موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الحادي والخمسون: في بيان الإسلام والإيمان وبيان أنهما متلازمان إلا فيمن صدق ثم اخترمته المنية قبل اتساع وقت التلفظ فإن الإيمان وجد هنا دون الإسلام كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللّه تعالى

واعلم أن الإسلام الشرعي هو أعمال الجوارح من الطاعات كالتلفظ بالشهادتين والصلاة والزكاة وغير ذلك كما بينه حديث الشيخين بقوله: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سيبلا، ثم إن هذه الأعمال الإسلامية لا يخرج الإنسان بها عن عهدة التكليف بالإسلام إلا مع الإيمان وحقيقة تصديق القلب بما علم مجيء الرسول به من عند اللّه ضرورة كما بينه سؤال جبريل في حديث " الصحيحين " السابق بقوله فيه: الإيمان أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، والمراد بتصديق القلب بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإذعان لم جاءت به الرسل والقبول له. قال أئمة الأصول: والتكليف بذلك تكليف بأسبابه كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس وصرف الموانع وإلا فذلك ليس من الأفعال الاختيارية التي هي مناط التكليف وإنما هو من الكيفيات النفسانية وأشاروا بقولهم والتكليف بذلك تكليف بأسبابه إلى سؤال وجوابه تقرير السؤال أن التصديق أحد قسمي العلم وهو من الكيفيات النفسانية دون الأفعال الاختيارية فكيف يتعلق التكليف بتحصيله ؟ وتقرير الجواب أن تحصيل تلك الكيفية اختيارا يكون باختيار مباشرة الأسباب وصرف النظر وما ذكر معهما والتكليف بها معناه التكليف بذلك لا يقال وانشراح الصدر الذي هو أول المبادئ في النظر ليس هو باختيار العبد أيضا لأنا نقول: ما رقي فوق ذلك فهو من علم سر القدر الذي نهى العلماء عن إفشائه والإيضاح عنه.

(فإن قلت): فهل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق.

(فالجواب): الإيمان من حيث هو هداية من اللّه تعالى غير مخلوق لأن الهداية صفة من صفاته تعالى ، وصفات اللّه قديمة وأما من حيث هو إقرار من العبد وإذعان فهو مخلوق لأنه معدود حينئذ من أعمال العبدوَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَم تَعْمَلُونَ(96) [الصافات: 96] وقال أئمتنا: ولا يعتبر التصديق المذكور في خروج العبد به عن عهدة التكليف بالإيمان إلا مع التلفظ بالشهادتين للقادر عليه وذلك لأن الشارع جعل التلفظ بالشهادتين علامة لنا على التصديق الخفي عنا حتى يكون المنافق مؤمنا فيما بيننا كافرا عند اللّه تعالى قال تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً(145) [النساء: 145] . قال الشيخ كمال الدين بن أبي شريف في " حاشيته ": وحاصل هذه المسألة كما قاله بعضهم: إن جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج ذهبوا إلى أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بما علم مجيء الرسول به في أحكام الدنيا والبرزخ والآخرة وإنما هو مجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق وفاقا وكافر عند الخوارج به وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة، ورأيت على " حاشية الحاشية " بخطه أيضا ما نصه: حاصل الكلام في هذه المسألة أن الإيمان شرط للاعتداد بالعبادات فلا ينفك الإسلام المعتبر عن الإيمان وإن كان الإيمان قد ينفك عنه فلا يوجد إسلام معتبر بدون الإيمان وقد يوجد الإيمان المعتبر بدون الإسلام كمن صدق ثم اخترمته المنية قبل اتساع وقت التلفظ ومن قال: إن الإيمان والإسلام واحد فسر الإسلام بالاستسلام والانقياد الباطن بمعنى قبول الأحكام فمن حقق النظر ظهر له أن الخلاف في أنهم مترادفان أم لا خلاف في مفهوم الإسلام وقد قال بالترادف كثير من الحنفية وبعض الشافعية انتهى. قال الشيخ تاج الدين بن السبكي: وهنا سؤال وهو أنه هل التلفظ بالإيمان الذي هو الشهادة شرط الإيمان أو شطر منه فيه تردد للعلماء، قال الجلال المحلي: وكلام الغزالي يقتضي أنه ليس بشرط ولا شطر وإنما هو واجب من واجباته قال الكمال في " حاشيته على شرح جمع الجوامع ": وإيضاح ذلك بأن يقال في التلفظ هل هو شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من التوارث والمناكحة وغيرهم فيكون غير داخل في مسمى الإيمان أو هو شطر منه أي جزء من مسماه ؟ قال: والذي عليه جمهور المحققين الأول وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار كان مؤمنا عند اللّه تعالى قال وهذا أوفق باللغة والعرف. وذهب شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي من الحنفية وكثير من الفقهاء إلى الثاني وألزمهم القائلون بالأول بأن من صدق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت الإقرار كان كافرا وهو خلاف الإجماع على ما نقله الإمام الرازي وغيره.

