موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تعليقات أبو العلا عفيفي
على فصوص الحكم

تأليف: د. أبو العلا عفيفي

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية

[نسخة أخرى فيها المتن مع التعليقات والمقدمات]
  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية


03 - فص حكمة سبُّوحيَّة في كلمة نُوحِيَّة .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(1) حكمة سبُّوحيَّة في كلمة نُوحِيَّة
(1) فليس المراد بالتشبيه و التنزيه هنا ما أراده المتكلمون عند ما تحدثوا في الصفات الإلهية فنفوها أو أثبتوها، و على أي نحو أثبتها المثبتون أو نفاها النافون، بل المراد بهما معنى آخر لم يسبق ابن عربي إليه سابق، و هو المعنى الوحيد الذي يتمشى مع نظريته العامة.
أما المتكلمون فقصدوا بتنزيه اللَّه أنه يتعالى عن كل وصف و كل حد.
لأن الصفات التي يمكننا أن نصفه بها إما منتزعة من صفات المحدثات أو سلوب لها، فإذا وصفناه بصفات المحدثات ألحقناه بها و هذا محال، و إن وصفناه بسلوبها لم نصفه بشي ء، فالأوْلى بنا ألّا نصفه بوصف ما.
فإن ورد في القرآن من الآيات ما يصف اللَّه بصفة تشعر بالتشبيه أو التمثيل وجب تأويله. و كذلك فعل المعتزلة أكبر المدافعين عن التنزيه مستندين إلى قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ». فاللَّه يجب ألّا يوصف بصفة من صفات المخلوقات، و إن وصفه واصف فيجب ألا يكون ذلك إلا بصفة المخالفة للحوادث و ما يلزم عنها لزوماً منطقياً كالقدم و البقاء و الضرورة و الإطلاق و ما شاكل ذلك.
أما التشبيه فكان قولَ أهل السنة الذين أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها سواء منها ما أشعر بالتمثيل أو التجسيم، و لو أنهم- تحاشياً للوقوع في تجسيم صريح- قالوا إن اللَّه يتصف بهذه الصفات، و لكن على نحو لا نعرفه- بلا كيف.
أما ابن عربي فيستعمل كلمتي التنزيه و التشبيه بمعنى «الإطلاق» و «التقيد».
فاللَّه منزه بمعنى أنه إذا نظر إليه من ناحية ذاته فهو يتعالى عن كل وصف و كل حد و تقييد. و هو بهذا المعنى غني عن العالمين يحيط بكل شي ء و لا يحيط به شي ء و لا عِلْم، سار في كل موجود غير متعين في موجود دون آخر. فلا يصدق عليه وصف إلا الإطلاق، و في الإطلاق تنزيهه.
و لكن اللَّه من ناحية أخرى مشبه، و ذلك إذا نظرنا إليه من حيث تعينات ذاته في صور الوجود. فهو يسمع و يبصر مثلًا- لا بمعنى أن سمعه و بصره يشبهان سمع المخلوقات و بصرهم، بل بمعنى أنه متجل في صورة كل من يسمع و ما يسمع، و كل من يبصر و ما يبصر، أو أنه جوهر كل ما يسمع و يبصر. و هذا تفسير للتنزيه و التشبيه يخرجهما لا شك عن معناهما الأصلي، و لكنه تفسير لا غنى عنه- لابن عربي- في تكوين فلسفته العامة في طبيعة الوجود. هذا التفسير هو أساس قوله بأن الحقيقة وحدة و كثرة، ظاهرة و باطنة، و حق و خلق، و رب و عبد، و أنها قديمة و حادثة، و خالقة و مخلوقة إلى غير ذلك من المتناقضات التي لا يكل قلمه عن ترديدها.
و التنزيه و التشبيه بهذا المعنى متضايفان متكاملان لا يقوم أحدهما بدون الآخر. هذا إذا قلنا بثنوية الصفات: حق و خلق، إله و عالم، وحدة و كثرة.
أما إذا وقفنا عند الوحدة الوجودية فقط، فليس هنالك ما يقال!. و هذا ما يدفع بنا إلى ذكر نوع آخر من التنزيه تكلم عنه ابن عربي، و هو التنزيه الذي تتصف به الذات الإلهية في ذاتها، بعيدة عن كل تعين، مجردة عن كل نسبة إلى الوجود الخارجي. و لكن هذا التنزيه- و يظهر أنه يشير به إلى التنزيه المطلق الذي أشرنا إليه- لا يدركه عقل، و لا يمكن أن يدركه عقل، بل إن مجرد إدراك العقل له تحديد، و هو فوق كل تحديد. و لهذا قال: «اعلم أيدك اللَّه بروح منه أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد و التقييد». و ليس هذا التنزيه الذي يشير إليه إلا التنزيه المطلق. لأن التنزيه حكم، و الحكم تقييد و تحديد للمحكوم عليه. و غاية المنزِّه أن يقول إن اللَّه تعالى
مخالف لجميع الحوادث، و هذا القول في نفسه تحديد و تقييد.
و لذلك لم يرتض من معاني التنزيه إلا المعنى الذي شرحناه.
و المنزه في نظره- إذا فهم التنزيه بالمعنى الثاني- إما جاهل و هو الفيلسوف الذي ينكر الشرائع و ما ورد فيها، و إما سيِّئُ الأدب و هو المعتزلي الذي يقول بالتنزيه المطلق و كأنه يتجاهل ما ورد في القرآن من آيات صريحة تشعر بالتشبيه.

