موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تعليقات أبو العلا عفيفي
على فصوص الحكم

تأليف: د. أبو العلا عفيفي

فص حكمة أحدية في كلمة هودية

[نسخة أخرى فيها المتن مع التعليقات والمقدمات]
  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة أحدية في كلمة هودية


10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي مع تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(1) «أحديَّة الصراط المستقيم».
(1) شرحنا من قبل في مناسبات عدة بعض نواحي «الأحدية»: فتكلمنا عن أحدية الذات الإلهية المنزهة عن الوصف المجردة عن جميع النسب و الإضافات، التي لا يرقى إليها عقل و لا يحيط بها علم.
و تكلمنا عن أحدية الأسماء الإلهية التي وصفناها بأنها أحدية الكثرة من حيث إن الأسماء الإلهية دلالات مختلفة على ذات واحدة، و مجالٍ متعددة في عين واحدة هي عين الحق.
و لنا أن نسمي هذه الأحدية أيضاً أحدية الاثنينية لأنها مقام الجمع بين الحق و الخلق: اللَّه و العالم أو الذات الإلهية و الأسماء.
و هنا نجد نوعاً ثالثاً من الأحدية يتحدث عنه ابن العربي و هو أحدية الأفعال التي يشير إليها في فاتحة هذا الفص باسم الصراط المستقيم و في فاتحة الكتاب (الفصوص) باسم الطريق الأمم.
و معنى الصراط المستقيم- أو الطريق الأمم- الطريق الذي يسير فيه الكون بأسره و تلتقي عنده جميع الطرق مهما تشعبت و اختلفت و افترقت.
و هو الطريق الذي خطته يد القدر من الأزل: لا يعتريه تغيير و لا تبديل، و لا يحيد عنه موجود أياً كان.
و لنا أن ننظر إليه من نواح متعددة: فمن ناحية أفعال العباد- بل أفعال الكائنات كلها- هو طريق الجبرية التي يخضع لها كل كائن فيما يصدر عنه من الأفعال و الآثار، فإن جميع ما يظهر في الوجود إنما يخضع لطبيعة الوجود ذاتها.
و هذا معنى أحدية الأفعال لأن الأفعال تظهر بمقتضى قوانين الوجود الحتمية التي هي قوانين الحق.
و هذا الطريق الجبري نفسه هو الطريق الذي يسير فيه العالم كله في نظامه
و تركيبه و حركاته و سكناته و تغيراته، و لكنه ليس طريق الجبرية الميكانيكية أو المادية التي يتكلم عنها بعض المحدثين أو التي تكلم عنها الرواقيون.
و إذا نظرنا إلى الطريق المستقيم هذا من ناحية الدين و المعتقدات وجدناه اسماً آخر لمذهب وحدة الوجود التي تلتقي فيها جميع الأديان و تتلاءم جميع العقائد.
و تظهر الأحدية فيه من ناحية أن المعبود على الإطلاق و في أي صورة عُبِدَ، هو اللَّه لا غيره. هذه هي ناحية الاحدية الملحوظة في هذا الفص و إن كانت النواحي الاخرى لم يغفل ذكرها تماماً.
(2) «و المآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، و هي السابقة».
(2) يَستعمل كلمة الرحمة من الناحية الميتافيزيقية الصرفة بمعنى منح اللَّه الوجود لأي موجود. و لما كان الحق سبحانه هو واهب الوجود للموجودات جميعاً وسعت رحمته كل شيء.
قال تعالى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»: لم يقل كل إنسان فقط و لا كل إنسان خير أو مطيع. فالشرور و المعاصي إذن من رحمة اللَّه لأنها من الموجودات التي وسعتها الرحمة.
و لكننا إذا نظرنا إلى المسألة في دائرة الاحكام الخلقية، كان للرحمة معنى آخر مختلف بعض الشي ء عن المعنى السابق لأنها تصبح مرادفة لكلمة الرضا:
فرحم اللَّه فلاناً بهذا المعنى مرادف لقولنا رضي اللَّه عن فعله و أثابه عليه.
و لكن حتى بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن اللَّه يرضى عن جميع الأفعال خيرها و شرها و أن رحمته وسعت الأفعال كلها:
أولًا: لأن جميع الأفعال تصدر بمقتضى الإرادة الإلهية خاضعة للأمر التكويني- كما قلنا- و إن كانت في الصورة مخالفة للأمر الديني الذي هو الامر التكليفي.
