موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تعليقات أبو العلا عفيفي
على فصوص الحكم

تأليف: د. أبو العلا عفيفي

فص حكمة وجودية في كلمة داودية

[نسخة أخرى فيها المتن مع التعليقات والمقدمات]
  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة وجودية في كلمة داودية


17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص السابع عشر حكمة وجودية في كلمة داودية
(1) فص الحكمة الوجودية في الكلمة الداودية داود وسليمان.
(1) تعتبر حكمة هذا الفص تتمة لحكمة الفص السابق في كثير من الوجوه.
فالمؤلف لا يزال يتكلم عن نوعي العلم الوهبي والكسبي اللذين ذكرهما هنالك وخصائص كل نوع منهما، وبأي النوعين اختص كل من داود وسليمان، بل بأيهما اختص الأنبياء أصحاب الشرائع والأنبياء الذين لا شرائع لهم: ومن أي النوعين علم الأولياء وعلم المجتهدين في الشرع وما إلى ذلك من المسائل التي مسها مسا خفيفا فيما سبق وشرحها شرحا وافيا مفصلا هنا.
وهو لا يقصد بسليمان وداود إلا مثالين من أمثلة «الإنسان الكامل» ظهر كل منهما بمظهر خاص من مظاهر الألوهية وتحقق به على الوجه الأكمل، شأنهما في ذلك شأن جميع الأنبياء والأولياء الذين يدخلهم ابن العربي تحت اسم «الكلمات الإلهية» أو الكاملين من أفراد بني الإنسان.
وقد ظهر أن أخص الصفات التي ظهر بها سليمان وتجلت فيه على الوجه الأكمل صفتان: القدرة على التسخير والعلم بحقائق الأشياء.
أما داود فقد امتاز بصفة الخلافة وكان له فيها شأن خاص.
وقد أشرنا فيما مضى في مواضع كثيرة- وسنشير في هذا الفص فيما يلي- إلى أن الخلافة عن الله ليست قصرا على داود عليه السلام، فإن كل نبي، بل كل إنسان خليفة لله في أرضه، من حيث أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، وجعله ممثلا له في إظهار جميع كمالاته الوجودية: وهي صفة لا توجد لغير الإنسان من المخلوقات.
وقد كان هذا موضوع بحث الفص الأول أو الحكمة الآدمية حيث المراد بآدم الجنس البشري بأسره.
أما الفرق الحقيقي بين داود وغيره من «الخلفاء» فهو النص الصريح على خلافته وعدم وجود مثل ذلك النص في خلافة الآخرين.
قال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق .. إلخ،
وقال في حق آدم: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» ولم ينص على أنه آدم.
ولكن هذا المعنى العام ليس هو المعنى الذي يقصده ابن العربي بالخلافة هنا، ولهذا يحصر كلامه في دائرة الأنبياء والرسل فيما يتعلق بعلمهم بالشرائع وخلافتهم عن الله في ذلك، أو خلافة بعضهم عن بعض ولذلك يفرق تفرقة هامة بين من يسميهم الخلفاء عن الله ومن يسميهم الخلفاء عن الرسل، ويقصر الوصف الأول على كل نبي لا يأخذ علمه بالشرع إلا عن الله مباشرة، كما يصف بالوصف الثاني كل نبي أو ولي يأخذ علمه بالشرع عن رسول صاحب شريعة.
ويسمي خلافة الصنف الأول خلافة التشريع كما يسمي خلافة الصنف الثاني الخلافة العامة.
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم خليفة عن الله من حيث أخذه شريعته من الله، ولكنه في الوقت نفسه خليفة عن الرسل الذين سبقوه من حيث أخذه عنهم بعض قوانين شرائعهم.
وعيسى عليه السلام سيكون خليفة محمد عند ما ينزل إلى الأرض ويحكم بين الناس بشريعة الإسلام.
وكذلك الحال في كل من أتى بعد محمد وحكم بشرعه.
ولكل من الخلافتين نهاية تنتهي عندها.
فخلافة التشريع قد انتهت بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الخلافة العامة- التي يسميها ابن العربي أحيانا بالنبوة العامة، فتنتهي بخاتم الأولياء.
وهذا معناه أن الخلافة العامة قد أصبحت بعد موت محمد عليه السلام تراثا خاصا يرثه أولياء المسلمين عن نبيهم الذي يتبعونه فيما وضع لهم من قوانين شرعه، والذين «يجتهدون» في مسائل الشرع الأخرى التي لم يأت فيها النبي بتشريع صريح.
