موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

وهنا قصائد ترجمان الأشواق دون شرح

 

 


11- القصيدة الحادية عشر وهي ستة عشر بيتاً من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

أَلَا يَا حَمَامَاتِ الْأَرَاكَة وَالْبَانِ

***

تَرَفَّقْنَ لَا تُضْعِفْنَ بِالشَّجْوِ أَشْجَانِي

2

تَرَفَّقْنَ لَا تُظْهِرْنَ بِالنَّوْحِ وَالْبُكَ

***

خَفِيَّ صَبَابَاتِي وَمَكْنُونَ أَحْزَانِي

3

أُطَارِحُهَا عِنْدَ الْأَصِيلِ وَبِالضُّحَى

***

بِحَنَّة مُشْتَاقٍ وَأَنَّة هَيْمَانِ

4

تَنَاوَحَتِ الْأَرْوَاحُ فِي غَيْضَة الْغَضَ

***

فَمَالَتْ بِأَفْنَانٍ عَلَيَّ فَأَفْنَانِي

5

وَجَاءَتْ مِنَ الشَّوْقِ المُبَرِّحِ وَالْجَوَى

***

وَمِنْ طُرَفِ الْبَلْوَى إِليَّ بِأَفْنَانِ

6

فَمَنْ لِي بِجَمْعٍ وَالمُحَصِّب مِنْ مِنىً

***

وَمَنْ لِي بِذاتِ الْأَثْلِ مَنْ لِي بِنَعْمَانِ

7

تَطُوفُ بِقَلْبِيَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ

***

لِوَجْدٍ وَتَبْرِيحٍ وَتَلثُمُ أَرْكَانِي

8

كَمَا طَافَ خَيْرُ الرُّسْلِ بِالْكَعْبَة الَّتِي

***

يَقُولُ دَلِيلُ الْعَقْلِ فِيهَا بِنُقْصَانِ

9

وَقَبَّلَ أَحْجَاراً بِهَا، وَهو نَاطِقٌ

***

وَأَيْنَ مَقَامُ الْبَيْتِ مِنْ قَدْرِ إِنْسَانِ

10

فَكَمْ عَهِدَتْ أَنْ لَا تَحُولَ وَأَقْسَمَتْ

***

وَلَيْسَ لِمَخْضُوبٍ وَفَاءٌ بِأَيْمَانِ

11

وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ ظَبْيٌ مُبَرْقَعٌ

***

يُشِيرُ بِعَنَّابٍ وَيُومِي بِأَجْفَانِ

12

وَمَرْعَاهُ مَا بَيْنَ التَّرَائِبِ وَالْحَشَ

***

وَيَا عَجَباً مِنْ رَوْضَة وَسْطَ نِيرَانِ

13

لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلاً كُلَّ صُورَة

***

فَمَرْعىً لِغِزْلَانٍ وَدَيْرٌ لِرُهْبَانِ

14

وَبَيْتٌ لِأَوْثَانٍ وَكَعْبَة طَائِفٍ،

***

وَأَلْوَاحُ تَوْرَاة وَمُصْحَفُ قُرْآنِ

15

أَدِينُ بِدِينِ الْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ

***

رَكَائِبُهُ فَالدِّينُ دِينِي وَإِيمَانِي

16

لَنَا أُسْوَة فِي بِشْـرِ هِنْدٍ وَأُخْتِهَ

***

وَقَيْسٍ وَلَيْلَى، ثُمَّ مَيٍّ وَغَيْلَانِ

شرح البيت الأول:

1

أَلَا يَا حَمَامَاتِ الْأَرَاكَة وَالْبَانِ

***

تَرَفَّقْنَ لَا تُضْعِفْنَ بِالشَّجْوِ أَشْجَانِي

أراد بـ"الحمامات": واردات التقديس والرضى والنور والتنزيه؛ فالتقديس والرضى للأراكة، لأنه شجر يُستاك به، وهو «مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» [كنز العمال: 26156]، والنور والتنزيه للبان من حيث الدِّهن، وهو من حيث البعد (من بان أي بَعُد)؛ كما قال (الشاعر): "فكانَ البانُ أنْ بانَتْ سُليْمى".