(2) «فإن للحق في كل خلق ظهوراً ... فالحق محدود بكل حد».
(2) هذه الجملة من أصرح ما قال به ابن عربي في التعبير عن وحدة الوجود و عن ناحيتي التنزيه و التشبيه اللتين أسلفنا ذكرهما.
يقول: فهو (أي الحق) الظاهر في كل مفهوم (أي مدرك بالفهم) و هو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته و هويته». فظهور الحق تقييده و هذا هو التشبيه، و بطونه إطلاقه و هو التنزيه. و لذلك إذا أردنا أن نضع له تعريفاً وجب أن يؤخذ في التعريف الظاهر و الباطن جميعاً. و قوله «فيؤخذ في حد الإنسان مثلًا ظاهره و باطنه» يمكن أن يفسر بمعنى فإن أريد تعريف الإنسان مثلًا وجب أن يؤخذ في التعريف ظاهره (أي الإنسان) و باطنه، بأن يشير التعريف إلى حيوانيته و عقله.
و يمكن أن تفسر على أن الضمير في ظاهره و باطنه يعود على الحق: أي يؤخذ في تعريف الإنسان ما بطن فيه من الحق و ما ظهر.
و على الاعتبار الأول يكون تعريف الإنسان بأنه الحيوان الناطق مثالًا لما يجب أن يكون عليه تعريف الحق أو تعريف أي شي ء من أنه يشمل الظاهر و الباطن.
و على الاعتبار الثاني يكون تعريف الإنسان مثالًا يتبين فيه كيف تدخل صفات الحق الظاهرة و الباطنة في تعريفات الأشياء، إذ أن النطق في الإنسان مظهر من مظاهر الاسم «الباطن» و الحيوانية مظهر من مظاهر الاسم «الظاهر»: و هما من الأسماء الإلهية. هذا هو التفسير الذي ارتضاه كل من القيصري و بالي في شرحهما على الفصوص. راجع الأول ص 82 و الثاني ص 68. و إذا أخذ في تعريف الشي ء ظاهره و باطنه، وجب أن نأخذ في تعريف الحق ظاهره و باطنه أيضاً.
أما باطنه فهو الذات الأحدية، و أما ظاهره فالعالم بجميع ما فيه. فيلزم منه أن يحتوي تعريف الحق جميع تعريفات الموجودات.
و إلى ذلك الإشارة في قوله «فالحق محدود بكل حد» أي أن حدّه مجموع حدود الأشياء.
و لكن لما كانت صور العالم لا تتناهى و لا يحاط بها، و لا تعلم حدود كل صورة إلا بقدر ما حصل لكل عالم من العلم بصورته، استحال الوصول إلى حد للحق، كما استحالت المعرفة الكاملة به. فعلى قدر علم العالم بنفسه يكون علمه بربه، و على قدر معرفته بحده لنفسه و لغيره يكون حده لربه. و هذا معنى العبارة المأثورة: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»
و معنى قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
يقول ابن العربي: «من حيث إنك صورته و هو روحك» فيفهم «الحق» على أنها اللَّه لا الحقيقة: أي حتى يظهر للناظر في الآفاق و في نفسه أن الذي رآه هو الحق.