هؤلاء هم الورثة الروحيون للنبي، ولهم الآن دون غيرهم الخلافة العامة.
هذا هو السر في أن المؤلف يتعرض في هذا الفص لمسألة «الاجتهاد» ويعتبرها مظهرا خارجيا من مظاهر الخلافة الاسلامية.
(2) «اعلم أنه لما كانت النبوة و الرسالة اختصاصا إلهيا .. ليست جزاء».
(2) المراد بالنبوة هنا نبوة التشريع لا النبوة العامة التي تصحب صفة الولاية عادة.
وقد نص على أن النبوة (بهذا المعنى) والرسالة اختصاصان إلهيان ليس فيهما شيء من الاكتساب، ولكن نظريته العتيقة في الجبر لا تدع مجالا للتفرقة بين صفة أو حال مكتسبة وصفة أخرى أو حال يمنحها الله على سبيل الاختصاص.
وقد صرح بجبريته هذه في مواطن كثيرة من هذا الكتاب لا سيما في الفص الشيثي حيث بين أن أعيان الموجودات لا تعدو في ظهورها ما كانت عليه في حال ثبوتها، وأن كل موجود إنما هو مظهر من مظاهر الحق التي لا تحصى يتجلى فيه الحق بحسب استعداد عين الموجود نفسه.
وإذا كان الأمر كذلك لم يعد فرق بين أن يقال إن الله قد وهب كذا من الأشياء الصفة الفلانية على سبيل المنة، وأن يقال إن عين ذلك الشيء قد اقتضت ظهوره بهذه الصفة أي أنها كانت من كسبه هو.
ويزداد الأمر وضوحا عند ما نحلل تحليلا دقيقا ما أورده ابن العربي نفسه في الفتوحات المكية (ج 1 ص 51).
من تعريف للكسب حيث قال «الكسب تعلق إرادة الممكن بفعل ما دون غيره، فيوجده الاقتدار الإلهي عند هذا التعلق: فسمي ذلك كسبا للممكن».
ولكن ليس هذا كسبا صوريا محضا لأن تعلق إرادة الممكن بأمر دون غيره- اختياره هذا الشيء دون ذلك- راجع إلى ما تعين أزلا في طبيعة ذلك الممكن.
وفي الحق يجب أن نقول إن كل نبي وكل رسول أو ولي إنما كان كذلك من الأزل لأن طبيعة أعيانهم الثابتة قد اقتضت أن يكون كل منهم على ما هو عليه.
ولكن ابن العربي، حرصا على المحافظة على كرامة الرسل، وإبقاء على مركزهم الديني الخطير ومركز الرسالات التي بعثوا بها إلى الناس،
قد وضع حدا فاصلا بين نوعين من النبوة:
النوع الأول وهو ما يسميه نبوة الاختصاص غير المكتسبة،
والنوع الثاني وهو النبوة المكتسبة.
ولا يطلب الله على منح النوع الأول جزاء ولا شكورا، كما أنه لا يمنحه لمن أراد في مقابلة عوض.
أما النوع الثاني وهو النبوة المكتسبة فهو درجة من درجات الروحية التي يصل إليها الإنسان بطرق خاصة، كما يصل الصوفية إلى حالتهم الروحية الخاصة المعروفة بحال الوجد أو الفناء.
(3) الاجتهاد.
(3) تستعمل كلمة الاجتهاد في الفقه الإسلامي للدلالة على المنهج الخاص الذي يتبع في الوصول إلى قانون من قوانين الشرع لم يرد فيه نص صريح في الكتاب أو السنة، وإن كان يجب أن يستند إلى أصل ما من الأصول الواردة في القرآن أو الحديث الصحيح.
وعلى هذا فالاجتهاد نوع واحد لا أنواع كثيرة، وهو حق لكل مسلم يأنس من نفسه القدرة على القيام به وتكون فيه الأهلية لذلك، وإن كان العرف الاسلامي قد جرى باعتبار الأئمة الأربعة هم المجتهدين دون غيرهم.
والحق أنه لا معنى لهذا الحصر ولا لإقفال باب الاجتهاد في وجه أي مسلم بعد الأئمة الأربعة ما دمنا نفهم الاجتهاد على أنه نوع من التفقه في الدين والبحث في أحكام الشرع بحثا يعتمد على طريقة القياس وطرق الاستدلال الفقهية الأخرى، وما دامت الشروط اللازمة له متوافرة في الشخص الذي يقوم به.
