موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

وهنا قصائد ترجمان الأشواق دون شرح

 

 


29- القصيدة التاسعة والعشرين وهي ثلاث وعشرون بيتاً من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه:

1

بِأَبِي الْغُصُونُ المَايِسَاتُ عَوَاطِفَ

***

العَاطِفَاتُ عَلَى الْخُدُودِ سَوالِفَ

2

المُرْسِلَاتُ مِنَ الشُّعُورِ غَدَائِراً

***

اللَّيِّنَاتُ مَعَاقِداً وَمَعَاطِفَ

3

السَّاحِبَاتُ مِنَ الدَّلَالِ ذَلَاذِلاً

***

الْلَّابِسَاتُ مِنَ الْجَمَالِ مَطَارِفَ

4

الْبَاخِلَاتُ بُحُسْنِهِنَّ صِيَانَة،

***

الْوَاهِبَاتُ مَتَالِداً وَمَطَارِفَ

5

المُونِقَاتُ مَضَاحِكاً وَمَبَاسِماً،

***

الطَّيِّبَاتُ مُقَبَّلاً وَمَرَاشِفَ

6

النَّاعِمَاتُ مُجَرَّداً، وَالْكَاعِبَاتُ

***

مُنَهَّداً، وَالمُهْدِيَاتُ ظَرَائِفَ

7

الْخَالِبَاتُ بِكُلِّ سِحْرٍ مُعْجِبٍ

***

عِنْدَ الْحَدِيثِ مَسَامِعاً وَلَطَائِفَ

8

السَّاتِرَاتُ مِنَ الْحَيَاءِ مَحَاسِناً،

***

تَسْبِي بِهَا الْقَلْبَ التَّقِيَّ الْخَائِفَ

9

المُبْدِيَاتُ مِنَ الثُّغُورِ لَآلِئاً

***

تَشْفِي بِرِيقَتِهَا ضَعِيفاً تَالِفَ

10

الرَّامِيَاتُ مِنَ الْعُيُونِ رَوَاشِقاً

***

قَلْباً خَبِيراً بِالْحُرُوبِ مُثَاقِفَ

11

المُطْلِعَاتُ مِنَ الْجُيُوبِ أَهِلَّة

***

لَا يَلْفِيَنَّ مَعَ التَّمَامِ كَوَاسِفَ

12

المُنْشِيَاتُ مِنَ الدُّمُوعِ سَحَائِباً،

***

المُسْمِعَاتُ مِنَ الزَّفِيرِ قَوَاصِفَ

13

يَاصَاحِبَيَّ بِمُهْجَتِي خَمْصَانَة

***

أَهْدَتْ إِلَيَّ أَيَادِياً وَعَوَارِفَ

14

نَظمَتْ نِظَامَ الشَّمْلِ، فَهِيِ نِظَامُنَا،

***

عَرَبِيَّة عَجْمَاءُ تُلْهِي الْعَارِفَ

15

مَهْمَا رَنَتْ سَلَّتْ عَلَيْكَ صَوَارِمَا،

***

وَيُرِيكَ مَبْسِمُهَا بَرِيقاً خَاطِفَ

16

يَا صَاحِبَيَّ قِفَا بِأَكْنَافِ الْحِمَى

***

مِنْ حَاجِرٍ يَا صَاحِبَيَّ: قِفَا قِفَ

17

حَتَّى أُسَائِلَ أَيْنَ سَارَتْ عِيسُهُمْ،

***

فَقَدِ اقْتَحَمْتُ مَعَاطِباً وَمَتَالِفَ

18

وَمَعَالِماً وَمَجَاهِلاً بِشَمْلَة،

***

تَشْكُو الْوَجَى وَسَبَاسِباً وَتَنَايِفَ

19

مَطْوِيّة الْأَقْرَابِ أَذْهَبَ سَيْرُهَ

***

بحَثِيثِهِ مِنْهَا قُوًى وَسَدَايِفَ

20

حَتَّى وَقَفْتُ بِهَا بِرَمْلَة حَاجِرٍ،

***

فَرَأَيْتُ نُوقاً بِالْأُثَيلِ خَوَالِفَ

21

يَقْتَادُهَا قَمَرٌ عَلَيْهِ مَهَابَة

***

فَطَوَيْتُ مِنْ حَذَرٍ عَلَيْهِ شَرَاسِفَ

22

قَمَرٌ تَعَرَّضَ فِي الطَّوَافِ فَلَمْ أَكُنْ

***

بِسِوَاهُ عِنْدَ طَوَافِهِ بِيَ طَائِفَ

23

يَمْحُو بِفَضْلِ بُرْدِهِ آثَارَهُ

***

فَتَحَارُ لَوْ كُنْتَ الدَّلِيلَ الْقَائِفَ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