(3) «و صور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا ... لا بالمجاز» .(3) يقول: «و صور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا» لما سبق أن ذكرناه من أن الصورة لا تقوم بذاتها، و أن كل صورة في الوجود تفتقر إلى الحق.
فلا يمكن أن يزول الحق عن العالم و يبقى العالم عالماً، كما لا يمكن أن تزول الحياة عن الإنسان و يبقى إنساناً، أو يقال فيه إنه إنسان إلَّا على سبيل المجاز فقط. و قوله:
«فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز» يمكن أن تفهم على وجهين، فإن الهاء في له إما أن تعود على العالم و إما أن تعود على الحق. فإن أعدنا الضمير على العالم كان معنى الجملة أن العالم له صفة الإلهية من جهة أن الحق فيه على الدوام لا يزايل صورته، و أن صفة الإلهية تطلق على العالم بطريق الحقيقة لا المجاز، لأن الحق موجود بالفعل في صورة العالم يدبرها كما تدبر الروح جسم الإنسان و هو حي.
فإن زالت الحياة عن الإنسان لا يقال فيه إنه إنسان على الحقيقة.
و كذلك إن زال الحق عن صورة العالم لا يقال إنه عالم على الحقيقة. و لكن الحق لا يمكن زواله عن صورة العالم أصلًا، لذلك كان وصف الإلهية- الذي هو للحق بالأصالة- وصفاً للعالم أيضاً على طريق الحقيقة لا المجاز.
و يظهر أن هذا هو المعنى المراد لأنه يتمشى مع ما يلي من النصوص.
و يمكن أن يعود الضمير في «له» على الحق، و يكون معنى الجملة أن الحق لما كان موجوداً بذاته في صور العالم لا يُزَالُ عنها أصلًا، و لما كان العالم صورة له تتجلى فيها صفاته و أسماؤه، كان وصف الحق بالألوهية وصفاً حقيقيًّا لا مجازياً، لأن العالم مألوه يفتقر في وجوده إلى إله و وجود المألوه يفترض وجود الإله لا محالة.
غير أن معنى الحقيقة و المجاز لا يظهر في هذه الحالة ظهوره في الحالة الأولى.
و الواقع أنه لا فرق في مذهب يقول بوحدة الوجود كمذهب ابن عربي أن تنسب الألوهية للحق من وجه أو إلى العالم من وجه آخر، فإن الحقيقة واحدة في الحالين و إن اختلفت بالاعتبار. يؤيد ذلك ما يقوله في الفقرة التالية مباشرة من أن اللَّه هو المثنِي و المثنَى عليه. فإن جميع ما في الوجود من كائنات ناطقة و غير ناطقة روحية أو مادية، حية أو غير حية، تلهج بالثناء على اللَّه بمعنى أنها مظاهر تتجلى فيها عظمته و كماله، و لكنه ثناء صامت لا يدركه الإنسان عادة- و لذلك قال: «وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (قرآن س 17 آية 46). و لكن إلى الحق ترجع عواقب ذلك الثناء. فالثناء منه و عليه: منه لأنه الظاهر في صورة المثني: و عليه لأنه الباطن الذي يوجه كل الثناء إليه.

