موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح بالي أفندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مصطفي سليمان بالي زاده الحنفي

فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية


16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فص حكمة رحمانية ) أي زبدة علوم منسوبة إلى الرحمن حاصلة (في كلمة سليمانية ) أي في روح هذا النبي عليه السلام فكل من علم هذه الحكمة وتكلم بها .
""إضافة المحقق : يبحث هذا الفص في مسألتين هامتين إلى جانب مسائل أخرى كثيرة تتصل به : -
المسألة الأولى : الرحمة الإلهية ، معناها وأقسامها . وقد سبقت الإشارة إلى الرحمة في النصوص التي سبقت ولكننا هنا بإزاء شرح أوفى لأحد قسمي الرحمة وهو رحمة الوجوب .
المسألة الثانية :هي مسألة الملك والخلافة والتصرف وهي متصلة بسليمان عليه السلام على نحو ما فصله القرآن الكريم.""
فمن روح هذا النبي قال اللّه تعالى حكاية عن قراءة بلقيس كتاب سليمان عليه السلام ( أنه يعني الكتاب ) الملقى إليّ ( من سليمان وأنه أي مضمونه ) .
وإنما رجع الضمير الثاني إلى المضمون لا إلى الكتاب لأن ما في الكتاب لا ينحصر في البسملة ( بسم اللّه الرحمن الرحيم فأخذ بعض الناس ) أي ذهب بعض المفسرين ( في تقديم ) يتعلق بأخذ باعتبار تضمنه معنى شرع وإن كان متعدي ( اسم سليمان على اسم اللّه ) .
أي قدم سليمان في كتابه اسمه على اسم اللّه فحكى بلقيس مع حواشيها كذلك ( ولم يكن كذلك ) والحال أن سليمان لم يقدم اسمه على اسم اللّه في كتابه بل إنما كان التقديم عن قراءة بلقيس لأنه لما قالت بلقيس لحواشيها أني ألقي إليّ كتاب كريم نصب السامعون أعينهم وانتظروا إلى ذكر الملقى فاقتضى المقام تقديم اسمه على اسم اللّه في قراءة بلقيس وكذلك في كتاب سليمان بل قدم اسم اللّه على اسمه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وتكلموا في ذلك ) أي في وجه تقديم سليمان اسمه على اسم اللّه ( بما لا ينبغي )يتعلق بتكلموا ( مما ) بيان لما لا ينبغي ( لا يليق بمعرفة سليمان عليه السلام بربه ) .
فإنهم قالوا إنما قدم اسمه على اسم اللّه لئلا يحرق الكتاب بحرمة صاحبه .
وبعضهم قالو إنما قدم اسمه على اسم اللّه لأنها ملكة كافرة فخاف سليمان شتمها عند القراءة فقدم اسمه ليرجع الشتم إليه "لا" إلى اللّه .
كل ذلك لا يليق بحضرة سليمان العالم بالأمور على ما هي عليه لذلك ذهب الشيخ إلى أن سليمان لم يقدم اسمه على اسم اللّه والتقديم بتوهم من حكاية بلقيس (وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول ) لحواشيه ( فيه ) أي في حق الكتاب ( أنى ألقي إليّ كتاب كريم أي يكرم عليها ) على بلقيس.
وسليمان عالم بهذا القول من بلقيس قبل أن تقول فكيف يليق بهذه المعرفة معرفة سليمان ما قالوه في حقه من نسبة الجهل ( وإنما حملهم ) أي بعض الناس ( على ذلك ) التقديم ( ربما ) فاعل حملهم على التقديم علة لحملهم على التقديم ( تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام ) يعني قالوا إنما قدم سليمان اسمه على اسم اللّه لئلا تمزق كتابه كما مزق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام لتقديم اسم اللّه على اسمه فقولهم قدم الرسول اسم اللّه على اسمه وقولهم : مزق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام قد أصابوا فيه لكنهم أخطئوا في قولهم إن تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه لتقديم اسم اللّه على اسمه .
ولولا ذلك التقديم لما مزقه وإلى بطلان هذا القول أشار بقوله ( وما مزقه ) أي وما مزق كسرى كتاب رسول اللّه (حتى قرأه كله وعرف مضمونه ) .
ولو كان تقديم اسم اللّه سببا لتمزيق كتاب رسول اللّه عليه السلام لما قرأ كله بل مزق عند رؤية اسم اللّه بدون قراءة ما في الكتاب فما مزقه إلا لعدم توفيق اللّه له .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك ) أي ككسرى ( كانت تفعل بلقيس ) أي ما مزقته حتى قرأت كله وعرفت مضمونه ( لو لم توفق ) من التوفيق على بناء المجهول ( لما وفقت له ) فسبب التمزيق عدم التوفيق وسبب عدم التمزيق التوفيق.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلم يكن يحمى الكتاب عن الإحراق بحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السلام على اسم اللّه عزّ وجلّ ولا تأخيره ) أي لم يكن تقديم اسمه ولا تأخيره سببا لحفظ الكتاب عن التمزيق قوله الكتاب مفعول يحمى وتقديم فاعله .
( فأتى سليمان بالرحمتين رحمة الامتنان ) وهي ما يحصل من اللّه تعالى للعبد بدون مقابلة عمل من أعماله بل عناية سابقة في حق عبده كإعطاء الوجود والقدرة للعمل والصحة فإنها رحمة من اللّه للعبد ليست في مقابلة عمل بل منة وعطاء محض من اللّه تعالى ( ورحمة الوجوب ) .
وهي التي تحصل من اللّه للعبد بمقابلة عمله كإعطاء ثواب أعمالهم في الجنة ( اللتان هما الرحمن الرحيم فامتن ) أي امتن الحق ( بالرحمن ) لعموم حكمه على جميع الموجودات فامتن بقوله :" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ "
وبقوله :" رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً"
( وأوجب ) أي جعل الحق على نفسه الرحمة واجب ( بالرحيم ) المخصص بالرحمن العام ( وهذا الوجوب ) أي وجوب رحمة الوجوب ( من الامتنان فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن ) يعني دخول الخاص تحت العام وإنما كانت رحمة الوجوب من الامتنان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ليكون ذلك ) وجوب الرحمة ( للعبد بما ) أي بسبب الذي ( ذكره الحق من الأعمال ) بيان لما أو لضميره ( التي يأتي بها هذا العبد ) قوله :
( حقا ) خبر ليكون ( على اللّه ) متعلق بحق ( أوجبه ) الضمير المنصوب المتصل يرجع إلى اللّه وجوب الرحمة ( له ) يتعلق بأوجبه والضمير المجرور المتصل يرجع إلى العبد أي أوجب الحق الرحمة ( على نفسه ) للعبد على نفسه يتعلق بأوجبه ( يستحق بها ) أي يستحق العبد بإتيان الأعمال التي أمره الحق أن يفعلها.