بِأَبِي الْغُصُونُ المَايِسَاتُ عَوَاطِفَ

***

العَاطِفَاتُ عَلَى الْخُدُودِ سَوالِفَ

2

المُرْسِلَاتُ مِنَ الشُّعُورِ غَدَائِراً

***

اللَّيِّنَاتُ مَعَاقِداً وَمَعَاطِفَ

قوله "بأبي": إشارة إلى العقل الأول، يفدي به النعوت التي تحمل المعارف الإلهية للعارفين بطريق العطف الإلهي للعطف المقدس، كم قال تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَة﴾ [الحاقة: 23]. وقوله "العاطفات على الخدود": صفة وجهية، "سوالفا": رتبة إلهية لها في القلوب لدْغٌ وحُرْقة توجب اصطلام العبد على نفسه، هيماناً وعشقاً، وأقام هذه الصفات في الكناية عنها مقام المخدَّرَات المقصورات، فأخذ يستعير لها مما هو حقيقة لمن كنّى بهنَّ عن ذلك، فقال أيض "المرسِلات": اسم فاعل، و"الغدائر": اسم مفعول، هي المرسَلات من الشعور؛ كنّى به عن العلوم الخفية والأسرار المكتمنة التي لا يُستدلُّ عليها إلا بضربٍ من التلويحات البعيدة، لنزاهتها، وجعلها "غدائر" (أي فروعاً) على تقاسيم هذه المعارف على مراتبها، إذ ليست على مرتبة واحدة.

وقوله "اللّينات معاقدا ومعاطفا"؛ يقول: إنها وإن كانت صعبة المرام من حيث نزاهتها، إذا رُمناها نحن، من حيث نحن، فهي سهلة التناول لكرمها وعطفها ونزوله إلينا جوداً ورحمة، كما قال تعالى: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَة مِنْ عِنْدِنَ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ [الكهف: 65]، فلم يذكر له تعمُّل في تحصيل شيء من ذلك، وجعل الكلَّ منه امتناناً وفضلا. و"المعاقد" المذكورة هنا: تداخل صفات الخلق وصفات الحقّ، وانعقاد الصفتين به، كما وردت الأخبار في ذلك، ولكنها عند هؤلاء المعتنى بهم، الذين كشف الله عن بصائرهم غطاءَ العمى، وسهَّل عليهم معرفة ذلك بالكشف الإلهي، فَلَانَ ما قوي من ذلك عندهم فعرفوه.

شرح البيتين الثالث والرابع:

3

السَّاحِبَاتُ مِنَ الدَّلَالِ ذَلَاذِلاً

***

الْلَّابِسَاتُ مِنَ الْجَمَالِ مَطَارِفَ

4

الْبَاخِلَاتُ بُحُسْنِهِنَّ صِيَانَة،

***

الْوَاهِبَاتُ مَتَالِداً وَمَطَارِفَ

لَمَّا أقيمت هذه المعارف للعارف من حضرة المثال، كما أقيم العلمفي صورة اللبن [مسلم: 2391]، نعتها بما تنعت به تلك الصورة المتجلى فيها، فقال: إنها تجرُّ أذيالها تيهاً ونخوة وعجباً، لعلو منصبها ومكانتها، و"المطارف": الأكسية المخططة، فقال: إنها لبستضروباً متنوعة من الزينة والجمال، وذلك لتنوعات وجوهها ومتعلقاتها.

وقوله: "الباخلات بحسنهنّ صيانة "، الإشارة بذلك إلى الخبر «لَا تُعْطُو الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا» [انظر شرح البيت الثالث من القصيدة الثانية]. فهي لا تستحق أن تكون عند من لا يعرف قدرها، لأنها علوم مشاهدة لا علوم نظر واستدلال، والمشاهدة لا تُعطى لكل أحد.