فقال للواردات: رفقا عليّ لا تضعفن، من التضعيف (أي: المضاعفة)، ما تلقين إليّ في خطابكن من ثمرات التعشُّق والمحبة المهلكة للمحبين، أي: خطابكن يشجي ويضاعف شجوي. وقد يكون من الضَّعْف، أي شجوي يَضْعُف لشجوكن، (والاحتمال الأول هو) من باب قوله: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» [البخاري: 7405].

شرح البيت الثاني:

2

تَرَفَّقْنَ لَا تُظْهِرْنَ بِالنَّوْحِ وَالْبُكَ

***

خَفِيَّ صَبَابَاتِي وَمَكْنُونَ أَحْزَانِي

يخاطب الواردات التي ذكرناها يقول: "لا تُظهرن بالنوح"، التي هي المقابلة في الشجون، والبكاء إرسال المدامع لسبق المقدور وعدم تبدله، وقد رأيته في مشهد من المشاهد يبكي على ما سبق في العلم من شقاء الدجال وأبي لهب وأبي جهل، من باب قوله عليه السلام: «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَائِي» [كنز العمال: 1156]، فمن هذا المقام يكون هذا البكاء.

وقوله "خفي صباباتي": ما تنطوي عليه الضلوع من رقَّة الشّوق للمنظر الأجلى، "ومكنون أحزاني" ما تستره من ألم الفقد عند رجوعها إليها.

شرح البيت الثالث:

3

أُطَارِحُهَا عِنْدَ الْأَصِيلِ وَبِالضُّحَى

***

بِحَنَّة مُشْتَاقٍ وَأَنَّة هَيْمَانِ

يقول "أطارحها": أقول مثل ما تقول؛ يشير إلى حالة الصدى الذي هو رد الصوت إليك بما يخرج منك. «قال الله تعالى للنفس أول ما خلقها: "من أنا؟" قالت له: "من أنا؟"، لصفائها، فأسكنها في بحر الجوع أربعة آلاف سنة، فقالت له: "أنت ربي!"».

وقوله: "عند الأصيل وبالضحى"، وهما طرفا النهار، وهو قوله تعالى: ﴿بِالْعَشِيِّ واَلْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: 55]، وقوله (تعالى): ﴿قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها﴾ [طه: 130]؛ فهو المقدِّس نفسه بنفسه، ويظهر الأثر في غيره، فيُنسب إليه (أي إلى المخلوق الفاني بالله) الأمر وهو ليس هناك، لأنه بِهِ يَتَكَلَّمُ وَبِهِ يَسْمَعُ وَبِهِ يُبْصِرُ [انظر الحديث القدسي في القصيدة الثانية: البيت الثالث عشر].

وقوله: "تحية مشتاق وأنَّة هيمان"، من قوله (تعالى): ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، فمن هذا المقام تكون المطارحة بين من ذكرنا، والحنين للاشتياق، وللأنين الهيمان.

شرح البيت الرابع:

4

تَنَاوَحَتِ الْأَرْوَاحُ فِي غَيْضَة الْغَضَ

***

فَمَالَتْ بِأَفْنَانٍ عَلَيَّ فَأَفْنَانِي

يقول: ("تناوحت":) تقابلت "الأرواح"، جمع روح، وإذا أراد جمع ريح فيريد عالَم الأنفاس. وكنّى عن نيران الحب بالغضا (جمع غيضة)، والغيضة شجرة، ووَصَفَه بالميل، فإن لهيب النار، الذي هو المارج، فإنها للنار بمنزلة الأغصان للشجر، فتُميلها الرياح كما تميل الأغصان، فمن هنا أوقع التشبيه لها بالغيضة والأفنان. قال: وكان ميل هذه الأفنان الشوقية اللَّهَبِيَّة لتفنينيعني، حتى يكون هو ولا أنا، غيرة على المحبّ أن يكون له وجود في نفسه لغير محبوبه، فكان كما أراد، فقال: "فأفناني" ميل هذه الأفنان، ووصفها بالمناوحة لكون المحبة تقتضي الجمع بين الضدين.

