موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تعليقات أبو العلا عفيفي
على فصوص الحكم

تأليف: د. أبو العلا عفيفي

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية

[نسخة أخرى فيها المتن مع التعليقات والمقدمات]
  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية


05 - فص حكمة مُهَيَّميَّة في كلمة إبراهيمية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(1) الحكمة المُهَيَّميَّة و إبراهيم.
(1) كلمة مُهيَّمِيَّة مشتقة من الهيام أو الهيمان و هو الإفراط في العشق، و قد نسبت الحكمة المهيمية إلى إبراهيم لأن اللَّه تعالى نص على اتخاذه خليلًا في قوله: «وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا».
و الخليل المحب المفرط في محبته المخلص لمحبوبه. هذا هو لسان الظاهر كما يقولون، و لكننا إذا ما قرأنا الفص الإبراهيمي و أدركنا مرامي المؤلف فيه، وجدنا معاني أخرى لإبراهيم و الخليل و الهيمان، و أنها مجرد رموز قصد بها ما وراءها.
و ليس هناك من شك في أن اسم إبراهيم لم يستعمل علماً على النبي المعروف، و إنما رُمز به لنوع الإنسان الكامل الذي يعتبر جميع الأنبياء و الرسل و الأولياء أفراداً له.
و الإنسان الكامل في مذهب صاحبنا هو المجلي التام الشامل لجميع الأسماء و الصفات الإلهية، أو هو المجلى الكامل للحق على ما قررنا آنفاً.
و إنما اختير إبراهيم ليقوم بهذا الدور هنا لمجرد الإشارة إليه بأنه خليل اللَّه، و الخليل إذا أخذت لا على أنها من الخُلَّة أي الصداقة، بل على أنها من التخلل و هو السريان- و هذا بالضبط ما يفعله المؤلف- فهمنا لِمَ اعتبر إبراهيم مثالًا أعلى من أمثلة الإنسان الكامل.
و أي مجلى من مجالي الحق أحق بأن يوصف بالكمال من الإنسان الكامل الذي سرى فيه الحق و تخلل جميع قواه و جوارحه فأظهر بذلك جميع كمالات الصفات و الأسماء الإلهية.
إن سريان الحق في صور الموجودات جميعها أمر تقتضيه طبيعة مذهب ابن عربي في وحدة الوجود- و قد أشرنا إلى ذلك من قبل- و لكنه يريد أن يبين هنا أن هذا السريان- أو هذا التخلل- يتفاوت في الموجودات في الدرجة بحسب ما يتجلى في كل منها من الصفات و الأسماء الإلهية.
و من سوء الحظ أنه يلجأ في توضيح العلاقة بين الحق و الخلق أو بين الوحدة و الكثرة إلى التمثيل بالسريان و التخلل و التغذية و ما إلى ذلك، لأن مثل هذه التشبيهات الساذجة تشعر بالمادية أو الجسمية كما تشعر بالاثنينية: اثنينية المتخلِّل و المتخلَّل، و ليس في حقيقة الأمر في مذهبه مادية و لا اثنينية.
دعونا إذن من تشبيهه الذات المتخللة لجميع صور الموجودات باللون الذي يتخلل الجسم الملون، و شبيهه تلك الذات أيضاً بالماء الذي يتخلل الصوفة، فإن هذه التشبيهات وأمثالها ليست سوى وسائل محسوسة و ساذجة لإيضاح شيء هو في نفسه غير محسوس وغير ساذج. الحق و الخلق في نظره وجهان للحقيقة المطلقة: فكل تمييز بينهما لا بدّ أن يعد في نهاية الأمر تمييزاً اعتبارياً.
وليس في مذهبه ما يسمح بالقول بالاثنينية اللهم إلا اثنينية الصفات: أي الصفات التي يتميز بها الحق عن الخلق والأخرى التي يتميز بها الخلق عن الحق.
ولكن هذا المعنى لا ينطبق على اللون والمتلون اللذين يذكرهما.
يقول: إن اللون يتخلل المتلون فيكون العرض بحيث يكون الجوهر، كذلك الحق يتخلل صور الموجودات.
