موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح بالي أفندي
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ مصطفي سليمان بالي زاده الحنفي

فص حكمة أحدية في كلمة هودية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة أحدية في كلمة هودية


10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربيكتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
أي العلوم المتعلقة بالحقيقة الأحدية مودعة في روح هذا النبي لذلك دعا قومه إلى مقام الأحدية بقوله : "م من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" (هود: 51] .
ولما كانت لكل اسم أحدية الصراط وكان أحدية الصراط الاسم الله جامعة لجميع أحدية صراط الأسماء شرع في بيان الأحدية الجامعة أول بقوله :
قال رضي الله عنه : (أن الله الصراط المستقيم ظاهر) خبر لمبتدأ محذوف وهو هو (غير خفي) تأكيد (في العموم) أي جاء هذا الصراط

المستقيم من عند الله في حق عموم الناس وهو صراط الأنبياء كلهم المشار إليه بقوله تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم * صرط الذين أنعمت عليهم" أو تعلق في العموم بقوله غير خفي أي هذا الصراط المستقیم مشهور معروف بين الخلائق كلها وهو طريق الأنبياء طريق الهدى (في كبير وصغير) خبر (عينه) مبتدا (وجهول بأمور وعليم) معطوف على الخبر .
فمعناه أن ذاته تعالى من حيث أسمائه وصفاته موجود في كبير وصغير أي في كلي وجزئي بالنسبة إلى الأسماء وبالنسبة إلى الأجسام في كبير الحجم وصغيره أي لا ذرة في الوجود إلا وهي نور من ذات الحق لكون كل ما في الوجود من الممكنات مخلوقا من نوره فالذات من حيث هي غنية عن الوجود الكوني.
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي ولأجل كون ذات الحق مع جميع صفاته محيطة بكل شيء وفي كل شيء آية تدل على أنه واحد قال تعالى: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفي انفسهم " [فصلت: 53] .
كل ذلك صراط مستقيم يوصل من مشى عليه إلى الله وهذ لسان الظاهر في كلامه قدس سره وأما لسان الباطن فستطلع عليه "وسعت رحمته كل شيء من حقير وعظيم" .
فإنه إذا كان ذاته إلحق مع مفاته موجودة في كل شيء ومن جملة مفاته رحمته فوسعت رحمته كل شيء فإذا كان كل شيء تحت قدرته تعالى كان
قال رضي الله عنه : ("ما من دابة إل هو") أي الله ("آخذ بناصيتها") يتصرف فيها كيف يشاء على حسب علمه الأزلي التابع لعين المعلومات وأحوالها .
فلا جبر من الله إذ التصرف كيف كان لا يكون إل تابعة للمعلومات ("إن ربي على صراط مستقيم") فإذا أخذ الله ناصية كل دابة (فکل ماشي فعلی صراط الرب المستقيم)أي فكل ماشي ما مشي إلا على صراط من أخذ بناصيته .
وهو ربه وما كان صراط به إلا مستقيما فما مشى إل على صراط ربه الخاص فمن مشى على صراط ربه .
قال رضي الله عنه : (فهو) أي الماشي على صراط ربه ("غير المغضوب عليهم"من هذا الوجه) .
أي من حيث أنه ماش على صراط ربه المستقيم لأن ربه راض عن فعله فلا غضب عليهم من ربهم ("ولا الضالين") من هذا الوجه عن صراط ربهم المستقيم حتى يغضب عليهم ربهم .
ففي قوله من هذا الوجه دلالة على أن الغضب فقد يقع عليهم من غير هذا الوجه کعبید المضل غير المغضوب عليهم من ربهم لكنهم مغضوب عليهم من اسم الهادي لكونهم ضالين عن صراط الهادي .
قال رضي الله عنه : (فكما كان الضلال عارضا) لأن الأرواح كلها بحسب الفطرة الأصلية قابلة للتوحيد لقوله تعالى: "ألست بربكم قالوا بلى" [الأعراف: ۱۷۷] .
ولقول الرسول عليه السلام: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه».
"ورد الحديث بلفظ :" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» ذكره الترمذي والبيهقي في السنن الكبرى "
فما عرض الضلال إلا بالغواشي الطبيعية الظلمانية (كذلك الغضب الإلهي عارض) لقوله تعالی:
"سبقت رحمتي على غضبي" أي في حق كل شيء. وورد بلفظ :"سبقت رحمتي غضبي" ذكره الترمذي و الحميدي في مسنده وابن أبي الدينار.
والمراد من الغضب العذاب إذ لا يصح الغضب في حق الحق إلا بمعنى إنزال العذاب (والمآل) أي ومآل الغضب (إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وهي) أي الرحمة (السابقة) الرحمة عند أهل الله على نوعين رحمة خالصة ورحمة ممتزجة بالعذاب.
ففي حق عصاة المؤمنين من أهل مآل الغضب إلى رحمة خالصة من شوب العذاب، وذلك لا يكون إلا بإدخالهم الجنة في حق المشرکین ماله إلى الرحمة الممتزجة بالعذاب وهذا لا يكون إلا بأن كانوا خالدين في النار.
فاعلم ذلك وفيه کلام سنسمع إن شاء الله في آخر الفص (وكل ما سوى الحق دابة فإنه) أي ما سوی الحق ذو روح، لأنه مسع بالنص الإلهي وكل مسح (ذو روح) كله ماشي على صراط ربه المستقيم (وما ثمة) أي ليس في العالم (من يدب) أي يمشي ويتحرك (بنفسه) لأنه مأخوذ بناصيته.
قال رضي الله عنه : ( وإنما يندب بغيره) الذي آخذ بناصيته فإذا كان العالم بدب بغيره (فهو) أي العالم (إنما بدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم) فكان مشى العالم على الصراط المستقيم لا بالأصالة بل بتبعيته لمن مشى على الصراط المستقيم فما مشى على الصراط المستقيم أصالة إلا رب العالمين الذي أخذ بناصيته .
لذلك قال : " إن ربي على صراط مستقيم" والمشي في حق الحق عبارة عن أفعاله وشؤونه و هو كل يوم في شأن والصراط المستقيم عبارة عن صدور أفعاله على موافقة حكمته وإنما كان الرب على الصراط المستقيم .
قال رضي الله عنه : (فإنه) أي الشأن ل يكون الصراط (صراطا إلا بالمشي عليه) إذ الصراط عبارة عن المشي والمسافة هذا إن كان الخلق ظاهرا والحق باطنا فحينئذ الحكم للحق في وجود الخلق والخلق تابع للحق في حكمه.
وأما إذا كان الخلق باطن والحق ظاهرا والحكم للخلق والحق تابع الخلق فيما يطلبه منه ففي هذا الوجه ما طلب العبد من الحق شيئا إلا وهو يعطيه وفي الوجه الأول ما حكم الحق على العبد بحكم إلا وهو تابع لحكمه فيما أمره به.
ولما بين تبعية العالم للحق شرع في بيان عكسه بقوله رضي الله عنه : : (شعر: إذا دان) إذا انقاد (لك الخلق) واتبعك (فقد دان) أي فقد أعطى (لك الحق) ما طلبته منه يعني أن اتباع الخلق لك يوجب اتباع الحق لك فإن اتباع الخلق لا يمكن بدون اتباع الحق لأن اتباع الخلق صورة اتباع الحق وأثره ولعدم وجود الخلق بدون الحق لعدم وجود فعل الخلق بدون فعله فالخلق على كل حال محتاج إلى الحق فدل اتباع الخلق إلى اتباع الحق فتستدل منه على اتباع الحق .
فإن دان لك الحق ….. فقد لا يتبع لك الخلق

وقد يتبع فإن الحق موجود بدون الخلق فاستقل في فعله فلا يتبع فعله إلى الخلق فلا يستلزم اتباع الحق إلى الخلق.
فإن الأنبياء عليهم السلام تابعهم الحق بإعطائهم ما طلبوا منه من أن بعض الناس يتبعون لهم بسبب استعداداتهم ومناسباتهم بنور الحق وبعضهم لا يتبعون بسبب بعدهم عن نور الحق ومناسباتهم بالغواشي الظلمانية وعدم اتباعهم لا يدل على عدم اتباع الحق لهم.
قال رضي الله عنه : (فحقق) أي نصدق (قولن فيه) أي في هذا المقام (فقولي كله) في بيان الحق والخلق (حق) أي ثابت و مطابق للواقع خصوصا في هذا الكتاب فإن كل ما فيه بأمر الرسول عليه السلام فلا يحتمل الخلاف (هما في الكون) أي فليس في الوجود الكوني (موجود) مخلوق (تراه ما) أي الذي (له نطق) فصحيح بذكر الله و يسبحه يسمع أذان العارف كما نسمع بعضنا کلام بعض .
(وما خلق) أي وليس خلق (تراه العين) أي البصر (إلا عينه) أي عين ذلك الخلق المرئي وذاته (حق) باعتبار أحديته.
ولما ذكر اتحاد الخلق مع الحق نبه امتياز الخلق عنه بقوله رضي الله عنه : :
(ولكن) الحق (مودع فيه) أي في الخلق (لهذا) أي لكون الحق مودعة في الخلق (صورة) أي صورة الخلق جمع الصورة يسكن الواو لضرورة الشعر (حق) بضم الحاء وتشديد القاف جمع الحقاق فكان كل موجود حقا من الحقوق الإلهية والحق موجود في تلك الحقوق ومن ذلك وجب تعظيم كل موجود لكونه حاملا للأسرار الإلهية.
ويعلم منه أن صور الأشياء لا يمكن أن يكون عين الحق بأي اعتبار کانت بل ما كان عين الوجود الحق إلا الحق المودع في الأشياء.
قال رضي الله عنه : (واعلم أن العلوم الإلهية الدولية الحاصلة لأهل الله تعالى) إنما خص حصول العلوم الذوقية لأهل الله فإن العلوم الإلهية لعلماء علم الرسول ليست ذوقية بل يحصل هذا العلوم بنظرهم الفكري وهو لا يفيد شيئا من الذوق وأما أهل الله وعلومهم عن كشف إلهي .
والكشف لا يعطى إلا الذوق (مختلفة باختلاف القوى العاملة) أي هذه تختلف باختلاف قواهم الحاصلة لهم (منها) أي من قواهم المختلفة (مع كونها) أي مع كون هذه القرى المختلفة (ترجع إلى عين واحدة) أي كلها حاصلة عن حقيقة واحدة وهي الهوية الإلهية ولا يجوز أن يكون ضمير كونها راجعا إلى العلوم ولا يقع تكرارا بما جاء بعده من قوله بخصها من عين واحدة .
