخلوا نارا في عين الماء .
قال رضي الله عنه : (فلم يجدوا) هذا القوم في وقت إدخالهم النار في عين الماء (لهم) أي لأنفسهم (من دون الله أنصارا فكان الله) تعالى في ذلك الوقت (عين أنصارهم) .
لأنهم لم يروا في ذلك المقام إلا آثار الألوهية لأنهم يشاهدون الحق في جميع المظاهر فلم يروا غير الله شيئا وهذا هو معنى العينية فإذا كان الله عين أنصارهم (فهلكوا فيه) أي في الله تعالى.
(إلى الأبد) فلم يخرجهم من هذا المقام إلى عالم بشریتهم (فلو أخرجهم إلى السيف) بكسر السين (سيف الطبيعة) أي إلى ساحل طبيعتهم (لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة) لنية محبوبهم بظهور الطبائع (وان كان الكل) أي وإن كان كل واحد من العالم مختصة (لله) .
(و) قائمة (بالله بل) كل واحد منهم في نظر هذا الشخص (هو الله) لغيبة شيئية الأشياء بظهور نور الحق كخفاء النجوم بطلوع الشمس فلا أثر ولا نور ولا وجود للنجوم عند من نظر إلى الشمس لا في الواقع أو بحذف المضاف .
أي هو مظهر الله (قال نوح عليه السلام) في دعائه (رب ما قال إلهي فإن الرب له الثبوت) في الربوبية (والإله بتنوع بالأسماء وهو) أي الإله (كل يوم هو في شأن) الشأن والحال لا ثبوت له.
قال رضي الله عنه : (فأراد بالرب ثبوت التكوين إذ لا يصح إلا هو) أي لا يصح الترقي في السلوك إلا بالثبوت في التكوين وهو التكون في الأسماء وهو أعلى من التمكين فيها .
فالتجاء نوح عليه السلام في دعائه إلى ما يعطى هو هذا المقام له إذ لا يقضي الله تعالی حاجته إلا على أيدي هذا الاسم (لا تذر على الأرض يدعوا عليهم أن يصيروا في بطنها لئلا يضلوا عباد الله ويصلوا إلى مطلوبهم في بطن الأرض وجاء كون الحق في بطن الأرض و في بطون جميع الأشياء في المحمدي لو دليتم بحبل ليهبط على الله له ما في السموات وما في الأرض) .
فإذن كان الحق في باطن الأرض المعنوي والصوري.
قال رضي الله عنه : (فإذا دفنت فيها) بالموت الإرادي (فأنت فيها) مع الحق (وهي ظرفك) فأشار نوح عليه السلام إلى هذا المقام الأعلى .
والي أهله من المؤمنين كما أراد بالمفهوم الأول الكافرين وجاء دفنك في الأرض والإخراج منها بعد الدفن في قوله تعالی : "وفيها" أي في الأرض ("نعيدكم") بالموت الإرادي ليوصلكم إلي ("ومنها نخرجكم تارة أخرى ") حتى تظهروني و ترشدون عبادي إلي .
وإليه أشار بقوله: (لاختلاف الوجوه) فإن الإعادة لها وجه والإخراج له وجه فاختلاف الوجوه اقتضى ذلك ثم رجع إلى آية نوح عليه السلام فقال : (من الكافرين) أي "لا تذر على الأرض من الكافرين" (الذين "واستغشوا ثيابهم") [نوح: 27] . أي الذين ستروا وجوداتهم بوجود الحق.
("جعلوا أصابعهم فى أذانهم ") [نوح: 7] و جعل الأصابع في الآذان في حقهم عبارة عن مباشرة أسباب أفنائهم قواهم الظاهرة حتى لا يسمعوا غير الحق.
كما أن الكفار تصامموا حتى لا يسمعوا الحق وإنما فعلوا ذلك (طلبا للستر) أي لأجل طلبهم الستر من دعوة نوح عليه السلام فالمؤمنون طلبوا ستر وجودهم بوجود الحق في الأرض المعنوية وهي باطن الملك كلها .
كما أن الكافرين طلبوا ستر وجوداتهم بوجود الحق في الأرض الصورية فتجلى الله لهم بالنهارية وإنما طلبوا الستر (لأنه) أي لأن نوح (دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر) ففهموا منه كل واحد منهم على حسب ما يليق بحالهم فطلبوا الستر على حسب فهمهم فدعا عليهم على حسب طلبهم.
(دیارا) أي لا تذر من طالب السن من المؤمنين والكافرين أحد (حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة) المؤمنين والكافرين فإن المنفعة الدعوة الإيصال إلى المدعو إليه.
وهذه المنفعة وإن حصلها الكفار لكن لم تنفع لعدم وقوعه في أوانه .