ثانياً: لأن جميع الأفعال خير في ذاتها و لا توصف بالشر إلا بطريق العرض.
و إذا كانت شرية الأفعال عرضية فغضب اللَّه من أجلها عرضي أيضاً (قارن ما قلناه في صدق الوعد لا الوعيد).
أما أسبقية الرحمة فلأن اللَّه تعالى أوجد بها الأشياء في صور أعيانها الثابتة على نحو ما ظهرت عليه في وجودها، و قبل أن يوجد تمييز بين خير و شر أو طاعة و معصية.
(3) «إذا دان لك الخلق فقد دان لك الحق» الأبيات
(3) الحق و الخلق، أو الوحدة و الكثرة- و في الإنسان اللاهوت و الناسوت- وجها الحقيقة الوجودية كما أسلفنا شرحه. فإن خضع جانب الخلق في أي مخلوق لتصرف الإنسان، خضع تبعاً له جانب الحق في ذلك المخلوق، لأن في كل خلق وجهاً من وجوه الحق.
و لكن إذا خضع جانب الحق في أي موجود متعين فليس من الضروري أن يخضع الخلق في جملته لأن الحق المذعن لا ينحصر في الوجه الذي تجلى به لك و أذعن. فليس من الضروري أن تنقاد الخلائق الأخرى لأن تجليات الحق فيهم بحكم مجاليهم. فقد يخالف وجهه الذي تجلى به لك الوجوه التي تجلى بها لهم.
و قد ذهب الجامي (ج 2 ص 64) إلى أن المراد بالحق مرتبة الجمع و المراد بالخلق مرتبة الفرق: أي أننا إذا نظرنا إلى الكثرة (الخلق) لزم أن ننظر إلى الوحدة التي تضمها جميعاً (الحق) و هذه الوحدة هي الذات الإلهية. أما إذا نظرنا إلى الوحدة فقد لا نفكر مطلقاً في الكثرة التي تتجلى فيها.
«فما في الكون موجود تراه ما له نطق» إما أن نفهم هذا بمعنى أن كل موجود ينطق بتسبيح اللَّه و تقديسه من حيث إنه مجلى من مجالي الحق و مظهر من مظاهر كماله كما قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».
أو نفهم النطق بمعنى التفكير و التعقل: أي فليس في الكون إلا ما فيه فكر و عقل مهما اختلفت درجات العقل في الموجودات، و إن كنا لا ندرك عقولا غير العقول الإنسانية، و لا نتصل بها لعدم وجود المناسبة بيننا و بينها. و كلا التفسيرين جائز و له ما يؤيده من كلام المؤلف.
(4) «اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل اللَّه مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة».
(4) المراد بالعلوم الإلهية العلوم التي موضوعها اللَّه و صفاته و أسماؤه. و هي تحتوي العلم بأحكام الأسماء الإلهية و لوازمها و كيفية ظهورها في مظاهر الوجود، كما تحتوي العلم بأعيان الموجودات الثابتة و أعيانها الخارجية من حيث هي مظاهر للحق. على الأقل هذا معنى العلوم الإلهية في عرف أصحاب وحدة الوجود، و لغيرهم أن يفهموها فهماً آخر.
أما المراد بالذوق فهو كما يقول القيصري «ما يجده العالِم على سبيل الوجدان و الكشف لا البرهان و الكسب، و لا على طريق الأخذ بالايمان و التقليد» (مطلع خصوص الكلم: صفحة 193). هو العلم الذي يلقى في القلب إلقاء فيذوق الملقى إليه معانيه و لا يستطيع التعبير عنها و لا وصفها.
و العلم الذوقي و لو أنه من نوع واحد إلا أنه يختلف باختلاف القوى التي يحصل بواسطتها، سواء كانت هذه القوى روحية كقوى النفس أو حسية كالجوارح.
أما حصوله عن طريق الجوارح فكما يدل عليه حديث قرب النوافل الذي يقرر أن الحق يصير سمع العبد و بصره و يده و لسانه.
و يفسره الصوفية بأن العبد في حال الفناء يسمع و يبصر و يبطش بالحق في الحق، و تؤدي إليه كل من هذه الجوارح من المعاني ما يدركه ذوقاً و لا يمكنه الإفصاح عنه.
أما العلوم الذوقية الحاصلة عن طريق القوى النفسية العليا كالقلب و الوهم و الخيال فقد سبقت الإشارة إليها في مناسبات أخرى.