(4) «فإن قلت بالتنزيه ... الأبيات».(4) هذه الأبيات تلخص لنا مذهب ابن عربي في التشبيه و التنزيه، و قد شرحنا معناهما فلا داعي للمزيد في هذا الشرح.
و لكنا سنجمل معنى الأبيات إجمالًا في صورة أبسط و أدنى إلى الفهم.
إن قلت بالتنزيه المطلق وحده قيدت الحق لأن كل تنزيه فيه معنى التقييد.
و إن قلت بالتشبيه وحده، قيّدت الحق و حصرته.
و الصحيح أن تقول بالتنزيه و التشبيه معاً من وجهين مختلفين، و هذا هو ما تقتضيه المعرفة الصوفية.
إن الذين يثبتون وجود الحق و الخلق- اللَّه و العالم- على أنهما وجودان مختلفان و حقيقتان منفصلتان مشركون. و الذين يقولون بوجود حقيقة واحدة مفردة موحدون.
فإن قلت بالاثنينية فاحذر التشبيه و إلا وقعت في التجسيم.
و إن قلت بالفردية، فاحذر التنزيه المطلق، لأن في ذلك إغفالًا لوجود العالم الذي هو أحد وجهي الحقيقة الفردية.
و إذا فهمت من التنزيه الإطلاق، و من التشبيه التقييد، و نظرت إلى الحق على أنه في عين الوجود مسرَّحاً و مقيداً، أدركت أنك هو من وجه، و أنك لست هو من وجه. قارن ما ورد في الفص السابع في الصلة بين الحق و الخلق.
و يلتمس ابن العربي- كعادته- أساساً من القرآن يبني عليه نظريته في التنزيه و التشبيه فيقول: إن قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تعبر عن هذا المعنى أحسن تعبير. فإننا إما أن نعتبر الكاف في قوله «كَمِثْلِهِ» زائدة و بذلك يصبح معنى الآية ليس مثله شي ء و هو تنزيه- و باقي الآية و هو قوله «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تشبيه لأنه وصف للحق بأوصاف المحدثات التي تسمع و تبصر. و إما أن نعتبر الكاف في قوله «كَمِثْلِهِ» غير زائدة، و بذلك يصبح الجزء الأول من الآية ليس مثل مثله شي ء، و هذا تشبيه لأنه أثبت المثل للَّه و نفى مثل المثل. و قوله «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تنزيه بمعنى أنه وحده الذي يسمع و يبصر في صورة كل من يسمع و يبصر. فالآية- في نظره- تجمع بين التنزيه و التشبيه في كلتا الحالتين.

