موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح بالي أفندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مصطفي سليمان بالي زاده الحنفي

فص حكمة نفسية في كلمة يونسية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة نفسية في كلمة يونسية


18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
( فص حكمة نفسية ) بفتح الفاء ( في كلمة يونسية ) ولما كان بين النفوس الناطقة وبين هذا النبي مناسبة في بعض الأحكام وهي ابتلاؤه بالحوت وابتلاؤها بالتعلق بالجسم الظلماني وغير ذلك من المناسبات الجامعة التي ذكرها داود القيصري في شرحه لهذا الكتاب .
""أضاف المحقق :النقطة الأساسية التي يحوم حولها هذا الفص هي الإنسان طبيعته ومنزلته من الوجود .
وحكمة هذا الفص إلى يونس فلا يمكن تعليها إلا أساس أن المؤلف يعتبر يونس مجرد رمز للنفس الإنسانية الناطقة التي نادت ربها في الظلمات
وإذا كان في مقدور النفس الإنسانية وحدها أن تعرف اللّه وأن تسبحه وتقدسه فهي الجديرة وحدها بأن تحمل اسم الإنسان وأن تكون منه موضع الكرامة .""
أورد حكمتها في كلمته ( اعلم أن هذه النشأة الانسانية بكمالها ) قوله ( روحا وجسما ونفسا ) وقع تميزا بكمالها ( خلقها اللّه على صورته ) أي على صفته الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغير ذلك ، كما قال : كنت سمعه وبصره إلخ فإذا خلق اللّه هذه النشأة على صورته ( فلا يتولى ) أحد ( حل نظامها إلا من خلقها إما بيده ) أي إما حل بيده من غير واسطة في الخارج ( وليس ) سبب الحل ( إلا ذلك ) أي باليد ( أو بأمره ) أي بأمر الحق كالقصاص وغيره من الأسباب الشرعية فقوله وليس إلا ذلك جملة معترضة بين قوله إما بيده أو بأمره لحصر الحل في أحدهما فقطعت احتمال السبب الآخر غيرهم ( ومن تولاها ) أي ومن تولى حل نظام هذه النشأة ( بغير أمر اللّه ) أي بغير أمر شرعي كالقتل بغير حق ( فقد ظلم نفسه وتعدى حدّ اللّه فيها ) أي في النشأة الانسانية ( وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته ) وهو قوله تعالى :وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ[ الطلاق : 1 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أن الشفقة على عباد اللّه أحق بالرعاية من الغيرة في اللّه ) أي من القتل بأمر اللّه وأورد دليلا على ذلك بقوله ( أراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه تهدم ، فشكا ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يد من يسفك الدماء فقال داود عليه السلام يا رب ألم يكن ذلك ) الدماء (في سبيلك قال اللّه تعالى بلى ولكن هم أليسوا عبادي ) فأشفق الحق عباده الذين وجب عليهم القتل بأمره فكيف على عباده الذين لم يجب عليهم القتال (فقال ) داود عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( يا رب اجعل بنيانه على يدي من هو مني فأوحى اللّه إليه إن ابنك سليمان عليه السلام يبنيه فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الانسانية وإن إقامتها أولى من هدمه ألا ترى عدوّ الدين قد فرض اللّه في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم وقال وإن جنحوا للسلم فاجنح له )أي للسلم وهو مؤنث سماعي
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لوليّ الدم أخذ الفدية أو العفو فإن أبى فحينئذ يقتل ألا ترى سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفى وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل كيف يراعى من عفى ويرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ألا تراه عليه السلام يقول في صاحب التسعة ) أي صاحب الحيل ( أن قتله كان مثله ) حكايته مذكورة في كتب الأحاديث ( ألا ترى تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيئة أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا فمن عفى وأصلح فأجره على اللّه لأنه ) أي لأن المعفوّ عنه ( على صورته ) أي على صورة الحق ( فمن عفى عنه ) أي عن القاتل ( ولم يقتله فأجره ) أي أجر من عفى عنه ( على من ) وهو الحق ( هو ) راجع إلى المعفو عنه ( على صورته ) الضمير المجرور راجع إلى من ( لأنه ) أي لأن الحق ( أحق به ) أي بالعفو من ذلك العبد العفوّ ( إذا نشأه ) أي العبد ( له ) أي لنفسه ليكون مظهرا لكمالاته وأحكامه ( وما ظهر الحق ) بالاسم ( الظاهر إلا بوجوده ) أي بوجود العبد أو بوجود الإنسان ( فمن راعاه ) أي الإنسان ( فإنما يراعي الحق ) .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " من أكرم عالما فقد أكرمني ومن أكرمني فقد أكرم اللّه تعالى".
