موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

وهنا قصائد ترجمان الأشواق دون شرح

 

 


26- القصيدة السادسة والعشرين وهي تسعة أبيات من البحر الكامل

وقال رضي الله عنه:

1

بِالْجِزْعِ بَيْنَ الْأَبْرَقَيْنِ المَوْعِدُ

***

فَأَنِخْ رَكَائِبَنَا فَهٰذَا المَوْرِدُ

2

لَا تَطْلُبَنَّ وَلَا تُنَادِي بَعْدَهُ

***

يَا حَاجِرٌ، يَا بَارِقٌ، يَا ثَهْمَدُ

3

وَالْعَبْ كَمَا لَعِبَتْ أَوَانِسُ نُهَّدٌ

***

وَارْتَعْ كَمَا رَتَعَتْ ظِبَاءٌ شُرَّدُ

4

فِي رَوْضَة غَنَّاءَ صَاحَ ذُبَابُهَ

***

فَأَجَابَهُ طَرَباً هُنَاكَ مُغَرِّدُ

5

رَقَّتْ حَوَاشِيهَا وَرَقَّ نَسِيمُهَ

***

فَالْغَيْمُ يَبْرُقُ وَالْغَمَامَة تَرعُدُ

6

وَالْوَدْقُ يَنْزِلُ مِنْ خِلالِ سَحَابِهِ

***

كَدُمُوعِ صَبٍّ لِلْفِرَاقِ تَبَدَّدُ

7

وَاشْرَبْ سُلَافَة خَمْرِهَا بِخِمَارِهَا،

***

وَاطْرَبْ عَلَى غُرُدٍ هُنَالِكَ تُنْشَدُ

8

وَسُلَافَةٌ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أَخْبَرَتْ

***

عَنْ جَنَّة المَأْوَى حَدِيثاً يُسْنَدُ

9

إِنَّ الْحِسَانَ تَفَلْنَهَا مِنْ رِيقِهِ

***

كَالْمِسْكِ جَادَ بِهَا عَلَيْنَا الْخُرَّدُ

شرح البيت الأول:

1

بِالْجِزْعِ بَيْنَ الْأَبْرَقَيْنِ المَوْعِدُ

***

فَأَنِخْ رَكَائِبَنَا فَهٰذَا المَوْرِدُ

لَمَّا كان الجزع منعطف الوادي، أشار به إلى العواطف الإلهية، وجعله بين الأبرقين، وقد ذكرنا أنّ البرق مشهد ذاتي، وثنَّاهللشاهد الذاتي الذي يحصل في نفس المشاهد عند الرؤية، و"الموعد": ما وقع عليه الوعد، كما قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾، وهي جنة الإقامة؛ قصبةالجنة ﴿الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ﴾، مقام اللطف، ﴿عِبَادَهُ﴾، مقام العبودية بإضافة الاختصاص، ﴿بِالْغَيْبِ﴾، قد يريد مقام الإيمانمن حيث الخبر الإلهي على اللسان النبوي. وقد يريد بـ"الغيب" حالة أوان أخذ الميثاق على النفوس، فكان غيباً، أي في عالم الأمر والملكوت، ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم: 61]، حقا صدقا على المعنى.

وقوله: "فأنخ ركائبنا"، إن أراد جنة الحِسِّ والمحسوس، فالركائب هنا هي الهياكل الحاملة للطائف الإنسانية، والمورد هو ما ينزلون عليه من النعيم الدائم الملذوذ للنفوس والأعيُن، وإن أراد جنة المعاني فالركائب هنا مطايا الهمم. وقوله: "أنخ"؛ أي لا تتعدى الهمم ما تعلقت به مطالبها، والمورد عبارة عن بلوغها أمنيتها، وهو سرّ الحياة الدائمة، فإن كان لها أمرٌ فوق هذا؛ فهو خارج عن الموعد من باب المِنَّة والفضل الإلهي الذي لا يدخل تحت حصر ولا حد.

شرح البيت الثاني:

ثم قال:

2

لَا تَطْلُبَنَّ وَلَا تُنَادِي بَعْدَهُ

***

يَا حَاجِرٌ، يَا بَارِقٌ، يَا ثَهْمَدُ

يقول: إذا وصلْتَ إلى هذا المورد - على التفسير الثاني(أي أنَّ المراد جنة المعاني والركائب هي مطايا الهمم) - لا تطلب بعده أمراً آخر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مُنْتًهَى، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ». وأما تخصيص "الحاجر" و"البارق" و"الثهمد"؛ فإنّ المنع (عن النداء) واقع عند بلوغ هذا المورد، والنداءُ بُعد، فكأنه نقيض حاله لو نادى بالحاجر، وكذلك البارق، فإنه في مشهد ذاتي، وكذلك الثهمد، فإنّ البرق متصل به مضاف إليه، كما قال طرفة بن العبد (في معلقته): " لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ" فأراد هنا: "يا برقة ثهمد"، فحذف، والضمير الذي في "بعده" يعود على الوصول كأنه قال: "بعد الوصول"، لا "بعد المورد"، إذ لا بعدية هناك.