فكان قوله الحاصلة صفة للعلوم وإن كان بعيدا ل للقوى وإن كان قريبا وإنما ترجع القوى المختلفة للعبد إلى عين واحدة .
قال رضي الله عنه : (فإن الله تعالى يقول كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها) وهذ نتيجة قرب النوافل .
يعني يقول الله تعالى: «إذا تقرب عبدي إلي بقرب النوافل تجليت له باسمي السميع فيسمع كل ما يسمع بالسمع المضاف إلي لا يسمع نفسه فكان كل مسموعاته دليلا له على وتجليت له بالبصير نما رأى شيئا إلا رآني فيه وتجليت له بالقدرة فيقدر بقدرتي على تصرفات نفسه "
بأخذ ناصيتها كتصرف الحق في الأشياء بأخذ نواصيه "وما من دابة إلا هو أخذ بناصيته"

وكذلك هذا العبد المتجلي له بالقدرة ما من دابة من قوى نفسه إلا هو آخذ بناصيتها وتجليت له بأفعالي إذ الرجل في حق الحق عبارة عن كونه كل يوم هو في شأن كما أن إليه عبارة عن القدرة العامة ثم هداية الصراط المستقيم فلا يمشي إلا على الصراط المستقيم يعني ما يفعل هذا العبد فعلا إلا وقد رضي الله عنه ذلك الفعل.
ثم شرع في ذكر ما هو المقصود بإيراد الحديث فقال رضي الله عنه :
(فذكر أن هويته في عين الجوارح) من وجه وهو وجه الأحدية مع أنه غيره من حيث الكثرة فقد نبه عليه بإرجاع الضمير إلى العبد فكان هذا الكلام جامعة بين التنزيه والتشبيه (التي هي عين العبد) من وجه وهو وجه الأحدية لأن العبد هو مجموع الأجزاء الاجتماعية والجزء لا يقال فيه غير الكلي وأما بحسب المنعين فيمتاز كل واحد منها عن الآخر وعن الكل (فالهوية) أي هو الحق.
قال رضي الله عنه : (واحدة والجوارح) أي جوارح العبد (مختلفة ولكل جارحة) من جوارح العبد الذي هو من أهل الله علم من علوم الأذواق لأن من لم يكن من أهل الله لم يكن لجوارحه (علم من علوم الأذواق يخصها) أي يخص ذلك العلم الذوقي بتلك الجارحة المخصوصة حال كون تلك الجارحة (من عين واحدة) وهي عين العبد .
أو معناه أي يخص ذلك العلم حال كونه من عين واحدة هي حقيقة العلم التي هي حقيقة واحدة .
ففيه تنبيه على أن حقيقة العلم عین ذات الحق إذ م يفيض الحق ذلك العلم إلا عن حقيقة العلم وهي العين الواحدة التي هي عین الحق فم يفيض إلا عن نفسه .
وأشار إلى ما نقول بقوله كالماء حقيقة واحدة (تختلف) هذه العين الواحدة (باختلاف الجوارح) فالعلم حقيقة واحدة والاختلاف إنما وقع بالأسباب الكثيرة المتخالفة فحقيقة العلم باقية على حالها من الواحدة كما أن الحق باقية على وحدته مع الاختلاف بالجوارح (کالماء حقيقته حقيقة واحدة تختلف في الطعم باختلاف البقاع فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه) .
فكذلك ذات الحق حقيقة واحدة وإن اختلفت الأشياء والجوارح والعلم حقيقة واحدة في كل حال وإن اختلفت أحكامه باختلاف أسبابه .
ولما بين أنواع العلوم الذوقية وقواها أراد أن يبين أن هذه الحكمة بأي قوى تحصل فقال رضي الله عنه : : (وهذه الحكمة) الأحدية (من علم الأرجل) أي نوع من العلوم الذوقية الحاملة بالسلوك والرياضات والمجاهدات في صراط الحق فلا يمكن حصول هذا العلم بجارحة من جوارح إلا بالأرجل (وهو) أي علم الأرجل (قوله تعالی في) حق (الأكل لمن) متعلق بقوله تعالى: (أقام كتبه) وهو قوله تعالى : "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم" .
أي لحصل لهم الفارضية من أرواحهم من غير کسب وسعي في السلوك (من تحت ارجلهم) مقول القول وإنما كان هذه الحكمة من علم الأرجل من علوم الأذواق لا من غيره من الجوارح .
قال رضي الله عنه : (فإن الطريق الذي هو الصراط) المستقيم (هو) أي ذلك الطريق (للسلوك) أي وضع لأن يسلك (عليه والمشي فيه والسعي) فيه .
(لا يكون) ذلك المشي المعنوي (إلا بالأرجل) المعنوي كما أن المشي الصوري لا يكون إلا بالأرجل الصوري والمقصود من الحكمة الأحدية شهود أحدية ذاته تعالى من حيث كونها في كلمة هودية .
وما كان أحدية الذات في كلمة هودية إلا أخذ الحق النواصي وكونه على صراط مستقیم ولأجل مشاهدة هود عليه السلام أحدية الذات على هذ الطريق.
قال تعالى : "م من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56] فإذا لم يكن السلوك على الطريق إلا بالأرجل (فلا ينتج هذا الشهود) الأحدي الذي لا يحصل إلا (في أخذ النواصي) قوله :( بید من) يتعلق بالأخذ (هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص)، وهو علم الأرجل (من علوم الأذواق) فلا تكون هذه الحكمة الهودية إلا بالكسب والسلوك والمشي على الصراط المستقيم .
فلا بد هذا الشهود لكل أحد من الناس مطيعا كان أو مجرما بحسب أوقاتهم المقدرة لهم إذ ما منهم إلا وهو يمشي على الصراط المستقيم.
الذي يوصل من يسلك فيه إلى هذا الشهود فمنهم من يوصل صراط المستقيم إلى هذا الشهود في الدنيا کالأنبياء والأولياء الفانين في الله والباقين به.
ومنهم من وصل في الدار الآخرة حتى أن المشركين يوصلهم صراطهم المستقيم إلى هذا الشهود في نار جهنم مؤبدا فيها لا ينفع لهم لعدم وقوعه في وقته فجمع الله عذابهم مع هذا الشهود .
فقد شرع في بيان ما يقوله بقوله تعالى:(" ونسوق المجرمين" [مریم: 86] وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم) أي ساق الله المجرمين (إليه) أي إلى ذلك المقام وهو مسمى بجهنم الذين استحقوه بسبب سلوكهم في الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى هذا المقام الذي يحصل لهم فيه هذا الشهود.
قال رضي الله عنه : (بريح الدبور) وهي الهواء التي فعلوا من مقتضيات أنفسهم وإنما سمي ريح الدبور لأنه يأتي من جهة الخلفية جهة الخلف (التي أهلكهم) الله (عن نفوسهم بها) أي بسببه ريح الدبور وأملاكهم تعذيبهم بهذه الريح في صورة النار فهلكوا عن أنفسهم فشاهدوا أن الحق هو الآخذ بنواصيهم والسائق إلى أن وصلوا إلى هذا النوع من العلوم الذوقية فإنهم وإن عذبوا إلى الأبد لكنهم يتحققون بهذا الذوق .
قال رضي الله عنه : (فهو) أي الله (الأخذ بنواصيهم) أي نواصي المجرمين (والريح تسوقهم وهي) الريح (عين الأهواء التي كانوا عليها) في الدنيا (إلى جهنم) متعلق بتسوق (وهى) أي جهنم (البعد الذي كانوا يتوهمونه) أي كونه جهنم بعيدا عن الحق في توهمهم لا في نفس الأمر فإن الله قريب من كل شيء.
(فلما سائهم إلى ذلك الموطن) وهو جهنم (حصلوا) أي وجدوا (في عين القرب فزال البعد) المتوهم لعلمهم أن الله معهم في كل موطن (فزال مسمی جهنم في حقهم) من حيث أنه بعد لا من حيث أنه عذاب.
لذلك قال : (ففازوا بنعيم القرب) في جهنم ولم يقل بنعيم مطلقة فإن الفوز بنعيم القرب وهو مشاهدة الحق لا يوجب رفع العذاب في حق المخلدين كما تألم بعض المقربين في الدني
قال رضي الله عنه : (من جهة الاستحقاق) وإنما فازوا بنعيم القرب في جهنم (لأنهم مجرمون) أي الكاسبون الصفات الظلمانية الجاجية بشهود الحق فهذا الشهود اجر المجرمين فاستحقوا بسبب جرمهم بهذ المقام .
(فما أعطاهم) الله هذا المقام (الذوقي اللذيذ) الروحاني (من جهة المنه) أي بلا اكتساب منهم بل من جهة استحقاقهم بالمجاهدة والسلوك في الصراط المستقيم فل يحصل علم الأرجل لأحد إلا من جهة الاستحقاق لا من جهة الفضل والمنة.
قال رضي الله عنه : (وإنما أخذوه) وإنم أخذ المجرمين هذا العلم الذوقي علم الأرجل من الله (بما) أي بسبب الذي استحقنه) أي استحقت هذا العلم الذوقي (حقائقهم) أي أعيانهم الخارجية (من أعمالهم التي كانوا عليها) في الدنيا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مم يكسبون فحصل لهم نتيجة هذا الكسب وهي علم اللذيذ في الويل (وكانوا) في الدنيا (في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم) فيوصل صراطهم لكونه مستقيما إلى مشاهدة ربهم وإنما كان سعيهم في أعمالهم على الصراط المستقيم ولم يكن على الصراط الغير المستقیم .
(لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة) أي بيد من كان على الصراط المستقيم فلا يمكن انحرافهم عن صراط ربهم المستقيم .فإذا كانت نواصيهم بيد ربهم الذي على صراط مستقیم.