"" ورد بلفظ : " من أكرمهم فقد أكرمني ومن أكرمني فقد أكرم اللّه". ذكره بهذا اللّفظ السّيوطي في كتابه الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما يذمّ الإنسان لعينه ) إذا عينه مخلوق على صورة الحق ( وإنما يذم لفعله وفعله ليس عينه وكلامنا ) في مدحه ( في عينه ) لا من حيث فعله ( ولا فعل إلا اللّه ومع هذا ذم منها ) أي من الأفعال ( ما ذم وحمد ما حمد ولسان الذمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه ) وأما لسان الذمّ على جهة الشرع فممدوح عند اللّه فالمذموم بلسان الذمّ على جهة الغرض ليس بمذموم عند اللّه بل هو مذموم عند صاحب الغرض لعدم موافقة ذلك الشيء غرضه فذمه ليس باخبار عن الشيء على ما هو عليه فلا يكون ذمه لحكمة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع فإن ذم الشرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه ) فكان ذم الشرع اخبارا عن الشيء على ما هو عليه ، فذلك الذمّ لا يخلو عن حكمة ( كما شرع القصاص للمصلحة ) قوله ( إبقاء ) بيان للمصلحة ومفعول لشرع ( لهذا النوع وإرداعا للمتعدي حدود اللّه فيه ) أي هذا النوع الانساني قال اللّه تعالى :وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
قوله ( وهم ) مبتدأ ( أهل لب الشيء ) خبره ( الذين عثروا ) صفة أهل لبّ أي أولي الألباب أهل لبّ الشيء الذين اطلعو ( على أسرار النواميس ) أي الشرائع ( الإلهية و ) أسرار (الحكمية ) العقلية ( وإذا علمت أن اللّه راعى هذه النشأة و ) راعى (أقامتها فأنت أولى ) وأحق من الحق ( بمراعاتها ذلك ) خبر ( بذلك ) يتعلق بالظرف ( السعادة ) مبتدأ أي إذا حصل ذلك بسبب رعاية هذه النشأة السعادة فالحق أولى منك برعاية هذه النشأة لأنه أنشأ لأجل ظهور أحكامه فأنت أولى منه برعايتها إذ بها لا بغيرها يحصل لك السعادة وهي أجر من اللّه وإذا لم يراع الحق لم يزد ولم ينقص في ألوهيته وكمال ذاته شيء ،
وإذا لم تراع تحصل لك السعادة فقد انحطت عن درجة الكمال إذ كمال الإنسان السعادة لا غير فأنت أحق بالأولوية في رعايتها وبما ذكرنا اندفع توهم المخالفة بين قوله لأنه أحق به وبين قوله فأنت أولى بمراعاتها وإنما تحصل لك السعادة برعايتها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنه ) أي الشأن ( ما دام الإنسان حيا يرجى له تحصيل صفة الكمال ) وهي ظهور معرفة اللّه تعالى منه ( الذي خلق له ) فإذا راعيته فقد أعنته لتحصيل كماله فحينئذ كان أجر عملك على اللّه ( ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ) فمن سعى في منع وصوله لما خلق له فقد سعى في منع وصول نفسه لما خلق لها لقوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُه فاللّه تعالى يجازي عباده بمثل أعمالهم ( وما أحسن ) تعجب ( ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا أنبئكم ) أي أخبركم ( بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه ) .
