موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الحادي والسبعون: في بيان أن الجنة والنار حق وأنهما مخلوقتان قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام

كما تقدم بسطه في المبحث الثاني من الكتاب في حدوث العالم وذكرنا هناك أن خلق الجنة والنار متأخر عن خلق الدنيا بتسعة آلاف سنة ولذلك سميت الجنة بالآخرة لتأخر خلقها عن خلق الدنيا المدة المذكورة على ما تقدم فيه فهما مخلوقتان مهيأتان لأصحابهما بهما قبل خلقهم ثم إن أعمال كل مكلف تأتي على حسب ما سبق له في دار الجنة أو النار وزعم أكثر المعتزلة أنهما يخلقان يوم الجزاء ودلينا عليهم النصوص الصريحة الصحيحة الدالة على أنهما مخلوقتان قبل يوم الجزاء نحو قوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] وقصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة وإخراجهما منها بالزلة ونحو ذلك كحديث يفتح للمؤمن في قبره كوة فينظر منها إلى الجنة ويدخل عليه من روحها ونعيمها ويفتح للكافر كوة إلى النار فيدخل عليه من حرها وسمومها، وكحديث: « لما خلق اللّه تعالى جنة عدن بيده ودلي فيها ثمارها وشق فيها أنهارها قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون » رواهما البخاري وغيره وقوله صلى اللّه عليه وسلم: " رأيت الجنة والنار " في عدة أحاديث وكان الشيخ محيي الدين رحمه اللّه يقول: الجنة والنار مخلوقتان لكنهما لا يكمل بناؤهما إلا بانتهاء الدنيا وانقضاء زمن التكليف فهما بمثابة سور الدار الذي بناه الملك ثم بعد ذلك يشق الجدران ويبني حتى ينتهي البناء لأنهما إنما يبنيان من أعمال المكلفين من خير أو شر فمن نظر إلى السور من خارج قال إنهما فرغ من بنائهم ومن دخل السور وجدهما ناقصتين من البناء بقدر ما بقي من أعمال المكلفين في هذه الدار ويدل لذلك حديث: " إن الجنة عذبة الماء طيبة التربة وإنها قيعان وغراسه سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه " الحديث فإن القيعان هي التي لا بناء فيها ولا شجر وفي الحديث أيضا: من صلى كل يوم اثنتي عشرة ركعة بنى اللّه له بيت في الجنة ومن قال سبحان اللّه مثلا غرس له شجرة في الجنة انتهى، وقال المخريطي: ليست الجنة التي أخرج منها آدم هي الجنة الكبرى المدخرة في علم اللّه تعالى فإن تلك لا يصح فيها معصية لآدم ولا إباية لإبليس لكونها حضرة اللّه تعالى الخاصة التي لا حجاب فيها ومعلوم أن المعصية لا تقع حتى يحجب صاحبها وإنما هي جنة البرزخ التي هي فوق جبل الياقوت فالجنة الكبرى لا يدخلها الناس إلا بعد انتهاء الحساب والمرور على الصراط قال: وجنة البرزخ هي التي ترى في الدار الدنيا وكذلك نار البرزخ فإنه صلى اللّه عليه وسلم لما قال رأيت الجنة والنار في مقامي هذا ذكر أنه رأى عمرو بن لحي الذي سيب السوائب وذكر أنه رأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعا ومعلوم أن هؤلاء لم يدخلوا النار الكبرى إلى الآن وإنما هم محبوسون في البرزخ هكذا قال فليتأمل ويحرر. وقد حبب لي أن أبسط الكلام على هاتين الدارين بعض البسط لأنهم محل محط رحال الأولين والآخرين فأقول وباللّه التوفيق: قال الشيخ محيي الدين في الباب السادس والعشرين ومائة: اعلم أن الدنيا أكمل نشأة من الآخرة، لأن الدنيا دار تمييز واختلاط وتكليف والآخرة دار تمييز فقط ولا يكون فيها تشريع قط كما في الدنيا إلا في موطن واحد وذلك حين يدعى أهل الأعراف إلى السجود فيسجدون فترجح بتلك السجدة ميزانهم وأطال في ذلك.

ثم قال: واعلم أن اللّه تعالى قد أمرنا بالإحسان إلى أمهاتنا وعدم عقوقهن فما قام بذلك الأدب إلا قليل من الناس ومعلوم أن الدنيا هي أمنا التي ولدتنا فإذا قال الواحد منا لعن اللّه الدنيا قالت الدنيا لعن اللّه أعصانا لربه عز وجل كما ورد في الحديث، ومن لعن أمه فهو عاق لها بلا شك وليتأمل الشخص شدة أدبها وحنوها على أولادها في قولها لعن اللّه أعصانا لربه فما قدرت أن تلعن من لعنها بحكم التعيين ولا على أن تسميه باسمه وهذا من حنو الوالدة وشفقتها على ولده وفي الحديث: " الدنيا مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر " فوصفه بأنها من شدة حنوها على أولادها تذكرهم بالشر وتهرب بهم منها وتزين لهم الخير وتسوقهم إليه فهي تسافر بهم وتحملهم من موطن الشر إلى موطن الخير كل ذلك لشدة مراقبتها إلى ما أنزل اللّه تعالى فيها من الأوامر الإلهية المسماة شرائع فيجب أن يقوم بها أبناؤها ليسعدوا فواعجبا منا كيف لم نتبع أخلاق أمنا ولا وقفنا عند حدود ربنا كما وقفت أمنا فينبغي لكل عبد أن يراقب حال أمه فإن الطفل لا يفتح عينه إل على أمه ولا يبصر إلا هي ولذلك كان يحبها ويميل إليها طبعا ومن أخلاق الدنيا أنه لا يهون عليها نسبة أحد من أبنائها إلى الآخرة لأنها ما ولدتهم ولا تعبت في تربيتهم ومن عقوقنا لها أننا ننسب الشرور والأنكاد إليها والحال أنها أحوالنا ما هي أحوالها والشر إنما هو فعل المكلف لا فعلها هي ومن أشد ما عليها هي أيض نسبة أولادها كل ما يفعلونه من الخير إلى الآخرة مع أنهم ما عملوا ذلك إلا في الدنيا وأطال في ذلك ثم قال: فعلم أن للدنيا أجر المصيبة التي في أولاده ومن أولادها انتهى. ولنبدأ بالكلام على النار أعاذنا اللّه منها فنقول: اعلم ي أخي أن جهنم من أعظم المخلوقات وهي سجن اللّه تعالى في الآخرة يسجن فيها المعطلة والمشركين والكافرين والمنافقين أبد الآبدين ودهر الداهرين، قال تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء: 8] وأما أهل الكبائر من المؤمنين فيسجنون ما شاء اللّه ثم يخرجون وسميت جهنم لبعد قعرها، يقال بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر وهي مشتملة على حرور وزمهرير ففيها البرد على أقصى درجاته وبين أعلاها وأسفلها خمس وسبعمائة من السنين ولا يخفى أن حرورها إنما هو هواء محرق لا جمرة لها سوى بني آدم والأحجار المتخذة آلهة من دون اللّه قال تعالى: وَقُودُهَ النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24]

* - وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98]

* - وقال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) [الشعراء: 94 - 95]

فأثبت أن الجن لهبها. قال الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والستين من « الفتوحات »: اعلم أن اللّه تعالى يحدث في جهنم آلات على حسب حدوث أعمال الجن والإنس الذين يدخلونها قال: وقد أوجدها اللّه تعالى بطالع الثور ولذلك كان خلقه في الصورة على صورة الجاموس. قال: هكذا رأيتها في كشفي ونزلت فيها خمس دركات وأريت الجن يصطنعون فيها المقامع قال وكذلك رآها أبو الحكم بن برجان من طريق كشفه وقد تمثلت لبعضهم صورة حية فتخيل أن تلك الصورة هي التي خلقها اللّه تعالى عليها وليس كذلك، قال الشيخ محيي الدين: ولما خلقها اللّه تعالى كان زحل في الثور وكان الشمس والقمر في القوس وكان سائر الدراري في الجدى فكان فيها الأجل ذلك الحر والبرد وإنما كان فيها الجوع لأن اللّه تعالى خلقها من تجلي قوله في " صحيح مسلم ": " جعت فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني وظمئت فلم تسقني " فمن ذلك خلقت جهنم أعاذنا اللّه منها، قال الشيخ: ولذلك تجبرت على الجبارين وقصمت المتكبرين وجميع ما يخلق اللّه فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فيها فمن صفة الغضب ولا يكون ذلك فيها إلا عند دخول الخلق فيها من الجن والإنس متى دخلوها وأما إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا ألم في نفسها ولا في نفس ملائكته بل هي ومن فيها من زبانيتها في رحمة اللّه متنعمون ملتذون يسبحون اللّه لا يفترون وأطال في ذلك، قال: ومن أعجب ما روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان قاعدا يوما في المسجد مع أصحابه فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " أتعرفون ما هذه الهدة ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ،

* - قال: حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها " فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة فما فرغ صلى اللّه عليه وسلم من كلامه إل والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات وكان عمره سبعين سنة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه أكبر فعلم كبراء الصحابة أن ذلك الحجر هو ذلك المنافق وأنه من حين ولد يهوي في نار جهنم بأعماله في علم اللّه وإن لم يكن مكلفا إلا بعد البلوغ فلما بلغ عمره سبعين مات فحصل في قعرها قال تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] فكان سماعهم لتلك الهدة التي أسمعهم اللّه إياها إنما هو ليعتبروا فانظروا ما أعجب كلام النبوة وما ألطف تعريفه وما أحسن إشارته وما أعذب كلامه صلى اللّه عليه وسلم قال الشيخ محيي الدين: ولقد سألت اللّه تعالى أن يطلعني على جهنم وأهلها فأطلعني على ذلك فعرفتها وعرفت مكانها ولولا أنه صلى اللّه عليه وسلم قال في علم اللّه لم سأل عنها تعينت مكانها ولكن الأدب يمنعنا أن نتعدى مقام الأدب معه صلى اللّه عليه وسلم قال: ورأيت أهلها يتخاصمون مع أئمة الضلال الذين أضلوهم ومع أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون اللّه ورأيت صورة خصامهم صورة خصام أرباب المذاهب الشرعية مع أهل المذاهب الزائغة في طلب أدحاض حجج بعضهم بعضا فأنا كلما أرى خصام أرباب المذاهب عندنا مع أهل الزيغ أتذكر خصام أهل النار ورأيت الرحمة كلها في التسليم والتلقي من النبوة والوقوف عند حدود الشريعة والتأدب عند قراءة حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقراءة كلام الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين وعدم رفع الصوت عند قراءة كلامهم. قال ولما اطلعني اللّه عليها رأيت من دركات النار من حيث كونها دارا ما شاء اللّه أن يطلعني ورأيت فيها موضعا يسمّى المظلمة نزلت فيه ما شاء اللّه أن أنزل فعلمت من ذلك الوقت كل عمل يتطوّر نارا أو كل عمل يتطور نعيما وعلمت أن عذاب أهل جهنم ما هو من جهنم حقيقة وإنما هو من أعمال الداخلين وأنشدت في ذلك: النار منك وبالأعمال توقدها * كما تؤججها في الحال تطفيه

فأنت بالطبع منها هارب أبدا * وأنت في كل حال منك تنشيهاإلى آخر ما قال انتهى، قلت هكذا قال الشيخ رحمه اللّه ولكن قال علماء الشريعة من قال دخلت الجنة كفر وقياسه أن يكون الحكم كذلك في دخول النار فليتأمل ويحرر، ولعل قوله نزلت أي اطلعت كشفا كما يفسره ما تقدم واللّه أعلم، فعلم أن جهنم إنم هي دار سكنى لأهلها وسجن لهم واللّه تعالى يخلق فيهم أنواع العذاب متى شاء فعذابهم من اللّه وهم محل له. قال الشيخ محيي الدين: ولجهنم سبعة أبواب مفتحة ليس فيه باب مغلق إلا الباب الثامن الذي هو باب الحجاب عن رؤية اللّه عز وجل فلا يفتح لأهل النار أبدا قال وجميع الكواكب التي في جهنم مظلمة الأجرام عظيمة الخلق وكذلك الشمس والقمر والطلوع والغروب لهما في جهنم دائما فشمس جهنم شارقة لا مشرقة والتكوينات عن سيرها بحسب ما يليق بتلك الدار.

(فإن قلت): فما حد جهنم ؟

(فالجواب): إن حدها بعد الفراغ من الحساب من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين وذلك كله يزيد في جهنم اتساعا عما هي الآن عليه حيث لا مخلوق فيها وكل مكان لم يذكر الشارع أنه يعود إلى الجنة فإنه يعود كله نارا قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ(6) [التكوير: 6] أي أججت نارا من سجرت التنور إذا أوقدته، قال ومن هنا كره ابن عمر وغيره الوضوء بماء البحر مع قولهم بجواز الطهارة منه وكان بعضهم يقول التيمم أحب إلي من البحر.

* - قال الشيخ محيي الدين: وأهل الكشف كلهم يرون بحر الملح الآن يتأجج نارا.

(فإن قلت): فمن أشد الخلق كلهم عذابا في النار ؟

(فالجواب): أشدهم عذابا إبليس لأنه هو الذي سن الشرك وكل معصية.

(فإن قلت): إن إبليس مخلوق من النار فكيف جعل اللّه تعالى عذابه بم خلق منه ؟ (فالجواب): إن اللّه تعالى على كل شيء قدير ألا ترى النفس يكون به حياة الجسم الحساس فإذا منع بالشنق أو الخنق انعكس راجعا إلى القلب فأحرقه من ساعته فهلك من حينه فبالنفس كان حياته وبه كانت وفاته.

(فإن قلت): فقد ورد أنه يعذب بالزمهرير المناقض لنشأته فهل يعذب بذلك من خارجه أم من داخله.

(فالجواب): لا يأتيه الزمهرير إلا من ذاته لأنه أحد أركانها فيغلب جزء الزمهرير بقية الأركان فيعذب بذلك كما يغلب بعض الأخلاط على الإنسان في دار الدنيا فيتألم بها فيأمره الطبيب بالفصد فلو لا أنه فصد لربما مات، وبالجملة فكل من دخل النار عذب بكل ركن من أركانه حتى الماء والهواء.