(فإن قلت): فهل الإيمان يتجزأ أي يتبعض ؟

(فالجواب): أن الإيمان واحد لا يتبعض حتى يكون جزء منه في مكان في البدن وجزء منه في مكان آخر بل نوره منتشر في جميع الأعضاء حتى إذا قطع عضو منه ذهب الإيمان في القلب لكونه لا يتجزأ واللّه أعلم هذا ملخص ما وجدته عن أئمة الأصول. وأما عبارات الشيخ محيي الدين فقال في الباب الستين وأربعمائة من " الفتوحات المكية ": اعلم أن الإسلام عمل والإيمان تصديق والإحسان رؤية أو كالرؤية فالإسلام انقياد والإيمان اعتقاد والإحسان إشهاد فمن جمع هذه النعوت لم ينكر شيئ من تجليات الحق تعالى حيث يتجلى في الآخرة وينكره بعضهم كما في حديث مسلم فكان الحق تعالى تجلى له في سائر التجليات وحده ومن لم يجمع في اعتقاده بين هذه النعوت أنكره ضرورة في كل ما لم يذقه في دار الدنيا انتهى. وقال أيضا في الباب الحادي والخمسين وثلاثمائة: اعلم أن الصدق محله الخبر والخبر محله الصادق وليس هو بصفة لأصحاب الأدلة وإنما هو نور يظهر على قلب العبد يصدق به المخبر عن اللّه تعالى أو عن غيره ويكشف له ذلك النور عن صدق المخبر لم يرجع عنه برجوع المخبر لأن نور الصدق تابع للمخبر حيث مشى والمصدق بالدليل ليس هذا حكمه إن رجع المخبر لم يرجع لرجوعه فهذا هو الفارق بين الرجلين قال: وهذه المسألة من أشكل المسائل في الوجود فإن الأحكام المشروعة أخبار إلهية يدخلها النسخ والتصديق تبع الحكم فيثبته ما دام المخبر يثبته ويرفعه ما دام المخبر يرفعه ولا يتصف الحق تعالى بالبداء في ذلك وهذ هو الذي جعل بعض الطوائف ينكرون النسخ للأحكام وأما الصادق فما أكذب نفسه في الخبر الأول وإنما هو أخبر بثبوته وأخبر برفعه وهو صادق في الحالين فعلم أن صدق الإيمان نور كشفي لا يقبل صاحبه دخول الشبه عليه أصلا اهـ.

(فإن قلت): فهل ثم فرق بين الصدق والحق أم هما بمعنى واحد ؟

(فالجواب): إنهما شيئان، لأن الحق ما وجب فعله، والصدق ما أخبر به على الوجه الحق الذي هو عليه وقد يجب فيكون حقا وقد لا يجب فيكون صدقا لاحقا فلهذ قال تعالى لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] يعني فإن كان وجب عليهم فعله نجوا وإن لم يجب عليهم بل منعوا منه هلكوا ذكره الشيخ في الباب الرابع والسبعين وثلاثمائة وأطال في ذلك. ثم قال: واعلم أن من الحقوق ما يقتضي الثناء الجميل على من لا يقيمه كالمجرم المستحق للعقاب بإجرامه يعفى عنه فهذا حق قد أبطل وهو محمود كما أن الغيبة والنميمة وإفشاء سر الزوجة صدق وهو مذموم فكل حق صدق وما كل صدق حقا لأن الصادق يسأل عن صدقه ولا يسأل ذو الحق إذا قام به عنه فالغيبة وأشباهها صدق لا حق والسلام.