أي لا يقابل جزاء الغزاء في سبيل اللّه جزاء ذكر اللّه لأن فيه منعا عن ذكر اللّه بسبب عدم بنيان الرب فالإنسان ما دام حيا يرجى له ذكر اللّه وإن كان عدوّ اللّه ( وذلك ) أي وبيان أفضلية ذكر اللّه من الغزو في الشهادة في سبيل اللّه ( إنه ) أي الشأن ( لا يعلم قدر هذه النشأة الانسانية إلا من ذكر اللّه الذكر المطلوب منه ) وهو الذي يشاهد الذكر به ربه ( فإنه تعالى جليس من ذكره ) أي حاضر لمن ذكره ( والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر ) بالذكر المطلوب بل هو ذاكر باللسان خاصة وهو من الغافلين عند أهل اللّه فذكره ليس بذكر اللّه على الحقيقة (فإن ذكر اللّه ) بالذكر المطلوب ( سار في جميع أجزاء العبد ) من قواه الروحانية والجسمانية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا من ذكره بلسانه خاصة ) عطف على قوله جليس من ذكره أي فإن اللّه تعالى جليس من ذكر بالذكر الساري في جميع أعضائه لا جليس من ذكره بلسانه خاصة ( فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت ) أي في وقت ذكر العبد باللسان خاصة لا بقلبه وروحه ( إلا جليس اللسان خاصة فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان ) وليس ذلك من تمام مراد اللّه بل المطلوب من ذكر الإنسان رؤية الإنسان ربه لا رؤية جزء من أجزائه فإذا رآه الإنسان فقد رآه كل جزء من أجزاء الإنسان من حيث لا يراه الإنسان فالكمال ذكر الإنسان لا ذكر اللسان قوله رضي الله عنه :
( بما هو راء ) يجوز أن يكون متعلقا بقوله لا يراه أي من حيث لا يراه الإنسان بالذي هو أي الإنسان لا يراه وهو بصره المعروف الموضع
بل يراه الإنسان بما يراه به اللسان لأن اللسان بضر يخصه
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله فيراه أي يراه الإنسان بما يراه به اللسان
لأن اللسان بضر يخصه ويجوز أن يكون متعلقا بقوله فيراه أي يراه اللسان بالذي هو
أي اللسان راء به ولا يراه بما يرى به الإنسان والمقصود من رؤية اللسان الحق رؤيته بما يرى به الإنسان كما ورد في الخبر الصحيح
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كنت سمعه وبصره وبي يسمع وبي يبصر ) فكان هذا القول من قبيل التنازع فأيهما أعمل قدّر مفعول الآخر والضمير العائد إلى الموصول محذوف وهو به وظهر من هذا البيان إن ذكر اللّه أفضل من سائر الأعمال
( فافهم هذا السر ) أي أفضل سر الذكر ( في ذكر الغافلين فالذاكر ) وهو اللسان ( من الغافل حاضر ) لا غافل ( بلا شك والمذكور جليسه فهو ) أي الذاكر وهو اللسان ( يشاهده ) أي يشاهد جليسه وهو الحق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والغافل ) وهو الإنسان ( من حيث غفلته ) لا من حيث جزئه الذاكر إذ من هذه الحيثية ذاكر في الجملة لا غافل لذلك قيده بهذه الحيثية ( ليس بذاكر فما هو ) أي فليس الحق ( جليس الغافل فإن الإنسان كثير ) بالأجزاء ( ما هو )أي ليس الإنسان ( إحدى العين ) لكونه عينه مركبا من الأجزاء ( والحق إحدى العين ) لكونه لا جزء له ( كثير بالأسماء الإلهية ) والأسماء الإلهية ليست أجزاء لذات الحق وهو منزه عن الأجزاء والتأليف فمعناه أن ذاته تعالى موصوفة بالصفات الكثيرة فيعدد عند اعتبار العقل فإنه من حيث أنه ضارّ يغاير من حيث أنه نافع عند العقل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن الإنسان كثير بالأجزاء وما يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر ) حتى يلزم من ذكر الجزء ذكر الكل ليلزم الذكر المطلوب في كل ذاكر من الإنسان فاعتبر إلى هذا البيان هل تظنك ذاكرا أم غافلا واذكر اللّه ذكر المطلوب حتى كان الحق جليسا بخلاف سائر الأعمال من الغزو وغيره ، فإنه ما كان اللّه جليسا لعامتها والمقصود من تحقيق الذكر في هذا المقام تحريض وترغيب للسالكين الطالبين لأسرار الذكر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحق جليس الجزء الذاكر منه ) أي من الإنسان ( والآخر متصف بالغفلة عن الذكر ولا بد أن يكون في الإنسان جزء ) قوله ( يذكر به ) جاز على البناء المجهول والمعلوم وإنما لا بد للإنسان جزء ذاكر إذ لو لم يكن كذلك لعدم الإنسان (فيكون الحق جليس ذلك الجزء ) الذاكر فيحفظ ذلك الجزء بذكر اللّه وجليسه (فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية الإلهية ) بسبب الجزء الآخر الذاكر والإنسان ما دام ذاكرا للحق فهو حي محفوظ بالعناية الإلهية فإذا جاء أجله فنسي ذكر اللّه فطر عليه الموت .