وهذا تشبيه قاصر و مضلل: إذ اللون شي ء غير المتلون، والحق- في نظره- ليس سوى الخلق، وإذ اللون عرض والمتلون جوهر، والحق لا يمكن وصفه بأنه عرض.
و يزداد الأمر حرجاً و تعقيداً عند ما نراه يقول إن كلًا من الحق و الخلق يتخلل الآخر أو يغذيه، و هو قول يشعر بالحلول. ولكن لا محل للحلول في مذهبه.
فيجب إذن أن نفهم هذه الأقاويل وأمثالها على أنها عبارات مجازية قصد بها تفسير أمر تعجز الألفاظ عن التعبير عنه ولا يقوى على إدراكه إلا الذوق الصوفي وحده، إذ الذوق الصوفي هو الذي يدرك سريان «الواحد» الحق في الكثرة الوجودية وتقويمه إياها كما يدرك كمال ذلك «الواحد» في مظاهر أسمائه وصفاته.
(2) «أ لا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات ... حق للحق؟»
(2) لما كانت الحقيقة الوجودية واحدة لزم أن ننسب إليها جميع صفات الموجودات المحمود منها و المذموم، لأن التفرقة بين صفات الأشياء على أساس المدح و الذم تفرقة أخلاقية أو دينية و هي بذلك اعتبارية لا حقيقية.
أما الموجودات في ذاتها فلا توصف بأنها محمودة أو مذمومة، كما أن الأفعال في ذاتها لا توصف بأنها خير أو شر.
و كل ما يمكن أن يقال في أي موجود هو أنه مجلى يظهر فيه الحق بصفة أو صفات هي كيت و كيت سواء أكانت هذه الصفات مما اصطلح العرف أو الشرع أو القانون الخلقي على تسميتها محمودة أو مذمومة أو لم تكن.
وإذا كان الأمر كذلك فيستوي أن نقول إن «الحق» يظهر بصفات المحدثات المحمود منها و المذموم، و أن نقول إن الخلق يظهر بصفات الحق.
أما أن الحق يظهر بصفات المحدثات فقد أخبر بذلك عن نفسه في مثل قوله:
«وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ»، و قوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»، و قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» إلى غير ذلك من الآيات.
غير أنه يجب ألا يغرب عنا ما ذكرناه آنفاً في مسألة التنزيه و التشبيه، أن ابن العربي لا يفهم هذه الآيات على أنها دالة على مجرد التشبيه- كما يقول المشبهة- بل يفهم منها أن الحق هو الظاهر في صورة كل من اصطلحنا على تسميته ماكراً، و أنه الظاهر في صورة المستهزئ و المؤذي و غير ذلك.
و قد أوضح ذلك المعنى بما لا مزيد عليه في الفص السابق (الفص الرابع) حيث قال: «بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة ...
قال- يا أبتِ افعل ما تؤمر- و الولد عين أبيه (لأنهما مظهران لذات واحدة) فما رأى يذبح سوى نفسه.
و فداه بذبح عظيم- فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان و ظهر بصورة ولد ... و خلق منها زوجها فما نكح (أي آدم) سوى نفسه: فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد».
ليس بغريب إذن أن يأتي هنا و يقول إن الحق يظهر بصفات المحدثات.
الكرم أو نحوها من الصفات التي اصطلح على نسبتها عادة إلى اللَّه.
(3) «ثم إن الذات لو تعرّت عن هذه النسب لم تكن إلهاً .. فيتميز بعضنا عن بعض».
(3) يفرق ابن عربي بين الذات الإلهية المعرّاة عن كل نسبة وجودية، المجردة من أية علاقة زمانية بالوجود الخارجي، البعيدة عن متناول الإدراك، و بين الذات الإلهية المتصفة بالألوهية: أي بين «الواحد» و اللَّه. أما الذات المجردة فليست إلهاً، لأن الألوهية تقتضي المألوهية و لا معنى لها و لا وجود بدونها: فالحق الوهّاب يفترض الخلق الموهوب، و الحق الرحيم يفترض الخلق المرحوم و هكذا.
