موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تعليقات أبو العلا عفيفي
على فصوص الحكم

تأليف: د. أبو العلا عفيفي

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية

[نسخة أخرى فيها المتن مع التعليقات والمقدمات]
  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية


23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص الثالث والعشرون حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
(1) حكمة إحسانية في كلمة لقمانية «الحكمة الإحسانية».
(1) موضوع هذا الفص «الإحسان» و هو في اللغة فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير، بالمال أو بالقول أو العمل.
و في الشرع أن تتوجه إلى الله في عبادتك بكليتك و تتمثله في محرابك كما ورد في الحديث المشهور عند ما سئل النبي عن الإحسان ما هو فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه».
وهو في عرف أصحاب وحدة الوجود شهود الحق في جميع المراتب الوجودية، والتحقق من أنه متجل في كل شيء.
و هذا الأخير هو المعنى الذي يدور عليه هذا الفص و الذي يستخلصه المؤلف من الآيات الواردة في حق لقمان في قوله تعالى: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ...
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يات بها الله إن الله لطيف خبير».
فلقمان في هذا الفص لسان من ألسنة وحدة الوجود التي يتخذها ابن العربي مترجمة عن مذهبه.
أما نسبة الفص إليه فلشهرته بالحكمة و شهادة الله له بذلك. و الحكمة وضع الأشياء في موضعها و معرفة الأشياء بحقائقها، وهي عند الصوفية المعرفة الذوقية بحقيقة الوجود (راجع الفص الأول، التعليق الأول)، وعند ابن العربي هي المعرفة الذوقية لوحدة الوجود.
و من هنا تظهر الصلة بين الحكمة و الإحسان و السبب الذي من أجله نسب الحكمة الإحسانية إلى لقمان.
(2) «إذا شاء الإله يريد رزقا» (الأبيات).
(2) المشيئة و الإرادة لفظان يستعملان في اللغة على سبيل الترادف، و يستعملان بمعنيين مختلفين في اصطلاح ابن العربي و الحسين بن منصور الحلاج من قبله. فهما من ناحية أنهما صفتان للذات الإلهية متحدتان- كما أن الأسماء الإلهية الكثيرة واحدة العين من حيث دلالتها على مسمى واحد هو الحق- و لكنهما مختلفتان من حيث إن المشيئة مرادفة للعناية الإلهية أو للأمر الإلهي التكويني الذي يتعين به كل شيء على نحو ما هو عليه، في حين أن الإرادة صفة يتعين بها وجود شيء من الأشياء أو عدمه بعد إيجاده.
و هذا معنى قول المؤلف «يريد زيادة و يريد نقصا»: أي يريد تحقق موجود من الموجودات، و هو المشار إليه بالزيادة، و عدم تحقق موجود آخر و هو المشار إليه بالنقص.
و لكن الكل خاضع للمشيئة التي تقضي بأنه سيكون هنالك زيادة أو نقص، وجود أو عدم وجود، طاعة أو معصية. فالمشيئة إذن في مذهب ابن العربي الجبري أشبه شيء بالقانون العام للوجود، أو بمجموعة قوانين الوجود لأنها تتعلق بماهيات الأشياء- و الأشياء أعم من الموجودات لأنها تشمل الموجودات و المعدومات: أي الأشياء التي قد تتحقق بالفعل و التي ل تتحقق أصلا- فتعينها على النحو الذي هي عليه.
و لذلك يسميها ابن العربي أحيانا بالوجود (الفتوحات ج 4 ص 55)، و بعرش الذات، متبعا في ذلك أبا طالب المكي (الفتوحات ج 2 ص 51 ج 3 ص 62 ج 4 ص 55).
فوجود الأشياء على النحو الذي توجد عليه، أو عدم وجودها إطلاقا، يتعلق بالمشيئة. و لكن وجود شيء من الأشياء في العالم الخارجي أو انعدام وجوده بعد أن يوجد، متعلق بالارادة.
هذا هو الفرق بين الاثنين كما يفهمه جامي (شرح الفصوص ج 2 ص 287، 288) و هو رأي يتفق مع الروح العامة لمذهب ابن العربي كما نجده في الفصوص و الفتوحات.