(فإن قلت): فكم عدد دركات النار ؟

(فالجواب): عددها مائة درك لأنها في مقابلة درج الجنة ولكل درك منه قوم مخصوصون ولهم من الغضب الإلهي الحال بهم آلام مخصوصة.

(فإن قلت): فكم أقسام أهل النار الذين هم أهلها ؟

(فالجواب): هم أربعة أقسام كما قاله الشيخ في الباب الثاني والستين من "الفتوحات" وترجع الأربعة أقسام إلى المجرمين خاصة قال تعالى وَامْتازُو الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59) [يس:

59] أي المستحقون لأن يكونوا أهلا لسكنى جهنم لا يخرجون منها إلى الجنة أبدا، القسم الأول المتكبرون عن أمر اللّه كفرعون والنمروذ وأبي لهب وأضرابهم، الثاني المشركون وهم الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر، الثالث المعطلون وهم الذين نفوا الآلهة جملة فلم يثبتوا للعالم إلها ولا من العالم، الرابع المنافقون وهم الذين أظهروا الإسلام من أهل هذه الأقسام الثلاثة للقهر الذي حكم عليهم فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم وهم في أنفسهم على ما هم عليه من اعتقاد ما عليه هذه الطوائف الثلاث، فهؤلاء الأربعة هم الذين لا يخرجون من النار من جن وإنس انتهى.

(قلت): فكذب واللّه وافترى من نسب إلى الشيخ محيي الدين أنه يقول بقبول إيمان فرعون ولو أنه كان يقول به ما صرح هنا بأنه من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين فإمّا أنه مدسوس عليه كما مرت الإشارة إلى ذلك في الخطبة، وإما أنه كان تبع فيه القاضي أبا بكر الباقلاني فإنه قائل بقبول إيمان فرعون لأن اللّه تعالى حكى عنه أنه قال لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ولم يحك عنه ما يناقضه بعد ذلك، وقد انعقد إجماع الأئمة كلهم على عدم قبول إيمانه فإياك أن تنقل عن الشيخ محيي الدين أنه يقول بقبول إيمان فرعون وتخرق الإجماع لا سيما "الفتوحات" من أواخر مؤلفاته لأنه فرغ منها قبل موته بنحو خمس سنين واللّه تعالى أعلم.

(فإن قلت): فهل في النار دركات اختصاص نظير ما في الجنة من درجات الاختصاص التي ليست هي في مقابلة عمل ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثاني والستين من "الفتوحات" ليس في النار دركات اختصاص إلهي ولا عذاب اختصاص كالجنة لأن اللّه تعالى ما عرفن أنه يختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء فلا يعذب أهل النار فيها إلا بأعمالهم التي عملوها فقط بخلاف أهل الجنة فإنهم ينعمون فيها بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص، إذ الجنات ثلاثة: جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث كما سيأتي بيانها في الكلام على الجنة إن شاء اللّه تعالى فكان من كرم اللّه تعالى وفضله أنه ما أنزل أهل النار إلا على أعمالهم خاصة وأما قوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88] فذلك لطائفة مخصوصة وهم الأئمة المضلون المشار إليهم يقول اللّه تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالً مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] فإنهم هم الذين أضلوا العباد وأدخلوا عليهم الشبه المضلة فحادوا بها عن سواء السبيل فما أنزلوا من النار إلا منازل استحقاق إذ الإضلال معدود من جملة أعمالهم بخلاف أهل الجنة فإنهم ينزلون فيها منازل استحقاق بأعمالهم كما في الكفار ويزيدون عليهم منازل وراثة ومنازل اختصاص.

(فإن قلت): فمن أين جاء تقسيم أهل النار إلى أربعة أقسام ؟

(فالجواب): لأن اللّه تعالى ذكر عن إبليس أنه يأتينا من بين أيدين ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ولا يدخل أحد النار إلا بواسطته فهو يأتي المشرك من بين يديه ويأتي المتكبر من عن يمينه ويأتي المنافق من عن شماله ويأتي المعطل من خلفه.

(فإن قلت): فما الحكمة في الإتيان من هذه الجهات المخصوصة ؟

(فالجواب): الحكمة فيه ظاهرة أما المشرك فإنما جاءه من بين يديه لأن المشرك رأى بين عينيه جهة غيبته فأثبت وجود اللّه ولم يقدر على إنكاره فجعله إبليس يشرك باللّه في ألوهيته شيئا يراه ويشاهده، وأما المتكبر فإنما جاءه من جهة اليمين لأن اليمين محل القوة فلذلك تكبر للقوة التي اختص بها من نفسه، وأما المنافق فإنما جاءه من جهة شماله التي هي الجانب الأضعف لأن المنافق أضعف الطوائف كما أن الشمال في العادة أضعف من اليمين ولذلك كان في الدرك الأسفل من النار وكان يعطى كتابه بشماله، وأما المعطل فإنما جاءه من خلفه لأن الخلف ما هو محل نظر فقال له ما ثم شيء فهذا وجه حكمة تخصيص إتيان إبليس من هذه الجهات. قال الشيخ: ولهذه الطوائف الأربعة من كل باب من أبواب جهنم جزء مقسوم وهي منازل عذابهم لأنك إذ ضربت الأربعة أقسام التي هي المراتب في السبعة أبواب كان الخارج ثمانية وعشرين منزلا عدد منازل القمر وغيره من الكواكب السيارة وكان مما ظهر من تسيير هذه الكواكب السيارة وجود ثمانية وعشرين حرفا بها ألف اللّه تعالى الكلمات وبها أظهر الكفر والإيمان في العالم فترجم بها كل شخص عما أضمره في نفسه من إيمان أو كفر أو كذب أو صدق لتقوم حجة اللّه تعالى على عباده بما تلفظوا به.

(فإن قلت): فما أسماء أبواب جهنم وما الطوائف الذين يدخلون منها ؟

(فالجواب): أما أسماؤها فباب الجحيم وباب سقر وباب السعير وباب الحطمة وباب لظى وباب الحامية وباب الهاوية سميت هذه الأبواب صفات ما وراءها مم أعدت له وأما تعين الطوائف الداخلين من كل باب فهي مبينة في القرآن قال اللّه تعالى في أهل الجحيم: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) [المطففين: 11] وقال في أهل سقر: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّ نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) [المدثر: 42 - 45] وقال في أهل السعير وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] وقال في أهل الحطمة: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) [الهمزة: 1 - 2] إلى آخر النسق وقال في أهل لظى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) [المعارج: 17 - 18] وقال في أهل جهنم: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [الملك: 6] وقال في أهل الهاوية: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة: 8 - 9] وقد نظم هذه الأبواب على الترتيب سيدي الشيخ عبد العزيز الدريني رحمه اللّه فقال:

جهنم ولظى والحطم بينهما * ثم السعير وكل الهون في سقر

وبعد ذاك جحيم ثم هاوية * تهوي بهم أبدا سحقا لمنحدر

(فإن قلت): فأين تكون جهنم إذا أتى الحق تعالى يوم القيامة في ظلل من الغمام كما يليق بجلاله ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين من « الفتوحات » إن جهنم تكون على المجنبة اليسرى لأن إتيانه تعالى انكشاف حجاب، كما يقال أتى الملك وخرج على عسكره فشاهدوه وقد سمى اللّه تعالى نفسه ملك يوم الدين وهو ذلك اليوم الذي يجتمع فيه الخلائق أجمعون فيا له من يوم ثم إن الملائكة الذين نزلوا من السماوات تصطف سبع صفوف محيطة بالخلائق أجمعين فإذا أبصر الناس جهنم ولها فوران وتغيظ يفرون بأجمعهم منها لعظيم ما يرونه خوفا وفزعا وهو الفزع الأكبر لأنه ما ثم جمع أكبر منه قط، ولا يسلم من ذلك الفزع إلا الطائفة الذين قال تعالى فيهم لا يحزنهم الفزع الأكبر فهؤلاء هم الآمنون على أنفسهم غير أن النبيين منهم يفزعون على أممهم خوفا عليهم للشفقة التي جبلهم اللّه تعالى وكذلك كل داع إلى اللّه تعالى من كمل ورثتهم فيقولون كلهم في ذلك اليوم اللهم سلم سلم قال: وينصب اللّه تعالى للآمنين منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم في الموقف فيجلسون عليها آمنين مستبشرين وذلك قبل مجيء الرب جل وعل كما يليق بجلاله فإذا فرّ الناس خوفا من جهنم يجدون ملائكة السماوات صفوفا لا يتجاوزونهم فتطردهم الملائكة ودعت الملل إلى المحشر وتناديهم أنبياؤهم ارجعوا ارجعوا فينادي بعضهم بعضا وذلك قوله تعالى: أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32 - 33] ثم يقع النداء من قبل الحق جل وعلا. قال الشيخ محيي الدين رحمه اللّه: فلا أدري أذلك من نداء الحق تعالى بنفسه أو هو نداء عن أمره يقول في في ذلك النداء يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ثم ينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليلون ثم ينادي ثانيا أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه، ثم ينادي ثالثا أين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فإذا أمر بهذه الطوائف الثلاث إلى الجنة خرج عنق من النار له عينان ولسان بليغ فصيح فإذا أشرف على الخلائق الذين في الموقف قال: يا أهل الموقف إني وكلت اليوم منكم بثلاث كما قال في النداء الأول بالنسبة إلى أهل الجنة كما مر. قال الشيخ: وهذا كله قبل الحساب والناس وقوف قد ألجمهم العرق واشتد الخوف حتى تصدعت القلوب لهول ذلك المطلع، قال ثم إذا أشرف ذلك العنق من النار على الناس قال إني وكلت بكل جبار عنيد فيلتقط الجبابرة من بين الصفوف فإذ لم يترك منهم أحدا نادى ثانيا إني وكلت بكل من آذى اللّه ورسوله فيلتقطهم كذلك ثم إنه ينادي ثالثا إني وكلت بكل من ذهب يخلق كخلق اللّه عز وجل فيلتقط أهل التصاوير كلهم وهم الذين يصورون الصور في الكنائس لتعبد من دون اللّه عز وجل كما قال تعبدون ما تنحتون فإنهم كانوا ينحتون لهم الأشجار والأحجار ليعبدوها من دون اللّه عز وجل فهؤلاء هم المراد بالمصورين في الحديث فيلتقطهم من بين الصفوف فإذا أخذهم اللّه تعالى عن آخرهم وبقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم ما قصد أولئك من عبادتها فيسألون عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها وليسوا بنافخين كما في البخاري انتهت.

(قلت): ولا يخفى حرمة التصوير للحيوانات وإن لم تعبد واللّه أعلم. وقد ذكرنا حديث مواقف القيامة الخمسين موقفا كل موقف منها ألف عام في أواخر كتابن " المنهج المبين " فراجعه تر ما تشيب منه الرؤوس وتذوب منه الأكباد مما نحن في غفلة عنه الآن فنسأل اللّه الموت على الإسلام آمين.

(فإن قلت): إن طعام أهل الجنة في مأدبتهم التي في المرج زيادة كبد الحوت فما طعام أهل النار قبل دخول النار ؟

(فالجواب): ما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين: إن طعامهم في مأدبتهم المذكورة طحال الثور الذي هو بيت الأوساخ المجتمعة من سائر البدن وهو ما يعطيه الكبد من الدم الفاسد فيعطي ذلك الطحال لأهل النار فيأكلونه، ومعلوم أن الثور حيوان ترابي طبعه البرد واليبس وجهنم على صورة الجاموس كما مر فيناسب الطحال المذكور أهل النار أشد مناسبة فيما في الطحال من الدمية لا يموت أهل النار وبم فيه من أوساخ البدن والدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون إنما يورثهم الأكل منه سقما ومرضا بخلاف مأدبة أهل الجنة فإنها زيادة كبد الحوت وهو حيوان بحري مائي من عنصر الحياة المناسبة للجنة والكبد بيت الدم وهو بيت الحياة والحياة حارة رطبة وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني الذي به حياة البدن فهو بشارة لأهل الجنة ببقاء الحياة عليهم في النعيم المقيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء انتهى.

(فإن قلت): فما سبب إماتة اللّه تعالى لعصاة الموحدين في جهنم دون الكفار ؟

(فالجواب): سببه إكرام اللّه تعالى للجوارح التي كانت تسبح بحمده وتطيعه وإنما وقعت في المخالفات من حيث إنها كالمجبورة تحت قهر النفس المدبرة للسوء فلوقوعها في المعاصي عذبت ولتوحيدها للّه تعالى أخرجت لأن النار بذاتها لا تقبل خلود موحد فيها أبدا ثم إن جوارح العصاة إذا ماتت فلا تحس بعد ذلك بألم حتى تخرج بالشفاعة فضلا من اللّه تعالى عليها بخلاف الكفار لا تموت لهم جوارح أبد ليذوقوا العذاب وذلك لأن معصيتهم بالكفر مستصحبة لا تفارقهم ولو أنهم كانوا بقو أبد الآبدين لكانوا كفارا فلذلك خلدوا في النار من حيث نيتهم. وأما عصاة الموحدين فلهم زاجر من أنفسهم إذا عصوا ويعقبهم الندم.