ولكن ابن العربي يعطينا في هذا الفص وفي الفص الذي سبقه صورة جديدة عن الاجتهاد مختلفة تماما عما يفهمه فقهاء المسلمين منه.
فالمجتهد في نظره ليس المسلم الذي تفقه في الدين وأعمل عقله في استنباط الأحكام غير المنصوص عليها، بل هو خليفة الرسول، أو هو "الإمام".
ويظهر أن استعمال كلمة «أمام» هذا الاستعمال الخاص راجع إلى تأثر نظرية ابن العربي بأفكار الشيعة في الإمام المعصوم." .
الذي أخذ علمه بالشرع من نفس المنبع الروحي الذي أخذ منه الرسول علمه:
وهو بهذا المعنى وارث الرسول بل مشارك له في رسالته، وله القدرة على أن يغير ما شاء من قوانين الشرع التي وصل إليها غيره من المجتهدين كما سيحدث عند ما ينزل عيسى عليه السلام إلى هذه الأرض ويحكم فيها بشرع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرد الإسلام إلى سيرته الأولى، وينقض بعض أحكام المجتهدين من المسلمين لا سيما ما حدث فيها خلاف حول نص خاص من نصوص الدين. بل إن لهذا الخليفة الإمام الحق في أن يرفض التسليم بصحة أي حديث نبوي اتخذه غيره أساسا لاجتهاده في مسألة من المسائل ثم كشف لهذا الإمام عن خطأ هذا الاجتهاد.

وعلى هذا فللاجتهاد نوعان عند ابن العربي: الأول اجتهاد الأولياء (وهم الأئمة الخلفاء الذين أشرنا إليهم) وهو حكمهم في مسألة من مسائل الشرع بما يطابق ما ورد في شريعة الرسول- أو يطابق حكم الله في هذه المسألة لو أن الله تعالى قد تولاها بنفسه.
ولهؤلاء الأولياء نفس المرتبة الروحانية التي للرسل، وعلمهم بالشرع المحمدي مستمد من نفس المصدر الذي استمد منه محمد عليه السلام علمه بشرعه، لأنهم يأخذون هذا العلم عن الله مباشرة، ويترجمون هذا العلم إلى الناس.
فهم ألسنة الحق بين الخلق، وهم الكاملون من الناس الذين لم يزل الله يلقي كلامه إلى قلوبهم: «فإن كلام الله ينزل على قلوب أولياء الله تلاوة فينظر الولي ما تلي عليه مثل ما ينظر النبي فيما أنزل عليه فيعلم ما أريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما أنزل عليه فيحكم بحسب ما يقتضيه الأمر».
وهذا معناه أن النبوة العامة لم تنقطع بموت النبي محمد عليه السلام وإن كانت الرسالة قد انقطعت.
والنوع الثانيمن الاجتهاد هو اجتهاد أرباب النظر الذين يعتمدون على العقل والاستدلال دون الذوق والكشف: إن صح أي إن طابق ما ورد في الشرع فبمحض المصادفة، وإن أخطأ فلا سبيل لمعرفة صاحبه بخطئه ولا لمعرفة غيره ممن يتخذون العقل عمادا لهم في اجتهادهم بمثل هذا الخطأ.
وإنما يعرفه الولي الذي تنكشف له أصول الشرع وقوانينه بالإلهام والذوق.
(4) «و أما قوله عليه السلام إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ... »
(4) اختلف الشراح في تفسير هذه الفقرة لصعوبتها ورداءة أسلوبها.
غير أن معناها العام يمكن أن يلخص فيما يأتي:للخلافة نوعان:
1 - خلافة روحية أو باطنة.
2 - و خلافة حكم أو ظاهرة.
و كلا الخلافتين فيه تمثيل لله و نيابة عنه في الأرض، و لا يختلفان إلا في أن الخليفة الباطن يستمد علمه من الله مباشرة، في حين أن الخليفة الظاهر ليس إلا تابعا للرسول يستمد علمه منه.
و الأول هو خليفة الله على الحقيقة.
أما الثاني فهو خليفة الله من حيث هو خليفة رسول الله.
ولا يستحق اسم الخلافة إلا إذا عدل في خلافته.