و لكن القاشاني (شرح الفصوص 374) و الجرجاني (تعريفات ص 147) يذهبان إلى أن المشيئة هي التي تتعلق بإيجاد الأشياء في العالم الخارجي و بانعدامها بعد وجودها، في أن الإرادة تتعلق بالإيجاد وحده. و يؤيدان مذهبهما بأن هذا هو الاصطلاح الذي جرى عليه القرآن في استعمال الكلمتين. يقول القاشاني: «و الفرق بين المشيئة و الإرادة أن المشيئة عين الذات، و قد تكون مع إرادة و بدونها. و الإرادة من الصفات الموجبة للاسم المريد.
فالمشيئة أعم من الإرادة: فقد تتعلق بها و تنقبض بها كمشيئة الكراهة: أي بالإيجاد و الاعدام.
و لما كانت الإرادة من الحقائق الأسمائية، فلا تقتضي إلا الوجود فتتعلق بالإيجاد لا غير».
و يقول الجرجاني «مشيئة الله عبارة عن تجلي الذات و العناية السابقة لإيجاد المعدوم أو إعدام الموجود. و إرادته عبارة عن تجليه لإيجاد المعدوم.
فالمشيئة أعم من وجه من الإرادة. و من تتبع مواضع استعمالات المشيئة و الإرادة في القرآن يعلم ذلك، و إن كان بحسب اللغة يستعمل كل منهما مقام الآخر».
و الإرادة خاضعة للمشيئة لأنها صفة من الصفات الإلهية أو شيء من الأشياء التي يعينها قانون الوجود العام.
و هذا هو معنى قوله: مشيئة إرادته فقولوا بها قد شاءها فهي المشاء
أما كلمة مشاء الواردة مرة في البيت الثالث و مرتين في البيت الرابع، فقد قرئت بفتح الميم و بضمها.
و يقول جامي (ص 287) إنه بضم الميم في موضعها الأول و الثاني حسب النسخة المقروءة على المؤلف، و بفتح الميم في موضعها الثالث.
و لكنها إذا قرئت بالضم كانت اسم مفعول من الثلاثي على صيغة المزيد و هذا خلاف القياس.
و أما الرزق الذي أشار إليه في البيتين الأولين فرمز لما يقوم كلا من الذات الإلهية و العالم و يظهر كل منهما بمظهره الخاص به. فالعالم من ناحية غذاء للذات الإلهية لأن به تظهر هذه الذات في صور الوجود الخارجي و تظهر فيها كمالاتها.
و الذات الإلهية من ناحية أخرى غذاء للعالم لأنها هي الجوهر المقوم لصور الوجود و لا وجود لصورة من غير جوهر يقومها، كما لا وجود لجسم من غير غذاء يقومه.
(3) «و الحكمة قد تكون متلفظا بها و مسكوتا عنها».
(3) قسم الحكمة قسمين: حكمة متلفظ بها كالأحكام الشرعية، و حكمة مسكوت عنها كالأسرار الإلهية المستورة على غير أهلها.
والأولى يخاطب بها العوام،
والثانية قصر على الخواص.
ومن هذا الباب بعينه تسربت إلى الإسلام البدع والشناعات وجميع التأويلات التي لا يقرها الدين في قليل و لا كثير، تارة تحت ستار الكشف والذوق، وطورا تحت عنوان «علم الخواص» أو «علم الباطن» أو «المضمون به على غير أهله» و نحو ذلك.
و نحن هنا بإزاء مثال من أمثلة هذا الضرب العجيب من التأويل يوضح به ابن العربي الفرق بين نوعي الحكمة.
قال لقمان لابنه: «يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يات بها الله».
فيفهم ابن العربي في هذا النص معنيين يدلان على حكمتين.
أم الأول، و هو ما يدل عليه ظاهر النص، فهو أن لقمان جعل الله هو الآتي بحبة الخردل مهما يكن موضعها في السموات أو في الأرض، دالا بذلك على إحاطة علم الله و قدرته، و أنه لا يوجد موجود في السموات أو في الأرض مهما كان صغيرا إل و يعلمه الله. هذه هي الحكمة المتلفظ بها.
وأم الحكمة المسكوت عنه فهي أن لقمان لم يصرح بالمؤتى إليه، ولم يقل لابنه إن الله يأتي بها إليك أو إلى فلان أو فلان، بل أرسل الإتيان عاما و لم يقصره على فرد بعينه.