(فإن قلت): فكم ينقسم نور الإيمان على قسم ؟

(فالجواب): هو على قسمين كما أن أهله على قسمين.

(القسم الأول): من آمن من نظروا استدلال وبرهان فهذا لا يوثق بثبات إيمانه لدورانه مع الدليل ومثل هذا لا يخالط بشاشة نور إيمانه القلوب لأنه لا ينظر إلا من خلف حجاب دليله وما من دليل من أدلة أصحاب النظر إلا وهو معرض لحصول الدخل فيه والقدح ولو بعد حين فلهذا كان لا يمكن صاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه للحجاب الذي بينه وبينه.

(القسم الثاني): من كان برهانه حين حصول الإيمان في قلبه لأمر آخر ضروري وهذا هو الإيمان الذي يخالط بشاشة القلوب ولا يتصور في حق صاحبه شك لأن الشك لا يجد محلا يعمره فإن محله الدليل وما ثم دليل فما ثم ما يرد عليه الدخل ولا الشك ذكره الشيخ في الباب الثالث والسبعين. وقال قبله في الباب الخامس من "الفتوحات": اعلم أن الإيمان على خمسة أقسام إيمان عن تقليد وإيمان عن علم وإيمان عن عيان وإيمان عن حق وإيمان عن حقيقة، فالتقليد للعوام والعلم لأصحاب الأدلة والعيان لأهل المشاهدة والحق للعارفين والحقيقة للواقفين وأما حقيقة الحقيقة الزائدة على الخمسة أقسام فهي للمرسلين وقد منعنا الحق تعالى من كشفها فلا سبيل إلى بيانه انتهى. وتقدم في المقدمة أول الكتاب أن من أخذ إيمانه تقليدا جزما ما للشارع فهو أعصم وأوثق ممن يأخذ إيمانه عن الأدلة وذلك لما يتطرق إليها من الدخل والحيرة.

(فإن قلت): فأي الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعلى إيمانا ؟

(فالجواب): أعلى الناس إيمانا وتصديقا الصحابة على اختلاف طبقاتهم ثم من يؤمن بالغيب على الكمال كأهل زماننا رأينا سوادا في بياض فآمنا به وصدقناه ولم نقل كما قال غيرن هذا أساطير الأولين فالحمد للّه رب العالمين.

(فإن قلت): فما الوجه الجامع بين قول بعضهم: الإيمان لا يزيد ول ينقص بين قول الجمهور أنه يزيد وينقص ؟

(فالجواب): الوجه الجامع بينهما أن يحمل قول من قال إنه لا يزيد ول ينقص على إيمان الفطرة ويحمل قول من قال إنه يزيد وينقص على ما بين الفطرة إلى طلوع الروح، فإن كل إنسان لا يموت إلا على ما فطر عليه وإيضاح ذلك كما قاله الشيخ في الباب الأحد وثمانين ومائتين أن يقال: الإيمان الأصلي الذي لا يزيد ولا ينقص هو الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها وهو شهادتهم له تعالى بالوحدانية في الأخذ للميثاق فكل مولود يولد على ذلك الميثاق ولكنه لما حصل في حصر الطبيعة في هذ الجسم الذي هو محل النسيان جهل الحالة التي كان عليها مع ربه ونسيها فافتقر إلى النظر في الأدلة على وحدانية خالقه إذا بلغ إلى الحال التي يعطيها النظر وإن لم يبلغ إلى هذا الحد كان حكمه حكم والديه فما نظر العبد في الأدلة إلا ليرجع إلى الحالة التي كان عليها عند أخذ الميثاق كالذي يكون مسافرا والسماء مصحية وهو يعرف جهة القبلة وصوب مقصده فحصل لها سحاب وغيم حتى صار لا يعرف جهة مقصده ولا القبلة ومثل هذا يجب عليه الاجتهاد فافهم وسيأتي قريبا إيضاح ذلك.

