موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح بالي أفندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مصطفي سليمان بالي زاده الحنفي

فص حكمة علوية في كلمة موسوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة علوية في كلمة موسوية


25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مصطفي بالي زادة الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
أورد الحكمة العلوية في كلمة موسى عليه السلام فإن علو موسى عليه السلام يقتضي من هو علا عليه باعتبار إبطال دعوى علوية من هو علا عليه وأنه قال تعالى في حقه :لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى[ طه : 68 ]
فكان موسى عليه السلام علا على من ادّعى العلوية الربوبية بقوله "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى " فأبطل دعويه الكاذبة وسحره ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ) عليه السلام ( ليعود إليه ) أي إلى موسى عليه السلام ( بالامداد حياة كل من قتل من أجله ) أي يمددن موسى عليه السلام في هلاك فرعون ويعينونه فيه فكان موسى أعلى على فرعون بالامداد من أرواحهم وإنما يعود إليه بالامداد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأنه قتل على أنه موسى وما ثمة ) أي وما في قتل الأبناء من أجل موسى ( جهل )لعلمه بأن من الكائن قد يدفع بمباشرة الأسباب إذ ليس بلا حكمة يعني ما قتل الأبناء من أجل موسى عن جهل بل إنما قتل من أجله عن علم وحكمة وهي العود إليه بالامداد .
ولو لم يقتل من أجل موسى لا يعود إليه بالامداد فقد كان في علمه تعالى أن موسى لا يعلو على فرعون إلا بالامداد ممن قتل من أجله على يد فرعون إلا ما هو في علم اللّه
ويجوز أن يكون معناه وما ثمة جهل أي وما قتل الأبناء على أنه موسى عليه السلام جهل بل علم قتل كل واحد منهم على أنه موسى بالنص الإلهي أو معناه وما جهل فرعون أن قتل الأبناء على أنه موسى عليه السلام ليس بموسى فكان ذلك القتل عمدا وظلما فوجب عليه القصاص فعلى كل حال .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا بد أن تعود حياته على موسى أعني حياة المقتول من أجله ) وفيه معنى لطيف وهو أنه لما قتل فرعون على أنه موسى وجب عليه القصاص فوجب على موسى أداء من قتل من أجله فاجتمعوا مع موسى وطلبوا حقهم منه .
فكأنهم قالوا يا موسى إنا قد قتلنا من أجلك فكان لنا حقا ثابت عليك فأدّ إلينا حقنا فقتل موسى فرعون أداء لما هو عليه من حقهم فما كان قتل فرعون على الحقيقة إلا قصاصا ( وهي ) أي حياة المقتول .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( حياة ظاهرة على الفطرة لم تدنسها الأغراض النفسية بل هي على فطرة بلى ) فهي أرواح لطيفة مجردة عن تعلق الصور المادية وأنوار لطيفة وكذلك روح موسى نور لطيف فناسب كل منهم الآخر كذلك اتحد كلهم كاتحاد نور القمر والشمس في النهار
فمثل هذه الأرواح للطافتها قد يتحد بعضها مع بعض ويمتاز أخرى كما يمتاز نور القمر عن نور الشمس بعد اتحاده معها في النهار فإذا انقطع روح موسى عن تعلق الصورة الموسومة العنصرية افترقوا عنه
وامتاز كل واحد منهم على الآخر كما امتاز قبل الاتحاد فانفرد كل واحد منهم كما انفرد قبل الاجتماع ورجع إلى مقامهم الأصلي فانفرد روح موسى كم انفرد قبله فإن لكل صورة روح خاص عند اللّه ممتاز عن روح الصورة الأخرى وبهذ المذكور قد انقطع وهم التناسخ من ظاهر كلامه (فكان موسى ) أي فإذا اجتمع هذه الأرواح الطيبة اللطيفة في حياة موسى
وكان موسى ( مجموع ) بالنصب خبر كان ( حياة من قتل على أنه هو وكل ما كان مهيئا لذلك المقتول ) قوله ( مما ) بيان لما ( كان استعداد روحه ) الضمير يرجع إلى المقتول ( له ) راجع إلى ما في قوله مما ( كان في موسى ) أي ظهرت تلك الكمالات المهيئات للمقتول في استعداد روحه في صورة موسوية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا ) الأمداد ( اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد قبله ) من الأنبياء ولا يكون أيضا بعده فل تعجب اختصاص هذا الحكم بموسى دون غيره من الأنبياء ( فإن حكم موسى ) أي فإن الأحكام الإلهية المختصة لموسى ( كثيرة ) فإن شأن موسى في اختصاص الأحكام الإلهية لا كشأن سائر الأنبياء قبله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنا إن شاء اللّه أسرد منها في هذا الباب على قدر ما بلغ به الأمر الإلهي في خاطري وكان هذ ) الاختصاص المذكور ( أول ما شوفهت ) أي خوطبت ( به ) مشافهة ( من هذا الباب )
أي من الفص الموسوي فإذا كان الأمر في حق موسى على ما ذكرناه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة ) موجودة بوجود واحد بحيث لا امتياز بينه (جمع قوى فعالة ) على صيغة المفعول بدل من قوله مجموع أرواح أي فما ولد موسى إل وهو جمع قوى فعالة ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى المجموع وهو ما يدل من مجموع على م ذكر أو صفة له أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جمع قوى فعالة أو منصوب بنزع الخافض أي كجمع قوى فعالة وإنما قلنا جمع قوى فعالة
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأن الصغير يفعل في الكبير ) لذلك يفعل موسى في صغره لفرعون وغيره لأنه مجموع أرواح الأطفال وهي قوى فعالة ( ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل ) من التنزيل ( الكبير من رياسته إليه فيلاعبه الكبير ) ولهذا صح هذه الملاعبة في الشرع مع أنه قال الشارع كل لعب حرام لأن هذه الملاعبة ليست من فعل الكبير بل فعل الصغير في الكبير يظهر من صورة الكبير يصدر منه بلا اختيار وشعور ولا يؤخذ الفاعل بمثل هذا الفعل .
( ويزقزق ) أي يتكلم الكبير بلسان الصغير ( له ) أي للصغير ( ويظهر له بعقله ) أي وينزل الكبير للصغير في مرتبة عقل الصغير ( فهو ) أي الكبير (تحت تسخيره وهو ) أي الكبير ( لا يشعر ) أنه تحت تسخير الصغير ( ثم يشغله ) أي يجعل الطفل الكبير مشغولا ( بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره هذا كله من فعل الصغير بالكبير وذلك ) أي فعل الصغير بالكبير
(لقوة المقام فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث التكوين والكبير أبعد فمن كان من اللّه أقرب سخر من كان من اللّه أبعد كخواص الملك للقرب منه ) أي لكونهم قريبا من الملك ( يسخرون إلا بعدين كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبرز ) أي يظهر ( بنفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه حتى يصيب منه ويقول إنه حديث عهد بربه ) وبروزه عليه السلام إليه تلقيه إلى ما ينزل عليه من ربه من العلوم والمعارف الإلهية وكشف رأسه رفع التعينات المانعة لوصول الفيض الإلهي
( فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وما أوضحها فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه فكان ) المطر (مثل الرسول ) أي الملك وهو جبرائيل ( الذي ينزل إليه ) أي إلى الرسول (بالوحي فدعاه بالحال بذاته ) أي دعا المطر الرسول بذاته بلسان الحال كما دعا الملك بلسان الوحي ( فبرز إليه ) إلى المطر النازل ( ليصيب منه ما أتاه من ربه ) من المعارف وحقائق العلوم الإلهية كما برز للملك النازل ليصيب من الملك ما أتاه به من ربه من الوحي
( فلو لا ما حصل له ) أي للرسول ( منه ) أي من المطر ( الفائدة الإلهية بما أصاب ) إلى الرسول ( منه ) أي من المطر ( ما برز بنفسه إليه ) فقوله بما أصاب يتعلق بقوله حصلت وفاعل أصاب يرجع إلى ما ، وما في قوله فلو لا ما حصلت زائدة زيدت لتأكيد الفائدة الحاصلة من المطر .