شرح البيتين الثالث والرابع:

3

وَالْعَبْ كَمَا لَعِبَتْ أَوَانِسُ نُهَّدٌ

***

وَارْتَعْ كَمَا رَتَعَتْ ظِبَاءٌ شُرَّدُ

4

فِي رَوْضَة غَنَّاءَ صَاحَ ذُبَابُهَ

***

فَأَجَابَهُ طَرَباً هُنَاكَ مُغَرِّدُ

كنّى بـ"الروضة" عن الحضرة الإلهية، بما تحويه من الأسماء المقدسة والنعوت، و"اللعب" تصرُّف حالات متنوعة، وهي انتقالات هذا العبد من اسم إلى اسم، بحالة الأنس والجمال والذوق، ولهذا قال: "الْعبْ" و"ارْتعْ"، وأوقعَ التشبيه بـ"الأوانس" لما ذكرناه، و"النُّهَّد" لأنها محل الرضا، واللَّبَن (الذي في النهد هو) الفطرة التوحيدية التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة منها، كما أمره الحق تعالى،وأشار إلى ميازيب العلوم التوحيدية الفطرية. وأوقع التشبيه أيضا في الذوق بـ"الظباء الشُّرَّد" لبعدها من الأغيار، فتأتي الأماكن التي لم تدنِسها الأقدام، فتطيب مراعيها وتصفو مشاربها، وكأنه دله على علم التنزيه والتقديس، وكنّى بـ"الغنَّاء" عن الفهوانية، و"الذئاب" الأرواح اللطيفة.

وقوله: "فأجابه طربا"، من مقام السرور والابتهاج، و"المغرِّد" النفس الإنسانية من حيث ما لها في تلك الحضرة من الصور، فإنّ للنفس الإنسانية في كلِّ حضرة وفلك ومقام صورة، وقد نبّه على ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره المنسوب إليه.

شرح البيت الخامس:

5

رَقَّتْ حَوَاشِيهَا وَرَقَّ نَسِيمُهَ

***

فَالْغَيْمُ يَبْرُقُ وَالْغَمَامَة تَرعُدُ

يقول: لطفت معاني ما تحمله من الظرَف والأدب، ولطف عالم الأنفاس منها. وقوله: "فالغيم يبرق والغمامة ترعد"، إشارة إلى حالتين: مشاهدة وخطاب؛ وجاء ربك ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210] و«كَانَ اللهُ عَمَاء ما تَحْتَهُ هَواءٌ وما فَوْقَهُ هَواءٌ (وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ)» [كنز العمال: 1185] والحديث مشهور عند العلماء، وفيه روايتان المد (أي: العماء) والقصر (أي: العمى)، واستشهادنا به في هذا المعنى إذا كان بالمد لا غير (وهو: العماء، أي الغمام).

شرح البيت السادس:

6

وَالْوَدْقُ يَنْزِلُ مِنْ خِلالِ سَحَابِهِ

***

كَدُمُوعِ صَبٍّ لِلْفِرَاقِ تَبَدَّدُ

يقول: ونزول المعارف الإلهية من خلال السحاب، يعني أبواب التجلي ودقائقه في المقام الغمامي، ويشبِّهه بدموع الصب، أي تنزل محبة وشوق، تخصيصا له على مقام الخِلَّة والاصطفاء، والتبدُّد المنسوب إليها، أي أنها خارجة عن حكم ما يقتضيه الكسب، فهو فوق الموازين، لأنه تعالى يقول (تعالى): ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَ يَشَاءُ﴾ [الشورى: 27].

شرح البيت السابع:

7

وَاشْرَبْ سُلَافَة خَمْرِهَا بِخِمَارِهَا،

***

وَاطْرَبْ عَلَى غُرُدٍ هُنَالِكَ تُنْشَدُ

قال الله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّة لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: 15]، وصَرْفه إلى المعاني والمعارف التي يكون عنها السرور والابتهاج والفرح، وإزالة الغموم، والتجريد من الكمِّ والكيف والهياكل الظلمانية، والتنزُّهُ عن ملاحظة الأكوان الجسمية والجسمانية مطلوبُ الأفاضل من العلماء الإلهيين، وجعل الخمر سلافة (أي: خالصة)، يقول: ما فيها تعمُّل، ولا درستها أقدام، ولا استخرجها معصار، لكن صدرت عن أصلها بقوة أصلها، فظهرت في عينها لعينها، لم تشهد سوى ذاتها وأصله الصادرة عنه، فهي علوم ربانية ومعارف مقدسة إلهية تورث ما ذكرناه.

و"الغُرُد" الذي ينشد هنالك هو الناطق الذي ينتجه الذكر الجامع، فتسمعه اللطيفة الإنسانية في ذاتها فتلتذ بسماعه، ولا سيما إذا تحمل معارف يخاطبها بها، مثل هذا الخطاب الذي ورد به على هذا الشخص في هذا الحال، بما ذكره في البيتين بعد هذا.

شرح البيتين الثامن والتاسع:

وهما:

8

وَسُلَافَةٌ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أَخْبَرَتْ

***

عَنْ جَنَّة المَأْوَى حَدِيثاً يُسْنَدُ

9

إِنَّ الْحِسَانَ تَفَلْنَهَا مِنْ رِيقِهِ

***

كَالْمِسْكِ جَادَ بِهَا عَلَيْنَا الْخُرَّدُ

هذا ذكر ما جاء به الناطق الغَرِد المنشد في خطابه في نعت هذه العلوم الخمرية، ومرتبتها والتنبيه على أصلها وأصل عطريتها وقدمها، وأنها من جنة المأوى، أي من الحضرة التي تأوي نفوس العارفين في أوان التربية.

وقوله: "إنّ الحسان"، يعني الأسماء الحسنى، "تفلنها"، أي من محل الكلام والفهوانية، و"الألسن" و"الخرَّد" مقام الحياء، و"الخفر" فيه إشارة إلى المشاهدة، ولا سيما وقد تقدم ذكر الحسان، ثم جعلها من باب الجود والمنة، لا من باب الكسب والطلب، فقال: "جاد بها". وقوله: "كالمسك"، يجمع بين الشم والذوق (لأن المسك طيب الريح وطيب الطعم).



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!