ولما اتجه إن يقال أن وجود الإنسان خير محض في حقه من عدمه ومراعى عند اللّه فما الحكمة يتولى الحق بهدمه الموت أجاب عنه بقوله ( وما ) موصولة ( يتولى الحق بهدم هذه النشأة بالمسمى موتا فليس بإعدام ) مطلقا حتى تفوت الحكمة ( وإنما هو ) أي الموت ( تفريق ) لأجزاء الإنسان ( فيأخذه إليه وليس المراد ) بالموت ( إلا أن يأخذه الحق إليه تعالى ) كما أن للقصاص وإن كان سببا للموت حكمة وهي إبقاء النوع الانساني كذلك للهدم وإن كان سببا للموت حكمة وهي أخذ الحق عباده به وتقريبه إلى ذاته تعالى وإنجاؤهم عن العالم الجسماني الظلماني وإدخالهم في نور ذاته وصفاته.
وهذا خير في حق الإنسان من حياته وبقائه في الدني ( وإليه يرجع الأمر كله ) وموت الإنسان سبب لرجوعه إلى اللّه تعالى فما فعل الإنسان إلا بأحسن الأمر في حقه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا أخذه إليه ) بقبض روحه ( سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها وهي دار البقاء ) فكان ذلك المركب باقي ( لوجود الاعتدال ) الذي يوجب البقاء وينافي الفناء ( فلا يموت ) بعد ذلك ( أبدا ) أي ( لا تفترق أجزاؤه ) الأخروية ،
ولما اتجه أن يقال إن هذا الكلام لا يصدق إلا في حق أهل النعيم وأما أهل الجحيم فيفترق أجزاء أبدانهم الأخروية بالنصوص كما قال اللّه تعالى :كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَه[ النساء : 56 ] ،
فالنار تأكل لحومهم وعظامهم فتفرقت الأجزاء بأكل النار ثم سوى لهم مركبا من الأبدان الأخروية فلا بقاء لهم بهذا المعنى أي بمعنى عدم افتراق الأجزاء أجاب عنه بقوله ( وأما أهل النار فما لهم إلى النعيم ) يعني أن تبديل جلودهم وإفناء أجزائهم بسبب أكل النار لحومهم قبل وصولهم إلى نعيمهم الخاص بهم وبعد وصولهم وإن كانوا يعذبون بالنار أبدا ويتنعمون بمشاهدة ربهم أبدا لكن لا يموتون أبدا أي لا يفترق أجزاؤهم بذلك لحصول الاعتدال بالإحراق وتبديل الأبدان فكان حالهم في النار حال أهل النعيم في النعيم في عدم افتراق أجزاء أبدانهم والنعيم باق وكذا أهله باق سواء كان في دار النعيم أو الجحيم .
اعلم إن هذه المسألة مبنية على أصل عند أهل اللّه وهو أنهم قسموا أسماء اللّه تعالى بحسب الأحكام منها ما لا ينقطع حكمه أبدا كالأسماء الحاكمة على الآخرة منها اللطيف والقهار ،
وهذان الاسمان قسم من الاسم الآخر فلا ينقطع حكم القهار أبدا وهو وصول أثره إلى أهل النار وهو العذاب كما أن حكم اللطيف لا ينقطع حكمه أبدا في دار السلام فلا يخلو أهلها عن العذاب كما لا يخلو أهل دار السلام عن النعيم فلا ينقطع حكم النار عن أهلها وهو الإحراق ،
هذا هو الأصل الثابت بالنص الإلهي والكشف الإلهي عند الشيخ صاحب الكتاب وأمثاله من أهل اللّه .
فإذا علمت هذا فاعلم أن معنى قوله وأما أهل النار فما لهم أي آخر حالهم إن يرجع من العذاب الخاص عن الراحة والنعيم إلى النعيم الممتزج بالعذاب فتبدل عذابهم الخالص إلى العذاب الذي فيه العذاب لأن العذاب محرق في الأصل.