و قوله «ترجع إلى عين واحدة» إما المراد به أن القوى التي تحصل بها العلوم الذوقية ترجع كلها إلى ذات واحدة هي ذات الحق أو ذات العبد على الرغم من اختلافها، أو أن العلوم الذوقية على الرغم من اختلاف أنواعها ترجع إلى أصل واحد لاشتراكها جميعاً في صفات و خصائص معينة. كالماء الذي هو حقيقة واحدة مع أن منه العذب الفرات و الملح الأجاج.
(5) «و هذه الحكمة من علم الأرْجُل».
(5) أي هذه الحكمة الأحدية على نحو ما فسرناها في التعليقات السابقة من علم الأرجل المشار إليه في قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (قرآن س 5 آية 66) .
أي و لو أنهم أقاموا أحكام ما أنزل إليهم من ربهم و عملوا به و تدبروا معانيه و كشفوا حقائقه، لفاضت عليهم العلوم الإلهية من غير كسب و عمل و هو الأكل من فوق، و لفازوا بالعلوم الحاصلة لهم من سلوكهم في طريق الحق و تصفية بواطنهم و هو الأكل من تحت الأرجل بدليل قوله: «فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه و المشي فيه».
و يشرح القاشاني (ص 186) الأكل من فوق و الأكل من تحت الأرجل شرحاً آخر فيفهم الأول بمعنى علم أسرار الفواعل التي هي الأسماء الإلهية، و الثاني بمعنى علم القوابل السفلية التي هي العالم و ما فيه.
و لو عرف الناس أسرار الوجود و أحكامه عن طريق تدبر ما انزل إليهم من ربهم لكشفت لهم الحكمة الاحدية.
(6) «فما مشوا بنفوسهم و إنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب».
(6) عين القرب هي المقام الذي يصل إليه السالك و يتحقق فيه من وحدته الذاتية مع الحق، و هو الغاية التي يتجه إليها جميع الصوفية من القائلين بوحدة الوجود.
و هم لا يسيرون في طريقهم بحكم الاختيار، بل يساقون إليه سوقاً بحكم الجبر المسيطر على كل الوجود في مذهب ابن العربي. فالسالك الواصل إلى هذه الغاية مجبر على وصوله، و السالك الذي حرم الوصول إليها مجبر على الحرمان.
و إلى الصنفين أشار بأهل الجنة و أهل جهنم: إذ الأولون حاصلون في عين القرب من اللَّه، و الآخرون حاصلون في عين البعد عنه.
و ليس للجنة و لا لجهنم معنى عنده إلا ذاك. فإنه يعرف جهنم بأنها البعد الذي يتوهمه الإنسان بينه و بين الحق. و في جهنم عذاب أليم و ذل عظيم هما عذاب الحجاب و ذله، و لكن مآل أهل جهنم إلى النعيم كما قلنا من قبل لأنهم يحصلون بعد فترة من عذاب البعد في عين القرب من اللَّه. قارن الأبيات الواردة في آخر الفص السابع و التعليق الحادي عشر عليها.
(7) «فهو حق مشهود في خلق متوهم».
(7) تحتمل هذه العبارة أحد المعنيين الآتيين: الأول أن العبد أو أي ممكن من الممكنات هو الحق المرئي في الصور، و أن الصور لا وجود لها في ذاتها.
فكل من أثبت لها وجوداً مستقلًا عن وجود الحق فقد وهم. الثاني أن العبد أو أي ممكن من الممكنات هو الحق الذي ينكشف للصوفي في شهوده. أما الصور التي يدركها الحس فهي صور متوهمة لا وجود لها في ذاتها.
و ليس هناك كبير فرق بين المعنيين بدليل أنه يجملهما معاً في قوله بعد ذلك مباشرة «فالخلق معقول و الحق محسوس مشهود عند المؤمنين و أهل الكشف و الوجود» فينكر وجود الخلق إلا في صورة عقلية متوهمة، و يثبت وجود الحق وجوداً محسوساً مشهوداً: أي وجوداً يقربه الحس و الذوق معاً.
و الوجود الوارد في قوله: «أهل الكشف و الوجود» اسم يستعمله الصوفية مرادفاً لكلمة الفناء: أي فناء الصفات البشرية و بقاء الصفات الإلهية: فهو الحال الذي لا يشاهد فيه الصوفي إلا الوجود الحقيقي الذي هو وجود الحق. و ليس الوجد الصوفي إلا مقدمة لحالة الوجود هذه.