وقوله: "الواهبات متالدا ومطارفا"، وذلك لَمَّا عزَّ شهودها على أكثر العقلاء، وعلى كلِّ من تقيَّدَ في تحصيل العلوم بطريق النظر، الذي هو الفكر الصحيح والاستدلال، وهبتهم من خلف الحجاب الأقدس معرفة مأخذ الأدلة بطريق الفكر الصحيح والاستدلال، لأهل هذا الشأن خاصة، فعرفوا منها على قدر ما أعطاهم نظرهم الذي وهبتهم، فكنّى عنها بالمتالد والمطارف، وهو المالالمحدَث والقديم، فعبَّر بالقديم عن كلِّ عالِم علم أمراً ما بدليلٍ نصَبَه غيره، فاستفاده هذا المتأخر عنه، والحديث هو الذي امتنَّ الله عليه في علم ما بنصب دليل لاح له من فكره الصحيح، لم يستفده من غيره في أصل وضعه؛ فعن هذا كنّى بالمتالد والمطارف.

شرح البيتين الخامس والسادس:

ثم قال:

5

المُونِقَاتُ مَضَاحِكاً وَمَبَاسِماً،

***

الطَّيِّبَاتُ مُقَبَّلاً وَمَرَاشِفَ

6

النَّاعِمَاتُ مُجَرَّداً، وَالْكَاعِبَاتُ

***

مُنَهَّداً، وَالمُهْدِيَاتُ ظَرَائِفَ

وصفها بحسن "المبسم" عند التبسم، والضحكُ إشارة إلى الفهوانية (لعلاقته بالفم)، وإلى حصولها عنده من مقام الأنس والجمال والمودة، كما كانت الإشارة من الحقِّ تعالى لمحمَّد عليه السلام في نزول جبريل عليه السلام في صورة دحية [مسلم: 167]، وكان أجمل أهل زمانه، فإنه يشير إلى أنه، أي: محمد، ليس بيني وبينك إلا صورة الجمال، تأنيساً له وتعريفاً بما له عنده من جمال دحية أنه لما ورد المدينة ما رأته حامل إلا وضعت حملها من حينها من هيبة جماله فناءً فيه وانخلاعاً.

وقوله "الطيبات مقبلا ومراشفا": هو ما كان منه له من القبول عند الخطاب، و"المراشف": هو ما ارتشفه منها عند المشاهدة، والمشاهدة والخطاب لا يجتمعان عندنا، لأنّ كلَّ حقيقة منها تفنيه(فيستغرق بها) عن غيرها، فلهذا لا يجتمعان أبداً.

وقوله "الناعمات مجردا": يشير إلى ما اكتسبه من العلوم من حاسة اللمس في حضرة المثال والتخيُّل، إذا وقع التجلي المعنوي فيها.

وقوله "الكاعبات منهَّدا"، وهو التي صار نهدها كالكعب، وهي أحسن ما تكون فيه الجارية: يشير إلى أنّ محل حمل المعارف تجلى له ليشاهد كيف يحمل المعارف الإلهية فيه، حتى تؤديه المعارف المعتبرة به في أوان تربيتهالمقدرة له عند الله تعالى أخذه من هذا الوجه، وهو مشهد عزيز، ينظر إليه قوله تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الكهف: 51] وهو صورة تعلق القدرة بالمقدور حالة الإيجاد، والمانع من ذلك معلوم عندنا لا يسع هذا الشرح بسطه لمنازعة الخصوم فيه.

وقوله "المهديات طرائفا": هو ما ألقت عليه من معرفة نَصْبِ الأدلة على م يحاوله من تحصيل العلوم، لا غير.

شرح البيتين السابع والثامن:

ثم قال:

7

الْخَالِبَاتُ بِكُلِّ سِحْرٍ مُعْجِبٍ

***

عِنْدَ الْحَدِيثِ مَسَامِعاً وَلَطَائِفَ

8

السَّاتِرَاتُ مِنَ الْحَيَاءِ مَحَاسِناً،

***

تَسْبِي بِهَا الْقَلْبَ التَّقِيَّ الْخَائِفَ

يقول: إنها تخطف العقول عن أصحابها عند إيرادها عليه ما تسمعه من الخطاب العجيب والكلام الحسن، فلا تتركله سمعاً يسمع به بعد هذا كوناً من الأكوان، من حيث كونُهُ، لكن (يسمعه) من حيث م هي فيه، فبهذا يسمع حديثَ الأكوان، كما ورد فيمن أحبه الحق تعالى في قرب النوافل فيكون الحق تعالى: «سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ وَيَدَهُ»، والخبر المشهور في الصحيح [انظر الحديث القدسي في القصيدة الثانية: البيت الثالث عشر]. و"اللطائف": جمع لطيفة، وأراد بها نفس السامع، فإنه من اصطلاح القوم في العبارة عنها أن يقولوا: اللطيفة الإنسانية، يريدون بها السرَّ الذي به كان الإنسان إنساناً.