لم يذكر النبي في الحديث المذكور شيئا عن عدد الخلفاء الباطنيين، فقد يوجد منهم في الزمان الواحد واحد أو أكثر من واحد، ولو أن بعض الشراح مثل القاشاني والقيصري قد قرروا استحالة وجود أكثر من خليفة باطني واحد في أي زمان، وذلك الخليفة هو الذي يسمونه بالقطب.
غير أن الحديث صريح في أنه إذا بويع خليفتان في زمان واحد وجب قتل الآخر منهما فلا بد أن يكون المراد بالخلفاء هنا الخلفاء الظاهريين.
وحكمة القتل في نظر المؤلف ترجع إلى أن مبايعة خليفتين كل منهما ممثل لله في الأرض توهم بوجود إلهين لأن قبول الاثنين على أنهما ممثلان ظاهران لله يتضمن التسليم بوجود إلهين، وهذا مخالف لعقيدة التوحيد الاسلامية، أما الخلفاء الباطنيون فلا يظهرون بين الناس بخلافتهم ولا يعرفون بها ولا بيعة لهم فلا خطر منهم على عقائد الناس.
هذا هو السر في نظر ابن العربي في أن الإسلام يسمح بكل نوع من أنواع الخلاف في الرأي في مسائل الفقه- ما دامت مستندة إلى اجتهاد صحيح- في حين أنه يحارب ما استطاع الخلاف في الرأي فيما يتعلق بالخلافة الظاهرة.
(5) «و لهذا جعلها أبو طالب عرش الذات ... ».
(5) الإشارة هنا إلى المشيئة الإلهية التي بمقتضاها يقع كل ما يقع في الكون من أحداث.
أما أبو طالب فهو محمد بن علي المكي مؤلف قوت القلوب المعروف توفي سنة 386 هـ.
يشير ابن العربي إلى أبي طالب وقولته هذه في غير الفصوص من كتبه: راجع الفتوحات ج 2 ص 51، ج 3 ص 62، ج 4 ص 55.

يسمي أبو طالب المكي المشيئة عرش الذات، ويسميها ابن العربي أحيانا بالوجود (فتوحات ج 4 ص 55 س 6 من أسفل)
وبالحق (الله) ويميزها عن الإرادة الإلهية التي تخرج إلى الوجود بالفعل كل ما هو موجود بالقوة، أما المشيئة فهي القوة الإلهية التي تقضي بأن يكون كل ما في الوجود مما هو بالفعل أو بالقوة على النحو الذي هو عليه.
فهي في الحقيقة عين الله أو هي القوة الخالقة السارية في الوجود بأسره الظاهرة في صور ما لا يحصى عدده من مظاهر الكون.
هي الحقيقة أو الشيء في ذاته أو المطلق في اصطلاح بعض المحدثين مثل شوبنهور.
أما تسميها بعرش الذات فراجعة إلى أنه بواسطتها تظهر الذات الإلهية في صورة العالم الخارجي الذي يطلق عليه الصوفية أحيانا اسم العرش.
أما عن الفرق بين المشيئة والإرادة فراجع مطلع الفص الثالث والعشرين.
(6) «وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه».
(6) يريد بذلك أن المشيئة الإلهية تقضي بوجود أفعال العباد من حيث هي أفعال لا بأن هذه الأفعال تظهر على يد فلان أو فلان من الفاعلين، وإلا استحال على أي إنسان بعينه أن يأتي فعلا غير ما قضت به المشيئة.
فهنا نوع من الجبرية ولكنها جبرية منصبة على المشروط الذي هو الفعل لا على الشرط الذي هو الفاعل.
وليس هناك تناقض بين أن يشاء الله حصول معصية من المعاصي وبين تحريمه ارتكابها، فإن فعل المعصية من حيث هو فعل تقضي به المشيئة الإلهية، وليس لها شأن بتحققه على يد فلان أو فلان من الناس، فإن هذا التحقق يرجع أمره إلى الناس أنفسهم، فإن فعلوا ما يوافق الأمر الإلهي (أمر الشرع) سمي فعلهم طاعة، وإن فعلوا ما يخالف ذلك الأمر سمي فعلهم معصية.
والفعل في كلتا الحالتين موافق تمام الموافقة للأمر التكويني الذي به تظهر الأشياء في وجودها على نحو ما كانت عليه في ثبوتها في العلم القديم. راجع التعليق التاسع في الفص الثامن.
(7) «ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون».