قال رضي الله عنه : (فما مشوا بنفوسهم) حتى يمكن لهم الذهاب إلى طريق غير مستقیم (وإنما مشوا بحكم الجبر) من القائد والسائق وهو ربهم (إلى أن وصلوا إلى عين القرب) في موطن يسمی جهنم والجبر في الحقيقة راجع إليهم باقتضاء أعيانهم الثابتة فهم طلبوا حكم الجبر من الله فحكم الله عليهم بالجبر على حسب طلبهم."بأقوالهم وأعمالهم"
اعلم أن أهل النار من عصاة المؤمنین عذبوا بنار الجحيم إلى أن وصلوا عين القرب فإذا وصلوا إلى عين القرب حصل لهم هذا العلم الذوقي الذي استحقوه فما أخذوه من الله إلا باستحقاقهم ، لأن هذا العلم من علم الأرجل ل بد له من کسب ثم يأتي لهم فضل من ربهم فأخرجهم من دار الجحيم وأدخلهم في دار النعيم .
فما أعطاهم هذا المقام وهو دار النعيم إلا من جهة المنة والفضل وما أخذوه من الله إلا كذلك .
وأما المخلدون فأحرقوا بالنار إلى أن وصلوا ما وصل عصاة المؤمنين إذ لا بد من الوصول إليه ثم لا يأتي لهم فضل أبدا من ربهم فمن حيث روحانيتهم يتنعمون بنعيم القرب وهو التلذذ العلمي ومن حيث صورتهم الجسدية يتعذبون كما عذبوا ازدادوا علما هكذا إلى غير النهاية ولا استحالة فيه لأن بعض المقربين يتلذذون بنعیم مشاهدة ربهم مع أنهم يتألمون بما أصابهم من الألم هذا ممن أفاض على من روح صاحب الكتاب .
وقد غلط بعض الشارحين بحمل كلامه على انقطاع العذاب عن الكفار وليس ذلك مراد الشيخ بل مراده إثبات علم الأرجل لأهل النار في النار من جهة الاستحقاق كما أثبته للمؤمنين في الدنيا من جهة الاستحقاق.
أي وكيف كان لا بد لكل أحد من علم الأرجل ولا بد أن لا يكون ذلك العلم إلا من جهة الاستحقاق ويدل على ثبوت قرب الحق من عباده قوله تعالى: "ونحن أقرب إليه" أي إلى الميت.
قال رضي الله عنه : (" منكم") فقد أثبت قربه من المخاطبين بإثبات أقربينه إليه ("ولكن لا تبصرون") قربي منكم ومن كل شيء .
(وإنما هو) أي الميت صاحب القرب (يبصر) قربي منه وإنما يبصر صاحب هذه القربه (فإنه) أي لأن صاحب هذه القرب (مكشوف الغطاء) أي الحجاب عن بصره (فبصره حدید) يبصر ذاتي وصفاتي ويشاهد قربي إليه أما أنتم مکشوف الغطاء فبصركم ليس بحديد .
قال رضي الله عنه : (فما خص) القرب (ميت من ميت أي ما خص سعيدة في القرب من شقي) فدل ذلك على أن نعيم القرب عام في حق كل أحد سعيدا كان أو شقيا .
وكذلك يدل على عموم نعیم الغرب قوله رضي الله عنه : (" ونحن أقرب إليه") أي إلى الإنسان ("من حبل الوريد" [ق: 16 ] ما خص إنسانة من إنسان) بل يعم في حق كل إنسان سعيد أو شقيا (فالقرب الإلهي من العبد) ثابت محقق (لا خفاء به) أي القرب (في الأخبار الإلهي فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عین أعضاء العبد ونواه وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى) فإذا كان الحق عين قوى العبد
قال رضي الله عنه : (فهو) أي هوية الحق الذي كان عين أعضاء العبد ذكر الضمير باعتبار الحق (حق مشهود في) صورة (خلق متوهم فالخلق معقول) بمنزلة المرآة (والحق محسوس مشهود) ظاهر فيه عند المؤمنين الذين قلدوا الأنبياء فيما أخبروا به من الحق قال رسول الله في حقهم في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه (و) عند (أهل الكشف والوجود) أي الوجدان فإنهم يشاهدون هذا المقام بالذوق.
قال رضي الله عنه : (وما عدا هذين الصنفين) الذين اتبعوا في تحصيل معلوماتهم نظرهم الفكري (فالحق عندهم معقول والخلق مشهود لهم) أي فعلم هذه الطائفة (بمنزلة الماء الملح الأجاج) كلما ازدادو علما ازدادوا شبهة بحيث لا يروي ولا يقنع علمهم کالملح الأجاج لا يرى لشاربه وقد أشار إلى افتراق المؤمنين من أهل الكشف أولا وإلى اتحادهما ثانية .
بقوله : (والطائفة الأولى) علمهم (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه) إذ العلم الحاصل عن كشف الإلهي لا يحتمل خلافه فيروي لشاربه فإذا كان الناس طائفتين في العلم أهل الكشف وأهل الحجب .
قال رضي الله عنه : (فالناس على قسمين فمن الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها) أي غاية طريقة الذي تنتهي إلى الحق وهم الذين وصلوا إلى نعيم القرب الحاصل لهم سلوكهم.
(فهي في حقه صراط مستقیم) لوصوله إلى مطلوبه (ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي) في طريق هذا الشخص .
قال رضي الله عنه : (عین الطريق التي عرفه الصنف الأول فالعارف) أي فعارف الطريق وغايتها (يدعو) الخلق (إلى الله على بصيرة) لعلمه الطريق وغايتها وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء رضي الله عنهم الوارثون والمؤمنون أي المقلدون إلى الأنبياء (وغير العارف يدعو) الخلق (إلى الله على التقليد والجهالة) وهم الحكماء المقلدون عقولهم الجاهلون أي المنکرون بالإخبارات الإلهية في حق الحق المحرومون عن العلم عن كشف إلهي فلا يعلمون الطريق ولا غايته

وكذا المعتزلة فإنهم وإن لم ينكروا النصوص لكنهم يألونها بمقتضى عقولهم فلا يقلدون الأنبياء عليهم السلام فيما أخبروا به بل هم المقلدون أدلة عقولهم كالحكماء فلا يحصل لهم العلم عن كشف إلهي .
قال رضي الله عنه : (فهذا) أي العلم الحاصل لأهل الكشف (علم خاص) من علوم الأذواق (يأتي) أي يحصل لهم (من اسفل سافلين لأن الأرجل هي السفل من الشخص وأسفل منها ما) أي الذي (تحتها) أي تحت الأرجل (وليس) ما تحت الأرجل (إلا الطريق) ولا يحصل هذ العلم لنا إلا أن نجعل أنفسنا طريقة تحت أقدام الناس يعني أن نشرع طريق الفناء طريق التصفية.
ولما بين أحكام مقام الفرق شرع في بيان أحكام مقام الجمع بقوله:
قال رضي الله عنه : (فمن عرف الحق عين الطريق) أي فمن حرف أن الحق هو عين الطريق (عرف الأمر على ما هو عليه فإن) تعلیل وبيان لكون الأمر على ما هو عليه في هذه المسألة (فيه) أي في الطريق (جل وعلا يسلك ويسافر) في نفس الأمر (إذ لا معلوم إلا هو وهو) أي الحق (عين السالك والمسافر فلا عالم إلا هو) هذا باعتبار الأحدية الذاتية فإذا كان السالك والطريق والعالم والمعلوم وهو الحق .
قال رضي الله عنه : (فمن أنت؟) استفهام إنكار أي أنت معدوم في نفسك (فاعرف) اليوم (حقيقتك وطريقتك) وتفوت وقتك حتى لا تدخل لا لعرفان حقيقتك وطريقتك في حكم قوله تعالی : " ونسوق المجرمين" [مریم: 86] فإذا عرفت ما قلناه فقد عرفت حقيقتك وطريقتك (فقد بان) أي فقد ظهر (لك الأمر) من الله على ما هو عليه وهو كون الطريق السالك والعلم والمعلوم عین الحق باعتبار أحدية الجمع (على لسان الترجمان) .
وهو نفسه لقوله حتى أكون مترجمة لا متحكمة أو الحق مترجمة لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته وهي قوله: "وم من دابة " الخ أو نبينا عليه السلام مترجما عن الحق مقالته .وهي قوله : كنت سمعه الخ وكذا جميع الأنبياء عليهم السلام والأولياء رضي الله عنهم.
قال رضي الله عنه : (إن فهمت ما ظهر) من لسان الترجمان أي إن كنت ذا فهم (فهو) أي لسان الترجمان (لسان السحر فل يفهمه) أي لا يفهم أحد لسان الحق (إلا من فهمه) بسكون الهاء (حق) حتى يفهم الحق من مطلقات كلام الحق فإن الشهود بأحدية الأشياء من مطلقات کلام رب العزة ومن مفهوماته الثابتة ولا يفهمه إلا العلماء بالله وهم الذين كان الحق فهمهم وسمعهم وجميع قواهم وإنما دل على هذا المعنى لسان الترجمان .
قال رضي الله عنه : (فإن للحق نسبة كثيرة ووجوها مختلفة) بالنسبة إلى شيء واحد بعضها ظاهر في العموم وبعضها خفي لا يظهر إلا لمن نور الله قلبه وكذلك بالنسبة إلى آية واحدة معاني كثيرة ووجوه مختلفة بعضها ظاهر بفهمه كل أحد وبعضها خفي لا يفهمه إلا من كان فهمه حقا فلا ينحصر معنى الكلام القديم على المفهوم الأول وهو ما يفهمه العموم بل لا بد من مفهوم ثان يفهمه الخصوص وهو الذي لا يباين لا ينافي المفهوم الأول.

فإن الله تعالی يعامل عباده في كلامه بحسب إدراكهم فكان في كلامه القديم إشارات لطيفة لا يفهمها إلا من فهم عن الله وأورد شاهدة على ثبوت ذلك المعنى .
فقال رضي الله عنه :سحاب (هذا عارض) أي سحاب (ممطرنا) أي ينفعنا بإنزال المطر فظنوا هذا القهر (خبرا) أي لفظة ورحمة لهم فحسن ظنهم بالله نعاملهم الله بإعطائه لهم جزاء حسن ظنهم بالله من الجهة التي غير ما تخيلوه .
(وهو) أي الحق (عند ظن عبده به فاضرب لهم الحق عن هذا القول) أي عن قولهم هذا عارض لحسن ظنهم به (فأخبرهم بما هو أتم وأعلى مما تخيلوه في القرب فإنه) أي الشأن (إذا أمطرهم) أي إذا أعطاهم الحق مما تخيلوه.