و في هذا تنبيه على أن م في السموات والأرض هو الحق لا غيره:
أي فيه تنبيه على أن م في السموات (وهو ما في العالم العلوي من الحقائق الروحانية)
وما في الأرض (وهو ما في العالم السفلي من الحقائق الكونية والآثار المادية على اختلاف مراتبها) كل ذلك معلوم للحق، بل إنه ليس شيئا سوى الحق.
فالحكمة الظاهرة في الآية على هذا التأويل هي أن الحق هو الآتي بالوجود المرموز إليه بحبة الخردل،
والحكمة الباطنة هي أنه عين ذلك الوجود، أي عين كل معلوم، وأنه يأتي به إلى كل شيء في السموات و الأرض، ل إلى شيء دون شيء.
ومعنى إتيانه بالوجود إلى الأشياء ظهوره فيها في جميع مراتبها ودرجاته
وفي هذا إشارة إلى معنى قوله تعالى «و هو الله في السماوات و في الأرض».
(4) «إن الحق عين كل معلوم لأن المعلوم أعم من الشيء، فهو أنكر النكرات».
(4) ذكرنا في التعليق السابق أنه قرر أن الحق عين كل معلوم، و لم يشأ أن يقول عين كل شيء، لأن المعلوم أعم من الشيء إذا قصدنا بالشيء الموجود المتحقق بالفعل بحيث يخرج منه الموجود الثابت في العلم غير المتحقق في الخارج.
وبما أن علم الله شامل لجميع الموجودات، سواء ما يتحقق منها في الخارج وما لم يتحقق مما له ثبوت في العلم فقط، قال إن «المعلوم» أعم من «الشيء» وأدخل في المعلوم المعدومات التي لها الثبوت دون الوجود الخارجي.
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن الشيء مساو للمعلوم، فأدخلوا الأعيان الثابتة في الأشياء مع أنها لا وجود لها إلا في العلم الإلهي، واستشهدوا بقوله تعالى: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون».
فقد أطلق الله تعالى على العين اسم الشيء قبل كونها وتحققها في الخارج.
أما قوله «فهو أنكر النكرات» فيصح أن يكون الضمير فيه عائداً على «المعلوم» كما يقول جامي (ج 2 ص 290) لأنه يعم الموجودات و المعدومات أي يعم الموجودات العينية والعلمية من الممكنات و الممتنعات، والشيء مختص بالوجود العيني وحده.
ويصح أن يكون عائداً على الحق سبحانه كما يقول القيصري (ص 245) بمعنى أن الحق لما كان عين كل معلوم، سواء كان موجوداً في العين أم لم يكن، والمعلوم أعم من الشيء، والشيء أنكر من كل نكرة، لزم أن الحق أنكر النكرات لأنه لا يعلم حقيقته إلا هو.
والحق الذي هو أنكر النكرات بهذا المعنى هو الذات الإلهية المطلقة عن كل التعينات، المنزهة عن جميع الصفات و الأسماء.
وإلا فالحق الظاهر بصور الوجود المتصف بجميع صفاتها، أعرف المعارف.
وإذا كان الحق عين كل معلوم سواء كان المعلوم أعم من الشيء أم مساوياً له وكان عالماً بكل معلوم في السموات وفي الأرض، لزم أن العالِمَ و العلم والمعلوم حقيقة واحدة لا فرق بينه إلا بالاعتبار.
(5) «فقال إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ... إلى قوله فقال خبيراً».
(5) فسر في هذه الفقرة قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» * تفسيراً جريئاً صريحاً في دلالته على وحدة الوجود،
فقال إن لطف اللَّه مشتق من اللطافة التي هي مقابل الكثافة.
ويظهر لطفه تعالى في أنه الجوهر الساري في خفاء في الوجود بأسره.
فهو في كل شيء عين ذلك الشيء مهما أطلق عليه من الأسماء وحُدَّ به من الحدود، فإن الأشياء لا تختلف إل في أمور عرضية أو أمزجة خاصة من أجلها يطلق على كل منها اسم خاص يتميز به عم عداه: فيقال هذا شجر وهذا حجر وهذه سماء والجوهر واحد في الجميع.
وليس هذا الجوهر سوى الذات الإلهية الواحدة.