( هذه الرحمة ) مفعول يستحق ( أعني رحمة الوجوب ) يعني أن العبد من حيث أنه عبد يجب عليه إتيان أوامر مولاه فلا تجب الرحمة على المولى في مقابلتها شيء .
فإذا قدر المولى وأوجب على نفسه لعبده شيئا في مقابلة عمله يستحق العبد بذلك الشيء بسبب عمله فوصل ذلك الشيء للعبد من المولى في مقابلة عمله فذلك امتنان وعطاء محض .
ومن ذلك قالوا الجنة فضل إلهي فلا يستحق بها العبد إلا بفضل اللّه تعالى فإن جعل الحق الأعمال أسبابا للجنة وهو من جملة فضل اللّه فكان وجوب الرحمة من رحمة الامتنان ( ومن كان من العبيد بهذه المثابة ) أي محققا بهذه المرتبة ومشاهدا إياها وهي مرتبة أن يكون الحق موجبا على نفسه الرحمة للعبد ( فإنه ) أي فإن ذلك العبد (يعلم من هو العامل منه ) .
أي يعلم ذلك العبد يقينا ان العامل في الحقيقة من نفسه هو الحق ويعلم أن العمل لا يستند إليه إلا بحسب الظاهر وأما العبد الذي لم يكن بهذه المثابة فهو يزعم أنه عامل في الحقيقة ولما قال إن العامل في الحقيقة من صورة العبد هو الحق شرع في بيانه.
بقوله ( والعمل منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) لكل عضو عمل خاص له يعمل الإنسان ذلك العمل بذلك العضو على ما لا يخفى
( وقد أخبر الحق تعالى أنه ) أي الحق ( هوية كل عضو منها ) أي من أعضاء الإنسان فإذا كان الحق هوية كل عضو .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلم يكن العامل فيها غير الحق والصورة ) التي تظهر منها العمل ( للعبد والهوية ) الإلهية (مندرجة فيه ) أي في العبد ( أي في اسمه ) أي في اسم اللّه أو في اسم العبد إذ لكل عبد اسم يظهر فيه أحكام ذلك الاسم ( لا غير ).
فسر بقوله أي في اسمه ليعلم أن اندراج الهوية ليس في نفس العبد بل في اسمه الظاهر في العبد ، كما قال : ولكن فيّ مظهره ولم يقل أنا مظهره لكنهم سامحوا وقالوا الهوية الإلهية مندرجة في العبد والمراد ما يظهر في العبد ويريه من أسماء اللّه تعالى .
فإن اندراج الهوية لا يكون إلا في الأسماء الإلهية ومعنى اندراج الهوية الإلهية في الموجودات كاندراج الهوية الشخصية في صورها الحاصلة في المرايا المختلفة وبه اندفع توهم الحلول لأهل الحجاب فإن الحلول محال عند أهل اللّه أيضا وإنما كانت الهوية الإلهية مندرجة في العبد ( لأنه تعالى عين ما ظهر ) منه ( ويسمى خلقا ) ومعنى كون الحق عين ما ظهر منه أي كون الحق عين الخلق كون المخلوق ظاهرا على صفة الحق وهي الحياة والعلم والقدرة .
ومعنى كون الحق غير الخلق كون الخلق ظاهرا على الصفة الناقصة كالحدوث والإمكان ولوازمهما فكما أنت عين ما ظهر منك في المرايا المختلفة .
كذلك الحق عين العبد الذي ظهر منه بمعنى ما من صفة من صفات الحق إلا وهي موجودة في العبد إلا الوجوب الذاتي .
فإنه لاحظ للممكن فيه فمعنى العينية في اصطلاح هذه الطائفة اشتراك الأمرين أو الأمور في الحقيقة الواحدة كاشتراك زيد وعمرو وخالد في حقيقة الإنسانية .
فإن كل واحد منهم عين الآخر في الإنسانية أو في صفة كاشتراك زيد وعمرو في العلم وكاشتراك الموجودات مع الحق في الوجود .
يعني لا تمايز بينهما من هذا الوجه والغيرية امتيازها بوصف مختص .
فظهر لك معنى قوله لأنه تعالى عين ما ظهر أي عين ما ظهر من حيث الأمور الكلية المشتركة بينهما لا من جميع الوجوه .
فإنه محال ( وبه ) أي وبكون الحق عين ما ظهر ( كان ) أي حصل ( الاسم الظاهر والآخر للعبد وبكونه ) أي وبكون العبد ( لم يكن ثم كان ويتوقف ظهوره ) أي ويتوقف ظهور العبد ( عليه ) أي على الحق ( و ) توقف ( صدور العمل منه ).
أي من العبد على الحق أو يتوقف ظهور الحق على العبد وتوقف صدور العمل من الحق على العبد (كان الاسم الباطن والأول ) للعبد .
فكان هو الأول والآخر والظاهر والباطن كما كان الحق كذلك أولية العبد وآخريته وظاهريته وباطنيته لا كما كان الحق (فإذا رأيت الخلق رأيت الأول والآخر والظاهر والباطن ) يعني أن الخلق دليل تام على الخالق وأسمائه وصفاته لمن كشف اللّه عين بصيرته .
( وهذه معرفة ) وهي معرفة الحق من الخلق بأمهات أسمائه ( لا يغيب عنها سليمان عليه السلام ) لكونه متصرفا في الملك متحققا بمعرفة الأسماء الإلهية ليمكن التصرف بها في الملك كله .
( بل هي ) أي بل هذه المعرفة ( من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ) أي من بعد سليمان عليه السلام ( يعني الظهور به ) أي بهذا الملك (في عالم الشهادة ) .
فدعا سليمان عليه السلام اختصاص ظهور الملك لا نفس الملك فجاز أن يعطي هذا الملك لأحد بعده لكن لا يظهر به ( فقد أوتي محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما أوتيه سليمان عليه السلام وما ظهر ) أي ولم يظهر محمد عليه السلام ( به ) .