(5) «فإن القرآن يتضمن الفرقان».
(5) استعملت الكلمتان في القرآن للدلالة على التنزيل الحكيم، أما ابن العربي فيستعملهما هنا بمعنى التفرقة و الجمع، كما لا يفهم الصوفية عادة من مقامي التفرقة (أو الفرق) و الجمع - بل بمعنى أن الفرقان هو الدعوة إلى تنزيه اللَّه تعالى دون تشبيهه، و أن القرآن هو الدعوة إلى الجمع بين التنزيه و التشبيه.
فمن يدعو إلى تنزيه اللَّه- كما فعل نوح- و لا يلتفت إلى التشبيه، كان فرقانياً.
و من يدعو إلى تنزيهه و تشبيهه معاً- كما فعل محمد- كان قرآنياً.
و لا أظن أن ابن العربي استعمل كلمة القرآن بهذا المعنى لأن المنزَّل عليه القرآن جمع في دعوته بين التنزيه و التشبيه، بل وجد أن من معاني «قرأ» الجمع و الضم فاستعمل كلمة القرآن هذا الاستعمال الغريب.
و يدور هذا الجزء من الفص- من قوله: «لو أن نوحاً عليه السلام جمع لقومه بين الدعوتين» إلى الآخر حول مشكلة التنزيه و التشبيه مستخلصة من الآيات القرآنية الواردة في سورة نوح من الآية 5 - 28، بعد أن يلجأ المؤلف في تفسيرها إلى نوع غريب حقاً من التأويل يشهد له بالعبقرية، و لكنه كان في غنى عنه- هنا و في أي مقام آخر استشهد بالقرآن ليؤيد نظريته في وحدة الوجود- لو أنه فضل الصراحة في القول و جهر به بدلًا من الدوران حول النصوص و تأويلها إلى غير معانيها و تحميلها ما لا تحتمل.
يتمثل لنا نوح في هذه الآيات في صورة الرجل الذي يدعو قومه إلى مطلق التنزيه فيتصامون عنه و لا يعيرونه التفاتاً، لأنها دعوة إلى مستحيل- إلى شي ء مجرد لا يمت لهم بصلة و لا يعرفون عنه شيئاً، بل لا يمكنهم أن يعرفوا عنه شيئاً.
دعاهم إلى «الفرقان» - إلى إله منزَّه مخالف لجميع المحدثات- فلم يفهموا دعوته، و لو دعاهم إلى «القرآن» فجمع في دعوته بين التنزيه و التشبيه، و بيَّن لهم وجهي الحقيقة للبّوا دعوته و فهموا مقصده.
و يلتمس ابن العربي كل سبب ليجعل من الإسلام مذهباً في وحدة الوجود و ينسب إلى نبي الإسلام القول بهذه النظرية.
و هنا موقف من المواقف التي أراد أن يسجل فيها على القرآن و صاحب القرآن الدعوة إلى الحقيقة الواحدة التي هي من وجه منزهة و من وجه مشبهة.
و لكن القرآن و إن قال بالتنزيه و التشبيه، لا يستعملهما في المعنى الذي يقول به أصحاب وحدة الوجود. فقرآن ابن عربي الذي يقابله بالفرقان غير قرآن المسلمين، و إن كان التلاعب بالألفاظ قد يؤدي إلى الخلط بينهما.
يقول: «و لهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى اللَّه عليه و سلم و هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. فليس كمثله شي ء يجمع الأمرين (أي التنزيه و التشبيه) في أمر واحد». و لكن المعنى ليس بخاف الآن بعد الذي ذكرناه.

(6) «دعاهم ليغفر لهم».
(6) معنى الآية دعاهم نوح إلى اللَّه ليغفر اللَّه لهم ذنوبهم. و لكن «يغفر» هنا مأخوذة بمعناها الحرفي من غفر بمعنى ستر. و الستر ضد الكشف و الظهور.
و على ذلك يفهم ابن عربي الآية على معنى أن نوحاً عليه السلام دعا قومه إلى الستر المطلق لا إلى مقام الكشف و الظهور، لأن الحق المنزَّه سترٌ أو غيب محض لا تدركه العقول و لا الأبصار- و لم يَدْعُهُمْ إلى مقام الظهور و هو تجلي الحق في صور الموجودات.
و لذلك كان جوابهم سلسلة من أعمال الستر، فإنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم إلخ، فكانت إجابتهم من مثل دعوته.