( فهذه ) أي ما ذكر من أحوال النبي مع المطر ( رسالة ماء جعل اللّه منه كل شيء حي فافهم)
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم ) وهو المسمى بالنبل ( فالتابوت ) إشارة إلى ( ناسوته ) وهو الجسم العنصري الموسوي ( واليم ) إشارة إلى ( ما حصل له ) أي لموسى ( من العلم بوساطة هذا الجسم ) قوله ( مما ) بيان للعلم ( أعطته ) ذلك العلم لموسى ( القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية )
قوله ( التي ) صفة لقوى المذكورة كله ( لا يكون شيء منها ) أي من تلك القوى ( ولا ) يكون أيض (من أمثاله لهذه النفس الانسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري )
فالجسم العنصري الانساني أجل مخلوق اللّه تعالى خلقه اللّه للإنسان ليحصل كمالاته المودعة في نشأته وبه عظم اللّه آدم فأمر الملائكة بالسجود .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل اللّه لها ) أي للنفس الانسانية ( هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده اللّه منها ) أي من النفس ( في تدبير هذ التابوت الذي فيه سكينة الرب ) إذ ربوبيته تعالى لا تزال تتحرك إلى أن تصل إلى هذا المربوب التام فسكن فيه الرب لحصول ما هو المقصود من الربوبية بهذا التابوت دون غيره.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فرمى به ) على صيغة المجهول أي رمى موسى بالتابوت أو المعلوم أي رمى الحق موسى بالتابوت على يد أمّه (في اليم ليحصل ) أي ليكون موسى مستعليا ( بهذه القوى ) وهي القوى المذكورة للنفس بواسطة الجسم العنصري ( على فنون العلم ) يعني أن هذا الرمي إشارة إلى النفس الانسانية ألقيت في تابوت البدن ورميت به في يم العلم لتكون بهذه القوى الحاصلة لها في التابوت مستعلية على فنون العلم ( فأعلمه ) أي الحق موسى ( بذلك ) الرمي ( أنه ) أي الشأن ( وإن كان الروح المدبر له ) أي للتابوت هو الجسم العنصري ( هو الملك ) بفتح الميم وكسر اللام إذ الروح مالك التابوت وجاز بكسر الميم وسكون اللام فإن الروح ملك الحق ( فإنه ) أي فإن الشأن ( لا يدبره ) أي لا يدبر هذا التابوت ( إلا به ) أي بسبب هذا التابوت ( فاصحبه ) أي فاصحب اللّه الروح ( هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر ) على البناء للمفعول من التعبير ( عنه بالتابوت في باب الإشارات ) قوله ( والحكم ) على صيغة الجمع أي يقال في اصطلاح أهل الإشارة للناسوت تابوتا فدبر الروح ملكه الذي هو الجسم العنصري بملكه التي هي القوى الكائنة في هذا الناسوت فدبر ملكه بملكه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كذلك تدبير الحق العالم فإنه ما دبره إلا به ) أي الحق ما دبر العالم إلا بالعالم ( أو بصورته ) وتفسير الصورة سيأتي من بعد فأيا ما كان ( فما دبره إلا به ) أي فما دبر الحق العالم إلا بالعالم إذ صورة العالم من العالم لكنه ليس من عالم الناسوت فجعل مقابلا تارة بقوله أو بصورته ومتحدا بقوله فما دبره إلا به
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كتوقف الولد على إيجاد الوالد والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلته والمحققات ) بفتح القافين (على حقائقه وكل ذلك من العالم وهو) . أي توقف المذكور
( تدبير الحق فيه )أي في العالم ( فما دبره إلا به وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به ) أي بقوله صورة العالم ( الأسماء الحسنى والصفات العليا ) قوله (التي ) صفة للأسماء والصفات ( تسمى الحق بها ) أي بالأسماء الحسنى ( واتصف ) الحق ( بها ) أي بالصفات العلي
"" كنار موسى يراها عين حاجته ..... وهو الإله ولكن ليس يدريه ""
وإنما فسر الصورة هاهنا بالأسماء الحسنى والصفات العليا مع أن صورة العالم هي الأعيان الثابتة في العلم وهي مظاهر الأسماء الحسنى والصفات العلي نظر إلى اتحادهما بالذات فإذا دبر الحق العالم بالأسماء والصفات
قال رضي الله عنه : ( فما وصل إلينا من اسم تسمى به ) الحق ( إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم فما دبر العالم أيضا ) كتدبيره بالعالم ( إلا بصورة العالم ) فاجتمع في كل فرد فرد من العالم الناسوت تدبيران من وجهين تدبير بصورته وهي الأسماء الحسنى وحينئذ ليست الأسماء الحسنى والصفات العليا والأعيان الثابتة في العلم من العالم بل هي صورة العالم فصورة العالم ليست من العالم بالنسبة إلى ذي الصورة ، وأما بالنسبة إلى ذات الحق المدبرة لها فهي من العالم فذات الحق مدبرة لها فالمراد هاهنا بالعالم ما عد الأسماء الحسنى إذ الكلام في عالم الناسوت وهو التابوت والعالم الجسماني وعالم الملك لا في عالم اللاهوت وهو عالم الأسماء والأرواح فتدبير الحق في مثل هذ العالم عالم الأسماء لا يكون إلا بذاته لا بواسطة أمر آخر بخلاف عالم الناسوت فل بد من تدبير الحق فيها من واسطة وتدبير العالم بالعالم مثله فالحرف الفاصلة بمعنى الواصلة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولذلك ) أي ولأجل أن الحق ما دبر العالم إلا بصورة العالم (قال في خلق آدم الذي هو البرنامج ) أي الأنموذج ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعالقوله إن اللّه خلق آدم على صورته )مقول قال ( وليست صورته ) أي صورة الحق ( سوى ) تلك ( الحضرة الإلهية فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية و ) جميع ( حقائق ما خرج ) هو ( عنه ) أي عن هذا المختصر
قال الشيخ رضي الله عنه : ( في العالم الكبير المنفصل ) وإنما قال حقائق ما خرج عنه إذ ما يوجد في المختصر جميع ما في العالم الكبير بصورها وتشخصاتها وتعيناتها بل ما يوجد ما في العالم الكبير إلا بحقائقها وهي الأمور الكلية التي تحتها أفراد شخصية فلا يوجد في الإنسان الكامل الأشخاص الجزئية الموجودة في العالم الكبير بل توجد حقائق تلك الأشخاص فيه ( وجعله روحا للعالم ) الكبير المنفصل ( فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة ) التي خلق اللّه الإنسان الكامل عليها فالمراد بآدم في قوله خلق آدم على صورته هو آدم الحقيقي الذي يسمى الإنسان الكامل والروح المحمدي
وهو قوله أول ما خلق اللّه روحي وهو عالم اللاهوت لا آدم الصوري العنصري وهو جزء من عالم الكبير عالم الملك مسخر لهذ الروح الكليوهو صورة العالم الكبير وروحه فدبر الحق الإنسان الكامل بذاته ودبر العالم بالإنسان الكامل
قال رضي الله عنه : ( فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح اللّه بحمده كذلك ليس شيء في العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ) أي تقتضي حقيقة الإنسان الكامل وهو صورة العالم أن يكون العالم كله مسخرا له
قال الشيخ رضي الله عنه : (فقال وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاًمنه وكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك ) أي علم كون كل ما في العالم تحت تسخير الإنسان ( من علمه ) أي من علم الإنسان ( وهو ) أي العالم بذلك (الإنسان الكامل ) إذ علمه عن كشف إلهي وتجلي جمعي ( وجهل ذلك ) التسخير (من جهله ) أي من جهل الإنسان
قال رضي الله عنه : ( وهو ) أي الجاهل بذلك ( الإنسان الحيوان فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت في اليم صورة هلاك في الظاهر وفي الباطن كانت نجاة له من القتل ) فدبر الحق حياة موسى في صورة الهلاك
( فحي ) موسى بأليم من موت القتل ( كما تحيى النفوس بالعلم عن موت الجهل كما قال أو من كان ميت يعني بالجهل فأحييناه يعني بالعلم ،وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وهو ) أي النور ( الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وهي ) أي الظلمات
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الظلال ليس بخارج منها أي لا يهتدي أبدا فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة فيعلم ) الإنسان ( أن الأمر حيرة ) فالظلال هاهنا ما يقابل الحيرة الحاصلة من العلم إذ هو تفسير للظلمات وهو الجهل وهو لا يهتدي الإنسان به إلى الحيرة فلا يعلم أن الأمر حيره .
( والحيرة قلق ) بثلاث فتحات ( وحركة ) عطف تفسير للقلق ( والحركة حياة فلا سكون فلا موت ) أبدا لمن كان حيا بحياة العلم ( ووجود ) عطف على حياة أي الحركة وجود ( فلا عدم ) فظهر بذلك أن العلم حياة ووجود والجهل موت وعدم ( وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض ) أي كما أن حياة الإنسان بالعلم كذلك حياة الأرض بالماء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وحركتها ) أي حركة الأرض ( قوله فاهتزت ) وهو قوله "وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً" أي ميتة ساكنة فَإِذ أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحركت والحركة حياة فكانت الأرض الميتة حيا بالماء كما أن النفوس الميتة حيا بالعلم وَرَبَتْ أي ازدادت (وحمله قوله "وَرَبَتْ" وولادتها قوله "وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" أي أنها ) أي الأرض ( ما ولدت إلا من يشبهها أي طبيعيا مثله ) كما أن أرض بدن الإنسان ما ولدت إلا مثلها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها ) أي للأرض ( بما تولد منها وظهر عنها كذلك وجود الحق كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ) أي بسبب ما ( ظهر عنه ) أي عن الحق ( من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية ) ليظهر عن الحق سبب اتصافه به (فثنيت به ) على صيغة المجهول من باب التفعيل أي شفعت بسبب العالم (وبخالقه ) بالقاف أي وبسبب خالق العالم إذ الحق لا يوجد العالم إلا من حيث اتصافه بحقائق الأسماء الإلهية وهي الحياة والعلم والقدرة فثنيت بهذا المجموع أي العالم وحقائق الأسماء وبالفاء أي ثنيت بالعالم وبالأسماء ، إذ الأسماء والعالم حضرتان متقابلتان بالربوبية والمربوبية فالمعنى واحد بل الفاء أقرب إلى الفهم وأنسب بالمقام لأن الأسماء الحسنى ما ذكرت في هذا المقام إلا مقابلا ومخالف للعالم فهي خلاف العالم وصورته وروحه المدبرة له قال الشارح القصيري وصحف بعض الشارحين قوله بخالقه وقرأ بخالفه من الخلاف وهو خطأ تم كلامه فانظر بنظر الانصاف هل هو محل تخطئة أم لا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أحدية الكثرة ) مفعول قام مقام فاعل ثنيت ( وقد كان ) والحال أن الحق ( إحدى العين من حيث ذاته ) غني عن العالمين واحدية الكثرة نشأ بما ظهر عنه من العالم.
قال الشيخ رضي الله عنه : (كالجوهر الهيولاني احدى العين من حيث ذاته كثير من حيث الصور الظاهرة فيه ) أي في الجوهر ( حامل لها بذاته ) بين أوّلا أن الحق أحدى العين من حيث ذاته وكثير بالأسماء والعالم وشبه بالجوهر الهيولاني ثم عكس التشبه اهتماما في بيان هذه المسألة التي هي أصل المسائل الإلهية .
فقال ( كذلك ) أي كالجوهر الهيولاني ( الحق ) إحدى العين من حيث ذاته كثير ( بما ظهر منه من صور التجلي وكان ) الحق ( مجلى صورة العالم مع أحديته المعقولة ) كالمرآة الواحدة التي كانت مجلى للصور الكثيرة مع أحديتها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص اللّه بالاطلاع عليه من شاء من عباده ) وإنما كان هذا التعليم إلهيا إذ كل ما ذكر من التعليم هو التحقيق الذي علمه اللّه في كلامه المجيد ( ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة سماه فرعون موسى والمو هو الماء بالقبطية وسى هو الشجر فسماه بما وجده عنده فإن التابوت وقف عند الشجرة في اليم فأراد قتله فقالت امرأته ) آسية وكانت ( منطقة بالنطق الإلهي ) أي هي التي أنطقها اللّه من غير اختيار ( فيما قالت لفرعون ) وإنما قالت منطقة بالنطق الإلهي ( إذ كان اللّه خلقه للكمال كما قال عليه السلام عنهاحيث شهد لها ولمريم بنت عمران ) .
قوله رضي الله عنه : ( بالكمال ) يتعلق بقوله شهد أي شهد بالكمال ( الذي هو للذكران ) وهذ معنى حديث النبي عليه السلام : "كملت من النساء أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة "
""ورد بلفظ: « كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران » ذكره البخاري ومسلم والترمذي .
فشهد رسول اللّه عليه السلام في حقهن بالكمال الذي هو للرجال فجعل رسول اللّه عليه السلام آسية من زمرة الرجال فكانت منطقة بالنطق الإلهي أي تخبر عن الكمال الذي يحصل لها ولفرعون بموسى فكلاهما صدق واقع ( فيما قالت لفرعون في حق موسى أنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فلما قالت كذلك ( فبه )أي فبموسى ( قرة عينها ) أي عين آسية ( بالكمال الذي حصل لها ) أي أعطاها اللّه ذلك بسبب موسى.