لأن ظهوره مختص بسليمان عليه السلام ( فمكنه اللّه ) أي محمدا بتشديد الكاف ( تمكين قهر من العفريت ) أي من كفرة الجن .
( الذي جاءه ) أي جاء الرسول عليه السلام ( بالليل ليضل به ) وفي بعض النسخ ليفتك به أي ليقتله غفلة ( فهمّ ) أي قصد الرسول عليه السلام ( بأخذه ) أي بأخذ العفريت ( وربطه بسارية ) أي بعمد ( من سواري ) أي من عمود ( المسجد حتى ) أن ( يصبح فيلعب به ) أي بهذا العفريت ( ولدان المدينة فذكر ) الرسول عليه السلام ( دعوة سليمان عليه السلام ) وهي قوله "وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" .
( فردّه اللّه ) أي العفريت ( خاسئا ) من الظفر على محمد صلى اللّه عليه وسلم ( فلم يظهر ) محمد (عليه السلام بما أقدر عليه ) على البناء للمجهول أي جعل الحق محمدا قادرا على العفريت ( وظهر بذلك ) .
أي بما أقدر عليه محمد عليه السلام ( سليمان عليه السلام ثم قوله ملكا فلم يعم فعلمنا أنه ) أي سليمان عليه السلام (يريد ملكا ما ) أي ملكا خاصا من الأملاك .
( ورأيناه ) أي رأينا سليمان عليه السلام ( قد شورك ) سليمان عليه السلام مع غيره ( في كل جزء من الملك الذي أعطاه اللّه فعلمنا أنه ) أي أن سليمان عليه السلام ( ما اختص إلا بالمجموع من ذلك ) الملك الخاص المعطى له وأما أجزاء ذلك الملك الخاص فلا اختصاص لسليمان عليه السلام به .
فكان المجموع مختصا والأجزاء مشتركة ( و ) علمن (بحديث العفريت أنه ) أي أن سليمان عليه السلام ( ما اختص إلا بالظهور وقد يختص ) أي وقد اختص سليمان عليه السلام ( بالمجموع ) .

إذ لا يعطى هذا المجموع غير سليمان عليه السلام فلا شورك في نفس المجموع فكيف يشارك في الظهور بالمجموع وهو الملك المركب من الأجزاء ( والظهور ) أي اختص سليمان عليه السلام بظهور جزء جزء من الملك الذي أعطاه اللّه فلا يختص سليمان عليه السلام بذات جزء جزء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلو لم يقل عليه السلام في حديث العفريت فأمكنني اللّه منه ) أي أعطاني اللّه قدرة وتصرفا في العفريت ( لقلنا إنه لما همّ بأخذه ) أي بأخذ هذا العفريت ( ذكره اللّه دعوة سليمان عليه السلام ليعلم الرسول عليه السلام أنه لا يقدره اللّه ) من الأقدار .
أي ليعلم الرسول عليه السلام أن اللّه لا يعطي له القدرة ( على أخذه فردّه اللّه خاسئا فلما قال فامكنني اللّه منه علمنا ) من هذا القول ( إن اللّه تعالى قد وهبه التصرف فيه ) أي في العفريت .
( ثم إن اللّه ذكره ) من التذكير ( فتذكر ) الرسول عليه السلام ( دعوة سليمان عليه السلام فتأدب معه فعلمنا من هذا ) أي من حديث العفريت ( أن ) هذا ( الذي ) أي الملك الذي ( لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان عليه السلام الظهور بذلك ) الملك ( في العموم ) أي لا يظهر تصرفه في ذلك الملك في عموم الخلائق فعلم اختصاصه بالظهور بحديث العفريت واختصاصه بالمجموع باشتراكه في أجزاء الملك .
( وليس غرضنا من هذه المسألة ) المذكورة ( إلا الكلام والتنبيه على الرحمتين ) الرحمة العامة وهي صورة اشتراك سليمان عليه السلام في أجزاء الملك والرحمة الخاصة .
وهي اختصاص سليمان عليه السلام بالمجموع وبالظهور فجمع سليمان عليه السلام الرحمة العامة والرحمة الخاصة ( اللتين ذكرهما سليمان عليه السلام في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب الرحمن الرحيم فقيد ) الحق ( رحمة الوجوب ) في قوله "وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً". وفي قوله: " فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. " .
(وأطلق مرحمة الامتنان في قوله :"وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" حتى الأسماء الإلهية أعني حقائق النسب ) فرحم اللّه تعالى الأسماء رحمة الامتنان بإعطاء ما طلبته من المظاهر .
( فامتن ) اللّه ( عليها ) أي الأسماء ( بنا ) عبارة عن العالم كله أي بوجودنا فإن كان كذلك ( فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء ) أي بسبب الأسماء ( الإلهية والنسب الربانية).
(ثم ) أي بعد إعطاء وجودنا بالرحمة الامتنانية ( أوجبها ) أي أوجب تلك الرحمة الامتنانية ( على نفسه بظهورنا ) أي بسبب ظهورنا برحمة الامتنان ( لنا ) متعلق بأوجب أي ليرحمنا بها.
( وأعلمنا ) من الإعلام ( أنه ) أي اللّه (هويتنا ) وهو قوله كنت سمعه وبصره ( لنعلم أنه ما أوجبها ) أي ما أوجب الحق تلك الرحمة ( على نفسه ) في التحقيق ( إلا لنفسه ) أي علة الوجوب وسببه هي جهة اتحادنا عينيتنا معه في صفاته لا من جهة غيريتنا معه ولو كنا غير الحق من كل الوجوه لما كتب الرحمة على نفسه .
والرحمة لا تكون إلا بقرب المناسبة وكثرتها ألا ترى أن الإنسان يتفاوت ترحمه بقوة المناسبة وضعفها والرحمة تنشأ من الميل الحسي والشيء لا يميل إلى مباينه بل يميل إلى مجانسه .
فالحق لا يميل إلينا إلا بمجانستنا إياه في أخلاقه وأوصافه ( فما خرجت الرحمة عنه ) خروجا منفكا بحيث يزول عنه ويحدث في غيرها لأن رحمته وأصله إلى من اتصف بصفاته الكاملة وصفاته عين ذاته من وجه أو موجودة فيه فمنه خرجت وإليه عادت ( فعلى من امتن وما ثمة ) أي وما في مقام الامتنان ( إلا هو ) أي إلا اللّه.