قال رضي الله عنه : (فذلك) الأمطار (حظ الأرض وسقي الحبة) المزروعة في الأرض (فما يصلون) هذا القوم (إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد) و هي حصول الغذاء الجسماني من حظوظ أنفسهم فم يحصل هذه النتيجة من المطر إلا بعد مدة مديدة بخلاف إهلاكهم فإنه يوصلهم في الحال إلى مشاهدة ربهم فهم متلذذون بأرواحهم بهذه المشاهدة ولو عذبوا من وجه على الأبد.
ولما بين أحوال قوم هود عليه السلام شرع في بيان إشارات الآية ولطائفها بقوله: (فقال لهم هو ما استعجلتم به ريح) حاملة لهم فيها عذاب أليم نجعل الحق (الريح إشارة إلى ما فيها) أي في الربح (من الراحة لهم فإن بهذه الريح يريح) الحق (أرواحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك) أي الطريق (الوعرة) أي الصعبة (والسدف) بضم السين وفتح الدال جمع سدنة أي الحجاب (والمدلهمة) أي الليل المظلمة .
قال رضي الله عنه : (و) إشارة إلى أن م (في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه إلا أنه) إلا أن ذلك الأمر اللذيذ (يوجعهم الفرقة المألوفات) فجمع الله الرحمة والعذاب فيهم فيرحمهم الله بالرحمة الممتزجة بالعذاب في دار الشقاء فما كان في حق المشركين من الله إلا هذه الرحمة ل غير فإن الرحمة الخالصة من شرب العذاب مختصة للمؤمنين في الدار الآخرة تفريق بينهما أكمل تفریق.
قال بعض الشراح في هذا المقام أن الله تعالى هو الرحمن الرحيم ومن شأن من هو موصوف بهذا الصفات أن لا يعذب أحدا عذابا أبدا. تم كلامه .
هذا كلام صادق لكنه لا يعلم هذا العارف أن بعض العباد يقتفي شأنه بحسب عينه الثابتة أن يعذب عذابا أبدية فيعذبه الله على مقتضى شأنه أبدا (فباشرهم) أي الحق (العذاب) حتى خلصوا عن الهياكل المظلمة فيصلوا في الحال إلى الغذاء الروحاني وهو مشاهدة ربهم فكان الأمر الحاصل لهم بالهلاك (إليهم أقرب) و متعلق أقرب قوله إليهم (مما) أي من الذي (تخيلوه) فإذا باشرهم الحق بالعذاب.
قال رضي الله عنه : (فدمرت كل شيء بأمر ربها) أي قطعت الريح تعلق أرواحهم بظواهر أبدانهم (فأصبحوا) أي فصاروا (لا يرى إلا مساكنهم وهي جثتهم) أي أبدانهم (التي عمرها أرواحهم الحقيبة) وهي الروح التي قال الله تعالى : "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" [الحجر: 29] .
(فزالت) عنهم (حقية هذه النسبة الخاصة) وحقيتها كونهم على صورة الحق من العلم والحياة والقدرة
بسبب تعلق الأرواح الحقية بهم فإذا زالت تعلق الروح زالت عنهم هذه الكمالات الحقية (وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق) وهي الحق التي نصيب منها لكل شيء من الله بدون نفخ منه بخلاف الحياة الحقية فإنها لا تحصل إلا لمن يقبل الاستواء (التي) أي الحياة التي (تنطق بها) أي بسبب هذه الحياة .
قال رضي الله عنه : (الجلود والأيدي والأرجل ويذوق) الميت بها (عذابات الأسواط والأفخاذ في القبر وقد ورد النص الإلهي) من الآيات والأحاديث (بهذا) المذكور (كله) فهذه نسب جسمانية لا نسب حقانية.
ولم بين الأمر على ما هو عليه شرع في بيان سبب عدم ظهور هذه المعاني لبعض الناس بقوله (إلا) أي غير (أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة ومن جملة غيرته حرم الفواحش وليس الفحش إلا ما ظهر وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له) أي بالنسبة إليه فحش .
وأما بالنسبة إلى من لم يظهر له وليس بفحش فقال رضي الله عنه : (فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف) خطاب عام أي منع أن يعرف كل إنسان (حقيقة ما ذكرناه وهي عين الأشياء) أي حقيقة ما ذكرناه من كون الحق عين الأشياء كانت تلك الحقيقة ما بطن من الفواحش .
فإذا كانت تلك الحقيقة فاحشة باطنة (نسترها) أي ستر الحق تلك الحقيقة عن الغير لئلا يطلع عليها أحد إلا بالمجاهدات والرياضات بالسلوك بطريق التصفية .
فجواب لما قوله فستره والفاء زائدة لتأكيد الستر هذا ما اختاره بعض الشارحين والأولى أن يجعل جواب لما محذوفة للعلم به باي لما حرم الفواحش كانت تلك الحقيقة فاحشة باطنها نقوله فسترها جواب الشرط محذوف (بالغيرة وهو) أي الغيرة (أنت) يخاطب كل عين مأخوذة (من الغير) وتذكير الضمير باعتبار الغير .
قال رضي الله عنه : (فالغير) أي الذي لم يعلم أن الحق عين الأشياء (يقول السمع سمع زيد) لعدم ظهور هذا المعنى له (والعارف) أي الذي يعلم أن الحق عين الأشياء.
قال رضي الله عنه : (يقول السمع عن الحق وهكذ ما بقي من القوى والأعضاء فما كل أحد عرف الحق تفاضل الناس) بعضهم على بعض في العلم بالله (وتميزت المراتب) أي مراتبهم (فبان) أي ظهر (الفاضل والمفضول) بين الخلائق.
قال رضي الله عنه : (واعلم أنه) أي الشأن (لم أطلعني الحق وأشهدني أعيان) أي أرواح (رسله وأنبيائه كلهم البشريين) أي لا يكون فيهم رسل من غير البشر (من آدم إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين) فكان آدم ومحمد عليهما السلام داخلان في شهوده (في مشهد) أي في مقام (أقمت) على المجهول (فيه) أي في ذلك المشهد (بقرطبة) هي مدينة في الغرب (سنة ست وثمانين وخمسمائة) .
قوله رضي الله عنه : : (ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود) عليه السلام جواب لما (فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم ورأيته عليه السلام رجلا ضخما) في الجسامة في الرجال حسن الصورة لطيف المجاورة عارفة بالأمور كاشفة لها .
دليلي على كشفه لها قوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وأي بشارة للخلق أعظم من هذه البشارة فإن في هذه الآية دلالة على كمال غرب الحق من العبد وعلى كمال تصرفه الحق في العبد .
قال رضي الله عنه : (ثم من امتنان الله علين أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه) أي عن هود عليه السلام (في القرآن ثم تممها) هذه المقالة في بيان معناه وتحقيقه (الجامع للكل) أي لكل المراتب وهو (محمد عليه السلام بما أخبر به عن الحق عز وجل بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان أي هو) أي الحق .
قال رضي الله عنه : (عين الحواس) الظاهرة (والحال) إن القوى الروحانية أقرب إلى الحق (من الحواس) أي من القرى الظاهرة (فاکتفی) رسول الله (بذكر الأبعد المحدود) أي معلوم الحد وهو الحواس .
(عن الأقرب المجهول الحد) وهي القوى الروحانية فإنه لما كان الحق عين ما هو أبعد منه فبالحربي أن يكون عين ما هو أقرب منه لذلك اكتفي رسول الله بذكره.
والمراد بكون الحق عين الأشياء وعين قوى العبد الحاده معها في بعض صفاته أو عبارة عن كمال القرب يدل عليه قوله الأقرب المجهول، وقد بينا كيفية اتحاد الحق مع الأشياء و عینیه في غير موضع .
قال رضي الله عنه : (فترجم الحق لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته لقومه بشرى لنا وترجم رسول الله عن الله مقالته بشرى لن نكمل العلم).
بهذه البشارات (في صدور "الذين أوتو العلم" ، "وما يجحد بآياتنا") أي وما بنکر بدلائلنا (إل القوم الكافرون فإنهم) أي الكافرين (يسترونها) أي بسترون ما جاءت به الشرائع من عند الله قال رضي الله عنه : (وإن عرفوا بها) أي وإن عرفوا أنه حق لكنهم بسترونها (حسدا منهم ونقامة) أي بخلا (وظلما).
لأن ستر الحق بعد العلم ظلم وبخل وإياك وستر الحق والمراد من إيراد هذ الكلام في هذا المقام تعريض لأهل الحق الذين يعلمون الحق ثم يسترونه ولم يظهروه واعتذار في إظهاره أسرار الحق وتحذير للسالكين في طريق الحق .
حتى لا ينكروا أحوال الأولياء من إظهار أسرار الحق بعد العلم بحقيقتهم وتوطئة لما يذكره من الآيات الدالة على وجود الحق مع كل موجود .
قال رضي الله عنه : (وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه) أي إلى الحق يعني وما رأينا قط في آية أنزلها الله من عنده في حق نفسه وما رأينا قط في خبر عنه في حق نفسه الذي أوصله نبينا إلينا.
(إلا) و هر ملتبس (بالتحديد تنزيهة كان) ذلك المنزل أو الخبر (أو غير تنزیه) فإن التنزيه عن التحديد (أوله) أي أول التحديد العماء الذي أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام بأن الله كان في عماء (ما فوقه هواء وم تحته هواء فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق) فكان ذلك المقام أول ما ظهر من التعينات لذلك.
قال أوله (ثم ذكر) الحق في القرآن العظيم (أنه استوى على العرش فهذا تحديد أيضا) ثم ذكر بلسان نبيه عليه السلام ينزل الحق .
قال رضي الله عنه : (إلى سماء الدنيا فهذ تحديد ثم ذكر أنه) أي الحق (إله في السماء وأنه إله في الأرض وذكر أنه معن اينما كنا) وقد حدد نفسه حتى أوصل تحديده في المبالغة (إلى أن أخبرنا أنه) أي الحق (عيننا ونحن محدودون به) وهو حدنا (فما وصف نفسه إلا بالحد) في قوله كنت سمعه وبصره» .
(وقوله : "ليس كمثله شئ" حد أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة) أي لا تكون لإفادة إثبات المثل فحينئذ قد تميز عن المحدود .
قال رضي الله عنه :(ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عین هذا المحدود) والمراد بالمحدود الأشياء فإذا لم يكن الحق عين الأشياء كان محدود بهذا الحد فإذ كان الحق محدودة بكونه ليس عين المحدود (فالإطلاق عن التقيد تقييد والمطلق مفید) وزائدة (بالإطلاق لمن فهم) الأشياء على ما هي عليها .