شرح البيت الخامس:

5

وَجَاءَتْ مِنَ الشَّوْقِ المُبَرِّحِ وَالْجَوَى

***

وَمِنْ طُرَفِ الْبَلْوَى إِليَّ بِأَفْنَانِ

يقول: ساقت معها إليّ فنونا كثيرة "من الشوق المبرِّح"، أي المُظهر لم يكنُّه جِناني من هواه، "والجوى" الذي هو الانفساح في المحبة، لأنه على الحقيقة مأخوذ من الجوّ، "ومن طُرَف": جمع طُرفة، وهي أوائل كل طرفة، وأول كل بلاء أصعبه، فإذا سكنت إليه النفس هان عليها، و"البلوى" من الابتلاء، أي ساقت إليّ أوائله التي هي أصعبها.

شرح البيت السادس:

6

فَمَنْ لِي بِجَمْعٍ وَالمُحَصِّب مِنْ مِنىً

***

وَمَنْ لِي بِذاتِ الْأَثْلِ مَنْ لِي بِنَعْمَانِ

يقول: من لي بالجمع بالأحبة في مقام القربة، وهي المزدلفة، والمحصِّب موضع تحصيب الخواطر المانعة من قبل هذه النية المطلوبة للمحبين. و"من لي بذات الأثل" الذي هو الأصل، فإنّ الأصل في المحبة أن تكون أنت عين محبوبك وتغيب فيه عنك فيكون هو ولا أنت. "من لي بنعمان"، أي بهذا المقام الذي يكون به النعيم الإلهي القدسي.

شرح البيت السابع:

7

تَطُوفُ بِقَلْبِيَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ

***

لِوَجْدٍ وَتَبْرِيحٍ وَتَلثُمُ أَرْكَانِي

أي تتكرر عليه مع الأنَّات، لتقلُّبه هو في الحالات، ولذلك جاءه بالقلب ولم يقل بالنفس ولا بالروح. وقوله: "لوجد وتبريح"، من أجل إلقائها في الوجد به والشوق المزعج إليه. وتلثم أركاني يعني بالأركان الأربعة (التراب والماء والهواء والنار) التي قام عليها هذا الهيكل، وتلثمه، أي تقبله فوق اللثام، يعني الحجاب فإنه ما في قوته مشاهدتها إلا بواسطة، وقد طافت بقلبه فقد غمرت ذاتَ المحب حسًّا ومعنى هذه الحقائق.

البيين الثامن والتاسع (بدون شرح):

8

كَمَا طَافَ خَيْرُ الرُّسْلِ بِالْكَعْبَة الَّتِي

***

يَقُولُ دَلِيلُ الْعَقْلِ فِيهَا بِنُقْصَانِ

9

وَقَبَّلَ أَحْجَاراً بِهَا، وَهو نَاطِقٌ

***

وَأَيْنَ مَقَامُ الْبَيْتِ مِنْ قَدْرِ إِنْسَانِ

(وقد نصَّت المخطوطة الثانية أنَّ:) هذان البيتان استدركهما الشيخ رحمه الله تعالى في هذه القصيدة بعد كمال الكتاب وشرحه، وليس لهما شرح، وهما من الأصل.(وإذ أردنا أن نسير على نسق التفسير الذي يشرحه الشيخ رضي الله عنه هنا، فيكون معنى هذين البيتين هو أنه طالما كان يتحدث بالتواضع عن واردات التقديس والرضى والنور والتنزيه ويقول إنها تطوف بقلبه وتلقي به الوجد والشوق وتقبله من فوق اللثام لعدم قدرته على مشاهدتها من غير واسطة، فكان هذا مثل طواف خير الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكعبة المبنية من الحجارة، فكان صلى الله عليه وسلم يقبل حجارتها الجامدة وهو إنسان ناطق، وقد ورد في الحديث إنَّ حرمة المؤمن أشد عند الله من حرمة الكعبة... فكذلك يقول الشيخ إن هذه الواردات تطوف بقلبه وتلثم أركانه وهي أشد حرمة وأكثر تقديسا. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو علام الغيوب.).