فإن قوله كتب على نفسه الرحمة قديم أزلي واقع قبل أن يحدث العالم في مقام كان اللّه ولم يكن معه شيء وهذا المقام ثابت للحق الآن فلما تكلم عن لسان التوحيد أراد أن يتكلم بلسان التفريق على ما هو سنته وسنة أهل التحقيق للجمع بين الوحدة والكثرة.
فقال : ( إلا أنه ) استثناء منقطع ( لا بد من حكم لسان التفصيل ) كما لا بد من حكم لسان الإجمال فإن الكثرة واقعة كما أن الوحدة واقعة فلا بد من البيان عن أحكامها وإنما كان لا بد من حكم لسان التفصيل ( لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم حتى يقال إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) بحسب الحقيقة والتفاضل إنما يكون بحسب تفاوت الاستعدادات من القرب والبعد من الاعتدال الروحاني والجسماني .
( ومعناه ) أي معنى تفاضل الخلق في العلوم مع أحدية العين ( معنى نقص الإرادة عن تعلق العلم ) فإن الإرادة تتعلق بالممكنات والعلم يتعلق بالممكنات والممتنعات ( فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ) معنى ( كمال تعلق الإرادة وفضلها ) لكونها سابقة على تعلق القدرة وشرطها لحصولها .
( وزيادتها ) أي زيادة تعلق الإرادة ( على تعلق القدرة ) فإن الإرادة والقدرة تتعلقان بإيجاد المعدوم الممكن وإعدامه والإرادة تتعلق بعدم ممكن الوجود في نفسه فكان ممتنع الوجود بإرادة اللّه ولا يقال ممتنع بقدرة اللّه بل يقال ممتنع بإرادة اللّه كالغفران للمشركين الذين ماتوا وهم كفار فإنه ممكن في ذاته لأن العفو مستحسن لكل مجرم وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد.

( وكذلك السمع الإلهي والبصر وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض )
علم ذلك التفاضل من علم المراتب الأسماء الإلهية وحقائقها .
( كذلك ) أي كتفاضل الأسماء ( تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) فالتفاضل في الأسماء الإلهية والخلق بحسب التعينات لا بحسب الأحدية ( وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته ) من التنعيت ( بها كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به ) أي حصل في المفضول عليه أهلية كل مفضول به.
لاندراج الهوية الإلهية في المفضول عليه التي يستند جميع الكمالات الصادرة من المظاهر الخلقية إليها فزيد من حيث تضمنه الهوية الإنسانية فيه أهلية لجميع الكمالات الموجودة في إفراد تلك الحقيقة لأن الكمالات الظاهرة في إفراد كل نوع مودعة في شأن ذلك النوع .
وباعتبار ذلك كل فرد من ذلك النوع فيه أهلية كل ما كان في جميع أفراد ذلك النوع من الكمال وهو معنى قوله ( فكل جزء من العالم مجموع العالم أي هو قابل بحقائق متفرقات العالم كله ) لأن معناه أنه تكون تلك الأهلية ظاهرة بالفعل في كل جزء ( فلا يقدح قولنا إن زيدا دون عمرو في العلم ) يعني أن الاختلاف في الأحكام لا يقدح الاتحاد في الهوية (ويكون ) الحق ( في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ) هذا إذا أسند العلم والكمال إلى الحق.
أي نظر إلى جهة إسناد الكمالات الظاهرة من المظاهر الخلقية إلى الحق فكان علمه الظاهر في صورة عمرو أكمل وأتم منه في علمه الظاهر في صورة زيد .
فكانت الذات الواحدة في حد نفسها بالوحدة الحقيقة فاضلا ومفضولا على نفسه باعتبار المظاهر وأما من حيث ذاته فلا فاضل ولا مفضول .
كما أن الحقيقة الإنسانية واحدة لذاتها كثيرة بحسب الأشخاص وكثرتها مودعة في شأن تلك الحقيقة .
فالواحد والوحدة والكثير والكثرة والأشخاص هي تلك الحقيقة التي تظهر في مراتبها بأحكامه ( كما تفاضلت الأسماء الإلهية و ) الحال أن الأسماء الإلهية ( ليست غير الحق ) من وجه فتفاضلها تفاضل الحق من حيث كونه مسمى بها موصوفا بحقائقها فإذا كان الحق متفاضلا على نفسه بتفاضل الأسماء
( فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث هو مريد وقادر وهو ) أي الحق ( هو ) عين العالم والمريد والقادر ( ليس غيره ) .
لأن الأسماء الإلهية متحدة في الهوية الإلهية فكان الحق ظاهرا في كل مقام ومظهرا كاملا أو ناقصا فإذا كان الأمر كذلك .
( فلا تعلمه يا ولي ) أي فلا تعلم الحق يا صاحبي ( هنا ) أي في مقام لعلوّ شأنه وشرفه ( و ) ل ( تجهله هنا ) أي لا تجهل الحق في مقام لدناءته وخساسته بل تعلمه في كل مقام شريفا كان أو حقيرا .
( و ) ل ( تنفيه هنا ) أي في مقام نظرا إلى نقصه ( و ) ل ( تثبته هنا ) نظرا إلى شرفه وزيادته بل اعلم الحق في كل مظهر ومقام عظيم أو حقير وأثبته كذلك لتكون عالما بالأسماء على ما هي عليه ( إلا أن أثبته ) أي إلا أن أثبت الحق .
( بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ) فحينئذ المثبت والنافي الحق لا أنت وحينئذ أنت عبد محض تابع لحكم الحق في الحكم بالنفي والإثبات وحكم الحق على نفسه بالنفي والإثبات.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه تعالى حين قال : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" فنفى "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان . وما ثمة ) أي وما في العالم
( إلا حيوان إلا أنه ) أي لكنه (بطن ) الحيوان ( في الدنيا عن إدراك بعض الناس ) وهم محجوبون فيسمون بعض الأشياء جمادا والبعض الآخر حيوانا .
( وظهر في الآخرة لكل الناس فإنها دار الحيوان وكذلك الدنيا ) كلها حيوان ( إلا أن حياتها ) أي حياة الدني .
قال الشيخ رضي الله عنه : (مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد اللّه بما يدركونه من حقائق العالم فمن عم إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم ) .