و هذا معنى قوله: «فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً». و لا تعرف الألوهية و صفاتها إلا إذا عرفت المألوهية و صفاتها و هذا هو معنى قوله: «من عرف نفسه عرف ربه» أي من عرف عبوديته عرف ربوبية الرب.
و لو أن مدعياً ادعى أن في الإمكان أن يعرف «اللَّه» من غير نظر في العالم- كما ذهب إليه بعض الحكماء و أبو حامد الغزالي، لأجابه ابن عربي بقوله: ليس من المستحيل أن يصل العقل عن طريق النظر الصرف إلى افتراض وجود موجود واجب الوجود: خارج عن حدود الزمان و المكان: أزلي قديم إلخ ..
غير أن هذا الموجود إذا جردته عن جميع الصفات و الأسماء التي يتكوّن منها مفهوم الألوهية لا يكون إلهاً.
و قد برهن أرسطو على وجود محرك أول لأنه رأى أن الحركة لا يمكن أن تذهب إلى غير نهاية، و برهن فلاسفة المسلمين على وجوب واجب الوجود، و لكن لا المحرك الأول الذي أثبته أرسطو و لا واجب الوجود- إذا قرر وجوده بعيداً عن العالم و نسبه- بإله بالمعنى الديني. هذه أدلة قد ترضي الفلاسفة أو غير الإلهيين: أما الإلهيون فلا يقنعون بها.
تتوقف فكرة الألوهية إذن- في نظره- على التأمل في المخلوقات، بما في ذلك أنفسنا. لأن العلم بالصفات و الأسماء التي يتكوّن منها مفهوم الألوهية لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق العلم بصفات الموجودات الحادثة- بما في ذلك صفاتنا.
و هذا في نظره سر الخلق: فإن الحق لم يظهر بصور الموجودات إلا ليعرف- لا في ذاته- بل من حيث كونه إلهاً. يقول الحديث القدسي:
«كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني»: أي كنت ذاتاً أزلية قديمة معرّاة عن النسب و الإضافات فعكستُ جميع ما في هذه الذات من كمالات على مرآة الوجود، فإذا عرفت صور هذه الكمالات و مجاليها عُرفتْ كمالاتي.
بهذا المعنى نقول إن وجود الخلق دليل على وجود الحق، و لكن هناك معنى آخر به نستطيع أن نقول إن الحق عين الدليل على نفسه و على ألوهيته، و هذا لا يكون إلا إذا اعتبرنا أن العالم في ذاته عدم محض لا وجود له إلا بالحق: فإذا علمنا عن طريق النظر في العالم ألوهية الحق، ثم أدركنا أن العالم ليس في الواقع سوى تجلي الحق في صور الأعيان الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، أدركنا أن الحق عين الدليل على نفسه.
و لكن هذا الإدراك ذوقي كشفي كما يقول المؤلف.
و هناك علم كشفي آخر، و هو إدراك صور الوجود في مرآة الحق و إدراك أنه هو الظاهر بجميع هذه الصور مهما تعدّدت و تنوعت صفاتها و أشكالها.
و صاحب هذا الكشف لا يسأل لِمَ فعل به الحق كيت و كيت: لأنه يعرف أن لا اثنينية في الأمر و أن كل ما يظهر به من صفات الوجود إنما هو من مقتضيات عينه الثابتة، فلا يلومن إلا نفسه.
نلاحظ إذن ثلاث درجات من المعرفة يتطور فيها الذوق الصوفي المتجه نحو إدراك الوحدة الوجودية:
ففي الدرجة الأولى ينكشف للسالك معنى الألوهية عن طريق النظر في صفات المألوهية و هي صفات العالم، و يتخذ الصوفي من العالم دليلًا على وجود الحق.
و في الدرجة الثانية ينكشف له أن الحق عين الدليل على نفسه لأن العالم لا وجود له إلا به. فهو بعد العلم بألوهية الحق عن طريق النظر في العالم يقول في كشفه الثاني إنه لا وجود إلا لهذا الإله. و هذا هو المراد بقول المؤلف: و هذا بعد العلم به (أي بالحق) من (أي بواسطتنا) أنه إله لنا.