(فإن قلت): فما حكم من تقدم إيمانه بتوحيد اللّه شرك ورثه عن أبويه أو عن نظره أو عن الأمة التي هو فيها ؟

(فالجواب): حكمه حكم من لم يغير ولم يبدل لأن التوبة تجبر ما قبله فكان ذلك الإيمان هو عين إيمانه الميثاقي لا غيره فإن المشرك مقرّ بوجود اللّه لكنه أشرك به حين حال بينه وبين توحيده الحجاب فلما ارتفع الحجاب رجع لحالته عند الميثاق.

(فإن قلت): فأيهما أقرب إلى الإيمان المشرك أو المعطل ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ أبو طاهر القزويني: المعطل أقرب إلى الإيمان من المشرك فإنه لا بد لكل إنسان أن يجد في نفسه مستندا في وجوده إلى أمر ما لا يدري ما هو فيقال له ذلك الذي لا تدري ما هو: هو اللّه الذي خلقك ورزقك فربما آمن به وصدق، فإن حدث له بعد ذلك هل هو واحد أو أكثر كان في محل النظر الذي في ذلك أو يقلد من يعتقده من الموحدين فما ثم على هذا إيمان محدث بل هو مكتوب في قلب كل مؤمن على ما هو التفصيل أوائل المبحث.

(فإن قلت): فإذن بالتوحيد تتعلق السعادة وبنفيه يتعلق الشقاء المؤبد ؟

(فالجواب): نعم وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَ الَّذِينَ آمَنُوا [الممتحنة: 1] يعني في العهد الميثاقي آمنوا أي لقول رسولن لكم آمنوا، فلو لا أن الإيمان كان موقورا عندهم ما وصفوا به فقد بان لك بهذ التقرير أن إيمان الفطرة هو الذي يموت عليه العبد وهذا لا يزيد ولا ينقص وأن المراد بزيادته ونقصه هو ما طرأ في العمر واللّه أعلم.

* - وقال في الباب الثالث والسبعين من "الفتوحات": اعلم أنّ المراتب التي تعطي السعادة للإنسان أربعة الإيمان والولاية والنبوة والرسالة ثم إن العلم من شرائط الولاية وليس من شرط الولاية الإيمان لأن متعلق الإيمان الخبر وقد يوجد ولي للّه تعالى من غير إيمان كقس بن ساعدة فإنه موحد لا مؤمن وهو سعيد بلا شك، فأول مرتبة للعلماء باللّه تعالى توحيدهم ثم إيمانهم ثم علمهم وما اتخذ اللّه من ولي جاهل به أبدا وقد تقدم في مبحث أهل الفترات أنه يصح أن يلغز فيقال لنا شخص يدخل الجنة وهو غير مؤمن وهو من وحد اللّه تعالى بنور وجده في قلبه ولم يكن في زمنه شرع يؤمن به وهي مسألة عظيمة أغفلها العلماء فإنه يدخل تحت فلك الولاية كل موحد للّه بأي طريق كان توحيده.

(فإن قلت): فما المراد بقوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106) [يوسف: 106] وكيف صح الإيمان مع الشرك ؟

(فالجواب): ما قاله الشيخ في الباب السابع والتسعين وأربعمائة: أن المراد بهذا الشرك هو شرك النفس فإن المؤمن الكامل هو من آمن باللّه لا بنفسه ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة: 186] أي لا بنفوسهم فيرون لها مدخلا في الإيمان بل الواجب أن يروا حصول الإيمان محض فضل من اللّه تعالى وأطال في ذلك ثم قال: وهذه الآية لا تعطي الإيمان بتوحيد اللّه وإنما تعطي مشاهدة ميثاق الذرية حين أشهدنا الحق تعالى على أنفسنا بقوله ألست بربكم وقلنا بلى، ولم يكن هناك إلا التصديق بالملك والوجود لا بالإيمان والتوحيد وإن كان هناك توحيد فهو توحيد الملك فمعنى قوله تعالى: إِلَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] أي حين خرجوا إلى الدنيا لأن الفطرة إنما كانت على إيمانهم بوجود الحق والملك كما مر فلما احتجب التوحيد عن الفطرة ظهر الشرك في الأكثر ممن يزعم أنه موحد وما أداهم إلى ذلك إلا التكليف فإنه لما كلّفهم تحقق أكثرهم أن اللّه ما كلّفهم إلا وقد علم أن لهم اقتدارا نفسيا على إيجاد ما كلفهم به من الأفعال فلم يخلص لهم توحيد ولو أنهم علموا أن اللّه تعالى ما كلفهم إلا لم فيهم من الدعوى في نسبة الأفعال إليهم لكانوا تجدروا عنها بنفوسهم كما فعل أهل الشهود فعلم أنه لو كان المراد بالإيمان في الآية التوحيد لم يصح قوله إلا وهم مشركون فدل على أنه تعالى لم يرد الإيمان بالتوحيد إنما أراد الإيمان بالوجود انتهى.