قال رضي الله عنه : (وإن جعلنا الكان للصفة فقد حددناه وإن أخذنا "ليس كمثله شئ" على نفي المثل) مطلقا على أن الكاف زائدة لغير الصفة (تحققنا بالمفهوم) أي أطلعنا بالمعنى المراد من الآية وهو أنه عين الأشياء فإن مفهومه إثبات الوجود لغيره ومفهوم الثاني نفي المثل فيلزمه نفي الوجود عن غيره فتبين بهذا الوجه أنه عين الأشياء كما كان في الإخبار الصحيح لذلك أوردهما في إثبات هذا المعنى دون الوجه الأول .
(و) تحققن (بالإخبار الصحيح أنه) أي الحق (عين الأشياء) وأشار إلى فوق الآية والحديث الصحيح في الدلالة على أنه عين الأشياء بقوله في الآية بالمفهوم.
وفي الحديث بقوله وبالأخبار ولم يقل وبمفهوم الإخبار فإن قوله كنت سمعه وبصره الخ في العينية معلوم للعموم بخلاف الآية فإنه لا تدل بهذه الدلالة .
بل تدل على العينية بالمفهوم الذي يفهم من وجوه اللفظ، ولا يعلم ذاك إلا من كان له بصيرة من ربه فدلالة الحديث على العينية أتم وأعم من دلالة الآية .
قال رضي الله عنه : (والأشياء محدودة وإن) وصل (اختلفت حدودها) فإذا كان الحق عين الأشياء وكانت الأشياء محدودة (فهو) أي الحق (محدود بحد كل محدود) فإذا كان محدودة بحد كل محدود .
(فما بحد شيء إلا وهو) أي ذلك الحذ (حد للحق) فإذا كان حد كل شيء حدا للحق (فهو الساري في مسمى المخلوقات) وهي المسبوقة بالزمان (و) مسمى (المبدعات) و هي الغير المسبوقة بالزمان وسريان الحق في الموجودات هو وجود أسمائه وصفاته فيه بحسب قابليته أعيانهم الثابتة.
قال رضي الله عنه : (ولو لم يكن الأمر كذلك) أي ولو لم یکن الحق سارية في الموجودات (لما صح الوجود) لما كان شيء موجودة (فهو عین الوجود فهو على كل شيء حفيظ) عن انعدامه بأن كان ذلك الشيء على غير صورة الحق
(بذاته فلا يؤده) أي فلا يثقله (حفظ شيء) إذ عين الشيء لا يثقل حفظه على ذلك الشيء فإذا كان الحق عين الوجود وحافظة للأشياء بذاته (فحفظه تعالي للأشياء كلهاحفظه لصورته) إذ الأشياء عبارة عن الصورة الوجودية التي هي صورة الحق أي صفة الحق (أن يكون) أي أن يوجد (الشيء) على (غير صورته) أي على غير صفة الحق (ولا يصح إلا هذا) أي لا يصح إلا أن يكون الشيء على صورة الحق فكان وجود الشيء على غير صورة الحق محال.
(فهو) أي الحق (الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود) باعتبار الأحدية .
قال رضي الله عنه : (فالعالم صورته) أي مظهره (وهو روح) أي باطن (العالم المدبر له) أي للعالم كالروح المدبر للبدن (فهو) أي مجموع العالم (الإنسان الكبير).
(شعر فهو) أي الحق (الكون) أي الوجود.
( كله وهو الواحد الذي …… قام کوني بكونه )
كناية عن العالم أي قام وجود العالم بوجود الحق .
قال رضي الله عنه : (ولذا) أي ولأجل أن الحق هر الواحد القيوم الذي قام به وجود العالم (قلت) له (يغتذي) بنا من حيث ظهور أحكامه فينا وإخفاؤنا في وجوده (لوجودي غذاؤه) لقيام أحكامه وکمالاته بنا هذا إن كان الحق ظاهرا والعبد باطنا (و به) أي بالحق (نحن نحتذي) أي نغتذي لقيام وجردي بوجوده هذا إن كان العبد ظاهرا والحق باطنا (فيه منه) جزاء (أن نظرت بوجه) شرط (تعوذي) متعلق لقوله فيه منه أي إن نظرت بوجه الوحدة يكون تعوذي بالحق من الحق.
فمعنى قوله تعالى : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" بهذا الوجه أعوذ بالاسم الهادي من الاسم المضل .
فكان قول الرسول عليه السلام: "أعوذ بك منك"، ناظرا إلى هذا الوجه فالأسماء كلها قبل وجودها في الخارج مكنونة مستورة في ذات الحق طالبة كلها الخروج إلى الأعيان كالنفس الإنساني فبحبس النفس الطالب الخروج يحصل الكرب للإنسان .
فإذا تنفس بزول كربه فجاز نسبة الكرب إلى المتنفس وإلى النفس قبل الخروج من جوف الإنسان.
فشبهت نسبة الأسماء إلى الحق بنسبة نفس الإنسان إلى الإنسان تسهيلا لفهم الطالبين فإنما يتنفس الإنسان لئلا يلزم الكرب .
فلو لم يعطي الحق ما طلبته الأسماء من إيجاد العالم لزم الكرب المحال على الله فإن كون الشيء على خلاف ما يقتضيه کرب له .
ومن جملة ما يقتضي ذاته تعالى أنه يعطى كل ذي حق حقه فكذلك لو لم يحصل ما طلبته الأسماء من الله من صور العالم لحمل للأسماء من الله کرب وهو ظلم منه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال رضي الله عنه : (ولهذا الكرب) أي ولئل يلزم هذا الكرب المحال (تنفس) أي أخرج الحق ما في باطنه إلى الظاهر بكلمة كن فيكون هر في الظاهر بعد كونه في الباطن فما كان في نفس الأمر إلا هذا ولا بد أن ينسب هذا النفس إلى يد من أيدي الأسماء (فنسب النفس) أي نسب الحق نفسه (إلى الرحمن) بلسان نبيه عليه السلام .
إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين فكانت الموجودات حاصلة من نفس الرحمن بل هي عين نفس الرحمن وإن نسي الحق النفس إلى الرحمن (لأنه) أي الحق (رحم) أي أعطى (به) أي بالاسم الرحمن (ما طلبته النسب الإلهية) التي هي الأسماء (من إيجاد الصور العالم) بيان لما (التي قلنا هي) ، أي صور العالم (ظاهر الحق) وإنما كان صور العالم ظاهر الحق.
(إذ هو الظاهر) لا غير (وهو باطنها) أي باطن العالم (إذ هو الباطن) ل غير (وهو الأول إذ كان الله ولا هي) أي وليس صور العالم موجودة معه (وهو الأخر إذ كان عينها) أي عين صورة العالم (عند ظهورها) أي عند وجود صور العالم في الخارج .
فإذا كان الأمر كذلك (فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول) وهو معنى قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن " ، ("وهو بكل شيء عليم" لأنه بنفسه عليم)وليس العالم سوی من حيث الأحدية وليس علمه بالأشياء إلا عين علمه بذاته وصفاته وأسمائه .
(فلما أوجد) الحق (الصور) أي صور العالم وهي الموجودات الخارجية (في النفس) أي في النفس الرحماني وهو هيولي العالم كله القابلة لجميع الصور كما أن النفس الإنساني يخرج من الباطن إلى الخارج فيوجد في هذا النفس بحسب المخارج صور الحروف المختلفة .
قال رضي الله عنه : (وظهر) في هذه الصورة (سلطان) أي حكم (النسب) بكسر النون وفتح السين (المعبر عنها) أي عن النسب (بالأسماء صح النسب) بفتح النون والسين مصدر بمعنى الانتساب (الإلهي للعالم) أي صح للعالم أي أن ينتسب إلى الله .
(فانتسبوا) أي "يا أيها" العالم (إليه تعالى فقال) الله تعالى على لسان نبيه (اليوم) وهو القيامة الكبرى (أضع نسبكم وارفع نسبي أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم واردکم انتسابكم إلى) فصيح للعالم نسبتان نسبة إلى العالم مثله ونسبه إلى الحق.
"أضاف الجامع : الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه تلا قول الله عز وجل "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [الحجرات: 13] فقال: " إن الله يقول يوم القيامة: يا أيها الناس، إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان أكرم من فلان بن فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون.أهـ رواه الحاكم والبيهقي والسيوطي في الجامع الكبير ".
فاحتجب الناس بانتسابهم إلى العالم من انتسابهم إلى الحق ولا يشاهد ذلك إلا من أفني وجوده في وجود الحق ومن لم يفعل ذلك تأخر مشاهدته إلى يوم لا أنساب بينهم .
فإذا رد الحق انتساب العالم إليه كان العالم بذاته وجميع صفاته وأفعاله عین الحق باعتبار الأحدية الذاتية .
قال رضي الله عنه : (این المتقون أي الذين اتخذوا الله وقاية) لأنفسهم بإسناد ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم كلها إلى أن الحق (فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة) فتحققوا بقوله تعالى اليوم أضع نسبكم بفنائكم في الله وبقائهم به .
قال رضي الله عنه : (وهو) أفرد الضمير باعتبار قوله : (أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع) أي عند جميع أهل الله لوصولهم نهاية الأمر فكان قولهم إن الحق عين الصور الظاهرة صادقة لشهر دهم إن انتساب العالم كله إلى الحق.
قال رضي الله عنه : (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته) أي بسبب كون العبد صورة الحق أي بسبب إسناد العبد صورة الحق إلى نفسه وإنما كان الحق صورة المنقي (إذ هوية الحق) عين (قوى العبد كما قال كنت سمعه وبصره فمسمى العبد حينئذ) أي حين كون المتقي (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق نوى العبد فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق) فأثبت هذا المتقي الفعل لنفسه وقاية لربه في المنام إذ حينئذ يكون العبد صورة الحق.
وأما المتقون الذين اتخذوا الله وقاية فحينئذ مسمى الحق وقاية لمسمى العبد وهي إسناد العبد جميع أحواله إلى الحق .
قال رضي الله عنه : (على الشهود) متعلق بقوله وقاية لمسمى الحق أي هذه الوقاية سواء كانت وقاية للحق أو وقاية للعبد كانت على الشهود لا على التقليد (حتى يتميز العالم من غير العالم) في مقام النقري بسبب المشاهدة فمن جعل نفسه وقاية للحق من غير الشهود فليس بعالم بمقام التقرى ولم يكن من المتقين .