راجع القشيري في الرسالة ص 34 و تعريفات الجرجاني ص 171.
( 8 ) «و بقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود و الأيدي و الأرجل و عذبات الأسواط و الأفخاذ»:
( 8 ) تشير العبارة المذكورة إلى قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (س 24 آية 24).
ويجمع معظم شرّاح الفصوص على أن المؤلف يشير هنا إلى نوعين من الحياة: الحياة الفائضة من الحق مباشرة على جميع الممكنات ما وصف منها عادة بالحياة و ما لم يوصف، و الحياة المتعينة في كل كائن على حدة و هي نفسه التي تدبر بدنه و تبدو أنها تختفي بفناء البدن.
وهذه الأخيرة متصلة بالبدن مفتقرة إليه في تدبيرها له، و تفنى من حيث هي مدبّرة له بفنائه.
ولكن الأولى لا تفنى أبداً ولا تنقطع لأنها سارية في جميع الموجودات، موجودة حيثما توجد ذات الحق.
فالذي أفنته الريح من قوم عاد إنما هو حياتهم أو نفوسهم المدبرة لأجسامهم، و لكنهم بقوا بالحياة الأخرى الخاصة بهم الناشئة من تجلي الحق سبحانه عليهم بالاسم الحي الساري في كل شي ء. و هذا معنى قوله: «و بقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق».
و هذه الحياة الخاصة هي التي تنطق بها الجلود و الأيدي و الأرجل إلخ .. يوم القيامة.
أما إذا اعتبرنا هلاك قوم عاد بالريح التي أرسلها اللَّه عليهم رمزاً لفناء الإنسان في اللَّه و تحققه بوحدته الذاتية معه، و إشارة إلى زوال ما يتخيل العبد أنه حجاب حقيقي بينه و بين ربه، فإن «مساكنهم» الواردة في قوله تعالى: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» تصبح أيضاً رمزاً على الصورة الانسانية و ما فيها من جسم و روح لا وجود لهما في ذاتهما.
فلما زالوا من الوجود بقي الحق الذي هو عينهم. و كذلك العارف إذا فني بصورته- أي إذا تحقق أنه لا وجود له في ذاته بقي بالحق.
(9) «و من غيرته «حرم الفواحش»: و ليس الفحش إلا ما ظهر، و أما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له».
(9) يصف الصوفية اللَّه سبحانه بالغيرة على أنحاء شتى: فيرى بعضهم أنه غيور بمعنى أنه لا يحب أن ينكشف السر الذي بينه و بين عبده. و يرى الآخرون أنه غيور يمنع أن يحبَّ أو يعبد، إلى غير ذلك من المعاني.
و يستندون في نسبة هذه الصفة إلى اللَّه حديث يروونه عن النبي و هو قوله عليه السلام: «إن سعداً لغيور و أنا أغير منه و اللَّه أغير منا». و لكن الغيرة التي يتكلم عنها ابن العربي شيء آخر لم يسبق لأحد من الصوفية أن ذكره: فهو في الوقت الذي يستعمل الكلمة فيه في معناها العادي و هو دفع منافسة الغير في أمر محبوب، يقول إنها مرادفة لكلمة الغير أو الغيرية!.
ثم يأتي فيفسر كلمة الفواحش بأنها الأمور التي ظهرت و كان الأوْلى إخفاؤها.
و يقسّم الفواحش قسمين:
ما ظهر منها و هي الأمور التي تدرك بالحس في العالم الخارجي.
و ما بطن- و هو الذات الإلهية.
و فحشها (أي ظهورها) واضح لمن ظهرت له: أي واضح لمن عرف أنها الظاهرة في أعيان الممكنات.
بعد هذه الألاعيب اللفظية التي لا يقره عليها لغة و لا عُرْف، يمهد ابن العربي الطريق لشرح نظريته في وحدة الوجود. فكأنه يريد أن يقول إن الحق غيور لا يريد أن يطلع المحجوبون من غير أهل الكشف على سر قدره و هو ظهوره في أعيان الممكنات، و لذا حرّم الفواحش أي الأمور الظاهرة: أي و لذا حرّم اعتبار الأعيان الظاهرة موجودات لها وجود مستقل عن وجوده. و هذا نوع من الغيرة و الغيرة ساترة للحقيقة لأنها من الغير و الغير أنت أي الوجود الظاهر المعبر عنه بالخلق.