و في الدرجة الثالثة ينكشف له وحدة الوجود و أن كل شي ء هو في الحقيقة عين الآخر و أن كل ما يظهر في الوجود إنما يظهر عن عين واحدة لا عن غيرها.
و في هذا الكشف تنمحي الاثنينية- اثنينيّة الحق و الخلق- كما ينمحي التعدد المشاهد بالحسّ بين الموجودات. فإن قيل فما معنى حكم اللَّه و قضاؤه في الأشياء؟
أجاب ابن عربي: «ما يحكم علينا إلا بنا: لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه» أي في الحق.
(4) «فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»؟
(4) هنا يشرح ابن العربي جزءاً من نظريته الأخلاقية المتفرعة عن نظريته العامة في وحدة الوجود.
إذا كان الوجود على الحقيقة واحداً و إذا كان كل ما يظهر فيه من خير و شر و من معصية و طاعة مقدراً أزلًا بمقتضى طبيعة الوجود نفسه كما شرحناه آنفاً، لزم ضرورة أن يكون في الكون مهتدون و غير مهتدين، و أن يكون فيه خير و شر و طاعة و معصية و جمال و قبح و نفع و ضر، لأن هذه كلها أمور تقتضيها طبيعة الوجود ذاتها.
و قد شاء الحق- و مشيئته هي إرادته الأزلية التي هي قانون الوجود العام- أن يكون في الخلق مهتدون و غير مهتدين، و قضت بذلك طبيعة الوجود و لا مردّ لقضائها، فامتنع وجود الهداية العامة لامتناع المشيئة-.
و ما كان للمشيئة الذاتية التي اقتضت أعيان الموجودات على ما هي عليه في ذاتها أن تشاء غير ما هو عليه الأمر في نفسه.
و لذلك جاءت الآية ب «لو» التي تفيد امتناع شي ء لامتناع شي ء آخر. إن اللَّه يعلم الأشياء على ما هي عليه و يريدها كما يعلمها- أي كما هي عليه أو كما توجبه أعيانها الثابتة في الأزل، و لهذا قال المؤلف: «فمشيئته أحدية
التعلق».
هذه هي الدائرة الفكرية التي يدور فيها ابن عربي طول الوقت، نراه ينتهي فيها دائماً إلى حيث ابتدأ. ينفي الشي ء ثم يحاول إثباته فينتهي به الإثبات إلى النفي، و يثبت الشي ء ثم يحاول نفيه فينتهي به النفي إلى الإثبات.
و لا عجب في ذلك ففكرة وحدة الوجود تحمل هذا التناقض في نفسها، لا سيما في مذهب رجل يعتبر وحدة الوجود بديهية من البديهيات ثم يأبى إلا أن يحتفظ بالصورة التقليدية التي بها الإسلام للَّه. فإذا ما تعارض ذلك مع مذهبه أخذ يهدم تلك الصورة و يضيع معالمها.
يتكلم عن علم اللَّه و إرادته كما يتكلم المسلمون، ثم يبدو له أن الموجودات و كل ما يظهر عنها ثابتة قارّة في ذات الحق ثبوتاً أزلياً: فيقول إن الحق أرادها كما علمها، و علمها بما أعطته هي من ذاتها، فأرادها على ما هي عليه، و لو أراد غير ذلك ما وقع!
أليس هذا تعطيلًا للإرادة؟
أو ليس هذا نفياً للإرادة بعد إثباتها؟
راجع عن التقدير الأزلي للوجود الفص الأول (التعليق 3)
والفص الثاني (التعليق 3)
والفص الثامن في قوله في الإنسان إنه منعم ذاته و معذبها فلا يذمنَّ إلا نفسه و لا يحمدن إلا نفسه. راجع أيضاً معنى القضاء و القدر في الفص الرابع عشر.
(5) «و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون».