وإيضاح ذلك كما قاله الشيخ في الباب الموفي ثلاثمائة من "الفتوحات": إن جسد الإنسان كله من حيث طبيعته طائع للّه خائف من عذابه وما من جارحة يرسلها العبد في معصية إلا وهي تناديه لا تفعل ولا ترسلني فيما حرمه اللّه عليك فإني شاهدة عليك وتتبرأ إلى اللّه تعالى من ذلك الفعل وكل قوة وجارحة في العبد بهذه المثابة تنادي أخواتها لا تفعلوا معصية انتهى. (فإن قلت): إن اللّه تعالى قد جعل الكي بالنار في هذه الدار وقاية ودفعا لألم أشد من النار فهل يكون إحراق الموحدين في النار كذلك دفعا لما هو أشد من الحرق ؟

(فالجواب): نعم إحراق الموحدين في النار دفعا لما هو أشد منه وهو غضب اللّه السرمدي فما سكن الغضب الإلهي إلا بحرقهم بالنار نظير ما يضرب الإنسان غلامه أو عبده ثم يرضى عنه وهذا من رحمة اللّه تعالى بالموحدين ومن هنا قال بعضهم: مت مسلما ولا تبالي بخلاف المشركين فإن عذابهم لا ينقطع فكانت النار لأصحاب الكبائر من الموحدين الذين ماتوا على غير توبة مقبولة كالكي بالنار في الدني ولذلك ورد أنهم يخرجون من النار قد امتحشوا فيلقون في نهر على باب الجنة نظير ما يخرج صاحب الكي بالنار إلى العافية ذكره الشيخ في الباب الثامن والثمانين من « الفتوحات » وقال: هذا كله على جعل النار وقاية كالحدود الدنيوية فإن اللّه تعالى جعلها وقاية من عذاب الآخرة ولهذا سميت كفارات والكفر الستر فهو يستر العاصي عن عذاب الآخرة ولهذا قلنا في قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [المائدة: 32] إلى آخره أن المراد بهم الكفار لا الموحدون لأن اللّه تعالى لما عاقبهم في الدني بالقتل والصلب وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف لم يجعل تلك العقوبات كفارة مثل ما جعلها في الحدود في حق الموحدين بل قال ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] وهذا لا يكون إلا للكفار إذ العذاب العظيم هو الذي يعم الظاهر والباطن بخلاف أهل الكبائر من الموحدين كم مر فإن اللّه تعالى يميتهم في النار إماتة حتى يعودوا حمما شبه الفحم فإذا لم يحسوا بالعذاب في موتهم ليس لهم حظ في العذاب العظيم لأنهم محروقون بالنار مثل الجمرات ثم إن النار تفعل بواسطة الجمرات التي ظهرت فيها أمرا آخر فيه منفعة كما تنفع النار تحت القدر في إنضاج ما فيه ولولا إنضاجه ما ساغ أكله، إذا فهمت ذلك علمت حكمة تأثير النار التي هي تحت أرض الجنة وأنها إنما جعلت لتؤثر في فواكه الجنة النضج والإصلاح فإن مقعر أرض الجنة هو سقف النار والشمس والقمر والنجوم كلها في النار فتفعل في الأشياء هنالك علوا ما كانت تفعله هنا سفلا ألا ترى أن أرض الجنة كلها مسك وهو حار بالطبع لما فيه من النار وأشجار الجنة كلها مغروسة في تلك التربة المسكية كما يقتضي ثبات هذه الدار الدنيا جعل الزبل تحته لما فيه من الحرارة الطبيعية لأنه معفن والحرارة تعطي التعفين في الأجسام القابلة للتعفين انتهى.

(فإن قلت): فهل لأهل النار أن يتبوءوا من النار حيث شاءوا كأهل الجنة أم هم محبوسون في أماكنهم لا يبرحون ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث وأربعين وثلاثمائة: إن أهل النار لا يتبوءون وإنما هم محبوسون في أماكنهم لا يبرحون وإيضاح ذلك أنهم لو كان لهم التبوؤ حيث شاءوا ما استقروا حتى تنضج جلودهم فكان من رحمة اللّه تعالى الخفية بهم من حيث لا يشعرون عدم تبوئهم فإن العذاب المستصحب أهون من العذاب المجد فلو كانوا ينتقلون من مكان إلى مكان لكانوا يذوقون في كل مكان ينتقلون إليه عذاب جديدا إلى حصول الإنضاج وذلك أشد العذاب.

(فإن قلت): فما الدليل على عدم تبوأ أهل النار من القرآن ؟

(فالجواب): الدليل على ذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء: 8] أي سجنا لأن المحصور ممنوع من التصرف فرحم اللّه الكفار من حيث لا يشعرون بعدم التبوؤ في النار كما مكر بهم في دار الدنيا من حيث لا يشعرون ونظير ذلك المضروب في بيت الوالي مثلا يحس بالألم أولا فإذا تحضرت أعضاؤه غاب عن الإحساس بالألم فهذا الجزاء اليسير من عدم الإحساس هو من الرحمة التي سبقت الغضب في أهل النار في بعض الأوقات.

(فإن قلت): فهل تتزاور أهل النار كما تتزاور أهل الجنة ؟

(فالجواب): نعم يتزاورون لكن لا يتزاور إلا أهل كل طبقة مع بعضه فقط فيتزاور المجرورون مثلا لبعضهم بعضا والمقرورون لبعضهم بعضا فلا يزور مقرور مجرورا ولا عكسه وأطال في عذاب أهل التنويه والتثليث في الباب الثالث وأربعين وثلاثمائة.

(فإن قلت): فما المراد بقوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث البيهقي " أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذاب وإن عذابها في الدنيا الزلازل والفتن والبلايا والمحن " الحديث بمعناه وفي رواية أخرى " عذاب أمتي في دنياها " وإذ كانوا كذلك فأين العصابة الذين يدخلون النار من الموحدين.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والأربعين وثلاثمائة: إن المراد بقوله ليس عليها في الآخرة عذاب أي مسرمد بدليل الأحاديث الصحيحة الواردة في دخول طائفة من هذه الأمة النار من الموحدين ولكن من رحمة اللّه تعالى بهم إماتتهم في النار كما مر آنفا حتى لا يحسوا بما تأكل النار منهم وذلك لأن النفوس المتألمة هي الموحدة المؤمنة والإيمان والتوحيد يمنعان قيام الآلام والعذاب إلى غير نهاية فما حرقوا وصاروا حمما إل وهم أموات والميت لا يحس بما يفعل به ولو تصور علمه بالحرق لم يحس به إذ ليس كل ما يعلمه العبد يحس به فلذلك كان لا بد من رفع العذاب عن الموحدين وأنهم إن دخلو النار فإنما ذلك تحقيق للكلمة الإلهية فلا يبقى في النار من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ولو مرة واحدة في عمره ومات على ذلك انتهى.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى في أهل النار حين ذاقو العذابوَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] مع أنهم قالو في محل يصدق به الكذوبرَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّ نَعْمَلُ [فاطر: 37] ؟

(فالجواب): إنما قالوا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل بلسان الحالة التي هي حالّة بهم لظنهم أنها تدوم معهم إذا رجعوا إلى الدنيا وهي لا تدوم فإنهم إذا رجعوا إلى الدنيا رجعوا بحكم القبضتين وهو عملهم بعمل الأشقياء لا يمكنهم أن يعملوا بعمل السعداء وإيضاح ذلك كما قاله الشيخ في الباب الرابع والخمسين وثلاثمائة: إن اللّه تعالى خلق الإنسان على مزاج يقبل النسيان والغفلة ويقبل أيضا ضد ذلك على حسب ما يقام فيه فهو تعالى يعلم من نشأة هؤلاء الذين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه أنهم لا يرجعون إلى الدنيا إلا بتلك النشأة فينسون ما ذاقوه من عذاب النار وما قالوايا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّن وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27]

إلا بلسان النشأة التي هم فيها لتخليهم أن ذلك العلم والذوق الذي حصل عندهم في النار يبقى عليهم ولو أنه بقي معهم لما كانوا يعودون لما نهوا عنه إذ ردوا إلى الدنيا ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم " يؤتى في القيامة بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت نعيما قط فيقول لا واللّه " ومعلوم أنه رأى في الدنيا نعيما ولكن حجة شاهد الحال عن هذا النعيم فنسيه وكذلك ورد في صاحب البؤس إذا غمس في الجنة غمسة فيقال له: هل رأيت يوما بؤسا قط فيقول لا واللّه ما رأيت بؤسا قط وأطال في ذلك ثم قال: فعلم أن جميع المؤمنين يعلمون بإنفاذ الوعيد في حق طائفة منهم لكن غير معينة لأنها لو تعينت العقوبة لواحد منهم في دار الدنيا وأنه هو الذي ينفذ فيه الوعيد لما أقدم على سببها أبدا انتهى.

(فإن قلت): فمن أكثر عصاة الموحدين مكثا في النار ؟

(فالجواب): قد ذكر الشيخ في علوم الباب التاسع والستين وثلاثمائة ما نصه: اللّه تعالى لم يطلعني على مدة أكثر العصاة مكثا في جهنم قال وإنما استروحن من قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] أن آخرهم مكثا من يمكث فيها هذا القدر قال وما نحن من كمال الخمسين ألفا على يقين فهذه هي مدة إقامة الحدود على الموحدين من أهل الكبائر قال: وكل ذلك في يوم القيامة وليس السرمدي إلا لأهل النار الذين هم أهلها فإذا انقضى يوم القيامة لم يبق أحد من عصاة الموحدين في النار أبدا فرحم اللّه عبدا أطلعه اللّه على مدة إقامة العصاة في النار على التحديد فألحقه بهذا الكتاب فإني إنما علمت ذلك مجمل من غير تفصيل.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23] لم لم تأت بنفسها لأهلها عند الميقات ؟ (فالجواب): إنما لم يصفها الحق تعالى بالمجيء من ذاتها مع علمها بم هي عليه من أسباب الانتقام من العباد لما جبلها اللّه تعالى عليه من العلم برحمة اللّه التي وسعت كل شيء فمنعتها الرحمة الكامنة فيها من المبادرة للإتيان فإنها ما وقعت عينها إلا على مسبح للّه تعالى بحمده مطيع لإرادته فلذلك جيء بها ليعلم الذي لا يدخلها ما أنعم اللّه تعالى عليه مما لم يكن يعلمه وليعلمه أيضا من يدخلها بأنه بالاستحقاق يدخلها فتجذبه بالخاصة إليها جذب المغناطيس للحديد وهو قوله عليه الصلاة والسلام " أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش " انتهى.

(فإن قلت): فهل لأهل النار حظ من النعيم في وقت من الأوقات ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب العشرين من "الفتوحات" نعم لأهل النار حظ من النعيم، ولكن صورة نعيمهم عدم توهمهم وقوع العذاب بهم كما أن حظهم من شدة العذاب توقعه لأنه لا أمان لهم. بطريق الأخبار عن اللّه تعالى فل يفتر عنهم العذاب فلم يزالوا في غشية من العذاب بعد غشية وإفاقة بعد إفاقة ففي حال الغشية يعذبون بالعذاب المتخيل وفي حال الإفاقة يعذبون بالعذاب المحسوس وقد يطول زمن الغشية نحو عشرة آلاف سنة وقد يطول زمن الإفاقة فيعذبون خمسة عشر ألف سنة وهكذا أبد الآبدين ودهر الداهرين. فعلم أن أشد العذاب على أهل النار ما يقع في نفوسهم من التوهمات فإنهم لا يتوهمون قط عذابا أشد مما هم فيه ألا تكون في نفوسهم لوقته.

(فإن قلت): فهل عند أهل النار الذين هم أهلها نوم ؟

(فالجواب): ليس عندهم نوم وإنما النوم خاص بعصاة هذه الأمة من الموحدين فقط وذلك هو القدر الذي يتنعمون به في النار ويستريحون به في بعض الأوقات ثم إن عصاة الموحدين إذا ناموا يكون نعيمهم في منامهم الرؤيا الحسنة فيرى نفسه مثلا أنه خرج من النار ودخل الجنة وصار في فرح وسرور وأكل وشرب وجماع بين أهله وإخوانه ثم إذا استيقظ لا يرى شيئا كما يقع لأهل الدنيا إذا ناموا وبعض أهل النار من الموحدين قد يرى في منامه أيضا ما يسوءه فيعذب في منامه أيضا فيرى أنه في بؤس وضر وعقوبة وفراش من شوك ونحو ذلك نسأل اللّه العافية.

(فإن قلت): قد بلغنا أن إبليس يكون في الطبقة الوسطى من النار التي هي الرابعة فهل ذلك تخفيف لعذابه.

(فالجواب): ليس ذلك تخفيفا للعذاب وإنما ذلك للإحاطة والشمول، فهو ملء النار فلا يعذب أحد فيها إلا وإبليس مشارك في عذابه لأنه كان سببا في تعذيبه وفي الحديث " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فبهذ الاعتبار كان ملء النار بحقيقته فكونه لا يدخل أحد النار إلا بواسطته هو سر مستقره في النار في الطبقة الرابعة فليس ذلك تخفيفا عنه بالنسبة للدركات السفلية كما مر.

(فإن قلت): فهل تكون أقسام أهل النار الأربعة السابقة أول المبحث أيضا في الجن كما هي في الإنس ؟

(فالجواب): ليس في الجن مشرك ولا منافق ولا معطل وإنما هم كفار فقط ويؤيد ذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر: 16] فألحق اللّه تعالى الشيطان بالكفار ولم يلحقه بالمشركين وإن كان هو الذي يوسوس للخلق بالشرك حتى يشركوا فكل مشرك كافر ضمنا وليس كل كافر مشركا لأن من قال إن اللّه تعالى هو المسيح ابن مريم كافر وليس بمشرك.

(فإن قلت): فهل قول إبليسإِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر: 16] توحيد ؟ فإن كان توحيدا فلم لم يسعد به ؟

(فالجواب): هو توحيد ولكن كتوحيد المنافق بلسانه فقط دون قلبه فكان الحكم عليه بالكفر والشرك والنفاق والتعطيل في هذه الدار كحكمنا على أهل هذه الصفات في الآخرة سواء، وقد انعقد إجماع الملل كلها على كفره وأنه لا يصح أن يسلم قط حقيقة لأنه لو تصور إسلامه حقيقة لم تجد الكفار والعصاة من يوسوس لهم بالوقوع في الكفر والمعاصي ولا بد لكل عاص من واسطته فهو أول من سن الشرك والكفر وسائر المعاصي.