فيتفاضل من عم إدراكه على من لم يعم فإذا كان الأمر على ما بيناه ( فلا تحجب ) على المبني للمفعول أي لا تكن محجوبا ( بالتفاضل وتقول ) أي والحال أنك قائل ( لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق بعد ) يتعلق بلا تحجب .
( ما ) له ( إراءتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت في أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها ليس إلا اللّه ) فلا منافاة بين التفاضل واتحاد العلمين في الهوية .
ثم رجع إلى بيان حكمة تقديم سليمان عليه السلام اسم اللّه على اسمه فقال :
( ثم إنه كيف تقدم سليمان عليه السلام كما زعموا وهو ) أي سليمان عليه السلام (من جملة من أوجدته الرحمة) الرحمانية ومن جملة من رحمته الرحيمية بإفاضة الكمالات المختصة به .
( فلا بد أن يتقدم الرحمن الرحيم ليصح استناد المرحوم ) إليهما لكونه علة لوجود سليمان عليه السلام ومرحوميته ( هذا ) أي تقديم سليمان عليه السلام اسمه على اسم اللّه ( عكس الحقائق ) وهو ( تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه ).
وسليمان عليه السلام مع كونه عالما بذلك كيف يقدم اسمه الذي يستحق التأخير على اسم اللّه الذي يستحق التقديم مع أن اسم اللّه يستحق في ابتداء كل أمر ذي بال وكتاب سليمان عليه السلام أمر ذو بال يجب تقديم اسم اللّه على ما في الكتاب .
ثم شرع في بيان حكمة بلقيس بقوله( ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها كونها لم تذكر ) لحواشيه ( من ألقى إليها الكتاب وما عملت ) بلقيس ( ذلك ) العمل ( إلا لتعلم ) بلقيس من الأعلام ( أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ) أي لا يعلمون حواشيها الطريق الواصل إلى تلك الأمور التي وصلت إلى بلقيس .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا ) أي ما عملته بلقيس مع حواشيه ( من التدبير الإلهي في الملك لأنه إذا جهل طريق الاخبار الواصل للملك خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل ) ذلك ( الأمر إلى سلطانهم عنهم ) أي عن أهل الدولة (يأمنون غائلة ذلك التصرف فلو تعين لهم ) أي لأهل الدولة كوزراء السلاطين (على يدي من ) قوله على يدي من متعلق بتصل ومن فاعله أي لو تعين لهم من على يديه .
( تصل الأخبار إلى ملكهم ) متعلق بتصل ( لصانعوه ) أي لخدموا صاحب تلك اليدين ( وأعطوا له الرشا ) بضم الراء جمع رشوة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك ) الأخبار ( إلى ملكهم فكان قولها ) أي قول بلقيس ( ألقي إليّ ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها ) أي من بلقيس.
( في أهل مملكتها وخواص مدبرها وبهذا ) العلم ( استحقت ) بلقيس ( التقدم عليهم ) أي على خواص مدبرها مع كونها امرأة يجب تأخيرها عن مرتبة الرجال .
( وما أفضل العالم ) وهو آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام ( من الصنف الإنساني على العالم من الجن ) وهو من قال : "مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ" ( بأسرار التصرف ) يتعلق بالعالم ( وخواص الأشياء فمعلوم ) .
أي ذلك الفضل معلوم (بالقدر الزماني فإن رجوع الطرف إلى الناظر ) قوله : ( به ) يتعلق بالناظر والضمير المجرور راجع إلى الطرف ( أسرع من قيام القائم من مجلسه لأن حركة البصر في الإدراك ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلى ما يدركه ) متعلق بالحركة ( أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور فإن زمان فتح البصر عين زمان تعلقه بتلك الكواكب الثابتة وزمان رجوع طرفه إليه ).
أي زمان رجوع طرف العين إلى الناظر ( عين زمان عدم إدراكه والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك أي ليس له هذه السرعة فكان ) .
قوله: ( آصف بن برخيا ) وهو قوله "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" ( أتم في العلم من الجن ) وأتمية العمل توجب أتمية العلم فكان العلم من الإنس بأسرار التصرف أفضل من العالم من الجن.
( فكان عين قول آصف بن برخيا عين فعله في الزمن الواحد ) فإن قوله أهل التصرف وجميع قواه عين الحق من وجه خاص يتصرفون فيما يريدون بإذن اللّه .
فكان قول آصف بمنزلة قول اللّه تعالى "كُنْ فَيَكُونُ " في أن قول الحق عين فعله في الزمن الواحد .
وبذلك كان وزيرا لسليمان عليه السلام ( فرأى في ذلك الزمان ) الضمير المحدود في ( بعينه ) راجع إلى الزمان ( سليمان عليه السلام عرش بلقيس ) حال كون العرش ( مستقرا عنده ) أي موجودا أو حاصلا عند سليمان عليه السلام وإنما قال تعالى "مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ" بعد قوله "فَلَمَّا رَآهُ " ( لئلا يتخيل ) على المبني للمفعول .
( أنه أدركه ) أي أن سليمان عليه السلام أدرك العرش ( وهو ) والحال أن العرش ثابت ( في مكانه من غير انتقال ) بأن رافع الحجاب من البين فرآه سليمان عليه السلام بدون حصول عنده فلما قال مستقرا عنده زال ذلك التخيل .
وعلم أن العرش قد انتقل عن مكانه بفعل آصف وحصل عند سليمان فرآه عنده هذا عند من كان عنده باتحاد الزمان انتقال فكان استقرار العرش عند سليمان عنده بالانتقال ، وأما عند من لم يكن عنده باتحاد الزمان انتقال .
وقد صرح به بقوله ( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال ) يعني أن قولهأَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَعين فعله في زمان واحد فاتحد قوله وفعله باتحاد الزمان ولا يمكن فيه الانتقال فإن الانتقال حركة والحركة لا بد لها من زمان كما أن القول لا بد له من زمان فلا يمكن أن يكون زمان القول عين زمان الانتقال.
فلم يكن فعله بالعرش انتقالا ( وإنما كان إعداما وإيجادا ) .
أي وإنما كان فعله إعداما في مكانه وإيجادا عند سليمان عليه السلام فعلى هذا كان معنى قوله تعالى : مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ " أي أعدم في مكانه وأوجد عند سليمان عليه السلام من غير انتقال.