وقوله "الساترات من الحياء محاسنا": إشارة إلى الحجب التي بينك وبين هذه العلوم والتجليات، و"الحياء" المنسوب إليها إنما هو حياء من الله تعالى؛ يستحي أن يتجلى للقلوب المشغولة بغير الله في غالب حالاتها وتشتغل بالله في بعض حالاتها، فهم في هذا المقام بمنزلة المؤمنين في حالة قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُو بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ [التوبة: 102]. فلهذ قرن الحياء هنا بالستر، قال: وهذه المحاسن، إذا تجلت لقلب التقي الخائف، أخذته عن نفسه، وهيمته فيها، كما ورد أيضا في الجانب الإلهي عنه تعالى أنه قال: «(مَ وَسِعَنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي) وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِن التَّقِي» [القصيدة الثانية: البيت السابع]، فلا بد من تطهير القلب وعمارته بهذه الصفات، وحين تحصل له هذه السعة يحصل له شهود هذه المحاسن.

شرح البيتين التاسع والعاشر:

ثم قال:

9

المُبْدِيَاتُ مِنَ الثُّغُورِ لَآلِئاً

***

تَشْفِي بِرِيقَتِهَا ضَعِيفاً تَالِفَ

10

الرَّامِيَاتُ مِنَ الْعُيُونِ رَوَاشِقاً

***

قَلْباً خَبِيراً بِالْحُرُوبِ مُثَاقِفَ

يقول: أظهروا من الحضرة الفهوانية جواهر العلوم الكبريائية، فإنّ "اللؤلؤ" هو الجوهر الكبير، والمرجان ما صغر منه. وقوله: "تشفي بريقتها"، يقول: إذا حصلت له هذه المعارف أذهبت علل الجهالات والشبه والشكوك. وقوله: "الراميات من العيون"، يريد الملاحظة العلوية من هذه العلوم، و"الرواشق": إصابتهاقلوب من رميت عليه وقصدت به، لأنها لا تخطئ.

وقوله "قلبا خبيرا بالحروب مثاقفا": يريد خبرته بطريق التباس العيون في حضرة التمثيل، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ﴾ [هود: 7]، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ البَارِحَةَ الْحَقَّ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ"، قال له: «وَأَيْنَ كَانَ عَرْشُهُ؟» قال: "عَلَى البْحَرِ"، قال: «ذٰلِكَ عَرْشُ إِبْلِيس!» [كنز العمال: 39715] وانظر معرفة إبليس: ما أبدى له عرشه إلاّ على الماء، ليلبس عليه ويعتقد فيه أنه ربه تعالى، فيسمع منه ما يلقى إليه ليزيله عن الإيمان، فلهذا توصف قلوب العارفين بالخبرة وبالثِّقاف (وهي المبارزة) والحذر من هذا الالتباس، كما هي الشُّبَه - في حق النظار - التي تأتيهم في صورة الأدلَّة، وليست بأدلة.

شرح البيتين الحادي عشر والثاني عشر:

ثم قال:

11

المُطْلِعَاتُ مِنَ الْجُيُوبِ أَهِلَّة

***

لَا يَلْفِيَنَّ مَعَ التَّمَامِ كَوَاسِفَ

12

المُنْشِيَاتُ مِنَ الدُّمُوعِ سَحَائِباً،

***

المُسْمِعَاتُ مِنَ الزَّفِيرِ قَوَاصِفَ

كنّى بـ"الجيوب" عن الحجب والملابس التي هي النعوت العلوية المقدسة، وقوله: "أهلة "؛ يشير إلى تجلي أفقي مطلوب. وقوله: "لا يعتري تلك الأهلة كسوف"، أي لم يبق لها شهوة طبيعية تحكم عليها فتحجبها عن المناظر العلى، لأنّ سبب كسوف الهلال إنما هو ظلُّ الأرض في ترتيب نشأة العالم، وإن كان الكسوف سببه التجلي الإلهي فيخشع فيظهر ذلك الخشوع عليه فيسمى كسوفا. ذكر النسائي في مسنده أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكسوف فقال: «مَا تَجَلَّى اللهُ لِشَيْءٍ إِلَّا خَشَعَ لَهُ» [كنز العمال: 23512]، فنبَّه بالمعنى الحاصل في القمر والشمس عند هذا السبب الوضعي في سباحتهما في الأفلاك، كما قدرها سبحانه، كما قال (تعالى): ﴿وَاَلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ﴾ [يس: 39]، فل يتناقض ما يُعطيه الخبر وما ذكره علماء هذا الشأن من الأسباب في ذلك.