( كما قلنا ) من أن الرسول عليه السلام شهد لها بالكمال الذي هو للذكران فكان قرة عين لها بهذ الكمال المشهود به .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان ) موسى ( قرة عين لفرعون بالايمان الذي أعطاه اللّه عند الغرق ) والمراد بذلك الكلام إتيان الشاهدة للعادلة لإيمان فرعون من النساء الصادقة المكرمة عند اللّه متزكي بقول الرسول حيث قال عليه السلام عنها حيث شهد له (فقبضه اللّه ) على تقدير ثبوت ما ذكر من الدليل ( طاهرا ) أي حال كونه طاهرا ( مطهرا ) من حيث البدن والروح ( ليس فيه ) أي بحيث ل يوجد فيه عند الانتقال ( شيء من الخبث ) وهو الشرك وإنما قلنا قبضه على الطهارة ( لأنه ) أي لأن الشأن ( قبضه اللّه عند إيمانه ) وهو قوله آمنت بالذيآمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَفظهر جسده وروحه بالايمان ثم قبض فكان قبض الروح واقعا بعد الايمان ( وقبل أن يكتب شيئا من الآثام والإسلام يجب ) أي يسقط ويمحو ( ما قبله ) .
من حقوق اللّه ومقتضى مثل هذا الايمان أن يجعل صحيحا معتدّا به أي لم يعارضه الدليل أو لم يردّ المنع على دليله فسنذكره إن شاء اللّه ما فيه من المنع والمعارضة فقوله وكانت منطقة بالنطق الإلهي دليل ، وقوله لأنه قبضه دليل
وقوله رضي الله عنه : (وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة اللّه ) دليل وقوله ( فإنه لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ فلو كان فرعون ممن ييأس ) من رحمة اللّه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما بادر إلى الايمان ) دليل وقوله من بعد وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين بالانتقال دليل ونتيجة الدلائل المذكورة .
قوله رضي الله عنه : ( فكان موسى كما قالت امرأة فرعون فيه ) أي في حق موسى ( أنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. . . عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وكذلك وقع فإن اللّه نفعهما به عليه السلام ) أي بموسى ( وإن كانا ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك إله ) وليس كل واحد منها دليلا قطعيا على مقبولية إيمان فرعون وصحته عند المصنف لورود المنع على كل منها لا مجموعها دليلا عنده أيضا على صحة إيمانه لتعارض الإجماع .
أما الأول فلأن قوله وكانت منطقة بالنطق الإلهي أنه قرة عين لي ولك عسى أن ينفعنا احتمل أن يكون من قبيل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فكان هذا القول من الكاملة نجاة لموسى عليه السلام عن القتل عن يد فرعون سواء كان موسى قرة عين لفرعون بالايمان أم لا ،
فكان سببا لحياة موسى فلا يلزم الكذب على تقدير عدم صحة الايمان لصدور هذا الكلام عن حكمة وهي النجاة عن القتل فوقع كما قالت مع أنها ل تقول هذا القول إلا على مراد فرعون مما في قلبه من تشوق الولد
فإن الصبيان قرة عين للأبوين فكان موسى قرة عين لفرعون في زمان صباوته فصدقت في قولها عسى أن ينفعنا من غير احتياج إلى صحة الايمان .
وأما الثاني فلأن قوله لأنه قبضه عند إيمانه نص في وجود الايمان ولا يلزم منه الدلالة على صحة الايمان أي على منفعته لجواز ثبوت الايمان ولا منفعة لعدم وقوعه في وقته إذ الايمان هو التصديق بما جاء به من عند اللّه والمقبولة خارجة عن ماهية التصديق لازمة له بحسب الوقت كقوله يوملا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُه.
وأما الثالث فلأن قوله وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء ممنوع لكثرة الدلالة على عنايته سبحانه في الاخبارات الإلهية فلا احتياج إلى الدليل على عنايته بمن شاء إلى صحة إيمانه .
وأما الرابع فلأن قوله فلو كان فرعون ممن ييأس من رحمة اللّه ما بادر إلى الايمان
يحتمل أن يكون فرعون بادر إلى الايمان ولم يكن مأيوسا عن رحمة اللّه بل راجيا رحمته من اللّه وبادر إلى الايمان
وكان كافرا لعدم وقوع رجاء الرحمة كما آمن الناس كلهم عند طلوع الشمس مغربها وذلك الايمان لا يكون إلا عن رجاء
فإنهم لا ييأسون ويبادرون إلى الايمان لكنهم كافرون لعدم وقوع رجائهم وإيمانهم في وقته فكان إيمان فرعون ضروريا خارجا عن الاختيار لانكشاف ما جاءت به الاخبارات الإلهية من الوعد والوعيد .
وأما الخامس فلأن قوله وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين بالانتقال لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق فإنه يجوز أن يكون إيمانه في تلك الساعة للنجاة عن الهلاك وأسرّ في نفسه بعدها دعوة الربوبية فعلم اللّه منه ذلك فلم يقبل إيمانه
وسبب ذلك أن فرعون حيث رأى السحرة لما آمنوا نجوا عن الهلاك فزعم أن مجرد الإقرار باللسان سبب النجاة عن الهلاك ففعل فعلا لم ينفع له في الدنيا والآخرة
فقد ظهر لك أن قوله فقبضه اللّه طاهرا مطهرا لا يثبت عنده إل على تقدير ثبوت الأدلة المذكورة في إثباته
فلم يكن هذه الأدلة عنده نصوصا في إيمانه كما لم تكن الأدلة الدالة على شقائه في الآخرة عند أهل الظاهر نصوصا عنده لأن قوله تعالى :"آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" [ يونس : 91 ] ، يحتمل أن يكون عتابا لفرعون لا رادّا للإيمان وكذا سائر الآيات الدالة على شقائه مثل هذه الآية فلما لم ينص المصنف بآية من القرآن الكريم وبحديث النبي في سعادته وشقاوته في الآخر ذهب إلى التوقف في حق فرعون فقال والأمر فيه إلى اللّه وأما حديث ابن عباس أنه لما قال فرعون لا إله إلا اللّه أتاه جبرائيل فحاشى فاه التراب خشية أن تدركه الرحمة فنص في منع الرحمة عقيب الايمان لا غير
ولو كان له نص في ذلك لوجب عليه الحكم بمقتضى النص فقال والأمر فيه إلى الايمان ، ولم يقل كذلك إشارة إلى ورود المنع المذكور ولم يترجح أحد الدليلين على الآخر عنده فتوقف فمن عثر مراتب الأدلة لم يعسر عليه قبول مثل هذ الكلام
ولا تعرف أن التوقف في مثل هذا المقام مثل هذا الكامل يخالف الإجماع
وإنما المخالف من ذهب إلى صحة إيمانه حاشا من العقلاء فضلا عن هذا الكامل فإن التوقف هو الوقوف مع النسبة الحكمية وهو نوع من التقليل إلى الجماعة ودخول فيهم في الجملة لأنه الوقوف مع خلفهم لإخلافهم الذي هو صحة الايمان فلا يكون خارجا منقطعا عنهم ولئن سلم التوقف ليس مذهب الشيخ
وإنما مذهبه ما قاله في الفتوحات المكية فرعون ونمرود مؤبدان في النار
والمراد في هذا المقام إظهار الدلائل الموصلة إلى التوقف التي لم يتفطن عليها علماء الرسوم ولا يأتيها أحد غيره من أهل اللّه فلا يكون التوقف مذهبا للشيخ كيف ؟
وقد قال في هذا الكتاب وفي بعض كتبه لا بد لأهل الكشف أن يتبع إماما من الأئمة الأربعة في الاعتقادات الدينية والعمليات الشرعية ولا شك أن شقاء فرعون من الاعتقادات الدينية وإلا لما كفر من قال بإيمانه ولا دلالة في عبارات الكتاب على صحة إيمانه
بل عبارته كلها تدل على جواز صحته بالنظر إلى ظاهر القرآن من غير نظر إلى الإجماع لتوقفه في آخر المسألة فيما ذكرناه حصل التوفيق بينه وبين أهل الشرع عند أهل الانصاف
فظهر لك أن ما يقوله الناس في هذه المسألة في حق الشيخ افتراء منهم عليه
ولعل غلط العامة ينشأ من كلام الشارحين الذي لم يصلوا بروحانية الشيخ وبينوا كلامه على خلاف مراده لعدم مناسباتهم بالمجردات وموضع غلطهم قوله في حق فرعون فقبضه اللّه طاهرا مطهرا .
قال داود القيصري في شرح هذا الكلام:
لما كان إيمان فرعون في البحر حيث رأى طريقا واضحا عبر عليها بنو إسرائيل قبل التغرغر وقبل ظهور أحكام الآخرة له مم يشاهده الناس عند الغرغرة جعل إيمانه صحيحا معتدّا به فإنه إيمان بالغيب.أه تم كلامه
وليس بصحيح لأنه لو جعل إيمانه صحيحا معتدّا به لم يتوقف في آخر كلامه أصلا فقد توقف وجعل الإجماع دليلا على توقفه
فقال هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ولم يقل نص ثم نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه
فتبين آخر الكلام ما هو المراد من قوله فقبضه اللّه طاهر مطهرا وهو الجواز لا الصحة أي فجاز أن يقبضه اللّه ظاهرا مطهر
وقد ثبت في علم الأصول أن الكلام يتوقف على آخره إن كان آخره مغيرا بمنزلة الشرط والاستثناء
والشيخ قد حرر كلامه في مسألة فرعون على هذه القاعدة وإن كان منفصلا في الظاهر لكنه متصل في المعنى
لأن الكلام في مسألة واحدة وهي مسألة فرعون مع أنه جاز عند البعض منفصلا فالحكم والاعتبار للآخر دون الأول
فكل ما ذكر من الأدلة في حق إيمان فرعون مجمل يحتمل البيان ، فقوله :
ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه بيان المجمل وهو بيان تفسير فيصح موصولا ومفصول
وما علم هذا الشارح مراد النص ، فغلط ومن غلطه غلط بعض الناس حتى أكثر الصوفية في زماننا فشاع هذا المعنى فيما بينهم فاشتهر فزعموا أن الشيخ قد ذهب إلى أن فرعون من أهل الإسلام وهو بريء من زعمهم هذا .
والمقصود أن اللّه قد تجلى لأهل اللّه برحمته فانكشف لهم جواز الرحمة في حق فرعون من وجوه الآيات وإشاراتها التي لا تنكشف للعلماء وسيتم الكلام في المسألة في آخر الفص إن شاء اللّه .
فإن قيل فما الحكمة في انكشاف هذا المعنى في حق فرعون من الآيات لأهل اللّه وعدم انكشافه لأهل الظاهر
قلنا : أما عدم الانكشاف فلأنه لما كان رجاء العوام غالبا على خوفهم لبعضهم عن الحق باحتجابهم بالصفات النفسانية ،
وكان العلماء رئيسهم ومقتداهم جعل اللّه في قلوبهم غيرة وجرأة حتى اجتمعوا وحكموا بحسب ورود ظاهر القرآن على شقائه في الآخرة ، فلم ينكشف لهم هذا المعنى اللطيف من الآيات ليظهر هذه الحكمة المقصودة ظهورها .