وكذلك من اتخذ الله وقاية بلا مشاهدة ليس من أهل العلم ولا من أهل التقوى فالعالم من كان علمه بالمشاهدة فمن لم يكن علمه بالمشاهدة والذوق فليس بعالم .
فميز الله تعالى بين العالم وغير العالم بقوله: (قل: "هل يستوي الذين يعلمون ") الحق بالشهود "والذين لا يعلمون" [الزمر: 9] بدونه فنفى الحق العلم ممن لا يعلمون بالمشاهدة .

ويدل على ذلك قوله تعالى : " إنما يتذكر" أي ما يعلم الحق "إلا أولوا الألباب " فمن لم يكن من أولي الألباب لم يكن عالما فأورد هذه الآية دليلا على أن :
المراد من قوله : "قل هل يستوي الذين يعلمون" هم العالمون بالمشاهدة (وهم) أي أولو الألباب قال رضي الله عنه : (الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء) ولب الشيء وهو جهة حقية فمن نظر في هذه الجهة بشاهد الحق فيها فهو العالم .
قال رضي الله عنه : (فما سبق) أي فما تقدم في رتب العلم بالله (مقصر) وهو الذي يطلبه تحصيل العلم بنظر العقل وهو مسمى بأهل النظر .
قال رضي الله عنه : (مجدا) وهو أهل التصفية والمجاهدة "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فهم يطلعون لب الشيء ويعلمونه على ما هو عليه فلا مذام من حيث اللب فالمتقون هم الذين اتخذوا وقاية من حيث اللب لا من حيث الصورة .
فإن صورة الأشياء كلها حدوث والحدوث كله مذام في حق الحق لا ينسب إلى الله تعالی عند أهل الله .
وكذلك كل ما ينسب إلى كسب العبد لا بنسبه من هذ الوجه إلى الحق.
ولما بين الفرق بين المقصر والمجد في العلم أراد أن يبين الفرق بينهما في العمل بقوله: (كذلك لا يماثل أجير)، وهو الذي يعمل للنجاة عن النار والدخول في الجنة (عبدا) وهو الذي يلازم باب سيده بمقتضى أوامره من غير طلب الأجر من عبادته فكم بينهما .
فالمراد أن أهل الظاهر لا يصل إلى درجة أهل الله لا في العلم ولا في العمل فقد علمت مما ذكر أن الحق قد يكون وقاية للعبد ، والعبد قد يكون وقاية للحق.
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه) أي من حيث كون الحق ظاهر العبد هذا ناظر إلى قوله : "أين المتقون" (والعبد وقاية للمحق بوجه) أي من حيث كون العبد ظاهر الحق فقد حصل في تلك المسألة خمسة أوجه كلها صحيحة لكنها يتفضل بعضها على بعض فشرع في تفصيلها بجزاء الشرط .
وهو قوله رضي الله عنه : : (فقل في الكون،) أي في حق الكون (م شئت إن شئت قلت هو) أي الكون (الخلق) باعتبار وقاية لكون الحق (وإن شئت قلت هو الحق الخلق) بالجمع بينهما (وإن شئت قلت لا حق) أي الكون ل حق (من كان وجه ولا خلق من كل وجه) فصدق سلب إيجاب الكلي فلا بصدق أصلا في الكون إيجاب الكلي لا في الحقية ولا في الخلفية .
(وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك) أي في حق الكون فمن قال بالحيرة لم يصدر منه حكم في حق الكون فإذا قلت بهذه المقامات.
قال رضي الله عنه : (فقد بانت) أي ظهرت (المطالب بتعيين المراتب) وكل ذلك تحديد الحق (ولولا التحديد) أي ولو لم يقع التحديد في نفس الأمر (ما أخبرن الرسل بتحول الحق في الصور)، وهو ما جاء في الخبر الصحيح أن الله يتجلى للخلق يوم القيامة في صورة منكرة . فيقول : أن ربكم الأعلى فيقولون: نعوذ بالله منك فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له.
(ولا وصفته) أي ولا وصفت الرسل الحق (بخلع الصور عن نفسه) أي لم يقولو إن الله يتجلى يوم القيامة خاليا من الصور .
بل فائوا إن الله يتجلى في الصور والصور كله محدودة فالحق المتجلي في المحدود و محدود فكان الحق هو الظاهر في كل صورة فحينئذ .
شعر:
قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) في الحقيقة (إلا إليه) لكنه لا يعلم من احتجب بالصور (ولا يقع الحكم إل عليه) باعتبار الأحدية (فنحن له) عبيد وهو ربنا (وبه) أي وجودن وقيامنا بالحق (و) قلوبنا (في يديه) يقلبنا كيف يشاء .
وهو إشارة للحديث : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء"
" ورد الحديث : «إن قلوب ابن آدم ملقى بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء» ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اصرف قلوبنا إلى طاعتك» رواه ابن حبان و ابن ماجة والحاكم والطبراني وغيرهم
كما ورد الحديث : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»رواه ابن حبان و ابن ماجة والحاكم والطبراني وغيرهم
أو في يديه مجبورون ينصرف كيف يشاء (وفي كل حال) من الأحوال الحسنة أو السيئة (فإنا) حاضرون (لديه) فهو معنا أينما كنا (ولهذا) أي الأجل ظهور الحق في كل صورة (ينكر ويعرف وينزه ويوصف) على حسب مراتب الناس فإذا لم تنظر العين إلا إليه صار النظر مختلفة في رؤية الحق بأن كان بعضه فوق بعض.
قال رضي الله عنه : (فمن رأى الحق منه) أي من الحق (فيه) أي في الحق (بعينه) أي بعين الحق (فذلك العارف) لكون الناظر والنظر والمنظور منه والمنظور فيه والمنظور إليه كلها حق في نظره .
قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق منه) أي من الحق (فيه) أي في الحق (بعين نفسه فذلك غير العارف) لعدم علمه أن الحق لا يرى بعين غيره .
قال رضي الله عنه : (ومن لم ير الحق منه) أي من الحق (ولا فيه) أي لا في الحق (وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل) لعدم رؤيته بالحق أصل .
بخلاف غیر عارف من حيث أنه يرى بعين نفسه لا بعين الحق
فظهر في هذا المقام ثلاث مراتب عارف وجاهل وغير عارف .
لذلك قال رضي الله عنه : (وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه) أي في حق ربه (يرجع) ذلك الشخص (بها) أي مع تلك العقيدة (إليه) أي إلى ربه (ويطلبه) أي يطلب ذلك الشخص ربه (فيها) أي في تلك العقيدة (فإذا تجلى له الحق) يوم القيامة (فيها) أي في صورة عقيدته (عرفه وأقر به وإن تجلى له في غيرها) أي في صورة غير صورة عقيدته (أنكره) أي الحق (وتعوذ منه وأساء الأدب عليه) أي على الحق (في نفس الأمر وهو عند نفسه) يعتقد (أنه قد تأدب معه) .
فإذا كان الأمر في حق المحجوب كذلك قال رضي الله عنه : (فلا يعتقد معتقد) محجوب (إلها إلا بما جعل) أي تصور المعتقد ذلك الإله (في نفسه) أي في ذهنه فاعتقد كون الحق على تلك الصورة ونفاه عم عداها فحينئذ (فالإله) حاصل (في الاعتقادات بالجعل).
أي بسبب جعل المعتقد فإذا رأوا الحق يوم القيامة (فما) أي فليس (رأوا) أي المعتقدون (إلا) عين نفوسهم (و) رأوا (ما) أي الذي (جعلوا فيها) أي في أنفسهم فما رأوا الحق (فانظر مراتب الناس في العلم بالله) .
قوله رضي الله عنه : : (هو) راجع إلى المراتب أفرد باعتبار العلم بالله (عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة) هذا هو حال المعتقدين الذين حصروا الحق في صورة اعتقاداتهم وقد حذر السالكين عن ذلك مع بيان مقام أمل الشهود.
بقوله : (وقد أعلمتك بالسبب الموجب) وهو حصر الحق في صورة الاعتقاد (لذلك) أي التجلي الحق يوم القيامة فما يتجلى الحق لأحد يوم القيامة إلا على حسب اعتقاده في الدنيا في العلم بالله بقيد أو إطلاق (فإياك أن تتقيد)
في الدنيا (بعقد) أي باعتقاد (مخصوص وتكفر) الحق (بما سواه) أي بما سواه ذلك الاعتقاد حتى لا تكفر يوم القيامة إذا تجلى لك في غير ذلك الاعتقاد (فيفوتك خير كثير) أي علم كثير نافع في الدنيا ودرجة عالية في العقبی.
قال رضي الله عنه : (بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه) إذ الحق لا ينحصر في عقد دون عقد (فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات) بفتح القاف (كلها فإن الإله تبارك وتعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه بقول :"فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة : 115] وما ذكر أينا من أين) إلا (وذكر أن ثمة) أي في الأين المذكور (وجه الله ووجه الشيء حقيقته فنبه) الحق (بهذا) القول .
وهو قوله : "فاينما تولوا فثم وجه الله".
قال رضي الله عنه : (قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار) الحق (مثل هذا) الاستحضار وهو كون وجه الحق في كل أينية فلا يغفل قلوب العارفين عن الحق في كل حال، فهذا التنبيه عناية من الله لهم حتى يكونوا مع مشاهدة الحق في جميع الأحوال التي تعرض عليهم في الحياة الدنيا فلا يقبضوا مع غفلة.
قال رضي الله عنه : (فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة) فيستحق العبد من الله البعد والإهانة .
قال رضي الله عنه : (فلا يستوي مع من قبض على حضور) فإنه يستحق القرية والكرامة (ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا) أي يكون الحق في كل جهة (يلزم) أي يجب عليه انقياد الأمر الحق (في الصورة الظاهرة والحال المقيدة) أي للعبد الكامل وهي الصلاة (التوجه) فاعل يلزم أي ملتبسا (بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته وهي) أي القبلة .
قال رضي الله عنه : (بعض مرائب وجه الحق من أينما تولوا فثمة وجه الله فشطر المسجد الحرام منها) أي بعض من تلك المراتب.