(7) «و هو في المحمديين «وَ أَنْفِقُوا ... » إلى قوله: كما قال الترمذي.
(7) الفرق بين قوم نوح و قوم محمد في نظر ابن عربي هو أن النوحيين ادعوا لأنفسهم الحق في المُلك الذي هو العالم و اعتبروا اللَّه وكيلًا عنهم متصرفاً فيهم.
و هذا ما جعل نوحاً يدعوهم إلى التنزيه. لأنهم من العالم و العالم منهم: أما الحق فهو الوكيل المنزه عن شئونهم. أما المحمديون (فيما يزعم ابن العربي) فادعوا أن المُلك للَّه و أن الإنسان خليفة اللَّه على المُلك أو وكيل اللَّه عنه فيه.
و هذا ما دعاهم إلى القول بالتنزيه و التشبيه. أما التنزيه فمن ناحية نسبة الملك إلى اللَّه على الحقيقة، و أما التشبيه فلنسبة الخلافة إلى الإنسان في مُلك اللَّه. قال تعالى «وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».
و إذا عرفنا معنى الخلافة الانسانية في مذهب ابن عربي، أدركنا الإشارة بها إلى التشبيه.
فالإنسان خليفة اللَّه في العالم بمعنى أنه وحده هو الموجود الذي تتجلى فيه صفات اللَّه و أسماؤه في صورة كاملة كما شرحناه في الفص الأول.
أما الإشارة الواردة عن الترمذي فمذكور في الفتوحات المكية أيضاً (ج 2 ص 66) في إجابات ابن عربي عن المائة و الخمسة و الخمسين سؤالًا التي سألها الحكيم محمد بن علي الترمذي المتوفى سنة 285.
و السؤال الخاص بمالك الملك هو السؤال السادس عشر و نصه: «كم مجالس ملك الملك؟»

(8) «فأجابوه مكراً كما دعاهم».
(8) معنى هذه العبارة أن نوحاً لما دعا قومه إلى عبادة اللَّه على سبيل التنزيه قد مكر بهم و خدعهم. و يرى ابن عربي أن كل من يدعو إلى اللَّه على هذا الوجه يمكر بمن يدعوه و يخدعه. و ذلك أن المدعو مهما كانت عقيدته و مهما كان معبوده لا يعبد في الحقيقة إلا اللَّه، لأنه لا يعبد إلا مجلى من مجالي الحق في الوجود.
فدعوته إلى اللَّه مكر به، لأنها تحمله على الاعتقاد بأنه يعبد شيئاً آخر سوى اللَّه و ما في الوجود سوى.
أما مكر قوم نوح فظاهر من عبارتهم: «لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً»: لأنهم إن تركوا هذه الآلهة، فقد جهلوا من الحق على قدر ما تركوا. ذلك لأن للحق في كل معبود وجهاً لا يُعبَد المعبود إلا من أجله.
و هنا يفهم ابن عربي نصاً آخر من القرآن على أنه تقرير لوحدة الوجود من حيث صلتها بعبادة اللَّه فيقول في (مذهب) المحمديين: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» أي حكم: بمعنى قدَّر أزلًا أنكم لن تعبدوا إلا إياه، لا بمعنى أمر لا تعبدوا سواه.
يدل على ذلك قوله في العبارة التالية «فالعالِم يعلم من عُبِدَ، و في أي صورة ظهر حتى عُبِدَ».