(5) هذه تتمة لما سبق لأنه يفسر لما ذا ورد في القرآن قوله «لَوْ شاءَ» * و «إِنْ يَشَا»
[أي لا تتعلق بالممكن إلا من ناحية واحدة هي ناحية إيجاده على ما هو عليه. يخاطب بمثل ذلك و إنما يدرك الأمر على النحو الذي ذكرناه. و لهذا كثر المؤمنون الذين يأخذون بظاهر الآيات و يعملون العقل في فهمها، و قلّ العارفون الواقفون على حقيقة الأمور ذوقاً و كشفاً.]
و أمثالهما مع أن الأمر لا مجال فيه لتغيير و لا تبديل.
الجواب على ذلك أن هذه هي الأساليب التي يفهمها المخاطبون الذين يعتمدون على النظر العقلي لا على الكشف إذ العقل ينسب إلى اللَّه قدرة لا نهاية لها و إرادة لا حد لاختيارها.
و لكن هذا جهل بطبيعة الوجود و سوء أدب مع اللَّه، لأن الخروج على طبيعة الوجود ينافي الحكمة و لا يزيد في كمال الألوهية شيئاً. أما صاحب الكشف فلا.
(6) «ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ... ما تعيَّن عليه».
(6) هذا هو القانون العالم الذي يبني عليه ابن عربي نظريته في الوجود و في الجبرية التي شرحناها.
كل ما في الوجود الظاهر إنما هو صورة لِما كان عليه في حال ثبوته الأزلي.
لا بدَّ من ذلك و لا يمكن أن يتصوّر غيره. و لكن إذا كان الأمر كذلك فمن الموجود؟
أهو الحق أم الخلق؟ هذه مسألة اعتبارية.
فإنك إذا قلت إن وجودك الخارجي هو وجود الحق لا وجودك كان الحكم لك- من حيث الصورة- في هذا الوجود، لأنك تعيِّنه و تعطيه صفاته.
و إن ثبت في نظرك أن لك وجوداً كان الحكم لك أيضاً، و لم يكن للحق حكم فيك إلا إفاضة الوجود عليك.
و في هذه الحالة لا تحمد إلا نفسك و لا تذمّ إلا نفسك.
أما الحق فيجب أن نحمده دائماً لإفاضته الوجود عليك.
و بما أن الخلق لا وجود له إلا بالحق، و بما أن الحق الظاهر بصور الموجودات قد قبل جميع أحكام هذه الموجودات حتى ظهر بها في صورها، قال: «فأنت غذاؤه بالأحكام و هو غذاؤك بالوجود»: لأنه لولاه لما وُجِدتَ و لولاك ما ظهر.
(7) «فالأمر منه إليك و منك إليه».
(7) يصح أن تفهم كلمة «الأمر» هنا بمعنى أمر الوجود: أي فأمر الوجود من الحق إلى الخلق و من الخلق إلى الحق.
و لكن يظهر أن المراد بها الطلب و هي مع ذلك مستعملة استعمالًا مجازياً:
لأن العبد لا يأمر الحق بفعل شي ء بمعنى أنه يكلِّفه فعله، بل بمعنى أن حاله تقتضي حصول ذلك الفعل، و اقتضاء الحال ضروري لا مفر منه لأنه تابع للعين الثابتة في الأزل.
و قد سبق أن ذكرنا أن الإرادة الإلهية لا تتعلق إلا بهذه الناحية من الموجود:
أي بالناحية التي تقتضيها طبيعة أعيان الموجودات الثابتة. أما أمر الحق فالمراد به إعطاء كل شي ء خلقه على حد تعبير الآية القرآنية، أي تحقيق الأعيان الثابتة للموجودات بإظهارها في العالم الخارجي على نحو ما تطلبه طبائعها.
و لكن هذا هو الأمر التكويني لا التكليفي و بينهما فرق هام يبني عليه ابن العربي نتائج بعيدة الأثر في مذهبه. فظهور العاصي بمعصيته خاضع للأمر التكويني لأنه إنما ظهر بفعل اقتضته طبيعة عينه الثابتة و قضى اللَّه أن يكون ذلك كذلك من الأزل.