(10) «و ما رأينا قط من عند اللَّه في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيهاً كان أو غير تنزيه».
(10) يرى المتكلمون أن في القرآن و الحديث ما يدل صراحة على تنزيه اللَّه أحياناً، و فيهما ما يشعر بالتشبيه أحياناً أخرى. و لكنهم اختلفوا في معنى التشبيه و كيفيته.
أما ابن العربي فيرى أن كل ما ورد في وصف اللَّه فيه معنى التحديد سواء أريد به التشبيه أو التنزيه. إذ مجرد الوصف تحديد للموصوف.
فوصف اللَّه بأنه كان في عماء ليس فوقه هواء و لا تحته هواء تحديد.
و وصفه بأنه ينزل إلى السماء الدنيا و أنه في السموات و في الأرض و أنه مَعَنَا أينما كنا، كل ذلك تحديد.
بل إن وصفه بأنه ليس كمثله شي ء تحديد لأنه تمييز له عن المحدود، و من تميز عن المحدود فهو محدود بأنه ليس مثل هذا المحدود.
و قد سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا على الفص الثالث أن ابن العربي لا يرضى من معاني التنزيه إلا الإطلاق، و أن هذا الوصف لا يصدق إلا على الذات الإلهية التي لا يمكن وصفها بغير ذلك.
و كأنه خشي بعد أن ذكر أن الحق هو الظاهر في صور الممكنات، المتعين بتعينها، أن يُرَدَّ عليه بالأدلة النقلية التي تُنزه الحق عن صفات الخلق و ترفع عنه صفة التحديد، فأجاب بما أجاب به من أن كل ما ورد في وصف الحق تحديد له.
على أن للتحديد معنى آخر عنده و هو التعريف، و قد أشرنا إليه في التعليق الثاني على الفص الثالث.
و يظهر أنه هو المراد في قوله بعد الذي شرحناه مباشرة «فهو (أي الحق) محدود بحد كل محدود.
فما يحد شي ء إلا و هو حد الحق» أي أننا إذا أردنا وضع تعريف للحق لا للذات المجردة المعراة عن جميع النسب و الإضافات- كان تعريفه مجموع تعريفات الموجودات.
أما الذات الإلهية من حيث هي فغير معروفة و غير قابلة للتعريف.
(11) «فيه منه إن نظر ت بوجه تعوذي»
(11) هذا الوجه هو وجه الأحدية، فإنك إذا افترضت وحدة الوجود و قلت إن العالم ليس إلا صورة الحق المتجلي في أسمائه و صفاته، و إن ما فيه مما يسمى عادة شراً ليس إلا مجلى لبعض أسمائه، و ما فيه مما يسمى خيراً ليس إلا مجلى لأسماء أخرى.
لزم أن تقول إن الاستعاذة بالحق من أي شيء إنما هي به منه، أو استعاذة ببعض أسمائه من أسمائه الأخرى.
و على هذا يفسر قولنا: «أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم» بأن معناه أعوذ باسم اللَّه الهادي من اسمه المضل.
و بهذه الطريقة فسروا قول النبي «أعوذ بك منك»: أي أعوذ برضاك من سخطك أو ما شاكل ذلك.
(12) «و لهذا الكرب تنفس فنسب النَّفَس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق».
(12) النَّفَس هنا عبارة عن الوجود العام المنبسط على أعيان الموجودات، كما أنه يستعمل مرادفاً لكلمة الهيولى الحاملة لصور الوجود و هي الذات الإلهية.
و قد أضيف النفس إلى الاسم الرحمن من قوله عليه السلام: «إني أجد نفس الرحمن من قِبَل اليمن».
و قد ذكرنا أن من معاني الرحمة عند ابن العربي منح الأشياء الوجود و إظهارها بالصور التي تظهر فيها. فبالنفس الرحماني أظهر الحق الوجود- أو ظهر في صوره فنفَّس عن الكرب الذي كان في باطنه لأن التنفس فيه تفريج عن المكروب.
و هذا التشبيه الذي لا يخلو من شناعة في حق الجناب الإلهي يشير إلى حقيقة هامة و هي أن طبيعة الوجود طبيعة خالقة تأبى إلا الظهور و الإعلان عما كمن فيها، و أن خروج ما بالقوة إلى ما بالفعل فيض دائم من وجود الحق إلى وجود الخلق من الوجود الحقيقي إلى الوجود الإضافي. و لو لا هذا الفيض و الظهور لظل الوجود سراً منطوياً على نفسه يضطرب في ذات الحق كما يضطرب النّفَس في ذات المكروب.