وقوله: "المنشئات من الدموع سحائبا"، البيت بكماله، يشير إلى أثرها في المكلَّفين بها، المهيَّمين فيها، المحبِّين لها، إلى أنّ هذه حالاتهم.

شرح البيتين الثالث عشر والرابع عشر:

ثم قال:

13

يَاصَاحِبَيَّ بِمُهْجَتِي خَمْصَانَة

***

أَهْدَتْ إِلَيَّ أَيَادِياً وَعَوَارِفَ

14

نَظمَتْ نِظَامَ الشَّمْلِ، فَهِيِ نِظَامُنَا،

***

عَرَبِيَّة عَجْمَاءُ تُلْهِي الْعَارِفَ

يقول هذا العارف: إنّ هذه المعارف التي وصفناها، هيمتني منها معرفة واحدة لطيفة برزخية، ولهذا جعلها خمصانة (أي جوفها ضامر من قلة الطعام)؛ يقول: إنه أوقفني حصولها على معرفة ذاتي بذاتي، لربي ولذاتي، فجمعتني عليّ، وجمعتني بربي، فانتظم شملي بنظمها، فهي عربية بي مني، وعجماءَ فيما عرَّفَتني من ربي، لأنّ المعرفة الإلهية إجمالية، لا يمكن فيها تفصيل، إلا بتشبيه، والتشبيه مُحال؛ فالتفصيل محال، فكما لا تشبيه، كذلك لا تفصيل، وإذا انتفى التفصيل فلا إجمال، وإنم يُذكر الإجمال توسعة في الخطاب لفهم السامع، إذ العبارات المصطلح بها تضيق عن تفهيم ما لا يُدرك بها إلا ذوقا ومشاهدة.

وقوله: "تلهي العارفا"، يعني عن معرفته، وعن نفسه، بمشاهدته، لأن العلم بالشيء وشهوده لا يجتمعان.

شرح البيتين الخامس عشر والسادس عشر:

ثم قال:

15

مَهْمَا رَنَتْ سَلَّتْ عَلَيْكَ صَوَارِمَا،

***

وَيُرِيكَ مَبْسِمُهَا بَرِيقاً خَاطِفَ

16

يَا صَاحِبَيَّ قِفَا بِأَكْنَافِ الْحِمَى

***

مِنْ حَاجِرٍ يَا صَاحِبَيَّ: قِفَا قِفَ

يقول: هذه الحقيقة إذا نظرت إليك أثَّرت فيك تأثير الصوارم في الجسوم، يريد ما تعطيه من آثار المجاهدة والمشاق، و"يريك مبسمها بريقا خاطفا"، يقول: يعطيك مشهداً ذاتياً في حال جمالٍ وأنس، لكنه يخطفك عنك، فلا تبقى معك.

وقوله: "يا صاحبِيَّ"، يخاطب عقله وإيمانه، يقول لهما: قفا بأكناف نواحي الحمى، حجاب العزة الأحمى، من حاجر، أي أنه موضع التحجير عن أن يدركه كون، فالكل من ورائه واقف، وعنده منتهى علوم العالمين، ومعرفة العارفين.

شرح الأبيات من السابع عشر إلى التاسع عشر:

17

حَتَّى أُسَائِلَ أَيْنَ سَارَتْ عِيسُهُمْ،

***

فَقَدِ اقْتَحَمْتُ مَعَاطِباً وَمَتَالِفَ

18

وَمَعَالِماً وَمَجَاهِلاً بِشَمْلَة،

***

تَشْكُو الْوَجَى وَسَبَاسِباً وَتَنَايِفَ

19

مَطْوِيّة الْأَقْرَابِ أَذْهَبَ سَيْرُهَ

***

بحَثِيثِهِ مِنْهَا قُوًى وَسَدَايِفَ

أراد بـ"العيس": الهمم، التي هي مطايا العلوم، واللطائف الإنسانية، لأنّ بها يبلغ المقصود، كما قال العارف: والهمم للوصول، "فقد اقتحمت": أي ولجت الغمرات وارتكبت المهالك التي تورث العطب والتلف؛ فمنها ما كان معلوم لنا أنه مُتلف وحُبُّنا جسَّرناعلى اقتحامه، مع المعرفة، لأنّ المحبة تورث الشجاعة بلا شك ولا ريب، ومنها ما كان مجهولا لنا حتى حصلنا فيه فأتلفنا؛ أي: رميت نفسي من حبها فيما أعلم وفيما لا أعلم، يقول: إنه لم يفكر في عاقبة، ولا خير في حبٍّ يُدبَّر بالعقل.