قال رضي الله عنه : (ففيه) أي في المسجد الحرام کان (وجه الله ولكن لا تقل هو) أي الحق (هنا) أي في المسجد الحرام : (فقط بل قف، عندما أدركت) أي عند إدراكك الحق (والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة بل هي) أي بل الأينية الخاصة (من جملة أينيات ما) أي الذي (تولى متولي إليها) أي إلى تلك الأينيات (فقد بان) أي فقد ظهر( لك على الله) أي فقد عرفت بما أخبر الحق به عن نفسه .
قال رضي الله عنه : (أنه) أي الحق كان (في أينيته كل وجه وما ثمة) أي وليس في عقل كل واحد من أفراد الإنسان في حق الحق من الأينيات (إلا الاعتقادات فالكل) أي فكل واحد من صاحب الاعتقادات (مصيب) في اعتقاده الحق في نفس الأمر سواء طابق ذلك الاعتقاد بالشرع أو لم يطابق.
" إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَلَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) سورة الفرقان"
لكنه إذا لم يطابق بالشرع لا ينفع ، قال رضي الله عنه : (وكل مصيب مأجور) بحسب اعتقاده فكان أجر من اعتقد الحق على ما يخالف الشرع من الكفار التلذذات الروحانية لمشاهدة ربه مخلدا في النار (وكل ماجور سعيد وكل سعيد مرضي عند ربه) وقد علمت معنى السعادة والرضاء في فص إسماعيل عليه السلام .
قال رضي الله عنه : (وإن شقي) أي وإن عذب ذلك السعيد بالعذاب الخالص (زمانا) طويلا (في الدار الآخرة) فكان المؤمنون سعداء خالصين من الشقاء لذلك ادخلوا الجنة
والكفار الشقاء لذلك أبقوا في النار وكذلك في الرضاء (فقد مرض وتألم أهل العناية مع علمنا) سعداء ممتزجين من (أنهم سعداء أهل حق) .
قوله رضي الله عنه :: (في الحياة الدنيا) متعلق بتألم (فمن عباد الله من ندركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمي جهنم) فكما لا ينافي الألم السعادة في الحياة الدنيا كذلك لا ينافي في الحياة الأخرى .
فكما أن أهل الحق إذا تألموا في الحياة الدنيا فهم على لذة في ذلك الألم بمشاهدة ربهم فلا يشغلهم الألم عن ربهم.
فإن الألم أين من الأبنبات والأين لا يشغل العارفين عن استحضار الحق كذلك أهل النار في الحياة الأخروية وإن كانوا يتألمون فهم على لذة روحانية بمشاهدة ربهم لانهم عارفون فيها فلا يحتجبون بالألم عن الحق فلا ينافي الآلام راحتهم .
وقد أورد دليلا على ذلك كلام أهل الله بقوله رضي الله عنه : (ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما مو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعیم خاص بهم أما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الألم أو يكون نمیم مستقل زائد) على فقد المهم مناسب لحالهم.
قال رضي الله عنه : (کنعيم أهل الجنان في الجنان) قوله : (والله أعلم).
يدل على توقف المصير في هذه المسألة.
أقول: إن لهذا الكلام مبني وتحقيقا أما مبناه فهو أن رحمة الله متنوعة بلا شك رحمة خالصة من شرب الألم كما في الجنة ورحمة ممتزجة بالألم كما في الأنبياء .
فإن منهم من يدركهم الألم في الدنيا وهم في لذة وراحة في ذلك الألم بل الألم عين الرحمة في حقهم فهم يحسون الراحة مع حسهم الألم.
إذ لا ينفك نعم الله منهم في أي حال كانوا ول ينبغي لأحد أن ينكر اجتماع الألم واللذة في طبعهم الشريفة فلما سبقت رحمته غضبه ل يكون العذاب أبدا إلا ممتزجا إذ رحمه الله بالنسبة إليه عامة في حق كل شيء.
والعذاب قد عرض باستحقاق عين الممكن بالمخالفة أو بحكمة أخرى فلزم الامتزاج من ذلك فلا ينافي الألم ظهور أثر الرحمة وهو وجدان الراحة في بعض المزاج هذا هو مبنى الكلام .
وأما تحقيقه فهو أن قوله : "وسعت رحمتي كل شيء" (الأعراف: 156) عام في حق كل شيء وكذلك «سبقت رحمتي غضبي» عام.
والنصوص الواردة في حق الكفار كلها بحسب اجتماعه وانفرادها لا تدل قطعيا إلا على حرمانهم أبدا عن رحمة خالصة وهي نعيم الجنان يعني لا يخرجون عن النار أبدا ولا يدخلون الجنة .
وأما دلالة النصوص على أنهم لا يخلون عن العذاب أبدا على معنى لا يرتفع العذاب أصلا لا ينافي كلامهم .
فإن قولهم: يجوز أن يكون لهم في نار جهنم بعد التعذيب إلى ما شاء الله نعيم مباين نعيم الجنان هو بعينه ممتزج بالعذاب .
لأن النعيم الخاص في الدار الآخرة عندهم مختص بنعيم الجنان لا يوجد في غيره فلا يخلون عن العذاب أم على ذلك التقدير غايته يحسون الراحة ويجدون اللذة بعد المدة المديدة ويجمعون اللذة والألم لظهور الرحمة التي سبقت في حقهم بقدر نصيبهم فيحسونها في الألم لكسب الاستعداد إلى وجدان الحس فإن العذاب متنوع فحاز أن
يجتمع نوع من العذاب بنوع من الرحمة ويؤيد م قلناه تفسير البيضاوي في قوله تعالى فلو جعل قوله : "ل يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا " [النبأ: 24 - 25] .
حالا من المستكن في لابثين أو نصب أحقابا ل يذوقون احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا .
ثم يبذلون جنسا آخر من العذاب فلا تقطع النصوص الواردة في حقهم الرحمة بكليتها بالنظر إلى نفسها من غير اقتران بالإجماع فظهر أن كلامهم أدل على بقاء العذاب للكفار من النصوص الواردة في حقهم الرحمة بكلبته بالنظر إلى نفسها من غير اقتران بالإجماع فظهر أن كلامهم أدل على بقاء العذاب للكفار من النصوص والإجماع .
لأنهم لما قسموا الرحمة إلى الخالصة من الألم والممتزجة مع الألم وحصروا الخالصة في الدار الآخرة إلى نعيم الجنان .
تعين ما أثبتوا لهم من الراحة على الاحتمال ومجرد الجواز لا على تحقيق الوقوع لا يكون أبدا إلا رحمة ممتزجة بالألم فلا يخلو عن العذاب قطعا ولا يخفف عنهم العذاب بتقليل أسبابه إذ مال التخفيف إلى ارتفاع العذاب.
وذا ينافي الرحمة الممتزجة لهم ولا هم ينظرون بنظر الرحمة التي في دار الجنان فإن هذه الرحمة ليست بنظر الرحمة في حقهم بل هي سبقت في حقهم مرکوزة في جبلتهم ومكنونة في بطونهم .
فظهرت في وقتها لوجود شرائط ظهورها وهي من مقتضيات طبعهم تحصل لهم لا تحصل بنظر الله لهم .
لذلك لا يرتفع بظهورها العذاب، ولو كانت تلك الرحمة بنظر الله لارتفع عذابهم فلا تخصص بالنصوص الواردة في تأييد العذاب في حق الكفار قوله : "وسعت رحمتي كل شيء" وبقي على عمومه بحسب نصيب كل شيء منها.
ولا تسقط بها عموم الرحمة في حق الكفار إلا في نوع من أنواعه وهو نعيم الجنان فرحمة الله تعالی تعم الأشياء كلها بالنص الإلهي حتى العذاب إذ العذاب وجود والوجود من رحمة الله تعالی بل الحق أيضا بمعنی إيصال الرحمة فيه كان رحيما فشيئه لا كشيء والله على كل شيء قدير بل کشيء.
والله بكل شيء عليم ورحمة الله تعالى واسعة ونور من الله تصل إلى عباده على حسب استحقاقهم ولا يطفى نور الله شيء في حق شيء والله متم نوره .
بأن نقول إن الله قد يتجلي في الجنة القلوب عباده من أهل الله بعظمة جلاله وكبريائه فيشاهدون قدرة الله على إهلاكهم وإهلاك الجنة لإمكان الهلاك في نفسه وإنما كان وعد الله حقا وهو النصوص الواردة في عدم هلاكهم وهلاك الجنة.
لكن لا ينافي ما قلناه كالمبشرة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بزید خوفهم من الله بعد البشارة بالجنة بالنص الإلهي فحالهم هذه ناشئة من كمال يقينهم بالنص في حقهم فيقعون في خشية الله تعالى بسبب هذا العلم الحاصل من التجلي. إنما يخشى الله من عباده العلماء.
والخشية توجب الخوف، والخوف نوع من الألم من كونهم في الراحة الكلية فيجتمعون الألم المعنوي الجزئي و الراحة الصورية الكلية في دار النعيم والنصوص لا تقطع في حقهم إلا الألم الصوري لا الألم المعنوي.
قال الشيخ في كلمة عزيرية العلم بسر القدر يعطي الراحة الكلية للعالم به ويعطي العذاب الأليم أيضا للعالم به فهو يعطي النقيضين تم كلامه .
وقد ظهر سر القدر في اليوم الآخر لكل أحد فيعطي النقيضين في ذلك اليوم أيضا والإنسان لكونه مظهرة للأسماء الإلهية المتقابلة ل يزال جامعا للنقيضين الألم والراحة بحسب المقامات وبحسب الظهور والبطون .
فألم أهل الجنة في غاية الخفاء والبطون بظهور الراحة الكلية كما أن راحة أهل النار في غاية الخفاء والبطون بظهور العذاب الأليم .
فلا يصح في التحقيق سلب الألم والنعم عن الإنسان من كل الوجوه لعموم الجمعية في نشأته الدنيوية والأخروية والمقصود إثبات عدم انقطاع أثر الأسماء المتقابلة وأحكامها عن وجود الإنسان وقد نازعني بعض العلماء في ذلك بقوله تعالى: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلود غيرها" [النساء: 56) .
وما علموا أن كلما لعموم الفعل لا لدوام ثبوته فم ثبت قطع الرحمة بالكلية في حقهم إلا بالإجماع وما لهم نص في ذلك إلا أنه لما دل النصوص على حرمانهم أبدأ عن الرحمة العظمى والجليل القدر عند الله والنعمة العظمى والنافعة الكبرى وهي نعيم الجنان فلا رحمنه عندهم في الدار الآخرة أصلا غير ذلك .