ثم بتقدير أن قولهإِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر: 16] توحيد فما نحن على يقين من استدامة ذلك إلى الممات لأن اللّه تعالى أخبر عنه أنه يخطب لأهل النار في النار، وقد سئل الشيخ محيي الدين عن قول إبليسإِنِّي أَخافُ اللَّهَهل هو توحيد ؟ فقال ليس ذلك بتوحيد لأن إبليس أشقى الأشقياء وهو أول شقي من الجن فهو ولو وحد بلسانه فليس ذلك بتوحيد شرعي يقبل منه، انتهى، ذكره في الباب التاسع من الفتوحات وذكر في الباب الرابع والستين أن النار بذاتها لا تقبل خلود موحد فيها بأي وجه كان توحيده وإبليس مخلد في النار بالإجماع وفي " صحيح مسلم " " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا اللّه دخل الجنة " فلم يقل وهو مؤمن ولا قال من مات وهو يقول بل أفرد العلم فلا يبقى بعد الشفاعات في النار أحد ممن عمل عملا مشروعا من حيثما هو مشروع بلسان نبي ولو كان مثقال حبة من خردل فما فوق ذلك في الصغر فيخرجون كلهم بشفاعة أرحم الراحمين.

(فإن قلت): فلم خص اللّه تعالى الجباه والجنوب والظهور بالحرق لمن كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل اللّه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السبعين: إنما خص اللّه تعالى الكي بهذه الأعضاء الثلاثة لأن صاحب المال إذا رأى السائل مقبلا إليه انقبضت أسارير جبهته لعلمه بأنه يسأله من ماله فتكوى جبهته بما منعه، ثم إن الغني يتغافل عن السائل ويعطيه جانبه كأنه ما عنده منه خبر فيكوى بها جنبه فإذا عرف من السائل أنه يطلب منه ولا بد أعطاه ظهره وانصرف فيكوى بها ظهره هذا حكم مانعي زكاة الفضة والذهب في النار انتهى.

(فإن قلت): فلم كانت أبواب جهنم سبعة ؟

(فالجواب): لأنها على عدد أعضاء التكليف الظاهر سواء وباب القلب مطبوع عليه لا يفتح من حين طبع اللّه عليه وما ذكر سبحانه وتعالى من أبواب النار إلا السبعة التي يدخل منها الناس الجنان وأما الباب المغلق الذي لا يدخل منه أحد فهو في السور باطنه فيه الرحمة لإقرار العبد بوجود اللّه ربا واعترافه بعبوديته له وظاهره من قبله العذاب بالنار التي تطلع على الأفئدة. (فإن قلت): فلم كانت النار تحرق جوارح المكلفين الظاهرة فقط دون الباطنة ؟

(فالجواب): إنما لم تحرق الأعضاء الباطنة لأن إيمان عصاة الموحدين يمنع من تخلص النار إلى قلوبهم، فانظر يا أخي عناية التوحيد والإيمان بأهله فإن الجوارح إذا أحرقت غابت فلا تحس بعد ذلك بألم فصاحب هذا العذاب كالنائم سواء حتى تأتيه الشفاعة فإذا بعثه اللّه من تلك النومة وجد إيمانه على باب النار ينتظره فإذا غمس في نهر الحياة الذي على باب الجنة دخل الجنة فلا يبقى في النار من علم أن اللّه إله واحد جملة واحدة.

(فإن قلت): إن النار جاءت في القرآن مطلقة ومقيدة يعني مضافة فهل في ذلك خصوصية ؟

(فالجواب): نعم لذلك خصوصية وهي أن نار جهنم لها نضج الجلود وحرق الأجسام لأنها نتائج أعمال حسية ظاهرة فيجمع لمن هذه صفته بين العذابين كما فعل بأهل الجزية من تعذيبهم بإخراج أموالهم من يدهم قهرا وصغارا وفي ذلك عذاب نفوسهم أيضا، وأما نار اللّه فهي مجسدة لأنها نتائج أعمال معنوية باطنة وهو قوله تعالى نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(7) [الهمزة: 6 - 7] ومعلوم أن الأفئدة هي باطن الإنسان فهي تظهر في فؤاد الإنسان وعن هذه النار الباطنة ظهرت النار الظاهرة والعبد منشىء النار في الحالين فما عذبه سوى ما أنشأه بأعماله وأطال الشيخ في ذلك في الباب التاسع والستين وثلاثمائة فراجعه.

(فإن قلت): فما حكم أرض الموقف إذا لم يبق فيها أحد ؟ هل تصير من الجنة أو من النار ؟ (فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الحادي والسبعين وثلاثمائة: إن أرض الموقف إذا خلت ولم يبق فيها أحد تعود كلها في جهنم وإن كان فيها زمهرير وذلك لأن حد جهنم من مقعر فلك الكواكب إلى أسفل سافلين كما مر فهي تهوي على السماوات والأرض على صورة ما كانتا عليه إذ كانتا رتقا فرجعت إلى صفتها من الرتق والكواكب كلها فيها طالعة وغاربة على أهل النار بالحرور والزمهرير فبالحرور عل المحرورين والزمهرير على المقرورين.

(فإن قلت): إذا كانت الكواكب كلها طالعة وغاربة في النار فأين نوره وجهنم سوداء مظلمة ؟

(فالجواب): أن نور الكواكب موجود ولكن أهل النار لا يشهدون نورها لا حال شروقها ولا حال غروبها لما في دخان جهنم من الكدورة وكانوا في الدنيا عميا عن إدراك الحق الذي جاءت به الشرائع كذلك صاروا عميا في النار عن إدراك الأنوار فليل أهل النار لا صباح له، كما أن نهار أهل الجنة لا ليل له ولا يزال أهل الجنة وأهل النار على ما وصفنا أبد الآبدين ولذلك سمى اللّه تعالى يوم القيامة باليوم العقيم لأنه لا يوم بعده قال: وهو يوم السبت.

(فإن قلت): قد بلغنا أن منازل أهل النار ودركاتها وخوخاتها على عدد منازل الجنة ودرجاتها وخوخاتها فهل ذلك صحيح ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين: نعم لا تزيد على منازل الجنة ودرجاتها ولا تنقص لكن ليس في النار نار ميراث ولا نار اختصاص كما مر أوائل المبحث وإنما ذلك خاص بالجنة فنار جهنم نار أعمال لا غير ولقد بسطنا الكلام على النار في رسالة الكلام على الدارين فراجعها واللّه أعلم.

(فإن قلت): فهل يتوالد أهل النار كما هو شأن أهل الجنة ؟

(فالجواب): لا توالد في النار واللّه أعلم.

(خاتمة): ذكر الشيخ في الباب الحادي والسبعين وثلاثمائة من "الفتوحات" ما نصه: اعلم أنه إذ ذبح الموت بعد مجيئه في صورة كبش ونادى المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ارتفع الإمكان من قلوب أهل الجنة وأيسوا من الخروج منها وكذلك يرتفع من قلوب أهل النار فيا لها من حسرة ما أعظمها قال: وتغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده أبدا لكن لا يخفى أن عين غلق أبواب النار هو عين فتح باب الجنة لأنها على شكل الباب الذي إذا فتحته سددت به موضعا آخر فعين غلقه لمنزل هو عين فتحه منزلا آخر وتقدم أن الباب الثامن الذي لا يفتح في النار هو باب الحجاب عن رؤية ربهم عز وجل فلا يفتح أبدا.

* - قال الشيخ محيي الدين: واعلم أنه إذا أغلقت أبواب جهنم فارت وغلت وصارت أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها وصار الخلق فيها كقطع اللحم في القدر الذي على نار شديدة وأطال في صفة عذاب أهل النار انتهى.

(فإن قلت): فكذب واللّه وافترى من أشاع عن الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه اللّه أنه كان يقول: إن أهل النار الذين هم أهلها يخرجون منها بعد مدة تعذيبهم وكذلك كذب من دس في كتاب " الفصوص " و " الفتوحات المكية " أن الشيخ قائل بأن أهل النار يتلذذون بالنار وأنهم لو أخرجوا منها لاستغاثوا وطلبوا الرجوع إليها كما رأيت ذلك في هذين الكتابين وقد حذفت ذلك من "الفتوحات" حال اختصاري لها حتى ورد على الشيخ شمس الدين الشريف المدني فأخبرني بأنهم دسوا على الشيخ في كتبه كثيرا من العقائد الزائغة التي نقلت عن غير الشيخ كما مرت الإشارة إليه في الخطبة فإن الشيخ من كمل العارفين بإجماع أهل الطريق وكان جليس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الدوام فكيف يتكلم بما يهدم شيئا من أركان شريعته ويساوي بين دينه وبين جميع الأديان الباطلة ويجعل أهل الدارين سواء هذا لا يعتقده في الشيخ إلا من عزل عنه عقله، فإياك يا أخي أن تصدق من يضيف شيئا من العقائد الزائغة إلى الشيخ واحم سمعك وبصرك وقلبك وقد نصحتك والسلام، وقد رأيت في عقائد الشيخ الوسطى ما نصه ونعتقد أن أهل الجنة وأهل النار مخلدون في داريهما لا يخرج أحد منهم من داره أبد الآبدين ودهر الداهرين قال: ومرادنا بأهل النار الذين هم أهلها من الكفار والمشركين والمنافقين والمعطلين لا عصاة الموحدين فإنهم يخرجون من النار بالنصوص، قال لأن النار كما لا تقبل بطبعها خلود موحد فيها كذلك لا تقبل بطبعها خروج أهلها منها أبدا لأنها خلقت من الغضب السرمدي قال:

وهذا اعتقاد الجماعة إلى قيام الساعة انتهى.

وفي " لواقح الأنوار " التي جمعها محمد بن سويدكين من مجالس الشيخ وتقريراته: اعلم يا أخي أن جميع ما وجدته من قولنا بخروج أهل النار منها في سائر كتبنا وتقريراتنا فمرادنا بهم عصاة الموحدين انتهى ،

وقد نبه على ذلك أيضا الشيخ الكامل عبد الكريم الجيلي في شرحه لباب الأسرار من "الفتوحات" فقال إياك والغلط فتفهم من كلام الشيخ أنه يريد بخروج أهل النار غير الموحدين من الكفار فإن ذلك خطأ انتهى، وقد رجع بحمد اللّه تعالى على يدي جماعات كثيرة من صوفية الزمان الذين لا غوص لهم في الشريعة في اعتقاد خروج أهل النار الذين هم أهلها تقليدا لم أشيع عن الشيخ محيي الدين وتابوا إلى اللّه تعالى بعد أن كانوا يتساورون فيم بينهم فالحمد للّه رب العالمين.

(وأما الكلام على الجنة وأهلها): فنذكر لك يا أخي منه نبذة صالحة إن شاء اللّه تعالى فنقول وباللّه التوفيق: قال الإمام أبو طاهر القزويني في كتابه " سراج العقول " في الباب الخامس والثلاثين منه: اعلم أن الجنة أوسع من السماوات والأرض وذلك قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] ذكر المفسرون في معنى عرضها وجوها وفسروها بالعرض الذي هو ضد الطول ثم أشكل عليهم أن الجنة عرضها الذي هو مثل عرض السماوات والأرض كيف تسعها السماء وزادوا في بيان ذلك بما يزيد إشكالا ولا يحل إشكالا والذي أراه أن معنى عرضه إظهارها لأهلها بسماواتها وأرضها كما عرضت هذه الدنيا بسماواتها وأرضها على أهلها وأنه من عرضت المتاع للبيع ومثاله: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف: 100] فكما عرض اللّه جهنم للكافرين فكذلك عرض الجنة للمؤمنين وهذا أمر ظاهر لا إشكال فيه وروى الحاكم وصححه " أن أعرابيا قال يا رسول اللّه أرأيت قوله تعالى: جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] فأين النار ؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أرأيت الليل إذا جاء فأين يكون النهار ؟ قال: اللّه أعلم، فقال كذلك اللّه يفعل ما يشاء.

(فإن قيل): فما معنى قوله: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] جعل السماوات والأرض عرضها ؟

(فالجواب): هذا جائز في اللغة كما قال الشاعر ووجه نوره البدر التمام. أي كنور البدر فيكون المعنى هنا كعرض السماء والأرض تصديقه ما في سورة الحديد من قوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 21] .

(فإن قيل): فما وجه من منع حمل العرض على العرض الذي هو ضد الطول ؟

(فالجواب): وجهه أنه جعل حكم ذلك حكم من نظر منا إلى هذه السماء أليس يرى قدر وسعها بعينه ومعلوم أن محل الإدراك من العين هو تلك اللعبة الصغيرة التي هي مقدار عدسة فعلى هذا يكون نسبة عرض الجنة إلى عرض السماوات نسبة هذا الربع مثلا من السماء إلى لعبة عينك وأن الذي قدر على بناء الجمال والفيلة العظام على قوائمهن الصغار وقدر على بناء طلل الإنسان على قدميه الصغيرين لا يعجز عن بناء الجنة بسمتها على السماء التي تصغر في جنبها إذ السماء كالعمود تحت سقف بيت واسع.