فلو كشف اللّه لهم ما كشف لأهل الفناء لم يظهر منهم هذا الحكم بل يظاهرون جواز الرحمة فيهلك الناس من الجهلاء بتخفيف الشرع المطهر فإنهم إذ سمعوا من علمائهم الذين هم رئيسهم جواز رحمة اللّه بمثل هذا الكافر المدعي الربوبية كانوا مغرورين بكرمه ولطفه وسعة رحمته ،
فزال عن قلوبهم خوف عظمة اللّه وكبريائه وقهاريته فاجترءوا على اللّه وارتكبوا المنهيات فهلكوا في بحار العصيان كهلاك فرعون وقومه .
وأما الانكشاف فلأنه لما كان خوف هذه الطائفة غالبا على رجائهم لأنهم أهل فناء وأهل قرب وكان حالهم أن يروا أنفسهم أحقر الأشياء وإذ لها عند اللّه حتى يشاهدون عند غلبة الفناء أن الكفار أعز وأكرم منهم عند اللّه فلو لم يطلعهم اللّه بإشارات القرآن الكريم في حق فرعون لمالوا عن الاعتدال
وهو بين الخوف والرجاء وخرجوا عن دائرة العقل بسبب ازدياد خوفهم ويبقو حيارى ساقطين عن العمل أو تصدعت قلوبهم من خشية اللّه لشهود استحقاقهم بعذاب اللّه
فأظهر اللّه لهم شمول رحمته بأخبث الأشياء وهو المدعي الربوبية تسلية لهم وحفطا عن مثل هذه المهالك
فكانت هذه الدلائل الرحمانية آية لأهل الفناء حتى لا ييأس أحد منهم من رحمة اللّه فهم بتلك الدلائل يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ . وبالدلائل القهارية يخافون عذاب اللّه .
فهم بين الخوف والرجاء بالآيات الواردة في حق فرعون فإنهم إذ نظروا إلى الإجماع خافوا عقاب اللّه وإذا نظروا إلى إشارات الآيات يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
فهم صاحب الدليلين لأنهم جامعون بين الشريعة والحقيقة وتلك الدلائل القهارية والانتقامية وهي الإجماع .
وظاهر القرآن آية لأهل الوجود حتى لا يجترئ أحد منهم على المعاصي فهم بذلك يخافون عذاب اللّه فقط حيث قهره اللّه ومن تابعه في الدني بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأبدي ولا رجاء لهم في حق فرعون لعدم اطلاعهم بالحقائق القرآنية .
فهم صاحب دليل واحد وأم حكمة ظهور هذه المعاني من لسانهم فهي ابتلاء من اللّه للراسخين في العلم من علماء الظاهر .
حتى علموا أن للَّه عبادا لم يصلوا درجتهم في رتب العلم ويلقو أنفسهم في مدرجة العجز ويضمحل علمهم في علم ذلك العبد .
فمثل هذا الكلام من كراماتهم القولية وتشابهاتهم يصدر منهم بأمر اللّه تعالى ومن لم يعلم محكمات أقوالهم أو لم يردّها إلى المحكمات فقد أخط باتباعه بالمشابهات فضل وأضل وأنكر وظن السوء لخفاء سببها عليه .
فبعد صدور مثل هذا الكلام منهم وقع الخلاف بين الناس فمنهم من علم مرادهم من كلامهم وعلم مرتبتهم في العلم لسلامة عقلهم وقوة مناسبتهم الروحانية بينهما .
ومنهم من فوّض أمرهم إلى اللّه تعظيما لهذه الطائفة واتصافا من أنفسهم .
ومنهم من أنكر لعدم المناسبة والكل مصيب ومأجور إلا من اتبع المتشابهات وعمل بها فإنه ضال مضل أعوذ باللّه من الاتباع بالمشابهات والعمل به واللّه أعلم بحقيقة الحال .
ثم رجع إلى أحوال موسى عليه السلام فقال:
( ولما عصمه اللّه من فرعون أصبح فؤاد أم موسى فارغا من الهم الذي كان قد أصابها ثم إن اللّه حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ليكمل اللّه لها سرورها ) أي سرور أمه ( به ) أي بالإرضاع أو بموسى ( كذلك علم الشرائع ) من التعلم .
أي كما أن اللّه حرم على موسى المراضع وعلم ثدي أمه من عنده كذلك علم الشرائع لموسى من لدنه وحرم عليه اتباع شريعة غيره .
أو من العلم أي نسبة علم الشرائع مع صاحبها كنسبة موسى مع لبن أمه.
أو معناه كما أن اللّه حرم على موسى المراضع وعلمه طريق لبنه كذلك علم لكل نبي شريعة أي طريقة علمه الذي جاء منها وحرّم على ذلك النبي شريعة غيره كما حرم على موسى ثدي غير أمه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما قال : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً و منهاجا أي طريقا ومنهاجا أي من تلك الطريقة جاء فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء) كل واحد منكم وغذاؤكم الروحاني والجسماني من طريقتكم الخاصة التي هي الأصل ، كما أن موسى وغذاؤه جاء عن أصله وهي أمه.
( فهو ) أي الأصل (غذاؤه ) أي غذاء الذي جاء منه ( كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله فما كان حراما في شرع يكون ) عين ما كان ( حلالا في شرع آخر ) كم أن ما كان حراما لموسى من المراضع يكون حلالا لآخر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( يعني في الصورة أعني قولي يكون حلالا ) أي عينيته الحلال والحرام لا يكون إلا في الصورة ( وفي نفس الأمر ما هو عين م مضى لأن الأمر خلق جديد ولا تكرار ) في نفس الأمر فالخمر الحرام في شرعنا هو عين الخمر المباح في شرع آخر في الصورة وأما في نفس الأمر فليس ما كان حراما في شرع يكون عين ما كان حلالا في شرع آخر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذا ) أي فلأجل كون الأمر خلقا جديدا ( نبهناك فكنى ) الحق ( عن هذا في حق موسى ) إشارة إلى قوله فما كان حراما وإلى قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أو إلى قوله كذلك علم الشرائع .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بتحريم المراضع فأمه ) أي أم الولد (على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة فتكون ) من التكون ( فيها ) أي في رحم الأم ( وتغذى بدم طمثها ) وهو دم الحيض ( من غير إرادة لها في ذلك ) التكون والتغذي ( حتى لا يكون عليه امتنان فإنه ) أي الشأن ( ما تغذى إلا بم أنه ) أي الشأن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو أمسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينه والمرضعة ليس كذلك فإنها قصدت برضاعته وحياته وبقائه ) وقد أشار بذلك أن الأنبياء والمرشدين والمعلمين مرضعة العلم للناس قال الرسول : « أنا أب الأرواح وأم الأشياء » وهو أم ولادة وأم مرضعة كما كان أم موسى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجعل اللّه ذلك ) الرضاع ( لموسى في أم ولادته فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته لتقرّ عينها أيضا ) كما تقرّ عين امرأة فرعون أو كما تقرّ عينها بعصمة اللّه عن الهلاك من فرعون لكون فؤادها فارغا من الهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بتربيته وتشاهد إنشاءه في حجرها ولا تحزن ونجاه اللّه ) أي ونجا اللّه روح موسى ( من غم التابوت ) أي موسى البدن (فخرق ) موسى ( ظلمة الطبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها ) أي عن الطبيعة بالكلية لكن نجى عن حجاب ظلمات الطبيعة ( وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه به فأول ما ابتلاه اللّه به قتله القبطي بما ألهمه اللّه وو فقه له في سرّه وإن لم يعلم بذلك ) التوفيق ( ولكن لم يجد فينفسه اكتراثا ) أي مبالاة (بقتله مع كونه ما توقف ) أي ما صبر ( حتى يأتيه أمر ربه بذلك ) القتل وإنما قتله بإلهام اللّه وتوفيقه مع عدم العلم بذلك الإلهام والتوفيق (لأن النبي معصوم الباطن) عن الكبائر (من حيث لا يشعر حتى ينب أي يخبر بذلك ) أي كونه معصوم الباطن
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا) أي ولأجل عدم شعور موسى بكونه معصوم الباطن ( أراه الخضر قتل الغلام وأنكر عليه ) أي أنكر موسى على الخضر (قتله ) حيث قالأَ " قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً" ( ولم يتذكر ) موسى بقتل الخضر الغلام ( قتله القبطي ) فاحتاج إلى تنبيه آخر ( فقال له الخضر ما فعلته عن أمري ينبهه ) أي ينبه الخضر موسى عليهما السلام بقولهم فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ( على مرتبته ) أي مرتبة موسى ( قبل أن ينب أنه ) أي الشأن ( كان ) موسى ( معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر ) موسى ( بذلك ) أي كونه معصوم الحركة فعلم موسى بذلك التنبيه أن قتله القبطي عن أمر إلهي ( وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنه نجاة من يد الغاضب جعل ) الخضر ( له ) أي لموسى ( ذلك )
أي خرق السفينة ( في مقابلة التابوت له ) أي لموسى ( الذي كان في اليم مطبقا عليه فظاهره هلاك وباطنه نجاة وإنما فعلت به ) أي بموسى ( أمه ذلك ) الفعل وهو جعله في التابوت والقاؤه في اليم ( خوفا من يد الغاضب فرعون ) بدل من الغاضب ( أن يذبحه ضيرا ) وهو ضرب عظيم من الذبح ( وهي ) أي أم موسى ( تنظر إليه ) خوفا من أن يذبحه فرعون على نظر أمه فإنه أشدّ إيلاما من أن يذبحه على غيبتها قوله ( مع الوحي ) يتعلق بقوله إنما فعلت ( الذي ألهمها اللّه من حيث لا تشعر ) فعلم موسى بفعل الخضر بالسفينة أن ما فعلت أمه به ليس عن أمرها بل عن أمر اللّه وإلهامه لها وإن لم تشعر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فوجدت في نفسها أنها ترضعه ) فوقعت كما وجدت في نفسها ( فإذا فعلت ) ذلك الفعل بموسى (خافت عليه الفتنة ) أي خافت على موسى أن يصيبه الفتنة ( في اليم ) وهو خوف غيبته فقوله خافت جزاء لأذا الذي للشرط وفعل الشرط محذوف لوجود قرينة وهي فعلت.