وهذا لا يكون إلا بظهور حكم الرحمة التي سبقت في حقهم بعد استيفاء الحقوق فكان العذاب لاستيفاء الحقوق ساقطا في حقهم وبعد ذلك ظهر العذاب الذي اقتضته شقاوتهم الذاتية فعذبوا لأجل ذلك على الأبد لاستيفاء الحقوق فصار النار بردا وسلاما لأرواحهم من هذا الوجه
ومؤلما لأبدانهم من حيث شقاوتهم الذاتية فقد تساوي راحتهم عذابهم فيجتمع نوع من الرحمة بنوع من العذاب فيهم لاستحقاقهم الذاتي
فلا ينقطع حكم الرحمة بعد الوصول إليها ولا حكم القهر عنهم أبد ( ولكن ) هذا النعيم حاصل لهم ( في النار ) وإنما كان النعيم لهم في النار ( إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب ) وهي مدة استيفاء الحقوق ( أن تكون ) تلك الصورة النارية مع بقاء صورته اللونية (بردا وسلاما على من فيها ) من حيث روحانيتهم من جهة إنها لا تأكل لحومهم وجلودهم ولا نضجت وتمزقت جلودهم .
ولا يفني أبدانهم لكنها أحرقت أبدانهم بوجه آخر فلا يطلع على أفئدتهم بعد ذلك لعدم تبديل الجلود ونضجها فلا يصل ألمها إلى أرواحهم بخلاف العذاب الأول فإنه يأكل النار أبدانهم ويبقي أفئدتهم ليصل ألمها إلى أرواحهم ثم وثم إلى ما شاء ثم سوى مركبا معتدلا من جنس هذا الدار لا يفنى بعذاب النار فلا مخالفة بين الطائفتين في دوام أصل العذاب .
بل الاختلاف في نوعه ولا يضرّ في الاعتقادات الدينية هذا المقدار من الاختلاف في مثل هذا المحل فإنه محل تحيرت العقول فيه أرواحهم في راحة لتجلي الحق لهم بالرحمة التي سبقت في حقهم وإيصاله لهم غذاء أرواحهم من انكشاف جماله على حسب مراتبهم فهم في راحة غير راحة فالنار تكون بردا وغير برد ولا يعجبك هذا الكلام ،
فإن الإنسان إذا شرع في تحصيل الكمالات بتكاليف الشاقة التي لا تلائم الطبع والنفس فهو في تعب وعذاب من حيث النفس والبدن وتلذذ وراحة من حيث الروح
فإن روحه متلذذ بنتائج هذه الأعمال الشاقة لأجل تلذذه يتحمل الأعراب فكانت الراحة مع العذاب في حق الكفار أحق من الراحة بدون العذاب إذ راحتهم نتيجة عذابهم فكلما ازدادوا عذابا ازدادوا راحة
كما أن طالب المعارف الإلهية كلما ازدادوا تعبا ومشقة ازدادوا راحة ولذة روحانية وهي تلذذ راحة بالمعارف
( وهذا ) أي كون النار بردا وسلاما على من فيه (نعيمهم ) وهذا المقدار القليل الغير المتعدي به من النعيم ضيافة اللّه لهم فإنهم وإن كانوا أشقياء لكنهم أليسوا عباد اللّه فلا وجه لمنع ضيافة اللّه عن عباده بكلتيها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أكرموا الضيف ولو كان كافرا » والإكرام إيصال النعم وحسن المعاشرة معه والشرع وضع على الحقيقة
فدل ذلك الحديث على أن الإكرام على حسب حالهم ومقامهم واقع عند اللّه فما أكرم وأنعم عليهم إلا بكون النار عليهم بردا وسلاما فقط لا غير مع أن زيادة النعم بالغا ما بلغ حسن عند اللّه تعالى لذلك لا يعدّ ولا يحصى نعمه لعباده إلا اللّه على أن كونهم في جحيم بلا أكل وشرب وحور ولباس حرير وغير ذلك من نعم الجنان عين العذاب وإن كان النار بردا وسلاما ، وإياك وظن السوء لأولياء اللّه في ظهور مثل هذا المعنى منهم .