* - قال الشيخ أبو طاهر القزويني: واعلم أن سماوات الجنة عدد درجها هي مائة وأعلاها هو ما دلت عليه الأخبار وهو ساق العرش ففي الحديث مرفوعا " الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى ما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها " ومنه تنفجر أنهار الجنة وعليها يوضع العرش يوم القيامة وأما أرضها فتنتهي إلى سدرة المنتهى قوله عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وسدرة المنتهى فوق السماوات السبع على ما جاء في الأحاديث وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أن الجنة في جوف الكرسي هذا ما بلغنا من سماء الجنة وأرضها واللّه أعلم، قال ولا يكون في الجنة شمس ولا قمر كم قال تعالى: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان: 13]

قيل معناه ولا قمرا وقيل حرا ولا بردا وإنما يكون بدل الشمس والقمر أنوار طالعة من سرادقات العرش وهي الأنوار التي يكسى بعضها شمسنا هذه كل ليلة فتطلع مضيئة علينا وفي الحديث عن أبي ذر قال قلت يا رسول اللّه أين تذهب الشمس إذا غربت قال تذهب حتى تسجد للّه تعالى تحت العرش فتستأذن فيكسى عليها سبعون حلة من نور العرش ويؤذن لها. الحديث فعلمنا بهذا الحديث وغيره أن للجنة سماوات وأرضا باقيات خالدات أبد الآبدين لا تفنى ولا تبيد ومن توقف فيم قلناه فإنما هو لعكوفه على المألوفات في هذه الدار كما لو قيل لمن ليس في بلادهم زيت إنا رأينا في بلاد شيئا يوضع في شيء اسم أحدهما زيت والآخر فتيلة قطن فينور على الناس طول ليلتهم فإنه يستبعد ذلك أشد البعد ولا يصدقه إلا إن رآه ولكن من رزقه اللّه قوة الإيمان لا يتوقف فيما أخبر اللّه ورسوله أبدا. قال الشيخ أبو طاهر والآية التي أشكلت على الأئمة الماضين دالة على هذا المعنى

وهي قوله وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) [هود: 108] يريد أن السعداء يكونون في الجنة خالدين دوام خلود سماوات الجنة وأرضها إلا ما شاء ربك زيادة على المكث الدائم من النعم السنية والألطاف الخفية مما أعده اللّه فيها كما في حديث « في الجنة ما لا عين رأت ول أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » قال وأعلى نعيمها الرضا والنظر إلى وجهه الكريم فمثل هذه هي العطايا الجسام المستثناة من نعمة الخلود وتصديق هذا التفسير قوله تعالى في آخر الآية عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع

وأما قوله في صفة أهل النار خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) [هود: 107]

فهي دالة أيضا على أن للكفار أرضا وسماوات إذ السماء في اللغة هو كل ما علاك وأظلك والأرض كل ما تحت قدمك فأرض النار الدرك الأسفل وسمواتها أطباق دركاته طبقا فوق طبق إلى أن ينتهي إلى الصخرة التي فوقها نظير العرش فوق الجنة كما مر واللّه أعلم بحقيقة الحال. فعلم أيضا أن أرض النار وسماواتها باقيات خالدات ومعنى إلا ما شاء ربك يعني إلا ما شاء اللّه بعد خلودهم فيها من أنواع الآلام والعقوبات المتلونة الزائدة لهم على عقوبة الحبس الدائم. قال الشيخ أبو طاهر: وهذا الذي استنبطته من نظري في معنى هاتين الآيتين رأيته بعد ذلك منقولا في تفسير الحسين بن الفضل وكان ذلك مثل وقع الحافر على الحافر وهو أصح ما قيل في الآيتين فإن فيهم نيفا وعشرين قولا كلها ضعيف. قال: ومثال تفسيرنا هذا مثال ملك استخلص بعض رعيته لنفسه وأسكنه معه في داره وكان يفيض عليه من مباره وخيره وحبس بعض رعيته في سجنه وصار يأمر كل يوم مع ذلك بأنواع العقوبات لهم ثم صار الملك يخبر الناس عن حال الفريقين ويقول أما فلان ففي رعايتي وجواري يتبوأ معي في داري ما عشت إلا ما شئت له زيادة على جواري وإحساني وخلعي عليه وأما فلان في سجني ما عشت إلا ما شئت له من أنواع المثلات والآلام بصنوف العقوبات زيادة له على الحبس الدائم قال وهو كلام سديد فتأمله فإنه نفيس.

(فإن قيل): كيف يتصور الخلود الدائم والنعيم الأبدي وكذلك العذاب السرمدي في العقل ؟

(فالجواب): يتصور ذلك في العقل يتجدد حالات بعد حالات على الدوام وأما عدم تناهي ذلك فيما لا يزال فيدركه العقل المجرد ويتقاعس عنه الوهم والخيال فلا يكاد يخيل ذلك لعجزه عن التصوير مع كونه يدرك ذلك بالدليل، وقد قرب الإمام الغزالي رحمه اللّه ذلك بقوله: من عجز عن تخيل العدد الغير المتناهي فليقدر أن اللّه تعالى خلق مثل هذه الدنيا ألف ألف مدينة وملأها كلها من الحب ثم خلق طيرا يلتقط في كل ألف ألف سنة حبة واحدة فإنه تنفذ تلك الحباب من المدائن كلها ويبقى الأبد كما كان وقد ورد في الحديث نحو ذلك.

(فإن قيل): فهل اللذات الأخروية حسية أم عقلية أم خيالية ؟ فإن هذ سؤال ضل فيه كثير من الناس.

(فالجواب): عن ذلك هو أن تعلم يا أخي أن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا والآخرة خير وأبقى فلا يجوز أن تتقاصر لذاتها عن لذات النفس في الدني ولذات الدنيا من ثلاثة أوجه حسي خيالي عقلي فيمكن أن يخلق اللّه تعالى لأهل الجنة إدراكات أخر زائدة على هذه المدارك يدركون بها ما أخفى لهم من قرة أعين فضلا من اللّه ونعمة.

(فإن قيل): فما هي اللذة الحسية أي التي تدرك بالحس ؟ والخيالية أي التي تدرك بالخيال ؟ والعقلية أي التي تدرك بالعقل ؟

(فالجواب): أما الحسية فهي كلذة الطعام والشراب بالذوق وكلذة النكاح وسائر الملموسات باللمس وكلذة الألوان والصور الحسان بالعين وكلذة المشمومات بالشم وكلذة الأصوات والألحان بالسمع فمن تلذذ بالحواس الخمس فهو الذي كمل عيشه قال وأم اللذة الخيالية وهي مطلوبة في الدنيا أيضا فإن الرجل ربما يتخيل أشياء يتمناه فيلتذ بها بل ربما رأى الشيء الذي يهواه في المنام فيلتذ به وقال بعضهم: لا تكون اللذة الخيالية في الجنة أبدا لأن الجنة دار صدق واللذة الخيالية من قضايا الوهم الكاذب فهي أكاذيب وغرور والدار الآخرة دار الحقائق ولذلك سميت الحاقة قال تعالى: الْحَاقَّةُ (1) ما الْحَاقَّةُ (2) [الحاقة: 1 - 2] قال المفسرون سميت الحاقة لأن فيها حواق الأمور وليس فيها أباطيل ولا أكاذيب بدليل قوله تعالى لا يَسْمَعُونَ فِيه لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) [النبأ: 35] .

وإذا كانت اللذة الخيالية بالتمني والأمنية في الجنة من حيث إن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فذلك يدل على أن اللذة الخيالية فيها معدومة، قال وهذ القول عندي صحيح إذ اللذات الخيالية أماني والأماني أكاذيب وأباطيل فلا يكون ذلك في الآخرة فإن كل ما يشتهيه أهل الجنة يجدونه في الحال عيانا نقدا فلا يكون لهم أمنية، التذاذهم يكون بالموجود المشاهد لا بالمفقود المتمني المتخيل فافهم ذلك فإنه من غرائب أمور الآخرة وأما اللذة العقلية فلا خلاف في أنها لذة الأشياء وأقواها وأسرها للنفس وأشهاها وأبسطها للروح وأحلاها اعتبر ذلك بلذة الفهم والعلم فإنك إذا أدركت مسألة كانت تشكل عليك رأيتك تجد في قلبك وفي نفسك لذة لا يعادله شيء من لذات الدنيا كما قال الإمام أبو حنيفة لو يعلم الملوك ما نحن فيه من لذة العلم لحاربونا عليه بالسيوف وناهيك بلذة الأمر والولاية والأمر والنهي والابتهاج بالأشياء الموافقة للطبع والغرض ولذة الوجدان كما وقع لبعض الأعراب أنه ضاع له بعير فكان يقول إلا من يبشرني بوجدانه وهو له فقالوا له: فما حظك إذن من ذلك فقال لذة الوجدان ومثل ذلك لذة الولد ولذة محادثة الإخوان الصادقين قال الإمام الشافعي رضي اللّه عنه لولا محادثة الإخوان والتهجد عند السحر ما أحببت البقاء في هذه الدار، وقس على ذلك سائر اللذات العقلية وإن كان فيها تفاوت ولها مراتب فهي لذات غير منكرة في الدنيا فيجب إثباتها في الآخرة لقوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] ، وقوله تعالى وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيه ما تَدَّعُونَ [فصلت: 31] ، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار قال: وعلى هذا الأصل تكون الآلام الحاصلة في الحس والعقل في جهنم لأهلها ثابتة نعوذ باللّه تعالى منها قال تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) [الإسراء: 72] ولا يخفى شدة العمى على من ابتلى به في الدنيا فقد بان لك يا أخي صحة اللذات الحسية والعقلية جميعا وكذلك الآلام مثلها في الآخرة وقد سبق بسط القول في صحة إعادة الأجسام بأرواحها وأجسامها على ما هي عليه فإذا ثبت عند الإنسان على ما هو عليه اليوم في العقل جوازا وفي الشرع وجوبا وجود اللذة والألم صحتا له في الآخرة أيضا من غير شك ولا ريب.

(فإن قيل): فإذا أكل أهل الجنة وشربوا فأين يذهب ثقل الطعام والشراب ؟

(فالجواب): قد ثبت في الحديث « أن الطعام يكون جشاء والشراب يكون رشحا كرشح المسك » وهو حديث حسن كما قاله القزويني. قال ولقد جربنا أن من غذى باللبن والعسل لا يحتاج إلى استفراغ. قال الشيخ أبو طاهر ولولا خوف التطويل لأنهينا الكلام في بيان استحالة طعامهم وشرابهم إلى الرشح والعرق وقد شاهدنا امرأة تسمى عائشة من ناحية النور ولم تحتج إلى المستراح منذ ثلاثين سنة وتواردت الأخبار أيضا بأن تركمانا أقاموا عند الملك مسعود سنين ولم يدخلوا الكنيف قط مع أنهم كانو يأكلون أكلا فإذا كان هذا موجودا في الدنيا مشاهدا مع طعامها الكثيف الثقيل وشرابها الوبيل وهوائها العفن ومائها الأجن فكيف ينكر أحد ما أخبر به الأنبياء والمرسلون صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين من أطعمة الجنة وفواكهها مما يتخيرون ومما يشتهون من شرابهم العسل المصفى والماء الغير آسن واللبن الذي لم يتغير طعمه والشراب الذي لا يتصدع عنه شاربه ولا ينزف. وإيضاح ذلك أن أطعمة الجنة وفواكهها وأشربتها لطيفة رقيقة خالصة صافية لا يعتروها الاستحالات ولا يكون له إتفال منكرات ولا روائح مكروهات. قال الشيخ أبو طاهر: واعلم أن اللّه تعالى ما وصف الجنة بالأشياء الحاضرة عندنا كالعسل والزنجبيل والمسك والكافور والسندس والحرير والذهب والفضة واللؤلؤ والمرجان والنخل والرمان والخيرات الحسان وغير ذلك إل لتهتدي بذلك القلوب وتستأنس به النفوس أما تصور ذلك في العقل فمستحيل لأن التصور إدراك الوهم خيال ما أدركه الحس والذي لم يدركه الحس يعجز الوهم عن تصوره ولو كان للخلق طريق إلى معرفة ذلك لما قال تعالى فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ولا قال صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه عز وجل " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ". قال ابن عباس ومقاتل بن سليمان ليس شيء مما يكون في الجنة من ثمرة وشراب وحلى وحلل يشبه ما في الدنيا بشيء سوى أن اللّه تعالى وصف ما عنده بما عندنا فسمى لنا الذهب والحرير والثياب والفواكه ولا نعلم نحن حقائق ذلك الذي عنده انتهى.

(فإن قيل): فإذا سماها لنا بما عندنا وهي على خلاف ذلك حقيقة فهو خلف وتعالى اللّه عن ذلك !

(فالجواب): إن تسميتها بما عندنا لا بد أن يكون ذلك بأدنى مناسبة ليقع في أفهامنا تعقله وأصل ذلك قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيه مِصْباحٌ [النور: 35] وأين المشكاة من نوره تعالى وإذا كان فيه أدنى مناسبة فلا خلاف ولا كذب وقد قال العلماء باللّه تعالى: كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه وكل شيء في الآخرة عيانه أعظم من سمعه واللّه تعالى أعلم.

(فإن قيل): فما اللذة والرغبة في الطلح المنضود والسدر المخضود.

(فالجواب): قد أخبر اللّه تعالى أن في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين على العموم وشهوات نفوس الخلق مختلفة ولعل نفوس بعض أهلها تشتهي لذلك كما تشتهي السمك القديد وتستطيب أكله في دنياها لا سيما أهل البوادي من الأعراب وكيف وطلح الجنة وسدرها إنما يشبه ما في الدنيا في الاسم فقط كما مر فلعل اللّه تعالى يخص ذلك بلذة في الموطن تفوق اللذات. قال الشيخ أبو طاهر: ونفى المكروه عن النفوس دليل على ما ذكرناه ألا تراه تعالى يقوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة: 28] فنفى الشوك ونفى احتمال الأذية في قطعها وفي ذلك دلالة على وجود نفي مكروهات النفوس هناك عكس الدنيا وفي بعض التفاسير أن الطلح في القرآن هو الموز.

(فإن قيل): فهل في الجنة نكاح ؟

(فالجواب): نعم ثبتت به الأحاديث الصحيحة وسئل صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال: نعم دحما دحما أي كثيرا وإنما أراد به استغراقهم بذلك في لذة عظيمة ينالونها بخلاف لذة الوقاع في الدنيا فقد قيل إنها وهمية لا حقيقة لها.

(فإن قيل): هل يولد لأحد في الجنة ؟ (فالجواب): نعم روي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولفظ الحديث " إن المؤمن إذا اشتهى الولد كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي " وفي رواية " ولكنه لا يشتهي " قال الشيخ أبو طاهر: وأصل هذه المسائل وأشباهها نكتة واحدة وهي أن تعلم يا أخي أن شهوات النفوس في الدنيا تابعة لمشتهيات ومشتهيات أهل الجنة تابعة لشهواتهم فيها قال تعالى وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت: 31] ولم يقل أنفسكم تشتهي كل ما فيها فاعرف قدر هذه النكتة فإنها غريبة انتهى كلام الشيخ أبي طاهر رحمه اللّه. وأما كلام الشيخ محيي الدين رحمه اللّه تعالى فقال إن قيل كم أقسام أهل الجنة.

(فالجواب): هي أربعة أقسام الرسل والأولياء والمؤمنون والعلماء باللّه تعالى من طريق الأدلة العقلية.