(فإن قلت): فمن أين شقي الكفار ؟

(فالجواب): شقوا بحكم القضاء الذي لا مرد له فلم يرجعوا إلى حالة الميثاق أبد الآبدين ودهر الداهرين وأيضا فإن الربوبية للّه تعالى فلم ينكرها أحد مطلقا وإنما أشركوا معها ربوبية أخرى وزادوا على ذلك تكذيب الرسل فشقوا الأبد. نسأل اللّه حسن الخاتمة من فضله وإحسانه. وقال الشيخ في الباب الرابع وأربعين وأربعمائة في قوله تعالى أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [الزمر: 3] المراد بهذ الدين هو الدين الذي خلص لنفسه في وفاء العهدية وليس المراد به ما استخلصه العبد من الشيطان أو من الباعث عليه من خوف من نار أو رغبة في جنة فإنه قد يكون الباعث للمكلف على إخلاصه مثل هذه الأمور فيكون العبد من المخلصين ويكون الدين بهذا الحكم مستخلصا من يد من يعطي المشاركة فيه فيميل العبد به عن الشريك ولهذا قال تعالى حنفاء للّه أي غير مائلين به إلى جانب الحق الذي شرعه وأخذه على المكلفين من جانب الباطن إذ قد سماهم الحق تعالى مؤمنين في كتابه فقال في طائفة أنهم آمنوا بالباطل وكفروا باللّه فكساهم خلعة الإيمان فعلى هذا ليس اسم الإيمان خاصا بالسعداء ول الكفر خاصا بالأشقياء من حيث الألفاظ وإنما ذلك من حيث المعاني فإن قرائن الأحوال هي التي تميز في العهد الخالص هو الذي أخذه اللّه من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ثم إن كل بني آدم ولدوا على الفطرة وهذا هو الميثاق الخالص لنفسه الذي ما ملكه أحد غصبا فاستخلص منه بل لم يزل خالصا لنفسه في نفس الأمر طاهرا مطهرا ومن هنا كان أبو يزيد البسطامي وسهل بن عبد اللّه التستري وأضرابهما يقولون: ما نقصنا من ميثاق الحق تعالى شيئ بل عهده باق عندنا سالما خالصا وهذا هو الدين الخالص لا المخلص بفتح اللام المشددة لأنه قام في العبد من غير استخلاص ولم يزل محفوظا من النقص قبل تكليف صاحبه وبعده فمثل هؤلاء لم يؤمروا بأن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين إذ لا فعل لهم في الاستخلاص هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في بعض نسخ "الفتوحات": والذي يظهر لي أن لسان الأمر بالإخلاص عام في كل مقام بحسبه حتى مقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم فاعبد اللّه مخلصا له الدين وقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] وعلى ما قرره الشيخ محيي الدين يكون المخاطب بالإخلاص للدين حقيقة أمته صلى اللّه عليه وسلم لا هو فهو المخاطب بالإخلاص والمراد به غيره لأنه إذ كان خواص أمته لا يصح منهم تغيير للعهد الميثاقي فكيف به صلى اللّه عليه وسلم الذي هو صاحب جميع المقامات فتأمل واللّه تعالى أعلم.