فلما ذكر أحوال أهل النار مثل بقصة إبراهيم عليه السلام تفهيما لأهل الحجاب لأن بعض أحوالهم في النار تشبه بعض أحوال إبراهيم عليه السلام وإلا فليس حالهم كله يشبه حال إبراهيم عليه السلام ( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) التي كانت ثابتة على ذمتهم فالنعيم حاصل لهم بعد استيفاء المنتقم حقوق الغير فعذبوا على الأبد لاستحقاق ذواتهم التي تقتضي الشقاوة أبدا فتمتنع إجابتهم الدعوة في أي حال كانوا ويدعون إلى السجود .
أي إلى الإطاعة فلا يستطيعون فعذبوا بها بنار الجلال على الأبد فذواتهم باقية وكذا اقتضاؤها وهو شقاوتهم الذاتية ومقتضى الشقاوة الذاتية على الأبد بنوع من العذاب .
وذاته تعالى اقتضت سبقة رحمته على غضبه فكان حق الرحمة السبقة على الغضب وحق الشقاوة الذاتية التعذيب على الأبد ومن مقتضى ذاته أن يعطى كل ذي حق حقه فجمع اللّه تعالى بحسب مقتضى حكمته الراحة والألم في وجودهم ومن اعتقد أن للشيء الواحد وجوها مختلفة بالظهور والخفاء متضادة بعضها بعضا وعرف أن التجليات الإلهية متنوعة علم ما قلناه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( نعيم ) منصوب بتقدير حرف الجر ( خليل اللّه حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذب ) ماض على البناء المعلوم أي تعذب بنفسه من غير تعذيب من اللّه بمس النار ( برؤيتها ) تعذب ( بما ) أي بسبب الذي ( تعود ) بالدال المهملة ماض معلوم من التعود أي اعتقاد إبراهيم عليه السلام ( في علمه وتقرر من أنها ) أي النار ( صورة تولم من جاورها من الحيوان وما علم )إبراهيم عليه السلام ( مراد اللّه فيها ومنها في حقه ) أي في حق إبراهيم عليه السلام
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فبعد وجود هذه الآلام ) المذكورة في وجود إبراهيم عليه السلام ( وجد ) إبراهيم عليه السلام النار ( بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية ) التي توجب الإحراق فعلم إبراهيم عليه السلام أن التأثيرات كلها للَّه لا للأشياء فزال عن إبراهيم عليه السلام هذا الألم لزوال تعوده بعلم الألم
فلا يخاف إبراهيم عليه السلام عن النار بعد ذلك
أي بعد وجدان النار بردا وسلاما فلا يتعذب بشهود الصورة اللونية لعدم ذوقه ألم النار وأما أهل النار فإنهم لتعودهم بذوق يخافون عن عود العذاب على عادته الأولى لبقاء الصورة النارية فيتعذبون بشهود الصورة أبد
فيرضون بذلك العذاب بالضرورة لعلمهم بعدم النجاة عن النار أبد
فإنهم يظنون قبل ذلك أن في حقهم رحمة تصل إليهم ويرجونها ولكن لا يدرون كيفيتها ووقتها فلما وصلت إليهم بهذه الكيفية انقطع رجاؤهم
فرضوا بمقامهم وحالهم وذلك نعيمهم ولا يرفع بذلك حكم النصوص على تخليدهم في العذاب بل تصدق النصوص على ذلك التقدير أيضا فلا وجه للنزاع مع أهل اللّه فيه فمن نازع فقد نازع بلا دليل وتمسك قوله :
( في حقه ) متعلق ببردا وسلاما أو بوجد ( وهي ) أي الصورة اللونية ( نار في عيون الناس ) ونور وراحة وسلام في حق إبراهيم عليه السلام حتى لو كان مع إبراهيم عليه السلام أحد من الناس لجاز إحراقه ولو في جبة مع إبراهيم عليه السلام .
مع كون النار في حق إبراهيم عليه السلام بردا وسلاما فكان حال أهل النار حال إبراهيم عليه السلام في أنه تعذب برؤيتها ولما تعوّد في علمه قبل وجدان النار بردا وسلاما مع أنه لا يخلو في تلك الحالة عن الراحة الروحانية فهو في ذلك الوقت متلذذ ومتألم .