و لكن الذي اقتضته طبيعة العين الثابتة و قضى به اللَّه «فعل» فقط لا يوصف في ذاته بأنه معصية أو طاعة: و لذلك يجب ألا يقال إن اللَّه قدّر المعصية أزلًا و قضى بظهورها: و إنما سُمّي معصية عند ما قيس بالمقاييس الدينية التي هي الأوامر التكليفية.
هذه مسألة سيعرض لها المؤلف في موضع آخر عند كلامه عن فرعون الذي يرى أنه أطاع الأمر التكويني و إن كان قد عصى الأمر التكليفي.
أما إذا وصفنا كل أمر بأنه تكليف، فيلزم أن نقول إن الخلق مكلَّف من قِبَل الحق، و إن الحق مكلَّف من قِبل الخلق.
و لكن جرى العرف بإطلاق هذا الوصف على الخلق دون الحق، و هذا معنى قوله: «غير أنك تُسمى مكلّفاً:
و ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك، و بما أنت عليه.
و لا يسمى (أي الحق) مكلّفاً- اسم مفعول».
(8) «فيحمدني و أحمده» الأبيات.
(8) تشير هذه الأبيات إلى الموازاة التامة بين الحق و الخلق اللذين هما وجها الحقيقة المطلقة. و ياء المتكلم هنا كناية عن الخلق و هاء الغائب كناية عن الحق.
الحمد و العبادة متبادَلان بين الحق و الخلق: فالحق يحمد الخلق و يعبده بإفاضة الوجود عليه، و الخلق يحمد الحق و يعبده بإظهاره كمالاته في الوجود الخارجي.
و في استعمال كلمة العبادة في جانب الحق شي ء من الشناعة، و لكن ليس بغريب أن تستعمل في لغة وحدة الوجود.
و المراد بالحمد و العبادة أن كلًا من الحق و الخلق في خدمة الآخر و طاعته و الخدمة و الطاعة أخصُّ صفات العبادة.
كلٌ من الحق و الخلق يخدم الآخر و يطيعه: فالحق يفيض الوجود على الخلق، و الخلق يُظهِرُ للعيان كمالات الحق: و الخلق يطيع الحق فيما يأمره به، و الحق يطيع الخلق بمنحه الوجود الخاص الذي تطلبه عين الموجود.
و قوله: «ففي حالٍ أُقِرُّ به» إلخ .. أي في حال الجمع التي يشعر فيها الصوفي بوحدة الحق و الخلق و يفنى عن نفسه و عن كل ما سوى اللَّه، يقرّ بالحق على أنه وحده هو الموجود.
فإذا ما صار إلى حال الصحو و هي حال الفرق و أدرك أعيان الموجودات أنكر أنها هي الحق: و هي في واقع الأمر ليست الحق و إنما هي مجالٍ و مظاهر له.
هذا إذا فهمنا «الحال» بمعنى حال الفناء أو حال الجمع:
و بذلك تكون الوحدة المشار إليها «وحدة الشهود» لا وحدة الوجود.
و لكن يظهر أن المراد بالحال مطلق حال لا حال معينة، و بذلك يصبح معنى البيت:
«ففي حال من الأحوال أقرّ بوجود الحق في كل شيء و لكني أعوذ فأنكر أنه هو أعيان الموجودات الخارجية».
و هذا هو الأقرب إلى المراد و الأدنى إلى أسلوب المؤلف الذي يحلو له تكرار الكلمات المتناقضة التي يوردها على الحقيقة الوجودية الواحدة باعتبارين مختلفين:
من أنها حق و خلق و واحد و كثرة: معروفة مجهولة، غنية مفتقرة، حادثة قديمة إلخ ..
«فيعرفني و أنكره، و أعرفه فأشهده» أي فيعرفني الحق في جميع أحوالي و مقاماتي لأنه ذاتي، وأنكر وجوده في أعيان الموجودات الحادثة على أنها هي هو، و لكني أعرفه معرفة ذوقية كشفية وأعلم أنه عين كل شي ء فأشهده في كل شي ء جمعاً و تفصيلًا.