( لأن في المثل عين لا ترى قلب ل يفجع فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر وغلب على ظنها أن اللّه ربما يردّه إليها لحسن ظنها به ) أي باللّه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعاشت بهذا الظن في نفسها والرجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت ) أي حين ألهمها اللّه فعل التابوت ( لذلك ) الرجاء وحسن الظن فقوله لذلك يتعلق بقالت ( لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه فعاشت وسرّت ) من السرور .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بهذا التوهم والظن بالنظر إليها وهو ) أي ذلك التوهم ( علم في نفس الأمر ثم إنه لما وقع عليه الطلب خرج فارّا خوفا في الظاهر وكان في المعنى حبا للنجاة ) ففعل موسى بنفسه مثل ما فعلته أمه به ، فمثل فرار موسى كمثل فعل التابوت من أمه في أن صورة كل منهما خوف ومعناهما حب .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن الحركة أبدا إنما هي حبية ويحجب ) مبني للمفعول ( الناظر فيها ) أي في الحركة ( بأسباب أخر ) كالخوف والغضب وغير ذلك ( وليست تلك الأسباب ) المحجبة للناظر أسبابا لها على الحقيقة بل إنما كان سببا حبا ( وذلك ) أي وبيانه أي أن الحركة لا تكون أبدا إلا حبية ( لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ) العالم ( ساكنا فيه ) أي العدم (إلى الوجود ) يتعلق بالحركة ( ولذلك ) الأصل ( يقال إن الأمر ) أي الوجود (حركة عن سكون فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة الحب وقد نبه رسول اللّه عليه السلام على ذلك ) الحب .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بقوله : « كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف » ، فلو لا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه ) أي في وجوده الخارجي ( وحركته ) أي حركة العالم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك ) العالم أي السبب لحركة العالم حب اللّه الموجد للعالم فكان الحق يحب حركة العالم من العدم إلى الوجود ليكون مرآة لكمالاته الذاتية والاسمائية والصفاتية ( ولأن العالم أيضا يحب ) في حال عدمه ( شهود نفسه وجودا ) خارجيا ( كم شهدها ثبوتا ) أي في الأعيان الثابتة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكانت ) الحركة ( بكل وجه حركته ) أي حركة العالم ( من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق وجانبه ) أي جانب العالم وإنما كانت الحركة حبية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن الكمال محبوب لذاته ) يقول الحركة حبية لأنه وجود عيني والوجود كمال والكمال محبوب لذاته والحركة محبوبة لذاتها ( وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين هو له ) أي هذ العلم علمه تعالى لذاته بذاته مختص للَّه تعالى وهو تمام مرتبة العلم الأزلي القديم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان أعيان العالم إذا وجدت فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث و ) العلم .
( القديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ) أي تكمل مرتبة العلم بالعلم القديم الذي كان من ذاته تعالى من حيث غناه عن العالمين وهو الوجه القديم وتكمل بالعلم بالحادث الذي يكون في صور الأعيان الخارجية وهو الوجه الحادث .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك ) أي وكم تكمل مراتب العلم ( تكمل مراتب الوجود منه أزلي وغير أزلي وهو الحادث فالأزلي وجود الحق لنفسه ) وهو الوجود من حيث غناه عن العالمين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وغير الأزلي وجود الحق بصور العالم الثابت ) والمراد منه تعلق وجود الحق إلى العالم فالحدوث وصف للتعلق لا للوجود فلا يلزم أن يكون وجوده تعالى محلا للحوادث ألا ترى أن الوجود وصف للموجود والعدم وصف للوجود فلا يلزم منه أن يكون الموجود محلا للعدم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيسمى حدوثا ) وإنما يسمى هذا الوجود وجود العالم حدوثا ( لأنه ظهر بعضه ) أي بعض العالم ( لبعضه وظهر ) الحق ( لنفسه بصور العالم فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبية للكمال ) وهو الوجود والعلم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فافهم ، ألا تراه ) أي الحق ( كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين يسمى العالم فكانت الراحة ) أي راحة عباده وأسمائه ( محبوبة له ) أي للحق فيجب أن يوصلها إلى عباده ( ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري الأعلى والأسفل ) فلا يتوهم أن الحق يتصف بالراحة المعلومة لنا فإنه يستحيل ذلك على اللّه فإن كانت الراحة وصفا له فلا بد من معنى لائق بحضرته كما أن حياته غير حياتنا كذلك راحته غير راحتنا.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فثبت أن الحركة كانت للحب فما ثمة حركة في الكون ) أي فما في العالم حركة ( إلا وهي حبية ) فقوله في الكون بدل من قوله ثمة ( فمن العلماء من يعلم ذلك ) أي كون الحركة للحب وهي أهل الكشف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب لحكمه ) أي لحكم السبب الأقرب ( في الحال واستيلائه عن النفس ) أي على نفس المحجوب فيجعلها محجوبة عن الاطلاع بالحقائق
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان الخوف لموسى عليه السلام مشهودا له بم وقع من قتله القبطي وتضمن الخوف حب النجاة من القتل ففرّ لما خاف وفي المعنى ففرّ لما أحب النجاة من فرعون وعمله به )
فكان سبب الفرار في الظاهر الخوف وفي المعنى حب النجاة ( فذكر ) موسى ( السبب الأقرب المشهود له ) .
قوله رضي الله عنه : ( في الوقت ) يتعلق بقوله فذكر أي ذكر موسى في وقت ملاقاته مع فرعون وهو قوله "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ " ( الذي ) أي السبب الأقرب الذي ( هو كصورة الجسم للبشر ، وحب النجاة متضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبر له والأنبياء عليهم السلام لهم لسان الظاهر به ) الباء يتعلق بقوله ( يتكلمون ) . وإنما يتكلمون بلسان الظاهر ولم يبينوا م في الظاهر من المعنى.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لعموم الخطاب واعتمادهم على فهم العالم السامع فلا تعتبر الرسل إلا العامة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم كما نبه رسول اللّه عليه السلام على هذه المرتبة في العطايا فقال : « إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه اللّه في النار » ) .
روى سعد بن وقاص كان يقسم الغنيمة بين رهط فترك منهم رجل
فقلت يا رسول اللّه ما أعطيت فلانا وهو مؤمن
فقال الحديث فعلم الرسول أن إيمانه ضعيف فلو لم يعطه لأعرض عن الحق فارتدّ فكان من أهل النار فخاف لأجل ذلك وأعطى. فكان سببه الخوف لا الحب
وعلم من هذا الرجل أن إيمانه كامل تام ، فلا يخاف عليه بترك العطاء فلم يعطه من الغنيمة مع أنه أحب إليه من الرجل الذي أعطى له فيظن المحجوب أن الإعطاء أثر الحب وتركه أثر البغض . فنبه الرسول عليه السلام أن الأمر ليس كذلك
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فاعتبر ) الرسول إلى ( ضعف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع ) قوله ( والطبع ) بثلاث فتحات وهو الدين وهو قوله تعالى "طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ " ( فكذ ما جاءوا به من العلوم جاءوا به و ) الحال أن ما جاءوا به من العلوم و ( عليه خلعة أدنى الفهوم ) أي يفهم هذه الخلعة وهي العبارات والألفاظ الدالة على ما جاءوا به من العلم من له أدنى فهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ليقف ) أي ليثبت ( من لا غوص له عند الخلعة ) أي عند صورة الخلعة ( فيقول ) من لا غوص له ( ما أحسن هذه الخلعة ) فأعجبته صورة الخلعة فاحتجب بذلك ولم يعلم ما في الخلعة ( ويراها غاية الدرجة فيقول صاحب الفهم الدقيق الغائص في درر الحكم بما استوجب ) الباء في بما استوجب تتعلق بقوله فيقول أي يقول بسبب الذي استجاب صاحب الفهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا ) المعطى له ( هذه الخلعة ) جاءت إلينا ( من الملك فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب فيعلم منها ) أي من الخلعة ( قدر من خلعت ) هذه الخلعة (عليه فيعثر على علم لم يحصل ) ذلك العلم ( لغيره ممن لا علم له بمثل هذا ) وظهر بذلك التمثيل فضل أهل الفهوم على أهل الظاهر في رتب العلم ( ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم ) بفتح اللام ( وأممهم من هو بهذه المثابة ) في العلم وهي مرتبة من له فهم دقيق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( عمدوا في ) بيان م جاءوا به من العلوم في ( العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه ) أي من هذا اللسان ( وزيادة ).
قوله رضي الله عنه : ( مما ) بيان للزيادة أي من الذي ( صح له ) أي للخاص ( به ) عائد إلى الموصول ( اسم ) فاعل صحّ ( أنه خاص ) أي يفهم الخاص ما يفهمه العامة فاشتركا في هذه المرتبة فلم يتميز أحدهما عن الآخر ويفهم الزيادة التي بسببها يصح إطلاق اسم الخاص عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فيتميز ) الخاص ( به ) أي بسبب هذا الاسم أو بسبب هذا الفهم أو بسبب الزيادة باعتبار الفهم ( على العامي فاكتفى المبلغون العلوم بهذا اللسان ) لعموم نفعه في حق أهل الكشف وأهل الحجاب وهذه الزيادة الخاصة لأهل الكشف عين المشترك من وجه وغيره من وجه والمشترك فيه هو الشريعة والزيادة هي الحقيقة وهم متحدان بالذات لكونهما من معدن واحد ومتغايران بالاعتبار (فهذا حكمة قوله ) أي قول موسى عليه السلام ("فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ" ولم يقل ففررت منكم حبا في السلامة والعافية ) تبليغا للعلوم بلسان الظاهر على ما هو عادة المبلغين .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين فسقى لهما من غير أجر ثم تولى إلى الظل الإلهي فقال : "رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير" فجعل عين عمله السقي ) أي عمله هو السقي
( عين الخير الذي أنزله اللّه لو ووصف نفسه بالفقر إلى اللّه في الخبر الذي عنده ) وهو العلوم الحكمية المتعلقة بالنبوة ، فالماء صورة العلم فسقيه عين افاضته العلوم عليهما ، فلا أجر لمثل هذا العمل فإنه بأمر اللّه فأجره على اللّه بل هو محتاج إلى اللّه في إفاضته هذا الخير إلى محله وأهله.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك ) أي عتب موسى عليه السلام الخضر عليه السلام على إقامة الجدار من غير أجر ( فذكره ) من التذكير ( بسقايته ) أي ذكر الخضر موسى عليه السلام بسقاية موسى عليه السلام لجاريتين ( من غير أجر وغير ذلك ) من أحوالهما ( مما لم يذكر ) في كلام اللّه تعالى
فما أورد في هذا الكتاب إلا ما ذكر في كلام رب العزة وروي أنه قد أخبره الخضر في كشفه فقال أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أوّل ما ولد إلى زمان الاجتماع مما وفق اللّه إليه موسى من غير علم ، فلم يصبر عليه السلام على ثلاث مسائل منهما .