شرح البيت العاشر:

10

فَكَمْ عَهِدَتْ أَنْ لَا تَحُولَ وَأَقْسَمَتْ

***

وَلَيْسَ لِمَخْضُوبٍ وَفَاءٌ بِأَيْمَانِ

يقول: هذه الواردات قد يكون منها ما فيه امتزاج بالمزاج، فكنّى عما فيه منها بالمخضوب، ولهذا وصفها بعدم الوفاء، وتسمى هذه واردات نفسية، وهي التي وردت على النفس حين خاطبها الحق: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172] وأخذ عليه العهد والميثاق، ثم بعد ذلك لم تثق بمقام التوحيد له بل أشركت، على طبقاتها، فإنه ما سلم من هذا الشرك (الخفي) أحد (كما قال تعالى: ﴿وَمَ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106])، فإنّ كل أحد قال: أنا فعلت، وقال (ذلك) على حين غفلة عن مشاهدة (من هو) القائل فيه وبه، من هو (غير الله سبحانه وتعالى!).

شرح البيت الحادي عشر:

11

وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ ظَبْيٌ مُبَرْقَعٌ

***

يُشِيرُ بِعَنَّابٍ وَيُومِي بِأَجْفَانِ

يقول: "من أعجب الأشياء ظبي"، يريد لطيفة "الإلهية"، "مبرقع"؛ يقول: محجوب بحالة نفسية، وهي أحوال العارفين المجهولة، فإنّ العامة تظهرُ بما تظهر به الطائفة المحقِّقة من الصور، بخلاف أصحاب الأحوال، ولا يتمكن التصريح من أهل هذا المقام بأحوالهم، فإنّهم يُكذَّبون، لعدم الشاهد، ولكن يُعرِّفون بالإشارة والإيماء عند بعض الذائقين لأوائل أحوالهم، وأراد بـ"العناب" هناما أراده بالمحصّب في البيت قبله، والإيماء (يكون) بالأجفان.

يقول: أدلة النظر في أحكام أصحاب هذا المقام يقوم للذائقين لأوائله، فتقع المعرفة لهم، فيهم، أنهم، وإن اشتركوا مع العامة في صورة الحكم الظاهر، فهم بائنون في أسرارهم في أصلها، فشتان بين من ينطق بنفسه وبين من ينطق بربه، واللسان واحد عند السامع في الشاهد.

شرح البيت الثاني عشر:

12

وَمَرْعَاهُ مَا بَيْنَ التَّرَائِبِ وَالْحَشَ

***

وَيَا عَجَباً مِنْ رَوْضَة وَسْطَ نِيرَانِ

يقول: ومرعاه بين الترائب والحشا، من العلوم التي في صدره. والحشا ما حشي به باطنه وقلبه من الحِكم والإيمان، كما قال (عليٌّ رَضِي اللَّه عَنْه)، وضرب بيده إلى صدره: "إِنَّ هَاهُنَا لَعُلُومًا جَمَّةً لَوْ وَجَدَتْ لَهَا حَمَلَةً".

ثم أخذ يتعجب من محبّ أُحرق بنيران المحبة والاشتياق كيف لم تحرق ما يحمله من الحِكم والعلوم التي بين ترائبه وفي حشاه، ووصفها بالروضة لاختلاف أزهاره وأثمارها، فإنّ فنون العلوم كثيرة متنوعة (كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269])، ومن شأن النار إذ تعلقت بالأشجار أحرقتها، وهذه علوم محمولة في هذا الشخص، ونار الحب متأججة في ذاته، فكيف لم تذهب بهذه العلوم فلا يبقى لديه علم أصلا! والجواب عن هذا أنه منه تكوَّن، وإذ تكون شيء عن شيء لم يعدمه ذلك الشيء، كما يقال في السمندل، إن كان حقا أنه حيوان يتكون في النار، فلا تعدو عليه، ولما كانت هذه العلوم والمعارف نتائج عن نيران الطلب والشوق إليها لم تفنبها.

شرح البيت الثالث عشر:

13

لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلاً كُلَّ صُورَة

***

فَمَرْعىً لِغِزْلَانٍ وَدَيْرٌ لِرُهْبَانِ

"لقد صار قلبي قابلا كل صورة"، كما قال (الشاعر) الآخر: "ما سمي القلب (قلباً) إلا من تقلبه"، فهو يتنوع بتنوع الواردات عليه، وتنوع الواردات بتنوع أحواله، وتنوع أحواله لتنوع التجليات الإلهية لسره، وهو الذي كنّى عنه الشرع بالتحول والتبدل في الصور [مسلم: 183]، ثم قال: "فمرعى لغزلان"، أي إذا وصفناه بالمرعى كنَّينا عن السارحين فيه بالغزلان دون غيرهم من الحيوانات، لأنّ كلامنا بلسان الهوى، وبالغزلان يقع التشبيه بالأحبة للمحبين في هذا اللسان، ولا شك أن عين الفرس سوداء متسعة، ولكن ما وقع التشبيه إل بعين الغزلان، وقوله: "وديرٌ لرهبان"، يقول: إذا جعلناهم رهبانا، من الرهبانية، جعلنا القلب ديرا للمناسبة، لأنه منزل الرهبان وموضع إقامتهم.