( من حيث لا يشعر أحد بذلك ) الإعدام والإيجاد ( إلا من عرفه ) أي من عرف الإعدام والإيجاد ذوقا وحالا من أهل التصرف فهو يشعر لا غير.
( وهو ) أي ذلك الإعدام والإيجاد ( قوله تعالى ) أي بين اللّه تعالى من لم يعرف ذلك الإعدام والإيجاد في قوله ( بل هم في لبس من خلق جديد ) فمن لم يعرف معنى الخلق الجديد لم يشعر بذلك .
( ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ) أي إنما لم يشعروا الإيجاد والإعدام في كل آن لأن كل ما يعدم يوجد مثله في آن عدمه فاتوا به متشابها فيزعمون أن وجودهم باق في الماضي والمستقبل بدون الإيجاد والإعدام فيرون بسبب ذلك في وقت يمضي عليهم ما هم راؤون ولا يعلمون أن العالم في كل وقت في لبس جديد من خلق جديد فهم لعدم شعورهم بذلك كانوا في لبس من خلق جديد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان هذا ) أي حصول العرش عند سليمان عليه السلام ( كما ذكرناه ) من أن حصول العرش عند سليمان عليه السلام بطريق الإيجاد والإعدام في زمان واحد ( فكان عدمه أعني عدم العرش من مكانه ) عين ( زمان وجوده عند سليمان عليه السلام من تجديد الخلق مع الأنفاس ولا علم لأحد بهذا القدر بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون ).
قوله : ( ولا تقل ثم تقتضي المهلة فليس ذلك بصحيح ) رد للاعتراض الوارد على قوله بل الإنسان في كل نفس لا يكون ثم يكون وهم أن لفظة ثم للمهلة فلا يكون زمان عدمه عين زمان وجوده .
وأجاب عن هذا الاعتراض بقوله : ( وإنما هي تقتضي تقدم الرتبة العلية ) بكسر العين من العلة ( عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشاعر ) :
كهز الرديني ثم اضطراب .... وزمان الهز عين زمان
اضطراب المهزوز بلا شك وقد جاء بثم ولا مهلة )
فلا يستعمل ثم مطلقا للمهلة بل قد يكون للمرتبة العلية
كما في قول الشاعر فاستعملنا ثم في قولنا لا يكون للرتبة العلية لأن إعدامه في آن علة لإيجاده في آن آخر
فكان زمان عدمه وجوده بأن يحصل عدمه في آن ووجوده في آن آخر
لأن أقل جزء الزمان من آنين فكما أن زمان الهز زمان المهزوز في قول الشاعر
( كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس زمان العدم عين زمان وجود المثل ) ولما كانت في إدراك تجديد الخلق صعوبة شبه بقول الأشاعرة تسهيلا لأهل النظر
فقال : ( كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ) في الأعراض فاختص دليل الأشاعرة في تجديد الخلق بالأعراض والشيخ رضي اللّه عنه قد أثبت تبدل الجواهر والأعراض كما مر تحقيقه .
ولما كان هذا المقام مظنة أن يقال لم طوّل الكلام في حصول العرش مع أن البيان على وجه الاختصار مطلوب أجاب بصورة الاعتذار يعني إنما طوّلت الكلام في تحقيق صورة العرش.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته من الإيجاد والإعدام ) إن حصوله إعدام في مكانه إيجاد عند سليمان عليه السلام في زمان واحد من تجديد الخلق مع الأنفاس .
فإذا كان الأمر كذلك ( فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك ) الفعل ( إلا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السلام ) فإذا كان حصول العرش على طريق التجديد .
( فما قطع العرش مسافة ولا زويت له ) أي ولا طويت للعرش ( أرض ولا خرقها ) أي ولا خرق آصف أو العرش الأرض ( لمن فهم ) معنى ( ما ذكرناه ) من تجديد الخلق .
( وكان ) أي وحصل ( ذلك ) الفعل العظيم الشأن وجليل القدر (على يدي بعض أصحاب سليمان عليه السلام ) وهو آصف بن برخيا .
( ليكون ) ذلك الفضل ( أعظم لسليمان عليه السلام ) أي ليكون ما فعله آصف بالعرش من الأمور العظام دليلا على أعظمية سليمان عليه السلام ( في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ) .
فإن أعظمية التابع تدل على أعظمية المتبوع فكان فعل آصف معجزة لسليمان عليه السلام ( وسبب ) حصول ( ذلك ) الفعل على يدي بعض أصحابه مع أن سليمان عليه السلام قادر عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كون سليمان عليه السلام هبة اللّه لداود عليه السلام من قوله تعالى :وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ [ ص : 30 ] ، والهبة عطاء الواهب بطريق الأنعام لا بطريق الجزاء الوفاق ) .
أي الجزاء الموافق لأعمال العباد كما قال جزاء وفاق ( أو ) بطريق ( الاستحقاق ) بحسب العمل يعني أن وجود سليمان عليه السلام هبة اللّه لداود والفعل الذي حصل على يدي بعض أصحابه في مجلس سليمان عليه السلام هبة اللّه لسليمان لذلك لم يظهر على يدي نفسه إذ لو ظهر لتوهم أن ذلك في مقابلة عمله لا بطريق الأنعام .
( فهو ) أي ما فعل آصف بالعرش في مجلس سليمان ( النعمة السابقة ) لسليمان (والحجة البالغة ) على أعيان أمته يوم القيامة ( والضربة الدامغة ) في حق الكفار ( وما أعلمه ) أي وأما اختصاص سليمان بالعلم يريد ذلك بيان مرتبة سليمان في العلم .
( بقوله ) تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ مع نقيض الحكم ) أي مع وجود نقيض حكم سليمان وهو حكم داود في المسألة .
( وكلا ) أي وكل واحد من الأنبياء ( أتاه اللّه حكما وعلما فكان علم داود علما مؤتى آتاه اللّه ) على يد من أيدي الأسماء من الوهاب وغيره .
فجاز في حكمه أن يصيب وأن لا يصيب كما في المسألة( وعلم سليمان علم اللّه في المسألة إذا كان ) أي سليمان ( هو الحاكم بلا واسطة ) فعلم سليمان الأمر على ما هو عليه لكون علمه عين علم الحق .
وفضل سليمان على داود عليهما السلام في رتب العلم في هذه المسألة لا ينافي أفضلية داود على سليمان .
( فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق ) فكان لسليمان في المسألة أجران ولداود أجر واحد قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن المجتهد المصيب لحكم اللّه الذي يحكم به اللّه ) أي بذلك الحكم
(في المسألة لو تولاها بنفسه ) أي لو تولى الحق بنفسه المسألة ( أو ) تولاها ( بما يوحي به لرسوله له ) خبر مقدم الضمير يرجع إلى المصيب ( أجران ) مبتدأ والجملة خبران أي فله أجر لإصابته في الحكم وأجر لبذل جهده .
(والمخطئ لهذا الحكم المعين له أجر ) واحد لبذل جهده ( مع كونه ) أي مع كون خطأه يعدّ ( علما ) بحسب الشرع كعلم المصيب ( و ) يعدّ حكمه ( حكما ) بحسب الشرع في وجوب العمل به كحكم المصيب ( فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان عليه السلام في الحكم ) بالإصابة .
( ورتبة داود عليه السلام ) بالاجتهاد فجمع هذه الأمة رتبة سليمان ورتبة داود عليهما السلام ( فما أفضلها ) تعجب أي فما أفضل رتبة سليمان ورتبة داود عليهما السلام ( من أمة ) محمدية ولا يتوهم أفضلية الأمة عليهما في هذه الرتبة ، لأن هذه الرتبة لسليمان وداود عليهما السلام أعطيت من اللّه أوّلا وبالذات وللأمة بواسطة روحانيتهما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها قالت كأنه هو ) أي حكمت بالمغايرة على وجه التشبيه.
(وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالامتثال وهو هو وصدق الأمر ) فكان كلام بلقيس جامعا بين الكثرة والوحدة .
فقولها كأن إشارة إلى المثلية فإن مثل الشيء من حيث أنه لا يكون عينه
وقولها هو إشارة إلى العينية فإن مثل الشيء عين ذلك الشيء بحسب الحقيقة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في زمن الماضي ثم أنه من كمال علم سليمان عليه السلام التنبيه الذي ذكره في الصرح فقيل لها ادخلي الصرح وكان صرحا أملس لا أمت ).
أي لا عوج ( فيه من زجاج فلما رأته حسبته لجة أي ماء فكشفت عن ساقيها حتى لا يصيب الماء ثوبها فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل ) أي من قبيل التشابه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا ) التنبيه ( غاية الانصاف ) من سليمان عليه السلام ( فإنه أعلمها ) أي فإن سليمان عليه السلام أعلم بلقيس ( بذلك ) التنبيه ( أصابتها في قولها كأنه هو فقالت عند ذلك ) التنبيه (" رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ") بالعصيان إلى هذا الوقت ( وَ ) الآن (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ أي إسلام سليمان) عليه السلام ، أي تبعت له في الإسلام ( لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ).
إسلام مع سليمان (فما انقادت لسليمان وإنما انقادت لرب العالمين وسليمان من العالمين فما تقيدت في انقيادها )في اللّه برب خاص حيث لم تقل أسلمت برب سليمان عليه السلام أو لسليمان عليه السلام .
كما قال السحرة " آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى" ( كما لا تتقيد الرسل في اعتقادها في اللّه ) فكان إسلام بلقيس عين إسلام سليمان عليه السلام في الإطلاق . وإن كانت تابعة له في الإسلام.
( بخلاف فرعون فإنه قال "رَبِّ مُوسى وَهارُونَ") حيث لم يقل رب العالمين فخصص اعتقاده برب دون رب .
( وإن كان ) انقياد فرعون ( يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ) وهو من حيث أن ربها رب العالمين ( ولكن ) انقياد فرعون (لا يقوي قوته ) أي لا يساوي انقياد بلقيس في القوة لتقيده في اعتقاده اللّه برب خاص رب موسى عليه السلام وهارون عليه السلام .
( فكانت ) بلقيس (أفقه من فرعون في الانقياد للَّه فكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل فخصص فرعون ) إيمانه برب بني إسرائيل
وإن كان رب بني إسرائيل رب العالمين لكن لم يقل به صريحا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللّه رب موسى وهارون ) فكان إيمان بلقيس لإطلاقه فوق إيمان السحرة وإيمان فرعون في القوة .
فكان إيمان فرعون كإيمان السحرة في القوة لكنه لم يقبل منه لعدم وقوعه في وقته .
وفيه كلام تتكلم إن شاء اللّه في حكمة موسوية .
( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان عليه السلام إذ قالت مع سليمان عليه السلام فتبعه ) في الإسلام ( فما يمر سليمان عليه السلام بشيء من العقائد إلا مرّت ) بلقيس ( به ).
أي بذلك الشيء مع سليمان عليه السلام (معتقدة ) أي حال كون بلقيس معتقدة ( ذلك ) الشيء ( كما كنا نحن على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه لكون نواصينا في يده ويستحيل مفارقتنا إياه ).
فإذا كان الأمر كذلك ( فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتصريح فإنه قال "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ" ) وهذا هو التصريح .
( ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا ) وهو معنى التضمين فلما اتجه أن يقال إذا كان الحق معنا لزم أن يكون تابعا لنا كما إذا كنا معه اعتبارا بمعنى مع وكون الحق تابعا لشيء من الأشياء محال.
فكيف يصح معيته بنا دفع ذلك بقوله : ( فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا من صراطه فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم وهو صراط الرب فهو عيننا ) من حيث الوجود والحقيقة وإن كان غيرنا باعتبار تعيناتنا الشخصية فكونه معنا من حيث الوجود والوحدة معنا عين مشيته مع نفسه.
فكما علمنا أنا كنا مع الحق بالتبعية ( وكذا علمت بلقيس من سليمان عليه السلام ) أنه مع اللّه بالتبعية فتبعته في الإسلام لتكون مع اللّه بالتبعية كما كان سليمان عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقالت للَّه رب العالمين وما خصصت عالما من عالم ) أي ما خصصت إسلامها رب عالم بل أضافت إسلامها رب جميع العوالم ( وأما التسخير الذي اختص به سليمان عليه السلام وفضل به ) من التفضيل على البناء المجهول ( على غيره ) أي فضل بذلك التسخير على غيره ( وجعله اللّه له ) أي جعل اللّه ذلك التسخير لسليمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه ) أي كون ذلك التسخير ( عن أمره ) أي عن أمر سليمان ( فقال ) تعالى في حقه "فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ " أي بأمر سليمان.