«لذاك الحق أوجدني، فأعلمه فأوجده»: أي لهذه الغاية- و هي أن اللَّه يُعْرَف و تعرف كمالاته الصفاتية و الأسمائية أوجد اللَّه العالم بما فيه الإنسان:
و بهذا ورد الخبر القائل: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعْرَف فخلقت الخلق فبِهِ عرفوني» و هو الحديث الذي يشير إليه البيت السادس من هذه الأبيات.
أما قوله فأعلمه فأوجده فالإشارة ليست إلى الذات الإلهية التي هي فوق كل علم و كل إدراك، بل إلى إله المعتقدات و هو الحق مصوَّراً في كل نفس بصورة معتقد هذه النفس و بحسب علم كل معتقد. فالإنسان لا يخلق اللَّه و إنما يخلق إله معتقده:
و لهذا قال «فأعلمه فأوجده» أي فأعلم الحق بحسب ما يتجلى لي من أسمائه و صفاته في صور الكائنات فأخلق من ذلك إلهاً أعتقد فيه و أعبده.
و هذا معنى قوله في موضع آخر: «فاللَّه عبارة لمن فهم الإشارة» و معنى قوله «فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً».
هذا هو الحق المخلوق، و هو الحق المتغير في صور المعتقدات.
«و حقّق فيَّ مقصده» أي و حقّق فيَّ مقصده من الخلق، لأن العلة الغائية من الخلق هي أن يعرف اللَّه كما سبق أن ذكرنا. و قد تحقّقت هذه الغاية في الإنسان خاصة لأن الإنسان- لا سيما الإنسان الكامل- هو الذي يعرف الحق المعرفة الكاملة.
(9) «و لما كان للخليل هذه المرتبة .. و جعله ابن مَسَرَّة مع ميكائيل للأرزاق».
(9) جواب «لما» سنَّ القِرى: و قوله لذلك متعلق بالفعل سنَّ: فالجملة تقرأ هكذا «و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سُمِّي خليلًا، سنَّ القِرى لذلك».
والمراد بالمرتبة أي مرتبة العرفان أو مرتبة الإنسان الكامل الظاهر فيه الحق بأكمل صوره، المغذِّي لذات الحق بجميع صفات الكمال الوجودية.
يقول «و لذلك سن القرى» و القرى الضيافة و فيه يقدّم الغذاء للمضيفين: و ليس إبراهيم وحده هو الذي يقدِّم «الغذاء» للحق: أي ليس وحده هو الذي يغذي الذات الإلهية بإظهار أحكامها فإن المؤلف يقول:
إذا شاء الإله يريد رزقاً له فالكون أجمعه غذاء
و لكن إبراهيم و أمثال إبراهيم من الكمل يقدمون ذلك الغذاء على الوجه الأكمل.
أما قوله «و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق» فوارد شرحه بالتفصيل في كتاب الفتوحات المكية (ج 1 ص 191) في وصف العرش وَ حَمَلَتِه.
و هو وصف يفهمه ابن العربي فهماً رمزياً خاصاً يتفق مع مذهبه العام في وحدة الوجود، و ليس لابن مسرة فيه سوى الألفاظ.
(10) «ابن مَسَرَّة».
(10) هو عبد اللَّه بن مسرّة الجبلي المتوفى سنة 319 هـ.
كان من كبار النظار على مذهب المعتزلة، و يظهر أنه كان عظيم النفوذ في أتباعه الذين يرى الأستاذ آسين بلاسيوس أنهم تألفت منهم مدرسة كلامية أو فلسفية في الأندلس.
و لكننا لا نكاد نعلم عن ابن مسرة و أتباعه هؤلاء شيئاً اللهم إلا إشارات عابرة في الفتوحات المكية (و قد ذكرتها) و في الفصل لابن حزم (ج 2 ص 126، ج 4 ص 80، 198 - 200) و تاريخ الحكماء للقفطي ص 15 - 16، و طبقات الأمم لابن صاعد الأندلسي.
و هي إشارات لا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس مذهب فلسفي لابن مسرة و لا لمدرسته.
و مع ذلك حاول الأستاذ بلاسيوس- استناداً إلى هذه الإشارات وحدها- أن يصوّر لابن مسرة مذهباً و أن يؤسس له مدرسة و ادعى أن مدرسة من مدارس التصوف في الأندلس ظهرت في مدينة المرِية كان لها أثر في تكوين فلسفة ابن عربي و كانت في الوقت نفسه متأثرة بمدرسة ابن مسرة هذا.