فاستخبر الشيخ هذه المسائل كلها عن الخضر فأخبره تفصيلا ولم يذكر الشيخ حفظا للأدب ( حتى تمنى رسول اللّه عليه السلام أن يسكت موسى عليه السلام ولا يعترض حتى يقص اللّه عليه ) أي على رسول اللّه عليه السلام ( من أمرهما فيعلم ) الرسول ( بذلك ) أي ما يقص اللّه عليه ( ما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم منه ) فنبه رسول اللّه عليه السلام بهذا التمني أن أمرهما لا ينحصر بما يقص اللّه عليه في كلام المجيد رسول اللّه عليه السلام بهذا التمني أن أمرهما لا ينحصر بما يقص اللّه عليه في كلام المجيد مما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم وتذكيره الخضر بل كان كثير من الأمور مما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم كما وفق إلى هذه الأمور الثلاث من غير علم .
وإنما كان موسى عليه السلام في هذه الأمور من غير علم منه ( إذ لو كان ) موسى عليه السلام في تلك الأمور ( عن علم ما أنكر مثل ذلك ) أي مثل فعل نفسه ( على الخضر الذي قد شهد اللّه له عند موسى عليه السلام وزكاه وعدله ومع هذا قد غفل موسى عليه السلام عن تزكية اللّه وعما شرطه ) الخضر ( عليه في اتباعه ) فكانت تلك الغفلة
( رحمة بنا إذا نسينا أمر اللّه ) لا تؤاخذنا بما نسينا فلم يكن موسى عليه السلام عالما بما علم الخضر ( ولو كان موسى عليه السلام عالما بذلك ) أي بما علم الخضر ( لما قال له الخضر ما لم تحط به خبرا أي أني على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا فانصف ) الخضر في حق موسى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما حكمة فراقه فلان الرسول يقول اللّه فيه ) أي في حق الرسول : " وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [ الحشر : 7 ] ،
(فوقف العلماء باللّه الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول ) قوله ( عند هذا القول ) يتعلق بقوله فوقف ( وقد علم الخضر أن موسى عليه السلام رسول اللّه فأخذ يرقب ما يكون منه ) أي ينظر ما يصدر من موسى في الاستقبال وهو السؤال (ليوفي الأدب حقه مع الرسول ) كما يقول اللّه في حق الرسول .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال له "إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي" فنهاه عن صحبته ) فوفى الأدب حقه مع الرسول ( فلما وقعت من الثالثة قال :"هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ "ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته ) فوقف عند نهيه ( لعلمه بقدر الربوبية التي هو ) أي موسى
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيها التي أنطقته ) أي أنطقت تلك الربوبية الخضر ( بالنهي عن أن يصحبه ) وهو مرتبة النبوة ( فسكت موسى فوقع الفراق فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهيحقه و ) إلى ( إنصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى حيث قال له أن على علم علمنيه اللّه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك اللّه لا أعلمه أنا فكان هذ الأعلام من الخضر لموسى دواء لما جرحه به ) .
أي لما جعل الخضر موسى عليهما السلام مجروحا به و ( في قوله "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً" مع علمه بعلو مرتبته ) أي مع كون الخضر عالما بعلو مرتبة موسى (بالرسالة وليست تلك المرتبة ) وهي الرسالة ( للخضر ) فإن الخضر نبيّ لا رسول ( وظهر ذلك ) الانصاف ( في الأمة المحمدية ) أي من نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلّم في حق أمته ( في حديث إبار النخل فقال لأصحابه : « أنتم أعلم بأمور دنياكم ».
"" الحديث : أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: م لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ. رواه مسلم والبزار في البحر الزاخر و العراقيى في تخريج الإحياء وابن رجب والهيتمي في مجمع الزوائد. شعيب الأرناؤوط في مشكل الآثار ""
ولا شك أن العلم بالشيء خير من الجهل به ولهذ ) أي ولأجل كون العلم بالشيء خيرا من الجهل به .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( مدح اللّه نفسه بأنه كل شيء عليم فقد اعترف عليه السلام لأصحابه بالعلم بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه).
أي من الرسول وإنما كانوا أعلم بمصالح الدنيا من الرسول ( لكونه ) أي لكون الرسول ( لا خبرة ) أي لا علم ( له بذلك ) الأمر وهو تأبير النخل وأمثاله (فإنه ) أي هذا العلم ( علم ذوق وتجربة ولم يتفرغ ) أي لم يشغل ( عليه السلام لعلم ذلك ) الأمر الدنيوي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بل كان شغله بالأهم فالأهم فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه وقوله "فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد الخلافة "وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ" يريد الرسالة فما كل رسول خليفة فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية والرسول ليس كذلك إنما عليه البلاغ لما أرسل به فإن قاتل عليه وحماه بالسيف فذلك الخليفة الرسول فكما أن ما كل نبي رسولا كذلك ما ) كان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كل رسول خليفة أي ما أعطى الملك ولا التحكم فيه ) أي في الملك ( وأما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية فلم يكن ) ذلك السؤال من فرعون ( عن جهل ) فإنه يعلم أن الماهية الإلهية لإيجاب عنها ( وإنما كان ) هذا السؤال منه ( عن اختبار حتى يرى ) فرعون ( جوابه ) أي جواب موسى ( مع دعواه الرسالة عن ربه وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم باللّه فيستدل ) فرعون ( بجوابه على صدق دعواه وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين حتى يعرّفهم ) من التعريف.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر أظهر فرعون إبقاء لمنصبه ) ومفعول أظهر قوله ( أن موسى عليه السلام ) أي أظهر فرعون أن موسى ( م أجابه على سؤاله فتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم أن فرعون أعلم من موسى عليه السلام ولهذا ) أي ولأجل كون سؤال فرعون عن الماهية الإلهية ليتبين عند الحاضرين أن فرعون أعلم من موسى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لما قال ) موسى ( له ) أي لفرعون ( في الجواب ) يتعلق بقوله ( ما ينبغي وهو ) أي والحال أن هذا الجواب ( في الظاهر ) يتعلق بقوله ( غير جواب على ما سئل عنه ) ( و ) الحال ( قد علم فرعون ) قبل السؤال ( أنه ) أي الشأن ( لا يجيبه ) أي لا يجيب موسى فرعون ( إلا بذلك ) الجواب ( فقال لأصحابه ) الحاضرين ( أن رسولكم الذي أرسل إليكم ) في زعمكم ( لمجنون أي مستور عنه علم ما سألته إذ لا يتصور ) م سئل عنه وهي الماهية الإلهية ( أن يعلم أصلا ) فكلامه صادق في المعنى وإيهام في الظاهر فضله على موسى في رتبة العلم ( فالسؤال ) عن الماهية الإلهية ( صحيح ) .
لذلك لم يرد موسى سؤال فرعون عنها والجواب أيضا صحيح بما أجاب به موسى لذلك صدقه في المعنى بقوله لَمَجْنُونٌ.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن السؤال عن الماهية سؤال عن حقيقة المطلوب ولا بد أن يكون ) المطلوب ( على حقيقة في نفسه وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من جنس وفصل وذلك ) الحد المركب من الجنس والفصل .
قال رضي الله عنه : ( في كل ما يقع فيه الاشتراك ومن لا جنس له ل يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه ) قوله ( ل يكون لغيره ( صفة لقوله على حقيقة في نفسه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالسؤال ) عن الماهية الإلهية ( صحيح على مذهب أهل الحق و ) على ( العلم الصحيح والعقل السليم والجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى وهنا سرّ كبير فإنه أجاب بالفعل ) أي أجاب موسى بفعل الحق وهو السماوات والأرض
( لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ) عين ( م ظهر فيه من صور العالم فكأنه قال له في جواب قوله"وَم رَبُّ الْعالَمِينَ") قوله ( قال ) مقول لقوله فكأنه قال :
( الذي تظهر فيه صور العالم من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض"إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أو يظهر هو بها ) أي أو كأنه قال في الجواب الذي يظهر هو بصور العالم من علو وسفل مقول القول
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما قال فرعون لأصحابه أنه لمجنون كما قلن في معنى كونه مجنونا زاد موسى في البيان ليعلم فرعون مرتبته في العلم الإلهي لعلمه ) أي لكون موسى عالم (بأن فرعون يعلم ذلك ) أي يعلم معنى ما زاد موسى في البيان فيعلم فرعون من هذ البيان مرتبة موسى في العلم الإلهي ( فقال :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فجاء بما يظهر ) وهو موضع ظهور الشمس ( ويستتر ) وهو موضع استتار الشمس ( وهو ) أي الحق ( الظاهر والباطن ) أي جاء موسى بهذا القول إشارة إلى أن الحق هو الظاهر والباطن ( وما بينهما وهو ) أي معنى قوله :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُمامعنى ( قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم أصحاب تقييد) وإنما فسر العقل بالتقييد ( فإن للعقل التقييد )
فأجاب جوابين ( فالجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود ) فقال لهم :إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي أهل الكشف والوجود
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم فإن لم تكونومن هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه وعلم موسى أن فرعون علم ) بلا تأمل وتنبيه من جواب موسى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ذلك ) أي فضله في العلم باللّه ( أو يعلم ذلك ) بعد مدة يسيرة ولا ثالث في حق فرعون في هذ المقام إنما علم موسى ذلك من فرعون ( لكونه ) أي لكون فرعون ( سأل عن الماهية فعلم ) موسى ( أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال بما ) فإنه لا يسئل في اصطلاح القدماء بما عما ليس له أجزاء ذاتية فاللّه سبحانه تعالى عن الأجزاء فلا يسئل عنه بما ( فلذلك ) أي فلأجل علمه بذلك ( أجاب فلو علم منه ) أي فلو علم موسى من فرعون ( غير ذلك لخطأه في السؤال )
فقال إن سؤالك خطأ لا يقع موقعه ، فعلم موسى من سؤال فرعون بأن فرعون يعلم فضل موسى في العلم باللّه .
إذ ظهر في الجواب بالوجهين فظهر لأجل هذا ( فلما جعل موسى عليه السلام المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون ) بما قصده فرعون من خطابة موسى ( فقال له :لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ والسين في السجن من حروف الزوائد ) فيدل على الستر والجن أيضا الستر .
كذلك بقوله رضي الله عنه : ( أي لأسترنك فإنك أجبتني بما أيدتني به أن أقول لك مثل هذا القول فإن قلت لي ) يا موسى ( فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرقت ) وهو كلام فرعون يسئل عن جانب موسى ( فيقول فرعون )في جوابه لموسى :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إنما فرقت المراتب العين ما تفرقت العين ول انقسمت في ذاتها ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة فلما فهم ذلك موسى منه ) أي فلما فهم موسى ذلك الحكم والتسلط من فرعون ( أعطاه ) أي أعطى موسى فرعون ( حقه في كونه يقول له ) أي حال كون موسى قائلا لفرعون ( لا تقدر على ذلك ) التحكم يعني أن قول موسى لفرعون لا تقدر على ذلك مجرد إعطاء لحق فرعون في مقابلة قوله لموسى ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى لا تكذيب له في قوله هذا .