(فإن قيل): فهل تتميز بعض هذه الأقسام عن بعض ؟ وبماذا يكون تميزهم ؟

(فالجواب): نعم يتميزون وذلك عند رؤية الحق جل وعلا في جنة عدن في الكثيب الأبيض، وتميز كل قسم يكون بما هو جالس عليه فالرسل والأنبياء يكونون على منابر والأولياء على أسرة والعلماء باللّه من طريق البرهان والنظر العقلي يكونون على كراسي والمؤمنون المقلدون في توحيدهم يكونون على مراتب دون الأسرة انتهى.

(فإن قيل): فما المراد بحديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ؟ هل المراد لم يكن ذلك في حسابهم وظنهم أم المراد أنهم لا يحاسبون كغيرهم ؟ (فالجواب): المراد به كما مر في مبحث الحساب أن دخول الجنة لم يكن في حسابهم ولا في ظنهم ولا تخيلوه قط فبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون وليس المراد به الحساب بين يدي اللّه عز وجل ذكره الشيخ في الباب الثامن والأربعين وثلاثمائة.

* - وقال في الباب السبعين من "الفتوحات" في معنى حديث البخاري " من كان من أهل الصلاة دعي يعني يوم القيامة من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام فقال أبو بكر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه ما على هذا الذي يدخل من تلك الأبواب كلها من بأس فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول اللّه فقال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر " معنى الحديث أن دعاء اللّه تعالى الناس إلى الدخول دعاء واحد فمنهم من يدخل من باب واحد ومنهم من يدخل من بابين ومنهم من يدخل من ثلاثة وأعمهم دخولا من دخل من الأبواب الثمانية في آن واحد، وإيضاح ذلك أن أعضاء التكليف ثمانية لكل عضو منها باب فإياك يا أخي أن تنكر ذلك في الثواب الأخروي في الآن الواحد وأنت تشهد ذلك في العمل من فعل وترك كغاض بصره في حال استماعه وعظة في حال تلاوة في حال صيام تصدق في حال ورع في حال تحصين فرج كل ذلك بنية التقرب إلى اللّه تعالى قال وهذه المسألة من جملة مسائل ذي النون المشهورة التي تحيلها العقول وهو أن الواحد يكون بجسمه الواحد في أماكن مختلفة في الآن الواحد فأهل الكشف يعرفون هذه المسائل وأهل العقل ينكرونها فمن تحقق بمعرفة ما قلناه لم يتوقف في دخول الواحد الجنة من أبوابها الثمانية في آن واحد إذ النشأة الأخروية تعطي هذه الأمور كما أن نشأة الدنيا تعطي جميع شعب الإيمان في الإنسان في الزمان الواحد من غير استحالة انتهى. (فإن قيل): هل لنا جنة معنوية أيضا كالحسية أو ماثم لنا جنة سوى الحسية ؟

(فالجواب): نعم إن الجنة على نوعين جنة معنوية وجنة حسية والعقل يعقل هاتين الجنتين معا كما أنه يعقل العالمين العالم اللطيف والعالم الكثيف ويعقل عالم الغيب وعالم الشهادة وإيضاح ذلك أن النفس الناطقة المكلفة لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف من طريق نظرها وفكرها وما وصلت إليه من ذلك بالأدلة العقلية ولها أيضا نعيم بما تحمله من اللذات والشهوات بما تناله بالنفس الحيوانية من طريق قواها الحسية من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات طيبة وصور حسان وغير ذلك.

(فإن قلت): فمم خلق اللّه تعالى هاتين الجنتين ؟ وهل خلقهما من مادة واحدة أم من مادتين ؟

(فالجواب): قد خلقهما اللّه من مادتين فأما الجنة المحسوسة فخلقه من رضاه وذلك لخلق كان بطالع الأسد الذي هو الإقليد ولذلك كانوا يقولون للشيء كن فيكون بإذن اللّه تعالى وأما الجنة المعنوية التي هي روح هذه الجنة المحسوسة فخلقها اللّه تعالى من الفرح الإلهي والكمال والابتهاج والسرور فكانت الجنة المحسوسة كالجسم وكانت المعنوية لها كالروح وقواه ولهذا سماه اللّه تعالى الدار الحيوان لحياتها فأهلها يتنعمون فيها وبها حسا ومعنى وقد ورد في الحديث " أن الجنة اشتاقت إلى أربع بلال وعمار وعلي وسلمان " فوصفها بالشوق إلى هؤلاء وما أحسن موافقة هذه الأسماء فإن بلالا مأخوذ من أبل الرجل من دائه إذا خلص منه وسلمان من السلامة من الآلام والأمراض وعمار من العمارة أي بعمارة أهلها لها يزول ألم شوقه إليهم وأما علي فهو من العلو أي تعلو على النار التي هي أختها وأطال في ذلك ثم قال: وتحقيق ذلك أن الناس في هذه المسألة على أربعة أقسام قسم يشتهي الجنة وتشتهيه الجنة وهم الأكابر من رجال اللّه عز وجل من رسول ونبي وولي كامل وقسم تشتهيه الجنة ولا يشتهيها هو وهم أرباب الأحوال من رجال اللّه المهيمون في جلال اللّه عز وجل حتى حجبهم ذلك عن شهود الجنة وما فيها وهؤلاء دون القسم الأول لجهلهم بما تطلب حقائقهم وقسم يشتهي الجنة ولا تشتهيه الجنة وهم عصاة الموحدين وقسم لا يشتهي الجنة ولا تشتهيه الجنة وهم المكذبون بيوم الدين والقائلون بنفي الجنة المحسوسة ولا خامس لهذه الأربعة أقسام.

(فإن قيل): فما عدد أنواع الجنان ؟

(فالجواب): هي ثلاثة أنواع جنة اختصاص وجنة ميراث وجنة أعمال.

(فإن قيل): فمن أهل هذه الجنان ؟

(فالجواب): أما جنة الاختصاص فهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل من أول ما يولد أحدهم إلى انقضاء ستة أعوام غالبا ويعطي اللّه تعالى من شاء من عباده من جهة الاختصاص ما شاء ومن أهلها المجانين الذين عقلو وأهل التوحيد العلمي وأهل الفترات الذين لم يصل إليهم دعوة رسول من أهل التوحيد بالفطرة وأما أهل جنة الميراث فهم كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو آمنوا ودخلوها وأما أهل جنة الأعمال فهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره

السوق وقد يرى جماعة صورة واحدة من صور ذلك السوق فيشتهيها كل واحد من تلك الجماعة فيدخلها ويلبسها، فيحوزها كل واحد من تلك الجماعة ومن لا يشتهيه بعينها واقف ينظر إلى كل واحد من تلك الجماعة قد دخل في تلك الصورة وانصرف بها إلى أهله والصورة كما هي في في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر واعلم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ما فضلوا على غيرهم إلا بجنة الاختصاص وأما في العمل فيشاركهم غيرهم فيه.

(فإن قلت): فإذن جنة الاختصاص الإلهي لا تقبل التحجير ولا الوراثة ولا العمل ؟

(فالجواب): نعم وهو كذلك لأنها إنما هي فضل من اللّه تعالى يخص به من يشاء من عباده.

(فإن قلت): فكم في جنة الأعمال من درجة ؟

(فالجواب): درجاتها مائة درجة لا غير كما أن النار كذلك مائة درك كما مر في مبحث النار. قال الشيخ محيي الدين: ثم إن هذه المائة درجة تكون في كل جنة من الجنان الثمانية وصورتها جنة في جنة وأعلاها جنة عدن ويليها جنة الفردوس وهي أوسط الجنان ويليها جنة الخلد ويليها جنة النعيم ويليها جنة المأوى ويليها دار السلام ويليها دار المقامة. وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن وهي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة كما مر في مبحث أفضليته على سائر الأنبياء والمرسلين وإنما توقف حصولها له على دعاء أمته غيرة إلهية أن ينفرد أحد دون اللّه تعالى بالغنى المطلق. وقال الشيخ محيي الدين: ولا يخفى أن الراحة في الجنة مطلقة وكذلك الرحمة وإن كانتا ليستا بأمر وجودي إذ هما عبارة عن الأمر الذي يلتذ به ويتنعم به المرحم وذلك هو الأمر الوجودي فكل من في الجنة متنعم وكل ما فيها إلا راحة النوم فإن أهل الجنة ما عندهم من نعيمه شيء لعدم التعب والنصب وإنما راحة النوم خاصة بأهل جهنم لكن في أوقات كما تقدم في الكلام عليها، قال وهذا يدلك على أن النار محسوسة بلا شك ويؤيد ذلك قوله تعالى كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97] إذ النار لا تتصف بهذا الوصف إلا من حيث قيامها بالأقسام لا من حيث ذاته ولا تقبل الزيادة ولا النقص وإنما الجسم المحرق بالنار هو الذي يسجر بالنارية وأطال في ذلك.

(فإن قلت): إن اللّه تعالى قد وصف الجنة بقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] مع أنه ليس في الجنة شمس ول قمر فكيف يعرف أهل الجنة البكرة والعشي ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين وثلاثمائة: إن لأهل الجنة مقادير يعرفون بها انتهاء مدة الشمس في الدنيا في طلوعها وغروبه فيعلمون بتلك المقادير حد ما كان في الدنيا بكرة وعشيا وعند ذلك يتذكرون أنه كان لهم في الدنيا حالة تسمى الغداء والعشاء فيأتيهم اللّه عند ذلك التذكر برزق بكرة وعشيا فهو رزق خاص في وقت خاص معلوم عندهم وما عدا ذلك فأكلها دائم لا ينقطع إذ الدوام في الأكل هو عين النعيم الذي يكون به غذاء الجسم ولكن لا يشعر بذلك كثير من الناس، وإيضاح ذلك أن الإنسان إذا أكل الطعام حتى شبع فليس لك بغذاء ولا هو بأكل على الحقيقة وإنما هو كالجابي الجامع للمال في خزانته والمعدة خزانة لما جمعه هذ الأكل من الأطعمة والأشربة فإذا جعل فيها أي في المعدة ورفع يده فحينئذ تتولاه الطبيعة بالتدبير وينتقل ذلك الطعام من حال إلى حال وتغذيه بها في كل نفس يخرج عنه دائما فهو لا يزال في هذا دائما لولا ذلك لبطلت الحكمة في ترتيب نشأة كل متغذ ثم إذا دخلت الخزانة تحرك الطبع الجاني إلى تحصيل ما يملؤها به فلا يزال الأمر هكذا دائما أبدا فهذا هو صورة الغذاء في المتغذي فعلم أن التغذي موجود في كل نفس دنيا وأخرى وأطال الشيخ في ذلك.

 

* - وقال في الباب الثامن والثمانين وثلاثمائة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] .

اعلم أن في هذه الآية تعيينا لمعين وزيادة لغير معين إذ الزيادة هي كل ما لا يخطر بالبال كما أشار إليه حديث « إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » فلا بد أن يكون غير معلوم البشر ولا بد أن يكون للبشر صفة غير معلومة ولا معينة منها يحصل له هذا الذي ذكر أنه ما خطر على قلب بشر موازنة مجهول لمجهول وفي القرآن العظيم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ف

نكر النفس ونفى العلم بما أخفي له من قرة أعين فعلمنا على الإجمال أنه أمر مشاهد لكونه تعالى قرنه بالأعين ولم يقرنه بأذن ولا بشيء من الإدراكات وأطال في ذلك.

(فإن قلت): فما المراد بحديث الصور التي في سوق الجنة هل هي برازخ أم لا ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثاني والثمانين وثلاثمائة: إنه كلها برازخ وذلك أن أهل الجنة يأتون إلى هذا السوق من أجل هذه الصور التي تنقلب فيها أعيان أهل الجنة فإذا دخلوا هذا السوق صار كل من اشتهى صورة دخل فيها وانصرف بها إلى أهله كما ينصرف بالحاجة مشتريها من السوق وقد يرى جماعة صورة واحدة من صور ذلك السوق فيشتهيها كل واحد من تلك الجماعة فيدخل فيها ويلبسها ويحوزها كل واحد من تلك الجماعة ومن لا يشتهيها بعينها واقف ينظر إلى كل واحد من تلك الجماعة قد دخل في تلك الصورة وانصرف بها إلى أهله والصورة كما هي في السوق ما خرجت منه فلا يعلم حقيقة هذ الأمر الذي نص عليه الشرع ووجب به الإيمان إلا من علم نشأة الآخرة وحقيقة البرزخ وعلم تجلي الحق تعالى للقلوب وأنه لا يكون إلا بصورة الاستعدادات إذ المشاهد لذلك يشهد ببصره تحوله في الصور ويعلم عقلا أنها ما تحولت قط لكل قوة أدركت بحسب ما أعطتها ذاتها وقد صدق اللّه تعالى العقل في حكمه والبصر في حكمه وله تعالى بنفسه علم آخر غير ما أدركه العقل والبصر انتهى.

(فإن قلت): ما هذا الكثيب الأبيض الذي يكون في جنة عدن ؟

(فالجواب): هذا مسك أبيض تضع الملائكة عليه منابر الأنبياء وأسرة الأولياء ومراتب المؤمنين كما مر. وجنة عدن هي قصبة الجنان وقلعتها وهي حضرة الملك الخاصة وحضرة خواصه لا يدخلها أحد من العامة إلا بحكم الزيارة. ذكره الشيخ في الباب الحادي والسبعين وثلاثمائة وأطال فيه ثم قال: واعلم أنه إذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق تعالى إلى رؤيته فيسارعون للرؤية على قدر مراتبهم ومسارعتهم إلى الطاعات في دار الدنيا سرعة وبطئا فإن من الناس السريع ومنهم البطيء ومنهم المتوسط فإذا اجتمعوا في الكثيب عرف كل شخص مرتبته علما ضروريا يجري إليه فلا ينزل إلا فيها كما يجري الطفل إلى الندى والحديد لحجر المغناطيس ولو رام أحد أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ولو رام أن يتعشق لغير مرتبته لما استطاع بل كل واحد يرى في منزلته أنه بلغ منتهى أمله وقصده فهو متعشق لما هو فيه من النعيم تعشقا طبيعيا ذاتيا ولولا ذلك لكانت الجنة دار ألم وتنغيص عيش ولم تكن دار نعيم غير أن الأعلى له نعيم لما هو فيه في منزلته وعنده نعيم الأدنى وأدنى الناس من لا نعيم له إلا بمنزلة خاصة وأعلاهم الذي لا أعلى منه من له نعيم، فعلم أن كل شخص مقصور عليه نعيمه وهذا حكم عجيب.