(فإن قلت): فهل يقدح في الإيمان عدم إيماننا بحياة الجماد ؟

(فالجواب): نعم يقدح ذلك في إيمان كل مؤمن وقد ذكر الشيخ في الباب السابع والخمسين وثلاثمائة أنه يجب على كل مؤمن حفظ إيمانه مما ينقصه كان لا يؤمن بحياة كل شيء أخبر الحق تعالى أنه يسبح بحمده فإن اللّه تعالى ما نفى حياة كل شيء وإنما نفى كوننا نفقه تسبيحه لا غير، فهل الكشف يشهدون ذلك عيانا وأهل الإيمان الكامل يقبلون ذلك إيمانا وعبادة. قال: وإنما عقب ذلك بقوله إنه كان حليما غفور اللذين هما أسماء الحجاب والستر وتأخير المؤاخذة إلى الآجل وعدم حكمها في العاجل لما علم أن في عباده من حرم الكشف والإيمان الكامل وهم عبيد الأفكار من العقلاء وأطال في ذلك. ثم قال: فأهل الكشف يقولون سمعنا نطق الجمادات ورأيناه وأهل الإيمان يقولون آمنا بذلك وصدقنا وعبيد الأفكار من المحجوبين يقولون ما سمعنا ول رأينا قال وتأمل في قوله تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل: 82] كيف عقبها بقولهأَنَّ النَّاسَ كانُو بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل: 82] لما علم أن طائفة من الناس لا يؤمنون بذلك ويخرجونه بالتأويل عن آخره ومعنى لا يوقنون أي لا يستقر الإيمان بالآيات التي هذه الآية منها في قلوبهم بل يقبلون ذلك على غير وجهه الذي قصد له فاللّه يرزق جميع إخواننا الإيمان إن لم يكونوا من أهل العيان آمين وسيأتي في مبحث عذاب القبر وسؤال منكر ونكير بيان أدلة تسبيح الجمادات بلسان المقال فراجعه.

(فإن قلت): فهل يجب التحفظ من قبول هدية من أمرنا اللّه تعالى بمعاداته ؟

(فالجواب): نعم يجب علينا ذلك فإن في الحديث " تهادوا تحابوا " وللعطاء أثر قادح في الإيمان إذ المحسن محبوب للنفس قهرا عليه وهذه مسألة خطيرة في حق كل محجوب عن شهود العطاء من اللّه عز وجل فكيف يطلب من يرى العطاء من الخلق أنه لا يحب الكفار والظلمة المصرين على المعاصي إذا قبل برهم وإحسانهم هذا أمر عسر على غالب الخلق إلا من شاء اللّه لأنه خروج عن الطبع فهو وإن لم يكن له أثر في الظاهر فله أثر في الباطن انتهى.

(فإن قلت): فأوضح لنا مثالا نعرف به المؤمن الكامل ؟

(فالجواب): المؤمن الكامل من صار الغيب عنده كالشهادة في عدم الريب وتولاه اللّه تعالى بالإيمان الذي هو القول والعمل والاعتقاد الصحيح فكان قوله وفعله مطابقا لاعتقاده في ذلك الفعل ولهذا قال تعالى يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] يريد ما قدموه من الأعمال الصالحة عند اللّه قال صلى اللّه عليه وسلم: " المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم ". وفي رواية: " المؤمن من أمن جاره بوائقه ".

(وسمعت) أخي أفضل الدين رحمه اللّه يقول: من شرط كمال الإيمان أن يصير الغيب عند المؤمن كالشهادة سواء ويسري منه الأمان في نفس العالم كله فيأمنه المؤمنون الكاملون على القطع على أنفسهم وأموالهم وأهليهم من غير أن يتخلل ذلك الأمان تهمة في أنفسهم من هذا الشخص فمن لم يكن فيه هاتان العلامتان فلا يغالط ول يدخل نفسه في كمل المؤمنين.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: من ادعى كمال الإيمان بما وعده اللّه عليه فليمتحن نفسه فيما وعده اللّه به من مضاعفة الصدقة مثلا إلى سبعين ضعفا وأكثر، فإن وجدها لا تتوقف في إعطاء أحد من المحتاجين شيئا ولو أنفقت جميع ما بيدها فليعلم أن إيمانه بذلك كامل فيجب عليه الشكر للّه عز وجل وإن توقفت عن العطاء وجود قوت يومها وليلتها فليعلم أنه ناقص الإيمان بما وعده اللّه تعالى ولو أن يهوديا جلس بشكارة ذهب وقال كل من أعطى فقيرا نصفا أعطيته دينارا لتزاحم الناس على العطاء وأعطوا الفقراء كل ما بأيديهم من الفضة نسأل اللّه تعالى اللطف.