و لكنها دعوى عريضة لا أساس لها، أو على الأقل ليس من الوثائق التأريخية التي بين أيدينا ما يدعمها.
و قد رددت عليها بشيء من التفصيل في كتابي «فلسفة ابن عربي الصوفية» الذي نشر بالانجليزية سنة 1939.
أما الذي يعنينا من أمر ابن مسرة هنا فهو وصفه للعرش و حملته الثمانية وفقاً لقوله تعالى: «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ».
و المراد بالعرش المُلك أو العالم جملة.
قال: روينا عن ابن مسرة الجبلي من أكبر أهل الطريق علماً و حالًا و كشفاً: العرش المحمول هو المُلك، و هو محصور في جسم و روح و غذاء و مرتبة:
فآدم و إسرافيل للصور، و جبريل و محمد للأرواح، و ميكائيل و إبراهيم للأرزاق، و مالك و رضوان للوعد و الوعيد» فتوحات ج 1 ص 191.
(11) «فنحن له كما ثبتت أدلتنا ونحن لنا- الأبيات».
(11) المعنى الظاهر نحن منسوبون له من جهة و منسوبون لأنفسنا من جهة أخرى،
فلنا نسبتان: نسبة إلى الحق و أخرى إلى الخلق كما برهنت على ذلك أدلتنا الكشفية الذوقية.
و قد يكون المراد نحن غذاء له نقوِّم وجوده كما يقوّم الغذاء المتغذي: و نحن غذاء لأنفسنا و هذا بعيد:
«و ليس له سوى كوني فنحن له كنحن بن
معناه ليس للحق فيَّ سوى أنه أعطاني الوجود: و الكون هنا بمعنى التكوين أي سوى إظهاري في الخارج لا إيجادي من العدم فإن الخلق ليس له هذا المعنى في مذهب المؤلف كما ذكرنا.
أما أنني وجدت على هذا النحو أو ذلك، أو بهذه الصفة أو تلك فذلك أمر راجع إلى طبيعة عيني الثابتة.
و لذلك قال «فليس له سوى كوني».
و معنى قوله «فنحن له كنحن بنا» أن الجملة «نحن له» تساوي أو تشابه الجملة «نحن بنا». و في رواية «نحن لنا».
و المراد أن قول القائل إننا منسوبون إلى الحق تساوي من وجه آخر نحن منسوبون إلى أنفسنا أو نحن ظاهرون في الوجود بأعياننا و هو إشارة إلى النسبتين السابقتين.
و لهذا قال: «فلي وجهان هو و أنا» أي من وجه يقال إنني هو، و من وجه آخر يقال إنني أنا: فتنمحي إنيتي في الأولى و تثبت هويته، و تثبت إنيتي في الثانية و تنمحي هويته.
هذا فيما يتعلق بالخلق: له أن يقول إنه هو الحق لأن وجوده عين الوجود المطلق متعيناً، و له أن يقول إنه الخلق إذا أشار إلى الوجود المتعين.
أما الحق فليست له نسبة حقيقيّة إليّ أي أنا: لأن الأنانية أو الإنية هي الوجود المتعين و لا ينسب الحق إلى أي وجود متعين دون غيره.
و لهذا قال و ليس له أنا بأنا. «و لكن فيَّ مظهره فنحن له كمثل إنا».
أي و كل ما يمكن أن يقال هو إنه ظهر فيَّ- لا أنه أنا: و لذلك كفّر ابن عربي المسيحيين في قولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» *.
فللمسيح أن يقول إنه هو الحق على معنى أن كل شيء هو الحق: و ليس للحق أن يقول أنا المسيح عيسى بن مريم.
«فنحن له كمثل إنا» أي كمثل الإناء لأن صورنا تحمل الذات الإلهية كما يحمل الإناء ما فيه.
وليس المراد الاثنينية فإن الصورة ليست سوى الذات المتعينة.
.

....

GszkXUr9xtg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!