(فإن قلت): فإذا وقع التجلي الإلهي فهل هو عام لجميع المعتقدات فيأخذ كل واحد من ذلك التجلي الواحد حظه أم لكل شخص تجل مستقل ؟

(فالجواب): ليس هناك إلا تجل واحد عام لسائر صور المعتقدات الشرعية فالتجلي واحد من حيث العين وكثير من حيث اختلاف الصور ثم إن الخلق إذ رأوا ربهم جل وعلا انصبغوا عن آخرهم بنور ذلك التجلي فظهر كل واحد منهم بنور على صورة ما شاهده بحسب استعداده.

(فإن قلت): فهل من عرف الحق تعالى في الدنيا في سائر مراتب التنكرات الإسلامية يراه في الآخرة كذلك أم لا ؟

(فالجواب): نعم يرى ربه في صورة كل اعتقاد إسلامي فما ألذها من رؤية فمثل هذا له نور كل معتقد كما أن من عرف الحق تعالى من طريق عقله في طريقة من الطرق كان نوره بحسب تلك الطريقة فقط وقد تقدم في مبحث رؤية اللّه عز وجل أقسام الناظرين إلى ربهم في الدار الآخرة ومراتبهم فراجعه.

(فإن قلت): فهل شجرة طوبى أصل لجميع شجر الجنان كآدم عليه السلام لما جمع في ظهره من البنين ؟

(فالجواب): نعم هي لجميع شجر الجنان كآدم بالنسبة لبنيه فإن اللّه تعالى لما غرسها بيده وسواها نفخ فيها من روحه كما فعل في مريم عليها السلام ولذلك كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ويبرء الأكمه والأبرص من العلل التي لا قوة للخلق على برئها من حيث هو إنسان فكما أن شرف آدم كان باليدين ونفخ الروح وكان ثمرة ذلك النفخ علم الأسماء كذلك كان شرف شجرة طوبى بغرسها باليد كما يليق جلاله تعالى ونفخ الروح فيها وكان ثمرة ذلك النفخ تزيينها بثمر الحلى والحلل اللذين هم زينة لكل لابس فأعطت شجرة طوبى كل ما فيها من ثمر الجنة كما أعطت النواة النخلة جميع ما تحمله من النوى الذي في جميع ثمرها.

(فإن قلت): قد تقدم مذهب الشيخ أبي طاهر رحمه اللّه في توالد أهل الجنة فما مذهب الشيخ محيي الدين في ذلك الباب ؟

(فالجواب): أن مذهبه وجود التناسل في الجنة ووقوع التوالد من حيث الأجسام والأرواح وعبارته في الباب التاسع والستين وثلاثمائة: اختلف أصحابنا في هذا النوع الإنساني هل تنقطع أشخاصه بانتهاء مدة الدنيا أم لا فمن لم يكشف له قال بانتهائه ومن كشف له قال بعدم انتهائه. وقال: إن التوالد في الآخرة في هذا النوع الإنساني باق في المثل إذ الحق تعالى لم يوجد شيئا في العالم الذي لا أكمل منه إل وله مثال في خزائن الجود في كرسيه تعالى وتلك الأمثال التي تحوي عليها تلك الخزائن لا تتناهى أشخاصها فالأمثال في كل نوع توجد في كل زمان فرد في الدنيا والآخرة لبقاء كل نوع وجد منه. (فإن قلت): فهل الحور العين على صورة نساء الدنيا أم لا تشبهها إل في الاسم فقط كما قاله ابن عباس بالنظر إلى فواكه الجنة ؟ وما كيفية جماع الحور العين ؟

(فالجواب): صورة خلق جميع الحور العين على صورة خلق الإنس مع أنهن لسن بأناسى وأما صورة نكاحهن فكما ينكح الرجل منا المرأة الآدمية الإنسانية كذلك ينكح الحور في الزمن الفرد وهذا النكاح خاص بالسعداء من بني آدم فليس للأشقياء نصيب من النكاح في النار.

* - قال الشيخ محيي الدين في الباب التاسع والستين وثلاثمائة بعد كلام طويل: فعلم أن الرجل منا لو أراد أن ينكح جميع ما عنده من النساء والحور العين لنكحهن في لمحة واحدة من غير تقدم ولا تأخر لخرق العوائد هناك وذلك مثل فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فهي تقطف دائما من غير فقدان مع وجود أكل وطيب طعم فإذا أفضى الرجل إلى الحوراء أو الإنسية كان له في كل دفعة شهوة ولذة لا يقدر قدرها لو وجدها أهل الدنيا لغشي عليهم من شدة حلاوتها فيكون من الشخص في كل دفعة ريح مثيرة تخرج من ذكره فيتلقاها رحم المرأة فيتكون من حينه فيها ولد في كل دفعة وتكمل نشأته ما بين الدفعتين فيخرج مولودا مصورا مع النفس الخارج من المرأة روح مجردا طبيعيا فهذا هو صورة التوالد الروحاني في البشر مع الجنس المختلف والمتماثل ولا يزال الأمر كذلك دائما أبدا.

(فإن قلت): فهل يشاهد الأبوان ما تولد عنهما من ذلك النكاح أم لا ؟

(فالجواب): نعم يشاهدان ما تولد منهما من ذلك النكاح ثم تخفى تلك الأولاد عنهما فلا يعودون، كالملائكة التي تدخل البيت المعمور كل يوم لا يعودون إليه أبدا. (فإن قلت): فهل لهؤلاء الأولاد حظ في النعيم المحسوس ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين: ليس لهؤلاء الأولاد نعيم محسوس ولا معنوي وإنما نعيمهم برزخي كنعيم صاحب الرؤيا بما يراه في حال نومه وذلك ما يقتضيه النشء الطبيعي فلا يزال النوع الإنساني يتوالد ولكن على هذا الحكم الذي ذكرناه.

(فإن قلت): فما صورة توالد الأرواح البشرية ؟ فإنه بلغنا أن لها في الآخرة مثل ما لها في الدنيا من الاجتماعات البرزخيات مثل ما يرى النائم في النوم.

(فالجواب): أن صورة توالد الأرواح في الآخرة صورة ما يرى النائم في الدنيا أنه نكح زوجته وولد له ولد فكل من أقيم في هذا المقام ونكح زوجته من حيث روحها وروحه يولد له أولاد من ذلك النكاح الذي بينهما روحانيون يخالف حكمهم حكم المولودين من النكاح الحسي في الأجسام والصور المحسوسات فتخرج الأولاد ملائكة كراما لا بل أرواحا مطهرة فهذه صورة توالد الأرواح لكن لا بد أن يكون ذلك عن تجل برزخي كتجلي الحق تعالى في الأحوال المقيدة فإن البرزخ أوسع الحضرات لقبوله وجود المحلات العقلية فإذن صورة نكاح أهل الجنة صورة نشء الملائكة أو الصور من أنفاس الذاكرين للّه تعالى وما يخلق تعالى من صورة الأعمال كما صحت بذلك الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأطال في ذلك في الباب السابق.

(فإن قلت): فما الحكمة في قوله تعالى وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت: 31] دون أن يقول ولكم فيها ما تريد أنفسكم ؟ (فالجواب): الحكمة في ذلك كما قاله الشيخ في الباب الثامن والعشرين وثلاثمائة أن ما كل مراد مشتهى إذ الإرادة تعلق بإيجاد ما يلتذ به وبما لا يلتذ به وأما الشهوة فإنها خاصة بالملذوذ ولذلك كان السعداء يأخذون الأعمال بالإرادة والقصد ويأخذون النتائج بالشهوة فمن رزق الشهوة في حال العمل فالتذ بالعمل التذاذه بنتيجته فقد عجل له نعيمه ومن رزق الإرادة في حال العمل من غير شهوة فهو صاحب مجاهدة ينال النتيجة بشهوة ولكنها مرتبة دون الأولى.

(فإن قيل): لم كانت الشهوات في الآخرة لا تمنع شهود تجليات الحق تعالى ولا يحجب صاحبها كما هو حكم تناول الشهوات في هذه الدار مع أن اللذة بالشهوات في الدار الآخرة أعظم من لذة شهوات الدنيا ؟

(فالجواب): إنما كانت شهوات الآخرة لا تحجب عن اللّه تعالى لأن التجلي هناك على الأبصار، وليست الأبصار بمحل للشهوات بخلاف التجلي في هذه الدار فإنما هو على البصائر والبواطن دون الظواهر ومعلوم أن البواطن هي محل الشهوات ول تجتمع الشهوات المذمومة والتجلي الإلهي في محل واحد أبدا فلذلك جنح العارفون والزهاد في هذه الدار إلى التقلل من نيل شهوات النفوس في هذه الدار حين رأوه حاجبة لهم عن شهود الأمر على ما هو عليه إذ المانع عن إدراك العلوم والأنوار والتجليات إنما هو كدورات الشهوات والشبهات الهادمة لركن الورع الشرعي في الجوارح مع أن كدورات الشهوات تؤثر في الاستعداد وتورث الحجاب وإن كان المطعم والمشرب والمنكح مثلا حلالا فافهم ذكره في الباب الخامس عشر من "الفتوحات".

(فإن قيل): فكم مرة يزور العبد ربه في كل يوم ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين ومائة أن زيارة كل عبد لربه في الجنة تكون على قدر صلاته كما أن رؤيته له في الآخرة تكون على قدر حضوره معه في صلاته كما أن مجالسته لربه تكون على قدر فعله للواجبات والمندوبات وترك الحرام والمكروهات في دار الدنيا كما أن مجالسة العبد لربه في المباح تكون على حسب النية فيه فإن شهد العبد ربه أو بنية صاحب التشريع في فعله للمباح ولم يفعله مع الغفلة كما هو الغالب كان حكمه حكم المندوب فيحضر مع ربه هناك كما يحضر معه في فعل المندوب وإن حجب عن ذلك وفعل المباح مع الغفلة ليس له حظ مما ذكرناه.

(فإن قلت): فهل نبق سدرة المنتهى يكون عدد أهل الجنة كما قيل من غير زيادة أم هو زائد على عددهم كما هو الحكم في فواكه الدنيا ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابق أن نبقها يكون على عدد نسمة السعداء وأعمالهم بل نقول: إن النبق عين أعمالهم وأطال في ذلك ثم قال: فعلم أنه ليس في جنة الأعمال قصر ولا طاق إلا وغصن من أغصان هذه السدرة داخل فيه وفي ذلك الغصن من الثمر على قدر ما في العمل الذي هو الغصن صورته من الحركات.

(فإن قلت): فما حكم ورقها في الحسن وعدمه ؟ (فالجواب): حكم ورقها أن فيه من الحسن بقدر ما حضر العبد في ذلك العمل الذي الورق مظهره كما أن عدد أوراق كل غصن يكون على عدد ما في ذلك العمل من الأنفاس.

* - قال الشيخ محيي الدين: واعلم أن أسعد الناس بهذه السدرة أهل بيت المقدس كما أن أسعد الناس بالمقدس أهل الكوفة كما أن أسعد الناس برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الحرم المكي كما أن أسعد الناس باللّه عز وجل أهل القرآن انتهى، ولم أطلع لهذا الكلام على دليل واللّه أعلم.

(فإن قيل): فما حكمة الأكل من هذه الشجرة ؟

(فالجواب): حكمته زوال الغل من قلوب أهل الجنة فلا يزول الغل من قلب أحد منهم إلا إن أكل منها واللّه أعلم.

(فإن قلت): فما المراد بقوله تعالى في فاكهة الجنةلا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) [الواقعة: 33] هل المراد بذلك أنها لا تنقطع في فصول السنة أم المراد غير ذلك ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب التاسع والتسعين: إن المراد بذلك عند بعضهم ما ذكر في السؤال وهو أن الفاكهة تنقضي بانقضاء زمانه ثم تعود في السنة الآخرة وأن المراد أنها دائمة التكوين لا تنقطع فهذا مبلغ علم العقول والذي عندنا نحن من العلم في قوله لا مقطوعة ولا ممنوعة أن اللّه تعالى يجعل لنا فيها رزقا يسمّى قطفا وتناولا كما جعل اللّه تعالى لعالم الجن في العظام رزقا وما نرى ينقص من العظام شيء فنحن بلا شك نأكل من ثمر الجنة قطفا مع كون الثمرة في موضعها من الشجرة ما زالت عنها لأنها دار بقاء يتكون فيه لأمور ولذلك سميت دار تكوين لا دار إعدام ونظير ذلك سوق الجنة يدخل المؤمن في أي صورة شاء من صور السوق مع كونه على صورته لا ينكره أحد من أهله ونحن نعلم أن قد لبسنا صورة جديدة تكوينية مع بقائنا على صورتنا فأين العقول والمعقول هنا.

(فإن قيل): فهل يحجب أهل الجنة عن شيء منها أم هي كلها مشهودة لهم ؟

(فالجواب): أن من خصائص أهل الجنة أنهم لا يغيب عنهم شيء من العالم بل العالم كله على مراتبه مشهود لهم مع كونهم غير متصفين بالنوم كما مر إيضاحه.

(فإن قيل): هل يتنعم أهل الجنة بالتمني ؟

(فالجواب): نعم يتنعمون بذلك بل هو من أعظم نعيمهم فلا يتوهم أحد منهم فوق نعيمه أو يتمناه إلا حصل ووجد نفسه فيه.