حكي أن جبرائيل عليه السلام جاء لخلاصه حين ألقي في النار فقال إبراهيم عليه السلام : يكفني علم ربي بحالي فهذا القول منه يدل على راحته ومجيء جبرائيل يدل على تألمه وكل ذلك في شخص واحد في وقت واحد وهكذا إحراق أهل النار في النار على الأبد
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين ) فإن النار برد وسلام في عين إبراهيم عليه السلام ونار محرق في عيون الناس (هكذا ) أي كنار إبراهيم عليه السلام ( هو ) ضمير الشأن
قال الشيخ رضي الله عنه : ( التجلي الإلهي )عبارة عن الضمير فإن التجلي الإلهي وإن كان واحدا لكنه يتنوع بحسب قابلية الخلائق فيتكثر بذلك وأهل الحجاب لعدم علمه بذلك يزعم أن الأمر في نفسه ينحصر إلى ما في علمه فينكر بعض التجليات الخفية عن إدراكه فإذا علمت أن الشيء الواحد يتنوع ( فإن شئت قلت إن اللّه تجلي ) لقلوب عباده ( مثل هذا الأمر ) .
أي مثل تجلي نار إبراهيم عليه السلام لعيون الناظرين وهذا ظهور الحق في الخلق ( وإن شئت قلت إن العالم في النظر إليه وفيه ) قوله في النظر إليه إشارة إلى مرتبة الصفات وقوله وفيه إشارة إلى مرتبة الذات ( مثل الحق في التجلي ) خبر أن أي العالم يتنوع في مرآة وجود الحق كما يتنوع الحق في مرآة العالم عند التجلي وهو ظهور الخلق في الحق ( فيتنوع ) التجلي ( في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ) هذا في التجلي الشهادي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أو يتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي ) هذا في التجلي الغيبي وقد مر بيان هذين القسمين في الفص الشعبي ( وكل هذا سائغ في الحقائق ) ولما فرغ عن أحوال الآخرة رجع إلى ما صدده وهو قوله والإنسان بالموت يرجع إليه فقال : ( ولو أن الميت أو المقتول أيّ ميت كان ) شقيا أو سعيد ( أو أيّ مقتول كان ) ظلما أو حقا ( إذا مات أو قتل ) .
قوله ( لا يرجع إلى اللّه ) خبر أن ( لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرع قتله ) جواب لو أي ولو قضى بلا رجوع لوقع موت العبد بلا حكمة مع أن وجوده راجع ومراعى عند اللّه وذلك محال على اللّه ( فالكل ) سواء كان ميتا أو مقتولا ( في قبضته فلا فقدان ) للعبد ( في حقه )
أي في حق الحق ( فشرّع القتل وحكم بالموت لعلمه بأن عبده لا يفوته فهو راجع إليه ) بالموت ( على أن قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي ) يقع ( فيه ) أي في الأمر ( يقع التصرف وهو ) أي الحق ( المتصرف ) .
فلا يخلو العبد أن يكون متصرفا فيه الحق أبدا والعدم المحض لا يقبل التصرف فلا يكون العبد بالموت عدما مطلقا فحذف اسم إن للعلم به أي على أن قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ دلالة على هذا المعنى
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما خرج عنه ) أي ما ظهر عن الحق ( شيء لم يكن ) ذلك الشيء ( عينه ) أي عين الحق في بعض صفاته لا في كلها كما قال الشيخ الأكبر في مواضع وكل وصف وصف اللّه به نفسه كنا نتصف به إلا الوجوب الذاتي .
فإنه لاحظ للإنسان فيه وكل وصف نتصف به اتصف الحق به إلا الإمكان الذاتي ولوازمه فإن ذلك يستحيل على اللّه ثم كلامه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بل هويته ) أي هوبة الحق هو راجع إلى الهوية باعتبار إضافتها إلى الحق لذلك ذكر ( عين ذلك الشيء ) من وجه وهو كونه مخلوقا على صفة الحق لا غير .
فإنه قال قدس سره من قبل فإن الإنسان كثيرا ما هو أحدي العين والحق أحدي العين فدل ذلك الكلام على امتناع اتحاد العينين ( وهو ) أي ما ذكرناه ( الذي يعطيه الكشف في قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) إشارة إلى أن أخذ هذا المعنى من هذا القول لا يكون إلا بالكشف لخفائه من إدراك العقول فظهر منه أن للقرآن والأحاديث معان لا تظهر دلالتهما عليها إلا بالكشف الإلهي .
.
....

RKmqnDIQo1I

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!