وقوله: "بشملة"، كناية عن همة معينة منه لأمر مخصوص وقع له التعشق به.

وقوله: "تشكو الوجى"، يعني الحفا، أي أنها لما حصلت بالوادي المقدس قيل لها: "اخلع نعليك" (إشارة للآية [طه: 12])، وكانت محمدية، فشكت الحفا لمناسبة الطهارة في النعل، و"الوادي" و"السباسب" و"التنايف" حالات التنزيه من جانب الحق والتجريد من جانبه، ووصفها بأنها "مطوية الأقراب" لأنه أقوى في سيرها وأنهض لها، فاستعار.

وقوله: "أذهب سرعة سيرها منها قوى"؛ أي كان لهذه الهمة وجوه كثيرة تتعلق بها، فلما علقها بهذه الوحدانية حجبها عما كان لها من القوى في تعلقها بالكثرة، فكأنه أضعفها، كما يضعف البعير إذا ذهبت سدايفه، التي هي شحمه وقوته.

شرح البيت العشرين:

ثم قال:

20

حَتَّى وَقَفْتُ بِهَا بِرَمْلَة حَاجِرٍ،

***

فَرَأَيْتُ نُوقاً بِالْأُثَيلِ خَوَالِفَ

يقول: وصلت إلى حالة ميَّزَت لي بين الأشياء وفَصَلَتْه لي، ومنعتني أن أنظر إلى غير ما جلَّته لي، فكان الذي رأيت: "نوقا بالأُثَيل خوالفا"، أي علوم أصلية تُنتج علوما أخر لمن قامت به، فإنّ الخوالف النوق العِظام التي لها أتباع.

شرح البيت الحادي والعشرين:

ثم قال:

21

يَقْتَادُهَا قَمَرٌ عَلَيْهِ مَهَابَة

***

فَطَوَيْتُ مِنْ حَذَرٍ عَلَيْهِ شَرَاسِفَ

يقول: "يقتاد هذه الخوالف قمر" (أي) حالة شهودية في صورة قمرية في مقام الإجلال والهيبة، و"الشراسف": أطراف الأضلاع حيث انحناؤه، ولهذا قال: "فطويت من حذر عليه"، لئلا يذهب عني فأفقِدَه، "شراسفا"، كما تحنو على محبوبك إذا حصل عندك، ولَمَّا كان القلب محلَّ السعة الربانية ونَعَت الحقُّ سبحانه نفسه أنه في قلوب عباده [القصيدة الثانية: البيت السابع]، على الوجه الذي يليق بهذا القدر من غير تشبيه ولا حصر ولا تكييف ولا تقييد، ثم شبَّهَ تجليه بالقمر (في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ)» [مسلم: 183]).

وقوله: "يقتادها"، من قوله تعالى: ﴿مَا مِنْ دَابَّة إِلاّ هو آخِذٌ بِناصِيَتِهَا﴾ [هود: 56].

شرح البيتين الثاني والعشرين والثالث والعشرين:

ثم قال:

22

قَمَرٌ تَعَرَّضَ فِي الطَّوَافِ فَلَمْ أَكُنْ

***

بِسِوَاهُ عِنْدَ طَوَافِهِ بِيَ طَائِفَ

23

يَمْحُو بِفَاضِلِ بُرْدِهِ آثَارَهُ

***

فَتَحَارُ لَوْ كُنْتَ الدَّلِيلَ الْقَائِفَ

قوله "قمر تعرَّض في الطواف": صفة إحاطية، كما إحاطة الطائف بالبيت في طوافه، منه بي، ومني به، من حيث نيَّتي، لا من حيث هويَّتِه. وقوله: "يمحو بفاضل بُرده آثاره"، أي هذه الأدلة التي نصبها دليلا عليه محاها بـ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، وبـ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180]، فأوقف العالِم في مقام الجهل والعجز والحيرة، ليعرف العارفون م طُلب منهم من العلم به، وما لا يمكن أن يُعلم منه، فيتأدبون ولا يتجاوزون مقاديرهم، كما قالت اليهود في الخبر النبوي المشهور مِن كون الحقِّ «يَضَعُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبُعٍ وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبُعٍ»، الحديث [مسلم: 2786]، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67].



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!