فلما دعا نوح عليه السلام من الله إهلاك قومه عرض على الله تعالی مسببا دعائه عليهم.
فقال رضي الله عنه : ("إنك إن تذرهم" أي تدعهم وتتر?هم) على حال بشريتهم على الأرض (يضلوا عبادك أي يجبروهم ويخرجونهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم) بسبب خروجهم من عبوديتهم (أربابا بعد ما كانوا عند نفوسهم عبيدا).
فإذا كان كذلك (فهم العبيد الأرباب "ولا يلدوا" أي ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أن مظهرا ما ستر) على البناء للمفعول أي مظهرا ما ستره الحق من الربوبية في مظاهره (كفارا أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر) من الربوبية (ثم يسترونه بعد ظهوره) بحسب اقتضاء المقامين من الربوبية والعبودية يعني تكلموا تارة عن وحدة الوجود وآثارها وأحكامها من الربوبية ويظهرون للسامعين أسرار الربوبية فيهم وتارة تكلموا من الكثرة والعبودية.
(فيحار الناظر) السامع لكلامهم (فلا يعرف) الناظر (قصد الفاجر) أي قصد المظهر ما ستر الحق من الربوبية (في فجوره) أتي في إظهاره سر الربوبية (ولا الكافر في كفره) ولا قصد الساتر في ستره .
(والشخص واحد) والحال أن المظهر والسائر وأحد كيف يناقض نفسه فلما دعاهم إلى الله تعالى ليغفر لهم أي ليستر لهم ودنا عليهم بالستر دعا لنفسه ولاتباعه بالستر وهو عين ما دعاهم إليهم .
فنوح عليه السلام ما أراد لغيره شيئا إلا ما يريد لنفسه فكان دعاؤه عليهم الله تعالی لا لمراده نفسه من الانتقام وغيره .
بقوله رضي الله عنه : ("ربي أغفر لي" أي استر لي واستر من أجلي) ولو كان المراد لنفسه لما دعا لنفسه بمثل ما دعا عليهم عطف تفسير لقوله :
استر لي أي استر ذاتي من أجلي بأنوار ذائك حتى تهلك فيك أبدأ كما يهلك القوم فيك أبدأ بدعائي عليهم .
فدعا كلهم بالستر لئلا يضلوا عباده ودعا لنفسه بالستر كي يجهل قدره لأن مجهول القدر من أجل علو المرتبة (فيجهل مقامي وقدري) بحيث لا يطلع أحد غيرك على مقامي ولا يصل إليه (كما جهل قدرك في قولك "وما قدروا الله حق قدره") [الأنعام: 91] .
فدعا لنفسه من الله تعالی مقاما مختصا لله حثی اتحد معه فيه بحيث لا يسعه غيره وذلك من علو همنه لنفسه ("ولوالدي" من ?نت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة ولمن دخل بيتي أي قلبي) وهو القوي الروحانية .
(مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه) أي في القلب (من الإخبارات الإلهية وهو) أي ما يحصل في القلب (ما حدثت) أي أخبرت به (أنفسها) أي أنفي النفوس وتأنيث الضمير باعتبار النفوس (وللمؤمنين من المعقول والمؤمنات من النفوس "ولا تزيد الظالمين) [نوح: 74] . مأخوذ ( من الظلمات أهل الغيب) عطف بيان للظالمين (المكتشفين خلف الحجب الظلمانية "إلا تبارا") أي هلاكا فيك .
فإذا هلكو (فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم) أي من دون أنفسهم وما أشار إليه نوح عليه السلام في دعائه بالتبار (جاء في المحمديين في كل شيء هالك إلا وجهه [القصص: ۸۸]. و التبار الهلاك) .
فالظالمين ههنا غير ما ذكر في الأول، وهذا أعلى من الأول لذلك دعا في حق الأول بزيادة الحيرة بقوله :"إلا ضللا " أي حيرة فهم المتحيرون والحيرة من بقاء الوجود.
في الثاني بزيادة الهلاك بقوله : "إلا تبارا" فهم الهالكون المتخلصون عن قيد الحيرة إذ لا وجود لهم بسبب هلاكهم في الله .
فهم أعلى من الأول في مقام الفناء وإن كان الأول أعرف في مقام العرفان (ومن أراد أن يقف بتمامه على أسرار نوح عليه السلام فعليه بالترقي في فلك نوح) وهي الشمس .

(وهو) أي الوقوف على أسرار نوح عليه السلام أو فلك نوح مذكور (في النزلات الموصلية لنا) فإن ما ذكرته من أسراره ثم لم يذكر ههنا.
.







4N9Quurkpb0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!