ومن هذه الناحية شابه مذهب ابن العربي مذهب الأشاعرة الذين قالوا إن العالم كله متماثل بالجوهر مختلف بالأعراض.
وليس ببعيد أن تكون فكرة الأشاعرة إحدى الأفكار التي أوحت إليه بمذهبه في وحدة الوجود مع بعد الفرق بين الفكرتين.
فالأشاعرة يدينون بالخلق و يقررون وجود اللَّه إلى جانب وجود العالم.
أم هو فلا يدين إلا بوجود واحد، إذا نظرت إليه في إطلاقه قلت إنه هو ذلك الجوهر المؤلف منه العالم، و إذا نظرت إليه في تقييده- أو في تعدده و تكثره- قلت إنه هو العالم. و ليس اختلاف جوهر العالم بالأعراض وهو قول الأشاعرة في نظره سوى اختلاف الذات الإلهية وتكثرها بالصور والنسب (قارن الفص الثاني عشر، التعليق الثالث عشر).
أما نعت اللَّه نفسه بأنه «خبير» فمعناه أنه عالم عن اختبار، و العلم عن اختبار هو العلم الذوقي. و العلم الذوقي مقيد بالقوى و حاصل عنها.
و قد أخبر الحق عن نفسه أنه عين قوى العبد في قوله «كنت سمعه و بصره» إلخ. و معنى هذا ان الله خبير أي أنه يعلم علم الأذواق في صورة من له القوى التي يحصل بها هذا العلم.
فهو علم مكتسب للحق، بل هو المشار إليه في قوله تعالى: «ولنبلونكم حتى نعلم».
فجعل نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما. و في هذا تفرقة بين مطلق العلم و العلم المقيد بالقوى الروحانية و الجسمانية الذي هو علم الأذواق.
(6) «لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. و المظلوم المقام حيث نعته بالانقسام».
(6) إنما وصف الشرك بأنه ظلم عظيم لأن الشرك يفترض الانقسام في مقام الألوهية وهو مقام يأبى الانقسام فالمظلوم هو هذا المقام الذي وصف بوصف لا يصدق عليه.
وذلك لأن تعدد الإله عبارة عن أن يشرك معه غيره في الألوهية، وهذا باطل لانتفاء وجود ذلك الغير ولأن عين الوجود واحدة.
فإشراك أي شيء مع ما هو عينه غاية الجهل.
وهو راجع إلى أن من ل معرفة له بحقيقة الوجود ولا باختلاف الصور على العين الواحدة، يتوهم وجود مشاركة في مقام الألوهية حيث لا مشاركة.
فالمشاركة الحقيقية في مقام الألوهية منتفية، والمشركون واهمون في شركهم. هذا من وجه، ومن وجه آخر ل توجد مشاركة حقيقية في أي شيء يتنازعه اثنان، لأن الشيء الواقع فيه الاشتراك إم منقسم بين الشريكين بحيث يكون لكل منهما جزء غير الجزء الذي للآخر، و إذن فلا شركة بينهما على الحقيقة.
وإما أن يكون ما يقع فيه الاشتراك بين الشريكين مشاعا يتوارد عليه الشريكان على سبيل البدل، وذلك باطل أيض لأن وقوع التصريف من أحد الشريكين يزيل الإشاعة ويجعل الأمر المشترك فيه مختص بأحد الشريكين وهو المتصرف.
فلا مشاركة على الحقيقة.
وبعد أن أبطل الشرك والشركة و بيّن أنهما ليس لهما وجود حقيقي، أشار إلى شركة حقة ليست كفراً ول ظلماً: وهي اشتراك الأسماء الإلهية جميعها في العين الواحدة التي هي الذات الإلهية، فقال: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُو الرَّحْمنَ: هذا روح المسألة»:
أي حقيقة مسألة الشركة هي أنها واقعة في الأسماء الإلهية،
فإن اسم اللَّه هو عين اسم الرحمن بل عين كل اسم من الأسماء الإلهية من حيث دلالة هذه الأسماء على الذات الأحدية الجامعة لها.
و إذا كان الشرك بمعناه الأول شرك الأشقياء الجاهلين المحجوبين، فهذا الأخير شرك السعداء العارفين.
.

m8Koh6O4exM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!