(9) «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا».
(9) هنا خلط عجيب بين الآيات القرآنية و تخريج أعجب. يقول المؤلف: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ» لأنفسهم المصطفين الذين أوتوا الكتاب- أول الثلاثة».
أخذ الظالمين في قوله: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» (سورة نوح آية 25) بمعنى الظالمين في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» (سورة فاطر آية 29).
و لذلك وصفهم بأنهم أول الثلاثة الذين أورثهم اللَّه الكتاب و اصطفاهم من بين عباده.
فهم ليسوا ظالمين على الإطلاق فتحقق عليهم الدعوة بالضلال، و لكنهم ظالمون لأنفسهم، لأنهم حرموا نفوسهم متع الحياة و زهدوا في الدنيا و ما فيها و وصلوا إلى مقام الفناء في اللَّه.
و جعلهم أول الثلاثة المصطفين لأن الذي وصل إلى مقام الفناء في الذات و اتصف بجميع صفات الكمالات أفضل من المقتصد و هو المعتدل الذي يلزم طريق التوسط في الأمور، و من السابق بالخيرات.
هذا هو المعنى الذي أراد ابن عربي أن يفهمه من كلمة «الظالمين» الواردة في الآية. أما كلمة الضلال، ففهمها على أن المراد بها «الحيرة»، و الحيرة التي هي نوع خاص، هي حيرة الصوفي يرى الحق في كل شي ء، و يرى الواحد كثيراً، و الكثير واحداً، و الأول آخراً و الآخر أولًا، و الظاهر باطناً و الباطن ظاهراً إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة التي توقع في الحيرة.
و لكنها ليست حيرة الارتباك و قصور الفهم، بل حيرة النفس الهائمة على وجهها الدائبة الحركة في دائرة الوجود. من أي نقطة بدأت حركتها على محيط الدائرة وصلت إلى «الحق» الذي هو مركزها.
و لذلك يقول ابن عربي: «فالحائر له الدور و الحركة الدورية حول القطب»، و ليس القطب سوى اللَّه.
أما تسمية هذه الحيرة بالحيرة المحمدية فلسببين:
الأول ما ذكرناه من أن ابن عربي يعتبر القول بالتنزيه و التشبيه بالمعنى الذي يفهمه منهما في مذهبه في وحدة الوجود عقيدة محمدية.
و الثاني استناداً إلى الحديث الذي أورده الصوفية من أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم قال: «رب زدني فيك تحيراً».
ظهر إذن أن الحيرة حيرتان :
حيرة الجهل التي تورث الارتباك و الألم و تولد اليأس و هي حيرة الفلاسفة الذين يعتمدون في فهم الوجود على العقل وحده.
و إليهم أشار ابن العربي بقوله: أصحاب الطريق المستطيل أي غير الدائري. و لم يستعمل كلمة المستقيم بدلًا من المستطيل لاحتمال أن يفهم من كلمة المستقيم معنى الصواب.
و الحيرة الأخرى حيرة العارف باللَّه- و هي التي طلب النبي الزيادة منها، لأن العارف بالحق، المشاهد لتجليه في مرآة الوجود، يفيض قلبه نوراً إذ تنعكس على صفحته تلك التحليات و يستولي عليه نوع من الحيرة، و لكنها حيرة العجب و الدهشة، و حيرة السعادة العظمى، و حيرة الوصول إلى المأمول لا حيرة الحرمان لعل لحظة من لحظات تلك الحيرة هي التي أنطقت الحسين بن منصور الحلاج حينما قال شطحته المشهورة: «أنا الحق! فإنني ما زلت أبداً بالحق حقاً».