( فما هو ) أي فما كان اختصاص سليمان ذلك التسخير ( من كونه تسخيرا ) وإلا لما عمم اللّه التسخير في حقن ( فإن اللّه تعالى يقول في حقنا كلنا ) بني آدم ( من غير تخصيص بأحد منا سليمان كان ) أو غيره وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .
(وقد ذكر ) الحق (تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ولكن )ذلك التسخير لنا ( لا عن أمرنا بل عن أمر اللّه ) ولسليمان بأمر سليمان.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما اختص سليمان أن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة بل بمجرد الأمر وإنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرم العالم تنفعل بهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية وقد عاينا ) أي وقد ظهر لنا ( ذلك)
أي انفعال الأجرام بهمم النفوس حين أقامهم في مقام الجمعية فكان الريح والنجوم مسخرا لنا بأمر اللّه بجمعيتنا وهمتن ( في هذا الطريق ) أي في طريق أهل اللّه أو في طريق الجمع ( فكان ) التسخير منا بجميعه وهمة فكان ذلك التسخير .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية واعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه ) والمراد من التأييد الحياة العلمية وبالروح الروح المعنوي وهو الإحضار التام مع اللّه دعا لنفسه ولنا بذلك إشارة إلى أن من لم يكن على هذا الوصف لا يدرك المسألة المذكورة بعد أعلم استعظاما لشأن المسألة.
( واعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه أن مثل هذا العطاء ) الدنيوي ( إذا حصل للعبد أيّ عبد كان فإنه ) أي لشأن ( لا ينقصه ) أي العبد ( ذلك ) العطاء ( من ملك آخرته ولا يحسب عليه ) في الآخرة إذا حصل من غير طلب من العبد أو مع طلب لكنه عن أمر اللّه .
( مع كون سليمان عليه السلام طلبه ) أي ذلك العطاء (من ربه تعالى ) لكن عن أمر ربه فكيف ينقص درجته ويحسب عليه في الآخرة تعريض لمن زعم أنه اختار الدنيا وطلب أنه لا يكون لأحد بعده فينقص من ملك آخرته ويحسب عليه السلام .
( فيقتضي ذوق الطريق ) أي طريق سوق الآية الكريمة في حق سليمان أو طريق الكشف أو طريق التصوف أو طريق سليمان أو طريق الحق ، وهي صراط مستقيم وهذه أحسن الوجوه.
( أن يكون قد عجل له ) أي لسليمان ( ما ادّخر لغيره ) فلا يحاسب على ما عجل له كما لا يحاسب غيره على ما ادّخر عليه (ويحاسب ) العبد ( به ) .
أي بذلك العطاء إن شاء الحق حسابه ( إذا أراده ) من غير أمر إلهي ( في الآخرة ) تتعلق بيحاسب ( فقال اللّه هذا عطاؤنا ولم يقل ) بعد إضافة العطاء إلى نفسه ( لك ) أي لأجلك ( ولغيرك فامنن أي أعط أو أمسك بغير حساب ) أي لا حساب به عليك في الآخرة .
( فعلمنا من ذوق الطريق ) وهو طريق الجواب أو غير ذلك مما ذكرناه ( أن سؤاله ) عليه السلام ( ذلك ) أي الملك الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعده ( كان ) أي حصل ذلك السؤال.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( عن أمر ربه والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان الطالب له الأجر التام على طلبه والباري تعالى إن شاء قضي حاجته فيما طلب منه وإن شاء أمسك وإن العبد قد وفي ما أوجب اللّه عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربه له بذلك لحسابه به ) .
أن تعلق إرادته بحسابه ( وهذا ) الحكم الذي ذكرناه في حق سؤال سليمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( سار في جميع ما يسأل فيه اللّه تعالى كما قال لنبيه محمد عليه السلام "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" فامتثل الرسول أمر ربه فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن يتأوّله علما كما تؤوّل رؤياه لما رأى في النوم أنه أتى إليه بقدح لبن بشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب قالوا : فما أوّلته ، قال : العلم وكذلك لما أسري به )في ليلة المعراج .
( أتاه ملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللبن ) لكونه مأمورا بشربه دون الخمر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال له الملك أصبت الفطرة أصاب اللّه بك أمتك فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم فهو ) أي ما شرب الرسول ( العلم تمثل في صورة اللبن ) فما شرب إلا طلب
للزيادة من العلم ( كجبرائيل تمثل في صورة بشر سوي لمريم ) في كون كل واحد منهما يعطي الحياة إلا أن جبرائيل بتمثله في صورة بشر سوي يعطي الحياة الحسية والعلم بتمثله في صورة اللبن يعطي الحياة المعنوية.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما قال عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم خيال فلا بد من تأويله ) كما لا بد من تأويل الرؤيا .
( شعر ) : ( إنما الكون خيال )
لأنه ظل إلهي وظل الشيء من حيث أنه ظل له غير ذلك ( وهو ) أي الكون ( حق ) أي عين الحق ( في الحقيقة ) باعتبار الجود والحقيقة وقد سبق غير مرة تحقيق كون العالم عين الحق.
( والذي يفهم هذا ) أي يفهم كون العالم خيالا من وجه وحقا من وجه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( حاز أسرار الطريقة. فكان عليه السلام إذا قدم له لبن قال اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه لأنه كان يراه صورة العلم .
وقد أمر بطلب الزيادة من العلم وإذا قدم إليه غير اللبن .
قال اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه .
فمن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإن اللّه لا يحاسبه فيه في الدار الآخرة
ومن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي فالأمر فيه إلى اللّه إن شاء حاسبه وإن لم يشأ لم يحاسبه
وأرجو من اللّه في العلم خاصة أنه لا يحاسبه به .
فإن أمره تعالى لنبيه بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته فإن اللّه تعالى يقول "لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" ، وأيّ أسوة أعظم من هذا التأسي ) وهو طلب الزيادة من العلم .
( لمن عقل عن اللّه تعالى ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه فإن أكثر علماء هذه الطريقة ) وهي طريقة نظر العقل .
( جهلوا حالة سليمان عليه السلام ومكانته ) وزعموا أنه قدم اسمه على اسم اللّه ملك الدنيا وطلب أن لا يكون لأحد بعده.
( وليس الأمر كما زعموا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) .
.
....

jZaiezXmH-A

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!