(وسمعته): يقول أيضا في قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55) [الذاريات: 55]

إذا رأيت يا أخي من يدعي كمال الإيمان ويذكره الناس فلا تنفعه الذكرى فاعلم أنه في ذلك الحال ناقص الإيمان بمرة فإن شهادة اللّه حقّ وهو صادق وقد أعلمنا أن المؤمن ينتفع بالذكرى، وقد رأينا هذا لم ينتفع بالذكرى فلا بد أن نقول أن إيمانه توارى عنه تصديقا للّه ولا معنى للنفع إلا وجود العمل منه بالجملة، فل نرى أحدا يتوقف عن العمل بما أمر به إلا وفي نفسه احتمال من قام له في شيء أخبره الصادق به احتمال فليس هو بكامل الإيمان مع أنك لو سألته لقال لا أشك في صدق ما أخبرن اللّه به ورسوله. فتنبه يا أخي لنفسك فإنك الآن تأتي اللّه تعالى وأنت كامل الإيمان من غير كثير عمل خير لك من أن تأتيه بأعمال الثقلين وفي إيمانك ثلمة ونقص فعلم كم

* - قاله الشيخ في الباب التاسع والخمسين ومائة: أن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه وكل من آمن عن دليل فلا وثوق بإيمانه كما ذكرناه في مقدمة هذا الكتاب وذلك لأن صاحب الدليل معرض للشبه القادحة في إيمانه إذ هو إيمان نظري لا ضروري والنظري صاحبه أسير لدليل فكل شيء ترجح عنده في وقت وترك ما كان عليه قبل ذلك ولهذا لا يشترط في وجود الرسالة إقامة الدليل للمرسل إليه ولذلك لم نجد مع وجود الدليل وقوع الإيمان من كل أحد بل من بعضهم فقط فلو كان لنفس الدليل لنعم ونراه أيضا يوجد ممن لم ير دليلا فدل على أن الإيمان إنما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء من عباده لا بدليل، ولذلك قلنا لا يشترط فيه وجود الدليل وقد ذكر نحو ذلك الشيخ محيي الدين في الباب التاسع والخمسين ومائة قال: قد نبهتك على سر غامض لا يعرفه كل أحد فاحتفظ به واللّه تعالى أعلم. (خاتمة): قال الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة: اعلم أنه لا يموت أحد من أهل التكليف إلا مؤمنا عن عيان وتحقق لا مرية فيه ولا شك لكن من العلم باللّه والإيمان به خاصة وما بقي الأهل ينفعه ذلك الإيمان أم لا وفي القرآن العظيمفَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] قال وقد حكى اللّه تعالى عن فرعون أنه قالآمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90] فلم ينفعه هذا الإيمان وأطال في أدلة أنه لم ينفعه إيمانه.

(قلت): فكذب واللّه وافترى من نسب إلى الشيخ محيي الدين أنه يقول بقبول إيمان فرعون وهذا نصه يكذب الناقل على أنه قال بقبول إيمان فرعون جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض الحنابلة قالوا لأن اللّه حكى عنه الإيمان آخر عهده بالدنيا انتهى. وجمهور العلماء قاطبة على عدم قبول إيمانه، وإيمان جميع من آمن في البأس لأن من شرط الإيمان الاختيار وصاحب إيمان البأس كالمجلىء إلى الإيمان والإيمان لا ينفع صاحبه إلا عند القدرة على خلافه حتى يكون المرء مختارا ولأن متعلق الإيمان هو الغيب وأما من يشاهد نزول الملائكة لعذابه فهو خارج عن موضوع الإيمان واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!