وكل ما عدا ذلك عذاب محض غير الأعراف وما جاز عند أهل الفناء من الرحمة الممتزجة بالعذاب ليس بشيء من الرحمة عندهم على أنه من أي شيء عرفتم أن الإجماع وقع على نفي ما جاز عند أهل الله لا بد من البيان .
فجاز وقوع الإجماع على ما دل عليه النصوص بدون سلب کلي غايته أنهم لم يتعرضوا جوازه ولا عدم جوازه.
فجاز أن يدخل تحت الإجماع وأن لا يدخل بل التفويض والتوقف في ذلك أولى وأنسب من أهل الفناء إلى الإجماع لأن حكمهم على حسب علمهم ول يتعلق علمهم بما في العذاب بدون نص حتی تعلق حكمهم بالنفي أو الإثبات .
إلى ما في لب العذاب إذ كل نص عندهم لا يدل إل على بقاء ظاهر العذاب ولا يلزم منه الدلالة على ما في العذاب فلا حكم لهم في باطن العذاب أصلا بحسب النصوص.
وإن قلتم اجتمعوا على ذلك برايهم أو بالنص هات البرهان على ذلك من النقل أو العقل، فل يتوهم أن هذا المعني تكلم منهم من عند أنفسهم بل أخذوا الرحمة عن بعض النصوص .
وهو قوله: "سبقت رحمتي غضبي" ، "ورحمتي وسعت كل شئ"، وغير ذلك من النصوص الدالة على شمول الرحمة وأخذوا عن بعض النصوص بقاء العذاب عليهم فجوزوا الرحمة الممتزجة من العذاب إبقاء لحكم النصوص.
إذ لا يترك حكم الله من غير ضرورة ولا ضرورة ههن وعاملا بقوله تعالى: "أعطى كل ذي حق حقه" فنهاية علم العلماء بالله في مثل ذلك التوقف وتفويض الأمر .
كما توقف الشيخ صاحب الكتاب رضي الله عنه في حق فرعون وفوض أمره إلى الله .
وقال : ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى الله لما استقر في نفوس عامة الخلق إلى شقائه . فراعى الشيخ جانب الإجماع لأن الإجماع كما كان حجة عند أهل الظاهر كذلك حجة لأهل الله سواء كان بالنص أو بدونه فإذا عرفت هذا.
فاعلم أن أهل الله الذين انكشف لهم أسرار النصوص الإلهية في مثل هذه المسائل إذا نظروا إلى النصوص يبسطون ويرجون رحمة الله وإذ نظروا إلى الإجماع خافوا عقاب الله .
هكذا حالهم إلى آخر عمرهم، فعلمهم هذا يعطي الحيرة والتوقف وتفويض الأمر إلى الله وهو مقام الأعراف.
وعلى الأعراف رجال فهم ثابتون في هذا المقام الأعلى والأشرف فكان ثبوتهم بين هذه النصوص والإجماع وهو عين ما ذهب إليه جميع الملل الإسلامية من أنه المؤمن بين الخوف والرجاء فلا يكذبون النصوص ولا الإجماع.
بل يصدقون ويجمعون بينهما كيف فإن قوله لا يقطع أن يكون لهم نعيم مباین لا يدل إلا على احتمال الوقوع لا على تحقق الوقوع والرجاء.
بتحقيق بمجرد احتمال وقوع الوعد فليس في كلامهم في هذه المسألة دلالة على تحقق وقوع الرحمة ولو ممتزجة بل على جواز الوقوع.
فكما أن المؤمن في حالة الرجاء لا يكذب النصوص الواردة في الوعيد وفي حالة الخوف لا يكذب النصوص الواردة في الوعد.
وكذلك أهل الفناء فما مسألتنا هذه إلا وهي عين ذلك ولا تحمل عليه أي على الشيخ ما لا تحمل عبارته بل كل ما نقوله من مدلولات کلامه ومقصوده وليس مقصوده من إيراد هذه المسألة إلا تحقیق دلالة النصوص في هذا الباب.
فإن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علمه فما ثبت قطع الرحمة عنده بالكلية إلا بالإجماع.
وأما النصوص فلا تدل إلا على قطع نوع من الرحمة وهو نعيم الجنان، فقد رفع الحجاب بذلك التحقيق عن وجوه المعاني لأهل الإنصاف وهذ التطبيق والتوجيه على مراده مما لم يهتدي به أحد من قبلي.
والله الهادي إلى صراط مستقيم وما ذلك الكتاب إل كرامة منه لذلك رد البعض وقبل البعض وذلك من خصائص المعجزة والكرامة شعبة منها.
إلا أن منهم من رده لغير أهله وأجازه لأهله فله وجه ظاهر مطابق للواقع، ومنهم من زده وبالغ في رده بالإبطال والإحراق فله وجه صحيح أيضا.
فإن للفتوى لا يكون عن جهل لأنه هو الحكم على م ينتهي إليه علم المفتي من الحق والباطل.
فإن الحكم في حق الشيء بالحق أو الباطل تابع بعلم المفتي لا على ما كان عليه نفس ذلك الشيء في الواقع فلا يكلف إلا بالجهد على قدر طاقته البشرية بحيث لا يكون مقصرا في جهده في حكم شيء.
كالمصلي المتحري نحو القبلة ولا يكلف باطلاع على حقيقة الأمر فإن ذلك ليس في وسع كل أحد فكان مثابا مأجورا بعمل ما يجب عليه من حفظ الشريعة المطهرة ولا يتعلق به لسان الذم شرعا .
وحقيقة بل هذا عند أهل الله بل عند صاحب الكتاب أكمل الناس في مقام الشرع لظهور غاية الشرع بكماله منه فكان الإحراق في حق الكتاب وإن كان ظلمة أولى من أن لا يطلع ويعمل به فاستحق بذلك عند أهل التحقيق لان المدح فلا ينبغي للسالكين أن يظنوا السوء بالعلماء في مثل ذلك.
فإن ظهور هذه الأفعال منهم لا يكون إلا عن كمالاتهم في مرتبتهم اقتضت صدور ذلك لا عن نقصهم فمن ظن السوء منا فليس ذلك
إلا عن جهله وتصوره في طريق التصوف.
أيها المحب اسمع من لسان الفقير فائدة جديدة جليلة وهي أنه لما قال الله تعالی للملائكة : "إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة : 30] قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" [البقرة : 30] .
انضمت هذه المنازعة إلى علة آدم فأثرت في وجوده فكل آدم حاملا لها فخرجت من ذريته ثلاثة طوائف :
خليفة عن الحق والملائكة معا وهم الأنبياء والمرسلون.
وخليفة عن الحق وهم أولياء الله ومن كان في طريقهم
وخليفة عن الملائكة وهم علماء الشريعة وأئمة الدين
فمقام الأولياء العفو والستر والنظر إلى جهة الكمال كما فعل الحق بآدم ولا ينظرون إلى جهة القصور بل كل شيء تام بنظرهم لعلمهم بأن الله تعالى قبل آدم وأوجد ولم يرد قول الملائكة في حقه مع علمه بعصيان آدم ولم ينظر إلى قصورهم بل نظر إلى جهة كماله وقيل من كل عيب ثم أوجدهم وقال في جوابهم "إني أعلم ما لا تعلمون" [البقرة : 30] .
يعني أن ما قلتم في حقه صدق لكنه إني أعلم منه غير ذلك من الكمال ولو علمتم ما أعلم لم ينازعني فلم علم الملائكة ما علم الله بتعليم الأسماء ارتفع نزاعهم فقالوا: " لا علم لنا إلا م علمتنا" [البقرة: 32] .فهذ هو مقام أهل الله خلافة عن الحق .
وأما خليفة الملائكة فهم علماء الشريعة وأئمة الدين فإن مراد الملائكة بقوله :"أتجعل فيها" تقديس الحق وتنزيهه عما ل يليق بجناب عزه من الإفساد وسفك الدماء وغير ذلك من المناهي الشرعية.
لذلك قالوا: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " [البقرة : 30] يعني ل يليق بحضرتك إلا التسبيح والتقديس ، فأقامهم الله في مقام التقديس مقام الملائكة فسبحوا وقدسوا الحق بحسب علمهم على كل ما يليق به تسبيحهم وتقديسهم وإن لم يعلمو مرتبتهم فإذا علموا ما علم أهل الله ارتفع نزاعهم لعلمهم علما وراء علمهم الذي أنكروه قبل ذلك .
لحصرهم العلم على علمهم فما كان نزاعهم في التحقيق إلا لطلب العلم عن أهله وإن كانوا ل يشعرون بذلك فالنزاع ينشأ من عدم علمهم بحقيقة العلم .
فإذا علموا سلموا كالملائكة عند علمهم من آدم بم علم الله منه .
كما أن الملائكة ليس مرادهم المنازعة مع الحق بل طلب العلم بحكمة الخلافة مع التقديس جناب الحق .
فإذا كان العلماء خليفة الملائكة وجب تعظيمهم كالملائكة بل هم أحق بالتعظيم من الملائكة فهم البشر الملك والملك ملك وحده فإنهم حجة واضحة لله تعالى في الأرض عامة .
الحكم لجميع الناس وليس كذلك أهل الحق فإنهم حجة مخصوصة لطائفة مخصوصة وكم بينهما إلا فتعظموهم على أي حال كانوا من الإقرار والإنكار فإن إنكارهم بعض أفعال الفقراء وأقوالهم وأحوالهم عين تنزيههم الحق وتقديسهم عما لا يليق به اقتضت غيرة الحق بحسب مقامهم صدوره منهم.
فتعظيمهم تعظيم الحق والملائكة وتعظيم الأنبياء فإنهم كأنبياء بني إسرائيل وورثة الأنبياء فهم حملوا على ظهورهم ما لا تحمله السموات والأرض .
وما قدر أحد قدر هم إلا من علمه الله من لدنه علما فلا يصح المعارضة والمنازعة معهم في شيء فالواجب علينا فيما أشكل عليهم من كلام أهل الفناء التطبيق الشرعي.
فإن علم أهل الله المسمى بالعلم الباطن من مدلولات ما دل على العلم المسمى بالعلم الظاهر والأول عين الثاني بالذات .

فهو مستفاد من وجوه الشرع لكن لا يفهمه كل أحد بل يفهم من تنور عقله بالنور الإلهي فمن ذهب إلى أنه مغاير بالذات لا يمكن التطبيق الشرعي بحيث يسلم ويقبل عند الشرع بحسب القبول فقد أخطأ .
....


f1IdWabpANM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!