(فإن قيل): فما سبب إعطائهم هذا النعيم المقيم والجزاء العظيم الزائد على مدة طاعاتهم في دار الدنيا ؟

(فالجواب): السبب في ذلك نيتهم الصالحة التي كانوا عليها في دار الدنيا وذلك أن أحدهم كان يتمنى لو أنه عاش أبد الآبدين لكان مطيعا للّه تعالى لا يشرك به شيئا عكس أهل النار فلما قصرت بالمؤمن العناية الإلهية ولم يستوف ما نواه من دوام الأعمال أعطاه اللّه تعالى نظير هذا التمني في الجنة فيكون له فيها كل ما يتمناه فلحق هذا بأصحاب تلك الأعمال التي كان نواها أبد الآبدين مع راحته في دار الدنيا من التعب كما ورد ذلك فيمن نوى أنه يقوم من الليل فأخذ اللّه روحه إلى الصباح يكتب اللّه له أجر قيامه الذي نواه.

(فإن قلت): قد بلغنا أن لنا جنة برزخية أخرى فما هي تلك الجنة ؟

(فالجواب): قد أشار القرآن إلى هذه الجنة ولم يصرح بها وذلك في نحو قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] .

* - قال الشيخ محيي الدين: وإنما كانت هذه الجنة برزخية لأنها ما هي محسوسة كقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ [الطور: 20] ولا هي روحانية كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر: 55]

فوصف اللّه تعالى الجنان على حسب تفاوت عقول الناس قال: وقد صرح المسيح عليه السلام بما أومأنا إليه من النعيم الروحاني فقال للحواريين حين أوصاهم بوصية وفرغ منها فإذا فعلتم ما أمرتكم به كنتم غدا معي في ملكوت السماء عند ربي وربكم وترون الملائكة حول عرشه تعالى يسبحون بحمده ويقدّسونه وأنتم هناك ملتذون بجميع اللذات من غير أكل ولا شرب انتهى.

* - قال الشيخ: وإنما صرح المسيح بذلك ولم يرمزه كما رمز كتابنا لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة ومطالعة كتب الأنبياء وكانوا متمتعين متهيئين لتصورها وقبولها بخلاف نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه اتفق مبعثه في قوم أميين أهل براري وجبال غير مرتاضين بعلوم ولا مقرين ببعث ولا نشور بل ولا عارفين بنعيم ملوك الدنيا فضلا عن معرفتهم بنعيم ملوك الآخرة فلذلك جاء أكثر أوصاف الجنان في كتابهم جسمانية تقريبا لفهم القوم وترغيبا لنفوسهم انتهى.

(فإن قيل): فما الحكمة في كونها أنهار الجنة أربعة من غير زيادة ؟ (فالجواب): إنما كانت أربعة لأن التجلي العلمي لا يقع إلا في أربع صور ماء ولبن وخمر وعسل ولكل قسم من هذه الأربعة أهل فأهل أنهار الماء هم أصحاب العلوم التي يدخلها الآراء وأصحاب أنهار اللبن الحليب الذي لم يتغير طعمه لعقده أو مخضه أو تربيته لأصحاب الاستنباط الصحيح من الأئمة المجتهدين وأصحاب أنهار الخمر هم الأمناء من أصحاب العلوم الذوقية كعلم الخضر عليه الصلاة والسلام وأصحاب أنهار العسل المصفى هم أهل العلم باللّه تعالى وبشرائعه من طريق الوحي والإيمان وصفاء الإلهام انتهى.

(فإن قلت): فما صفة التكوين الذي تعطاه أهل الجنة ؟

(فالجواب): صورته أن كل ما خطر لأحدهم تكوين شيء يكون أسرع من لمح البصر فلا يزال أهل الجنة يكونون ما شاءوا بإرادة اللّه تعالى لارتفاع الافتقار والذلة هناك فإن الذلة خاصة بأهل النار وما عند أهل الجنة إلا العز.

(فإن قلت): هل الحكم الأعظم في الجنة للأجسام أم للأرواح ؟

(فالجواب): الحكم في الجنة للأرواح لا للأجسام عكس الدنيا فتنطوي أجسام أهل الجنة في أرواحهم وتكون الأرواح ظروفا للأجسام ويكون الظهور والحكم للأرواح ولهذا يتحولون في أي صورة شاءوا كما هم اليوم عندنا الملائكة وعالم الأرواح دون الأجسام. قال الشيخ محيي الدين رحمه اللّه: وقد زل بعض أهل الكشف فقال تحشر الأرواح دون الأجسام حين رأى تطور أهل الجنة كيف شاءوا وغاب عنه ما قلناه من انطواء الأجسام في الأرواح فلو حقق الكشف في نظره لرأى الأجسام منطوية في الأرواح. (فإن قلت): فهل تتفاوت أجسام أهل الجنة في الصفاء ؟

(فالجواب): نعم تتجوهر أبدانهم بحسب صفاء أعمالهم الصالحة في دار الدنيا فكل من كان أكثر إخلاصا في عمله وعلمه وتوحيده كان أنور وأشف.

(فإن قلت): إذا كان أهل الجنة ترشح أبدانهم مسكا وليس لهم فضلات كالدنيا فهل يكون لهم أدبار أم لا ؟

(فالجواب): لم يرد لنا في ذلك شيء من طريق النقل والذي يظهر أنه ليس لأهل الجنة أدبار مطلقا لأن الدبر إنما جعل في الدنيا مخرجا للغائط هناك ولا غائط هناك ولولا أن فرج الرجل يعني ذكره يحتاج إليه في جماع زوجته هناك أو للولادة إن وقعت لما كان لأهل الجنة ذكر ولا فرج.

(فإن قلت): فكم عدد درجات الجنة ؟

(فالجواب): هي على عدد شعب الإيمان لا تزيد ولا تنقص وقد ورد أن شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة والبضع من الواحد إلى التسع فمن اجتمع فيه شعب الإيمان كلها فهو الذي يتبوأ من الجنة حيث يشاء. قال الشيخ محيي الدين: وصورة مجاورة الجنان الثمانية لبعضها بعضا صورة دوائر ثمانية جنة في قلب جنة أعلاها جنة عدن بمنزلة دار الملك يدور عليها ثمانية أسوار بين كل سورين جنة ويلي جنة عدن في الفضل جنة الفردوس ثم جنة الخلد ثم جنة النعيم إلى آخرها كما مر، قال: وكل جنة من هذه الجنان يصدق عليها اسم أخواتها فجنة النعيم مثلا جنة خلد ودار سلام وجنة مأوى وجنة مقامة إلى آخره.

(فإن قلت): فهل لهذه الجنان اتصال بمنزلة الوسيلة الخاصة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حيث كونه هو المشرع لأمته ما وصلوا به إلى دخول الجنة ؟

(فالجواب): نعم ما من جنة من هذه الجنان إلا وهي متصلة بمقام الوسيلة وذلك ليتنعموا بشهود طلعته صلى اللّه عليه وسلم فسائر الجنان تتفرع من مقام الوسيلة فلها شعبة في كل جنة ومن تلك الشعبة يظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم لأهل تلك الجنة فهي في كل جنة أعظم منزلة تكون فيها.

(فإن قلت): فهل درجات الجنة موازية لدركات أهل النار كما قيل ؟

(فالجواب): نعم هي موازية لها كما ذكره الشيخ في الباب السادس والتسعين ومائتين وإيضاح ذلك أنه ماثم إلا أمر ونهي فإن عمل العبد ما أمر به كانت له درجة وإن عمل ما نهى عنه كانت له دركة موازية لتلك الدرجة لو سقطت من تلك الدرجة حصاة لوقعت على خط الاستواء لتلك الدركة من النار وكذلك الإنسان إذا سقط من العمل بما أمر فلم يعمل كان ذلك النزول لذلك العمل عين سقوطه إلى ذلك الدرك فعلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ملء الجنان فلا ولي يتنعم بجنته إلا وهو صلى اللّه عليه وسلم متنعم معه بنعمته مشارك فيها لأن الولي ما وصل إلى ذلك إلا باتباع شريعته صلى اللّه عليه وسلم فلهذا كان سر النبوة قائما به في تنعمه وهو معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " فله صلى اللّه عليه وسلم من لذة النعيم مثل لذة جميع العاملين بشريعته زيادة على ثواب أعماله الزكية وعلى ما قاله الشيخ تقي الدين السبكي وغيره إن جميع شرائع الأنبياء كلهم من باطنه صلى اللّه عليه وسلم من حيث أنه نبي الأنبياء كلهم فله مثل أجر جميع العاملين بجميع الشرائع. (فإن قلت): فما أعظم منزلة تكون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الآخرة ؟

(فالجواب): أن أعظم منزلة تكون له وقوفه بين يدي اللّه عز وجل كم ينبغي لجلاله لتنفيذ الأوامر الإلهية في ذلك اليوم العظيم فهو الترجمان في حضرة الملك العدل جل وعلا دون جميع الخلق، قال الشيخ محيي الدين: ومن خصائصه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك المقام أن أهل الموقف كلهم يأخذون عنه في ذلك الموطن لأنه هناك وجه كله فيرى من جميع جهاته وله أعلام من اللّه تعالى في كل جهة يفهم منه ما يريد.

(فإن قلت): ففي أي منزل يكون أصل شجرة طوبى ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والسبعين من "الفتوحات" والشيخ ابن أبي المنصور في " رسالته ": أن أصل شجرة طوبى في منزل الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، لأن شجرة طوبى هي حجاب مظهر نور فاطمة الزهراء رضي اللّه عنه فما من جنة من الثمان ولا درجة فيها ولا بيت ولامكان إل وفيه فرع من شجرة طوبى لا يعرف غالب الناس أين أصله حتى إن بعض من كشف له عن أحوال الجنة زعم أن أشجار الجنة أصولها في الهواء دون الأرض حين لم ير إلا الفرع والحال أنها مغروسة في أرض الجنة التي هي مسك أذفر وأصل ذلك كله حتى يكون سر كل نعيم في الجنان وكل نصيب للأولياء متفرعا من نور فاطمة رضي اللّه عنها فإن في كل فرع تدلى في بيت أو قصر أو مخدع جميع ما يطلب العبد في الجنة من ثمر وحلل وطير وحور عين وغير ذلك.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ؟ وقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] ؟ فإن الآية الأولى تقتضي دوام الأكل والثانية تقتضي تخصيصه بوقت دون وقت.

(فالجواب): أن معنى قوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ [الرعد: 35] أي لا ينقطع عنهم شيء متى اشتهوه، لا أنهم يأكلون دائما لكن لما كان الغذاء يمد الجسم بالقوة كان ذلك بمثابة من يأكل دائما.

(فإن قلت): فما الفرق بين لذة أكل الدنيا وأكل الجنة ؟

(فالجواب): الفرق بينهما أن أكل الدنيا تزول لذته إذا نزل إلى الجوف بخلاف أكل الآخرة لذته تدوم مدة بقائه في البطن حتى ينزل عليه طعام آخر يتجدد له لذة أخرى أعم مما قبلها وهكذا.

(فإن قلت): فما معنى قوله تعالى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] مع أنه لا شمس هناك ولا قمر كما في دار الدنيا ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في « الفتوحات »: إن معناه مقدار البكرة والعشي بالنظر لأحوال الدنيا قال وذلك لأن الحركة التي كانت تسير بالشمس ويظهر من أجلها طلوعها وغروبها موجودة في الفلك الأطلس الذي هو سقف الجنة وجميع الكواكب السيارة سابحة فيه كسباحتها الآن في أفلاكها على حد سواء، قال: ولولا ذلك ما عرف أهل التقويم في الدنيا متى يكون الكسوف ولا كم يذهب من ضوء الشمس عن أعيننا فلو لا المقادير الموضوعة والموازين المحكمة التي قد علمها اللّه تعالى للمقومين ما علم أحد منهم متى يكون الكسوف.

(فإن قلت): فهل يصح في الجنة رفع حجاب العظمة لأحد من الخواص حتى يرى الخواص ربهم على وجه الإحاطة به ؟ (فالجواب): حجاب العظمة الذي هو كناية عن عدم الإحاطة به تعالى لا يرفع أبدا وإنما المراد بكمال الرؤية له تعالى زيادة انكشاف أمر لم يكن لأهل الجنة قبل ذلك إذ لو كشف حجاب العظمة لأحاط الخلق علما بربهم ولعرفوه تعالى كما يعلم هو نفسه ولا قائل بذلك فليست لذة الرؤية الواقعة لأهل الجنة كلهم إلا مزيد انكشاف لهم لا غير، ولذلك قال المحققون أنه تعالى يرى بلا كيف.

(فإن قلت): فما الوجه الجامع بين قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] وبين قوله صلى اللّه عليه وسلم: « لا يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته » ؟.

(فالجواب): هذا من تعليق الأسباب على مسبباتها ومعلوم أن الكل من اللّه تعالى فمن نظر إلى توقف دخول الجنة على العمل قال: إنه دخل الجنة بعمله ومن نظر إلى خالق السبب قال: إنه دخل الجنة بفضل اللّه ورحمته. ونقل الشيخ الكامل الراسخ محيي الدين بن العربي في الباب التاسع والثمانين والمائتين من « الفتوحات » من الشيخ أبي مدين إمام الجماعة رضي اللّه عنه أنه كان يقول: يدخل السعداء الجنة بفضل اللّه ويدخل الأشقياء النار بعدل اللّه وكل أحد ينزل في داره بالأعمال ويخلد فيها بالنيات انتهى، قال الشيخ محيي الدين وهو كلام صحيح وكشف مليح خبر عليه حشمة وأدب ووقار انتهى واللّه أعلم.

(خاتمة): إذا سجد أهل الأعراف السجدة التي يؤمرون بها يوم القيامة رجحت ميزانهم وسعدوا ودخلوا الجنة، قال الشيخ محيي الدين: وهذه السجدة هي آخر ما يبقى من حكم تكاليف الدنيا فإن يوم القيامة برزخ بين الدنيا والآخرة فله وجه إلى أحكام الدنيا به دعي أهل الأعراف إلى السجود الذي رجحت به ميزانهم وبه وجه إلى الآخرة به جوزوا بأعمالهم وما منع أهل الأعراف من الوقوع في النار حال كونهم كانو على الجسر إلا وجود توحيدهم فهو المانع لهم عن الوقوع حتى وجدت منهم هذه السجدة.

فانظر يا أخي عناية التوحيد بأهله فالحمد للّه رب العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!