فإن مرتبة فرعون لها التحكم على مرتبة موسى في ذلك المجلس لذلك قيد التحكم بقوله الآن وبالفعل لعلمه بأن مرتبة موسى أعلى منه في غير هذا المجلس ولعلم موسى أن مرتبة فرعون لها التحكم عليه في ذلك المجلس فكان فرعون صادقا في قوله هذا وبين المصنف ما قلناه بقوله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والرتبة ) أي رتبة فرعون ( تشهد له ) أي لموسى ( بالقدرة عليه ) أي على موسى ( وإظهار الأثر فيه ) أي وإظهار أثر القدرة في موسى وإنما تشهد له الرتبة على ذلك ( لأن الحق ) الظاهر ( في رتبة فرعون ) قوله ( من الصورة الظاهرة ) خبر أن ( لها ) خبر ( التحكم ) مبتدأ أي كان لهذه الرتبة الفرعونية التحكم ( على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ) .
فلما علم موسى بشهادة الرتبة أن له منصب التحكم على موسى في ذلك المجلس أراد موسى إتيان م يدفع مضرّة فرعون عن تعديه إلى موسى في ذلك المجلس .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فقال له ) حال كونه ( يظهر له ) أي لموسى ( المانع من تعديه ) أي من أن يتعدى فرعون موسى ( عليه ) يتعلق بقوله يظهر الضمير المجرور لفرعون أي يظهر على فرعون لموسى شيء يمنع فرعون عن التعدي إلى موسى .
(أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) حتى يظهر به صدقي فيما قلت أنا وكذبك فيما قلت أنت وهو العصا ، وهذا القول يمنع فرعون من أن يتعدى موسى بالضرر فكأنه طلب الأمان عن فرعون بذلك القول في ذلك المجلس لعلمه أن مرتبة فرعون لها التحكم على مرتبته في ذلك المجلس .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلم يسع ) أي لم يقدر ( فرعون ) بعد هذا القول بشيء من التحكم على موسى في ذلك المجلس ( إلا أن يقول لهفَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواه ( حتى ل يظهر فرعون عند ضعفاء الرأي من قومه بعدم الانصاف وكانوا يرتابون فيه ) أي يشكون في ربوبية فرعون .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة ) قوله ( من ) بيان لما في عما ( إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر ) قوله ( في العقل ) يتعلق بقوله في الظاهر ولم ينكروا هذا القوم مع أن العقول الصحيحة تعطي إنكار ما ادّعاه من قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وهو لسان ظاهر معناه في العقل فكانوا خارجين عما يعطيه العقل ولم يقفوا عندما يعطيه العقل وإنما كانوا خارجين عما يعطيه العقل.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن له ) أي للعقل ( حدّا يقف عنده ) أي يقف العقل عند ذلك الحد ( إذ جاوزه صاحب الكشف واليقين ) أي ولأجل أن لكل واحد من العاقل وصاحب الكشف حدّا يقف كل عنده حدّه ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصة ) فهم لا يقبلون حكم العقل ولا حكم الكشف فهم ليسوا من الموقنين ولا من العاقلين بل هم بهائم في صورة الأناسي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فألقى عصاه وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في ابائه عن إجابة دعوته فإذا هي ثعبان مبين أي حية ظاهرة فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي حسنة كما قاليُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) روي أن فرعون آمن باللّه وصدق بموسى بقلبه فأراد إظهاره فشاور لوزيره فمنعه فانقلاب العصا إيماء إلى انقلاب كفر فرعون إيمانا وإعادتها سيرتها الأولى إشارة إلى أن فرعون عاد سيرته الأولى .
فانقلب إيمان فرعون كفرا كما انقلبت الحية عصا فكأنه قال له الوزير لا تخف خذه سينقلب إلى سيرته الأولى
وهو في مقابلة قوله تعالى لموسى سَنُعِيدُه سِيرَتَهَا الْأُولى فكانت حقيقة السيئة باقية في فرعون وإنما الانقلاب في صورة السيئة
لذلك قال انقلبت ولم يقل محيت وفسر الانقلاب بقوله ( يعني في الحكم ) يريد أن حقيقة السيئة التي في فرعون تظهر في صورة الحسنة فتحكم عليها طاعة وحسنة
كما ظهرت بصورة السيئة فتحكم عليها سيئة لا أن عين السيئة يصبر حسنة أو تمحو حقيقة السيئة وتجيء بدلها حقيقة الحسنة
فبقي الكفر في فرعون إلى ما شاء اللّه فالتبديل لا يكون إلا في الصورة والمقصود بيان الأحكام الواردة بينهما في هذا المجلس لا إثبات إيمان فرعون مطلق
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فظهر الحكم هاهنا ) أي في ذلك المقام حال كونه ( عينا متميزة ) قوله ( في جوهر واحد ) يتعلق بقوله فظهر ( فهي ) أي تلك العين المتميزة ( العصا وهي الحية ) فالحية والعصا عينان متميزان يظهر كل منهما بحسب الوقت في الجوهر الواحد الذي ل يدركه الحس بل لا بد للعقل أن يحكم أن ثمة جوهرا واحدا لا يقبل القسمة لذاته ويقبل الصور والأحكام (والثعبان الظاهر فالتقم ) الثعبان ( أمثاله من الحيات من ) جهة ( كونها حية ) و ( التقم العصا من ) جهة ( كونها عصا فظهرت ) أي غلبت ( حجة موسى عليه السلام على حجج فرعون ) .
قوله رضي الله عنه : ( في صورة عصا وحيات وحبال ) يتعلق بقوله حجج (فكانت للسحرة الحبال ولم يكن لموسى عليه السلام حبل والحبل التل الصغير أي مقاديرهم ) أي مقادير السحرة ( بالنسبة إلى قدر موسى عليه السلام بمنزلة الحبال من الحبال الشامخة فلما رأت السحرة ذلك ) من موسى عليه السلام ( علموا رتبة موسى عليه السلام في العلم وأن الذين رأوه ليس من مقدور البشر وإن كان من مقدور البشر فلا يكون إلا ممن له تميز في العلم المحقق ) بفتح القاف الأولى .
قوله رضي الله عنه : ( عن التخيل والإيهام ) متعلق بقوله تميز ( فآمنوا ) بسبب علمهم هذا ( برب العالمين رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون عليهما السلام لعلمهم ) أي لعلم السحرة ( بأن القوم يعلمون أنه ما دعي ) موسى عليه السلام الخلق ( لفرعون ) أي إلى فرعون بل دعي إلى رب العالمين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما كان فرعون في منصب التحكم ) قوله ( صاحب الوقت ) خبر كان ( وأنه ) أي وأن فرعون ( الخليفة بالسيف وإن جار ) أي ظلم قوله (في العرف الناموسي ) يتعلق بقوله الخليفة أي يطلق الخلافة بالسيف على الأمير الظالم في الشرع كما قال رسول اللّه عليه السلام : « أطيعوا أمراءكم وإن جاروا » أي ظلموا . ورد بلفظ « أطيعوا أمراءكم مهما كانوا » ، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وابن عساكر في كتابه تهذيب تاريخ دمشق وذكره أيضا المتقي الهندي في كتابه كنز العمال .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لذلك ) يتعلق بقوله ( قال ) وهو جواب لم (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله ) من قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ( لم ينكروا وأقرّو بذلك فقالوا : إنما تقتضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) بمعنى صاحب الدولة ولما اتجه أن يقال كيف يصح أن يقال قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ورب الأعلى ليس إلا هو على الحق أجاب بقوله
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن كان ) الرب الأعلى ( عين الحق فالصورة ) التي ظهرت الربوبية عنها ( لفرعون ) فصح قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بحسب الصورة الفرعونية ( فقطع ) فرعون ( الأيدي ) مفعول قطع (وإل رجل وصلب بغير حق ) فإن السلطنة في الحقيقة لها لا له ( في صورة باطل )وهي الصورة الفرعونية وإنما وقع القطع والصلب من فرعون ( لنيل ) كل من السحرة وفرعون ( مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل ) أما فرعون فإنه لا يصل إلى مقصوده في الدني وهو إظهار التحكم والسلطنة إلا بالقتل والصلب وكذلك لا يصل في الآخرة إلى مقصوده وهو جزاء القتل والصلب إلا به وهو من نيل المراتب وأما السحرة فإنهم لا ينالون درجة الشهادة في الآخرة إلا بالقتل في يد فرعون
( فإن الأسباب ) سواء كانت أسبابا للباطل أو للحق ( لا سبيل إلى تعطيلها فإن الأعيان الثابتة ) في علم اللّه التي هي صور العالم ( اقتضتها ) لتنال إلى مقاصدها فعلم اللّه منها وقضى عليها وقدّرها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا تظهر الأعيان في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ ل تبديل لكلمات اللّه تعالى ) هذا باعتبار الكثرة وإم باعتبار الوحدة فمعنى قوله فقطع أي قطع الحق الأيدي والأرجل وصلب بغير حق أي باقتضاء العين الثابتة في صورة باطلة أي في صورة خلقية فانية ، إذ كل زائل باطل عندهم وهو مقابل للحق الثابت الباقي وهو عين الثابتة فالحق يفعل القطع بمقتضى العين الثابتة بيد الفاعلة في صورة فرعون وبيد القابلة في صورة السحرة لنيل الحق مراتب الوجود التي لا تنال إلا بذلك الفعل
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وليست كلمات اللّه تعالى سوى أعيان إليه القدم من حيث ثبوتها ) ويقال من هذا الوجه أنه حق ثابت دائم باق ( وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها كما تقول حدث اليوم عندن إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ولذلك ) أي ولأجل أن ما له وجود وحدوث له ثبوت وقدم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال تعالى في كلامه العزيز أي في إثباته مع قدم كلامه ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون وم يأتيهم من ذكر الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين والرحمن لا يأتي إلا بالرحمة ومن أعرض عن الرحمة استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ) .
ولما فرغ عن ذكر الحكم الإلهية التي كانت في الآيات الواردة في حق موسى عليه السلام وفرعون رجع إلى إتمام الكلام في حق فرعون .
فقال رضي الله عنه : ( وأما قوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [ غافر : 85 ] ، إلّا قوم يونس عليه السلام فلم يدل ذلك على أنه ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناءإِلَّا قَوْمَ يُونُسَ عليه السلام فأراد الحق ) بالآية .
فقال رضي الله عنه : ( أن ذلك ) الايمان وهو الايمان عند اليأس ( لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ) عن القوم الذين هم غير قوم يونس عليه السلام كقوم عاد وصالح وغير ذلك إذ كلهم آمنوا عند ظهور العذاب من ربهم لكن لم ينفعهم إيمانهم نجاة عن عذاب الخزي في الحياة الدنيا فلا ينجيهم عن الهلاك في الدنيا وأما عدم منفعة إيمانهم في الآخرة فلم يدل تلك الآية على ذلك
فبقي على احتمال النفي في الآخرة ولا يقطع هذا الاحتمال إل بالإجماع لأن النصوص الواردة في حقهم لا تدل على التعذيب والورود إلى جهنم وهو ل يدل على حرمانهم أبدا لكن الأمة قد اتفقوا واجتمعوا بهذه الدلالة على حرمانهم أبد .