و لكلمة النَّفَس المستعملة هنا مغزى آخر يجب أن نشير إليه و هي صلتها بكلمة التكوين «كن» التي هي صورة خارجة من صور النَّفَس. و لكن هذا لازم من لوازم التشبيه الذي استعمله ابن العربي و هو مولع باستقصاء جميع لوازم تشبيهاته.
(13) «و لو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور و لا وصفته بخلع الصور عن نفسه».
(13) أثبت فيما مضى جواز التحديد على الحق بظهوره في صور المحدودات و حدَّه بحدودها، و استدل على قوله هذا ببعض الآيات و الأحاديث التي تشعر بالتشبيه و من ثم بالتحديد.
و قال هنا و لو لا أن التحديد واقع بالفعل في حق اللَّه ما وصفه الرسل بالتحول في الصور.
فقد ورد في حديث عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم أنه قال: «إن الحق يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة فيقول: أنا ربكم الأعلى فيقولون نعوذ باللَّه منك، فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له».
أي إذا كان الحق يظهر يوم القيامة في الصور المحدودة التي تُعْرَف و تُنْكَر فلِمَ لا يظهر في الدنيا بصورة محدودة أيضاً؟
و لكن ابن العربي نفسه لا يفهم من هذا الحديث إلا أن كل عبد يعرف اللَّه في صورة معتقده الخاص و ينكره في صور معتقدات الآخرين، و أن هذا في رأيه عين الحجاب، لأن الذوق و الكشف يؤيدان أن الحق هو الظاهر في صور المعتقدات جميعاً.
و لا أحسبه يرى في وصف الحق بالتجلي في الصور يوم القيامة إلا ضرباً من التمثيل.
و إذا كان الأمر كذلك، و إذا ثبت أن كل صورة من صور الحق في معتقداتنا لا بدّ، و أن ينالها التحديد و التقييد، لأن العقل الانساني لا يدرك إلا المحدد المقيَّد، فكيف يستدل بهذه الحقيقة السيكولوجية على صحة دعوى ميتافيزيقية تقول بأن الحق هو عين ما ظهر في صورة كل محدود و مقيد؟
أما دعوته إلى عدم حصر الحق في صورة معينة من صور المعتقدات فظاهرة في قوله فيما بعد «فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص و تكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها» إلخ إلخ ...
و يشير إلى إله المعتقدات بأنه إله مجعول أي مخلوق في الاعتقاد في قوله «فالإله في الاعتقادات بالجعل».
(14) «فمن عباد اللَّه من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم» ... إلى آخر الفص.
(14) بعد أن شرح اختلاف الناس في اعتقاداتهم في اللَّه و بيّن أن كلًا منهم يراه في الصورة التي يصوّرها له اعتقاده و يقضي بها استعداده، ذكر أن الكل مصيب في رأيه- و إن كانت درجة الإصابة تتسع و تضيق بحسب اتساع الاعتقاد و ضيقه و أن كل مصيب مأجور، و كل مأجور سعيد.
فكأن مآل الناس جميعاً فيما يتعلق بعقائدهم في اللَّه هو السعادة و النعيم في الدار الآخرة، كما سبق أن بيّن أن مآلهم فيما يتعلق بأعمالهم النعيم أيضاً.
و ليست جنة ابن العربي و لا جهنمه إلا الحالة الروحية التي تكون عليها النفس الجزئية بعد مفارقتها البدن و أهم عامل في سعادتها أو شقائها درجة معرفتها باللَّه و بالوحدة الذاتية في الوجود.
فمن عرف هذه الوحدة حق معرفتها و تحقق بها حظي بالسعادة العظمى، و من جهل تلك الوحدة جهل سر الوجود و حقيقته و مصدره و مصيره، و كان حظه الشقاوة و العذاب.
و لكنه عذاب موقوت يرتفع برفع الحجاب أي برفع الجهل. فإذا ما انكشفت الحقيقة، زال معنى جهنم في حق أهلها و حلّ محله النعيم المقيم.
و هو نعيم خاص بهم إما بفقد الألم الذي كانوا يجدونه في حالة جهلهم، أو بشعورهم بنعيم آخر مستقل كنعيم أهل الجنان في الجنان.
قارن التعليقين الثاني و السادس على هذا الفص.
.

f1IdWabpANM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!