(10) «قال نوح رب ما قال إلهي ... ثبوت التلوين».
(10) الربوبية صفة للَّه من حيث كونه رباً يُدعى و يستعان به و يتوكل عليه، و من حيث أفعاله و آثاره في الإنسان و في العالم برمته.
و الألوهية صفة للَّه من حيث كونه إلهاً يعبد و يقدس و يجل و يكرم و يخشى إلخ.
و أخص صفات الربوبية أن الرب مسئول و المربوب سائل، و أخص صفات الألوهية أن الإله معبود و المألوه عابد.
و لهذا جاءت الشريعة في العبادة باسم اللَّه و في السؤال باسم الرب.
فيقول المصلي:
«اللَّه أكبر» «سبحان اللَّه» «لا إله إلا اللَّه».
و يقول في الدعاء: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ» «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» إلخ.
هذا هو الاصطلاح العام، أما اصطلاح ابن عربي الخاص فالرب هو الحق في صفة من صفاته. و لهذا يطلق على الأسماء الإلهية اسم الأرباب.
أما اللَّه فاسم يطلق على الذات العلية متصفة بجميع الصفات.
و على هذا التعريف يفرق بين الربوبية و الألوهية فيقول إن الألوهية دائمة التلوين- أي دائمة التغير لأن اللَّه دائم التجلي في الصور. أما الربوبية التي لكل اسم من الأسماء الإلهية فثابتة له لا تتغير.
و لهذا وجب علينا في السؤال أن ندعو اللَّه باسم خاص يتصل بقضاء حاجاتنا.
فيجب على المريض مثلًا أن يدعوه باسم الشافي، و على المذنب أن يدعوه باسم العفوّ أو الغفور، و على المحتاج أن يدعوه باسم المعطي و هكذا.
«فثبوت التلوين» إذن من صفات اللَّه الرب، لا من صفات اللَّه إطلاقاً. و المراد بالتلوين هنا الحال.
و هذا الجُزء من الفص رمزي إلى أقصى حد. و قد أشار المؤلف إلى بعض معاني ألفاظه، و بيّن أنه يستعملها في غير ما وضعت له عادة، و لكن المعنى الإجمالي لا يزال غامضاً.
لذلك أردنا تلخيصه ليعطي الصورة المرادة منه.
كان قوم نوح عبدة أوثان، فدعاهم إلى عبادة إله واحد منزه عن صفات المحدثات. و لكنهم أعرضوا عن دعوته لأنهم كانوا محجوبين عن الحقيقة المطلقة- اللَّه- بمعبوداتهم التي لم تكن في واقع الأمر سوى مجالي أسماء اللَّه.
فدعا عليهم نوح بالهلاك و الدمار بقوله: «لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً». و معنى هذا في أسلوب المؤلف الرمزي أنه دعا اللَّه أن يحرر هؤلاء القوم من قيود الوثنية التي تحصر «الحق» في هذا المجلى أو ذلك «و أن يمن عليهم بشهوده في كل مجلى معبود أو غير معبود. فكأنه دعا عليهم بالفناء الصوفي- لا بالدمار و الهلاك.
دعا عليهم بفناء الحجب لتنكشف لهم الحقيقة في إطلاقها. و قال: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ» أي إن تتركهم و شأنهم أوقعوا الحيرة في قلوب الناس- و هي الحيرة المحمدية التي أشرنا إليها- بأن يدلوهم على ما في نشأتهم من عبودية و ربوبية، و ما فيها من خَلْقية و حقية. و هذه هي الحيرة التي
ينشدها كل صوفي يدين بوحدة الوجود. و هؤلاء الذين يوقعون الناس في الحيرة لا يلدون «إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً». و الفاجر من فجر بمعنى خرج و ظهر- أي الذي يظهر أسرار الربوبية بأن يظهر في مجاليها.

و الكافر من كفر بمعنى ستر و أخفى:أي الذي يستر بصورته الخارجية ما استتر فيها من الذات الإلهية. و الواقع أنه ليس في الوجود إلا فاجر و كافر بهذا المعنى!
«وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً». سبق أن ذكرنا أن «الظالمين» فهمت على أن المراد بها الظالمون لأنفسهم (راجع هامش 9) و نذكر هنا أنها مشتقة من الظلام.
و الظلام أو العماء اسم لعالم الغيب: و الغيب المطلق هو اللَّه. فقوله لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكاً أو فناء و هذا دعاء لهم لا عليهم.

(11) «و من أراد أن يقف على أسرار نوح ... »
(11) هذه العبارة تشير إلى أن ابن عربي يؤمن بنظرية أرواح الكواكب، و أن لكل كوكب روحاً خاصاً به و علماً لا يشاركه فيه غيره. و لقد كان فلك الشمس دائماً منبع الأسرار يمد بها روح من اتصل بروحه من الكائنات الأرضية.
و قد ذكر المؤلف هذه المسألة في كتابه المعروف باسم التنزلات الموصلية، و أشار إلى المعارف و الأسرار التي استمدها نوح من روح فلك الشمس و هي التي يسميه «يوح».
يوجد كتاب التنزلات مخطوطاً بدار الكتب المصرية رقم 340 مجاميع.
.

4N9Quurkpb0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!