شرح البيت الرابع عشر:

14

وَبَيْتٌ لِأَوْثَانٍ وَكَعْبَة طَائِفٍ،

***

وَأَلْوَاحُ تَوْرَاة وَمُصْحَفُ قُرْآنِ

يقول: وهذا القلب صورة بيت الأوثان لما كانت الحقائق المطلوبة للبشر قائمة به، التي يعبدون الله من أجلها، فسمى ذلك أوثانا، ولما كانت الأرواح العلوية حافِّين بقلبه سمى قلبه كعبة، وهي الأرواح المذكِّرةله إذا مسّه طائف من الشيطان (أي إذا نسي)؛ فهن أصحاب اللمَّات(جمع لمّة) الملكية. ولَمَّا حصل من العلوم الموسوية العبرانية جعل قلبه ألواح لها، ولَمَّا ورث من المعارف المحمدية الكمالية جعلها متحفا وأقامها مقام القرآن، لِما حصل له من مقام: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» [كنز العمال: 32068].

شرح البيت الخامس عشر:

ثم قال:

15

أَدِينُ بِدِينِ الْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ

***

رَكَائِبُهُ فَالدِّينُ دِينِي وَإِيمَانِي

يشير إلى قوله (تعالى): ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31] فلهذا سماه دين الحب، ودان به ليتلقى تكليفات محبوبه بالقبول والرضى والمحبة ورفع المشقة والكلفة فيها بأي وجه كانت، ولذا قال: "أنَّى تَوَجَّهَت"، أي أيَّة وجهةسلكت، مما ترضى ولا ترضى،فهي كلها مرضية عندنا.

وقوله: "فالدين ديني وإيماني"، أي ما ثم دين أعلى من دين قام على المحبة والشوق لمن أدين له به، وأمر به على غيب، وهذا مخصوص بالمحمديين، فإنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم له من بين سائر الأنبياء مقام المحبة بكمالها (لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَ فَخْرَ» [كنز العمال: 31970])، مع أنه صَفِيٌّ ونَجِيٌّ وخَلِيلٌ، وغير ذلك من معاني مقامات الأنبياء، وزاد عليهم أنّ الله اتخذه حبيباً، أي مُحِبًّا مَحْبُوباً، وورثته على منهاجه.

شرح البيت السادس عشر:

16

لَنَا أُسْوَة فِي بِشْـرِ هِنْدٍ وَأُخْتِهَ

***

وَقَيْسٍ وَلَيْلَى، ثُمَّ مَيٍّ وَغَيْلَانِ

ذكر المحبين في عالم الكون المهيمين بعشق المخدرات في الصور من الأعراب المتيمين، ويعني بـ"أختها" جميل بن معمر مع بثينة، وبياض ورياض، وابن الدريج ولبنى، وغيرهم، (أي أخوات هذه القصص، وليس أخت هند!). يقول: الحبّ من حيث ما هو حبّ لن ولهم حقيقة واحدة، غير أنّ المحبين مختلفون لكونهم تعشقوا بكون، وإنَّا تعشقن بعين، والشروط واللوازم والأسباب واحدة، فلنا أسوة بهم، فإنّ الله تعالى ما هيَّم هؤلاء وابتلاهم بحبّ أمثالهم إلا ليقيم بهم الحجج على من ادعى محبته، ولم يهِم في حبه هيمان هؤلاء، حين ذهب الحب بعقولهم وأفناهم عنهم، لمشاهدات شواهد محبوبهم في خيالهم، فأحرى من يزعم أنه يحبّ من هو سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ (انظر الحديث القدسي في القصيدة الثانية: البيت الثالث عشر) ومن يتقرب إليه أكثر من تقربه ضعفاً (للحديث: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» [البخاري: 7405]).



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!