(7) لا يعتبر الفعل محمودا أو مذموما إلا في نظر الشرع لأنه إما أن يوافق أو يخالف الأوامر الشرعية التي أتى بها دين من الأديان.
أما في نظر الله أو في نظر المشيئة الإلهية التي لها أمر التكوين، فالأفعال لا محمودة و لا مذمومة، و لكنها حتمية الوقوع لأنها صادرة عن المشيئة الإلهية القديمة الخاضعة بدورها لطبيعة الأشياء ذاتها فالجبرية التي يقول بها ابن العربي ليست راجعة إلى عامل خارج عن طبيعة الأشياء بل مصدرها في النهاية طبائع الأشياء ذاتها. راجع الفص الثامن.
أما مشيئة الله تعالى حدوث الأفعال التي توافق أوامر الشرع وحدوث الأخرى التي تخالفها، فلإظهار أثر صفات الجلال والجمال في صور خارجية.
فإن الطاعة وما يتبعها أثر ومظهر لصفات الجمال، والمعصية وما يتبعها أثر ومظهر لصفات الجلال.
ويحاول ابن العربي أن يحمل الإنسان جزءا من تبعة أعماله في وسط هذه الجبرية الصارخة التي يقول بها.
فإنه يرى أن الطاعة والمعصية يصدران عن طبيعة الإنسان نفسه.
فإن الإنسان الذي يطيع الأمر الإلهي أحيانا ويعصيه أحيانا أخرى يطيع في الوقت نفسه دائما طبيعته الخاصة التي تخضع لقانون الوجود العام.
وذا القانون هو قانون المشيئة الإلهية. فمن حيث خضوع الإنسان في أفعاله لطبيعة ذاته يجعله ابن العربي مسئولا عن خيرها وشرها و إن كان في الوقت نفسه يسلب هذه الطبيعة كل قوة عند ما يخضعها لقانون المشيئة الإلهية.
(8) «فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها».
(8) من الواضح أن المراد بالرحمة هنا هو منح الوجود للموجودات لا الرحمة بمعناها الديني المعروف.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب، وبهذا المعنى وسعت رحمة الله كل شيء وتقدمت على كل شيء حتى على الغضب الإلهي الذي هو الحرمان من الوجود.
فإذا رحم الله شيئا بهذا المعنى أوجده في الصورة التي تقتضيها طبيعة الشيء ذاته.
وهذا معنى قوله إن حكم الرحمة في المرحوم يكون لها بحسب ما تعطيه حال المرحوم نفسه.
وليست الرحمة الإلهية قاصرة على إيجاد الأشياء، أي أعيان الموجودات، بل تشمل الأفعال الانسانية أيضا.
قارن الفص السادس عشر، التعليق الثالث.
(9) «فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا».
(9) سبق أن ذكرنا أن كلمة فهم ترادف في اصطلاح ابن العربي كلمة الذوق أو الكشف الصوفي. قارن الفص 16 تعليق 19.
وهو يرى أن الفهم وحده هو الوسيلة التي يعرف بها الإنسان كيف وسعت الرحمة الإلهية كل شيء، وكيف كانت الغاية التي يتجه إليها كل شيء، فإن غاية كل موجود هي أنه يوجد، والرحمة الإلهية هي الموصلة إلى ذلك الوجود.
(10) «فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك .. فهذا روح تليين الحديد».
(10) في هذه الفقرة موازنة بين الحماية من الحديد بالحديد، و الاستعاذة من الله بالله.
وفي كلتا الحالتين يشير ابن العربي إلى مغزى فلسفي له خطره في نظريته العامة وهو فكرة الوحدة في الكثرة أو ذاتية المتغايرين. فالحديد الذي تصنع منه الدروع الواقية هو نفس الحديد الذي تصنع منه السيوف والرماح، وإن اختلفت صوره، فالذي بحمى من الحديد هو الحديد نفسه.
والله الرحمن الرحيم هو هو الله الموصوف بأنه المنتقم الجبار، وإن اختلفت عليه الأسماء والصور، فالله المستعاذ به في الحديث الشريف هو هو الله المستعاذ منه، وكما أن الحديد يفل الحديد ويحمى منه، كذلك تمحو صفة الرحمة صفة الغضب والانتقام ونحوهما.
هذا هو المغزى الفلسفي الذي يفهمه ابن العربي من تليين الحديد.
.

YsddzTmlby4

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!