فلم ينفع إيمانهم في الآخرة بالإجماع كما لم ينفعهم في الدني فجعلوا عدم نفع إيمانهم في الدنيا دليلا على عدم نفعه في الآخرة فحكموا على شقاء الطائفة المستهلكة يقهر اللّه وعذابه بتكذيبهم النبي عليه السلام .
ونقل عن مالك رضي اللّه عنه أنه ذهب إلى أن الايمان عند اليأس وهو قبل نزع الروح عن الجسد بعد انكشاف أحوال الآخرة من الوعد والوعيد مقبول صحيح
أقول هذا المذهب منه لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الايمان في تلك الساعة وأما فرعون فقد شقي عنده سواء قبض عند التيقن بالانتقال أو قبل التيقن لوجود النصوص الدالة عنده على شقائه كسائر الأئمة
وما كانت عند الأئمة نصوصا في شقاء فرعون ليست بنصوص عند الشيخ بل هو ظاهر عنده لذلك قال وما لهم نص في ذلك مع أن لهم نصا في ذلك بحسب علمهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلذلك ) أي فلأجل أن إيمانهم لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ( أخذ فرعون ) في الدنيا ( مع وجود الايمان منه ) أي من فرعون ( هذا ) أي جواز نفع إيمان فرعون في الآخرة ( إن كان أمره ) أي أمر فرعون في الايمان ( أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة )
كما قال المفسرون والأئمة المجتهدون أن إيمان فرعون عند تيقنه بالانتقال الذي لا ينفع الايمان في تلك الساعة فحكموا كلهم على أن فرعون شقي في الدنيا والآخرة
فالسبب بعدم صحة الايمان عندهم التيقن بالانتقال ، وأما عند المالك فإن الايمان عند التيقن صحيح لو لم يردّ الدليل ذلك الايمان فإن إيمان فرعون مردود عنده بدليل قوله تعالى :آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ[ يونس : 91 ] ،
وغير ذلك من الآيات الدالة على شقائه لا بتيقنه بالانتقال حتى لو لم يدل النص على شقائه لصح إيمانه عنده ولو عند التيقن بالانتقال بخلاف جمهور العلماء حتى لو لم يثبت شقاؤه بالنص وثبت أن إيمانه كان عند التيقن بالانتقال لم يصح إيمانه
وأما عند الشيخ فالأولى التوقف في مثل هذا الايمان حتى جاء البيان من الصحة وعدم الصحة فإنه مالكي المذهب فكأنه مال إلى مذهبه في ذلك
قال في حق فرعون إن كان أمره أمر من تيقن بالانتقال فإنه لو لم يردّ الدليل من النصوص والإجماع لصح عنده إيمان من تيقن بالانتقال
لذلك لم يصح إيمان فرعون عنده مع ورود ظاهر القرآن حيث جعله مؤبدا في النار في فتوحاته المكية وتوقف في هذا الكتاب
فإن الإجماع دليل عنده على عدم صحة إيمانه ثم ذكر القرينة التي لم يتفطن عليها علماء الشريعة.
بقوله رضي الله عنه : ( وقرينة الحال تعطى أنه ) أي الشأن ( ما كان ) فرعون عند الايمان ( على يقين من الانتقال لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس ) بالفتحتين أي اليابس (الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر فلم يتيقن فرعون بالهلاك إذ آمن ) أي وقت إيمانه ( بخلاف المحتضر ) فإنه آمن عند تيقنه بالهلاك لذلك لم يجعل إيمانه صحيح
( حتى لا يلحق به ) أي فلم يلحق فرعون بالمحتضر على تقدير ثبوت هذه القرينة فكان أمر فرعون عنده دائر بين الشيئين له وجه يلحق به بالمحتضر وله وجه لا يلحق به بالمحتضر بحسب دلالة ظاهر القرآن مع قطع النظر عن الإجماع.
( فآمن ) أي إن كان أمره أمر من لم يتيقن بالهلاك آمن ( بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة فكان على ذلك ) التقدير ( كما تيقن لكن على غير الصورة التي أراد ) فإن مقصوده من الايمان النجاة عن الهلاك
قال الشيخ رضي الله عنه : (فنجاه اللّه من عذاب الآخرة في حق نفسه ) وإنما قال في حق نفسه لعدم النجاة في حق غيره من حقوق العباد مما كان عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ونجى بدنه كما قال تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يونس : 92] ، أي حتى يعلم قومك ممن اعتقد بربوبيتك أنك كاذب في دعويك ( لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه احتجب ) عن أعين الناس فل يزال اعتقادهم الباطل لعدم تيقنهم بهلاكه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو ) فيزول اعتقادهم بربوبيته ( فقد عمته النجاة حسا ) من حيث الصورة المعهودة وإن كان ميتا ( ومعنى ) وهو نجاة الروح عن الحجب المبعدة عن الحق من الشرك والكفر ودعوى الربوبية التي يحصل للروح بسبب تعلقه بالبدن.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يروا العذاب الأليم أي يذوق العذاب الأخروي ) فل يصدق في حق هذا الصنف أنه قبضه اللّه تعالى طاهرا ومطهرا لأنه قبض مع الشرك فبقي جسده نجسا وكذلك روحه وقع في القبضة مع الشرك فذاق العذاب الأخروي ثم آمن فلا ينفع ذلك الايمان لهم بالنص الإلهي وتفسير الرؤية بالذوق على من يرى إيمان اليأس صحيح ( فخرج فرعون ) على ذلك التفسير ( من هذا الصنف ) وأما من لم يفسر الآية بذلك التفسير دخل فرعون عنده في هذا المصنف ( هذا ) أي المذكور في إيمان فرعون ( هو الظاهر الذي ورد به القرآن ) أي يدل عليه ظاهرا القرآن الذي يجب العمل به إذا لم يعارضه النص أو الإجماع .
فلما زعم من لا يفهم كلامه أنه قد جعل فرعون الذي قد ثبت شقاؤه بحجة قاطعة شرعية من المؤمنين فظن السوء في حقه أراد دفع ذلك الظن الفاسد في حقه فقال ( ثم أنا نقول ) لإزالة إنكار المنكرين في حقه (بعد ذلك ) أي بعد ورود ظاهر القرآن على إيمانه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والأمر فيه إلى اللّه ) فعدل عن الظاهر الذي ذكره وأورده دليلا على إيمان فرعون إلى التوقف لمعارضته الإجماع وبين سبب عدوله ( لما استقر في نفوس عامة الخلق ) وهم الفرق الاسلامية كلها بل الكفرة أيض
( من شقائه ) بيان لم ( وما لهم نص في ذلك ) أي في شقاء فرعون ( يستندون ) الشقاء ( إليه ) أي إلى ذلك النص أو يستندون الشقاء بسبب ذلك النص إليه أي إلى فرعون ( وأما إله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه ثم ليعلم أنه ما يقبض اللّه أحدا إلا وهو مؤمن أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهية وأعني ) بقوله ما يقبض اللّه أحدا إلا وهو مؤمن .
قال رضي الله عنه : ( من المحتضرين ولهذا ) أي ولأجل كون المحتضر صاحب إيمان وشهود (يكره موت الفجاءة وقتل الغفلة )
قال رضي الله عنه : ( فأما موت الفجاءة فحده أن يخرج النفس الداخل ولا يدخل النفس الخارج فهذا موت الفجاءة وهذا غير المحتضر وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر فيقبض على ما كان عليه من إيمان أو كفر ولذلك قال عليه السلام : « ويحشر على ما عليه مات كما أنه يقبض على ما كان عليه » والمحتضر ل يكون إلا صاحب شهود فهو صاحب إيمان بما ثمة ) .
أي يؤمن بالذي كان يشاهده من الوعد والوعيد فإنه ثبت بالنص بأن كل كافر لا يموت إلا وهو مؤمن لكن لا ينفع إيمان من يتيقن بالموت وعلى أيّ حال فالمحتضر صاحب إيمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يقبض ) أحد ( إلا على ما كان عليه ) من إيمان أو كفر ( لأن كان حرف وجودي ) تدل على وجود المعنى في محله كما في قوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [ الأحزاب : 1 ] ،
تدل على وجود العلم في ذاته تعالى فيدل على وجود معنى في المقبوض فقط لا على زمان وجوده في ذلك المقبوض فاعتبر ذلك المعنى في القبض أن خير فخير وإن شرّا فشرّ
فلا يعتبر الزمان في معناه ( لا ينجرّ معه ) أي مع كان ( الزمان إلا بقرائن الأحوال ) فلا يدل على الزمان إلا بالقرائن فلا يستدل به على زمان القبض على معنى إن كان زمان القبض يأسا قبض مأيوسا فكان كافرا وإن لم يكن مأيوسا في زمان الايمان قبض متيقنا بالنجاة فكان مؤمنا ( فنفرق ) على صيغة المتكلم ( بين الكافر المحتضر في الموت ) وهو الكافر الذي آمن عند التيقن بالموت فقبض على ذلك الايمان فهو في مشية اللّه عند المالك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وبين الكافر المقتول غفلة أو ) الكافر ( الميت فجاءة ) لتحقق الكفر فيهما فقبض على الشرك وأما المؤمن المقتول غفلة أو الميت فجاءة فحكم بكراهتهما لعدم علمه بإيمانهما ( كما قلنا في حد الفجاءة وأما حكمة التجلي والكلام ) .
قوله رضي الله عنه : ( في صورة النار ) من التنازع فحذف مفعول أحدهما بإعمال الآخر ( لأنها كانت ) النار ( بغية ) أي مطلوب ( موسى فتجلى اللّه له ) أي لموسى ( في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همته على مطلوب خاص ) وهو النار لكمال احتياجه إليها.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولو أعرض لعاد عمله عليه ) وهو الاعراض عن الحق ( فأعرض عنه الحق ) مجازاة له ( وهو مصطفى مقرب ) عند اللّه ( فمن قرّبه ) أي قرّب الحق من التقريب ومن موصولة أي فمن جعله الحق مقرّبا عنده وعند البعض من القرب ومن حرف جر والأول أنسب ( أنه ) أي الشأن ( تجلي ) الحق ( له ) أي لمن قرّبه الحق ( في ) صورة ( مطلوبه وهو لا يعلم كنار موسى رآها عين حاجته وهو الإله ولكن ليس يدريه ) والضمير في قوله وهو الإله وفي يدريه راجع إلى النار إما باعتبار كون النار مطلوب أو باعتبار الخير .
.
....

UNzn-7pTah0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!