موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الخمسون: في أن كرامات الأولياء حق إذ هي نتيجة العمل على وفق الكتاب والسنة فهي فرع لمعجزات وأن من لا حال له لا كرامة له وأن كل من لا يخرق العادة في العلوم والمعارف والأسرار واللطائف والمجاهدات وكثرة العبادات لم تخرق له العادات

اعلم أنه قد تقدم في مبحث المعجزات أن كرامات الأولياء ثابتة شائعة بين أهل السنة والجماعة، وإنما أنكرها أكثر المعتزلة لعدمها فيما بينهم وذلك من أدلّ دليل على أنهم أهل بدعة كما تقدم بسطه في المبحث المذكور، ومن شبه المعتزلة في إنكارها قولهم لو جوزنا وقوعها، على يد الأولياء لعجز الناس عن الفرق بينها وبين المعجزة.

(والجواب): لا تعجز لأن المعجزة هي التي تظهر وقت الدعوى بخلاف الكرامة، فإن صاحبها لا يتحدى بها ولو أظهرها وقت الدعوى كانت شعبذة ثم إن ذلك يؤدي إلى إنكار كرامة السيدة مريم، ونقل عرش بلقيس ونحوهما مما ثبت في الكتاب والسنة وكان أبو منصور الماتريدي رحمه اللّه يقول: من الفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب المعجزة مأمون من الاستدراج، وصاحب الكرامة لا يأمن أن يكون حاله كحال بلعام بن باعوراء قال: وإنما أنكرت المعتزلة الكرامة بناء منهم على أن الفعل إنم يكون معجزة لخرق العادة، فحسب وليس كذلك بل ينضم إلى خرق العادة التحدي بالنبوة والاقتران بدعوة النبي ألا ترى أن آيات الساعة خارقة للعادة وليس بمعجزة انتهى.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: الكمل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلا وخوفا، لاحتمال أن تكون استدراج ومعجزات الأنبياء تزيد قلوبهم تثبيتا لعصمتهم عن وقوع الاستدراج لهم وأيضا فإن الأنبياء يحتجون بالمعجزات على المشركين، والأولياء يحتجون بالكرامات على نفوسهم لتصلح ولنفوسهم لتطمئن وأجمع القوم على أن كل من خرق العادة بكثرة العبادات والمجاهدات لا بد له أن يخرق له العادة إذ شاءها، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللّه يقول: من أصدق دليل على صحة طريق الصوفية وإخلاصهم في أعمالهم ما يقع على أيديهم من الكرامات والخوارق قال: ومن أدل دليل على إثبات جواز وقوع الكرامات كونها أفعالا خارقة للعادة فإذا لم تؤد إلى سد باب النبوة جاز ظهورها على أيدي الأولياء كجريان النيل بكتاب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ورؤيته جيشه وهو أي الجيش بنهاوند العجم وهو على المنبر بالمدينة المشرفة وحتى قال لأمير الجيش: يا سارية الجبل محذرا له ممن وراء الجبل لمكر العدو به هناك وفي ذلك كرامتان أحدهما رؤيته سارية مع بعد المسافة والثانية إسماع سارية كلامه كذلك، وكشرب خالد بن الوليد السم من غير تضرر به وكقلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى بإذن اللّه ونحو ذلك من الخوارق. وقال الأستاذ أبو إسحاق القشيري رحمه اللّه: ولا ينتهون إلى نحو ولد دون والد ولا إلى قلب جماد بهيمة، قال ابن السبكي: وهذا حق فخصص به قول غيره ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي أي فلا فارق بينهما إلا التحدي فقط وتقدم في مبحث المعجزات تقييد قولهم ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي بما إذا أظهر الولي الكرامة بحكم التبع لا بحكم الاستقلال من غير اتباع للشرع وبما إذا لم يقل النبي هذه المعجزة لا تكون لأحد بعدي فراجعه، وبالجملة فمن عاشر الصالحين بالصدق وخالطهم رأى كرامتهم عيان وعرف صدقهم.

(فإن قلت): فهل يجب على الإنسان الإيمان بالكرامة إذا وقعت على يده كما يجب عليه الإيمان إذا وقعت على يد غيره ؟

(فالجواب): نعم كما صرح به اليافعي رحمه اللّه وقال: لا فرق بين وقوعها على يده أو يد غيره.

(فإن قلت): فهل يستحب للولي أن يحمي نفسه وأصحابه بالحال والكرامة ؟

(فالجواب): نعم يستحب له ذلك كما صرح به سيدي إبراهيم المتبولي رضي اللّه عنه وقال: إن كان ذلك نقصا في المقام فهو كمال في تعلم انتهى.

(فإن قلت): فإذا ادعى شخص غريب لا يعرف له أب أنه خلق من تراب كم وقع آدم عليه السلام هل لنا تصديقه ؟

(فالجواب): نعم نصدقه لأن غايته أنه ادّعى ممكنا لم يرد لنا نفي وقوعه ولا أنه خاص بآدم عليه السلام هكذا أجاب بعضهم فليتأمل.

(فإن قلت): إن الكرامات قد تشبه السحر فما الفرق بينهما ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ اليافعي رحمه اللّه وغيره من المحققين: الفارق بينهما كون السحر يظهر عل يد الفساق الزنادقة والكفار الذين هم على غير شريعة ومتابعة، وأما الكرامة فلا تقع إلى علي يد من بالغ في الاتباع للشريعة حتى بلغ الغاية فهذا هو الفارق بينهما قال اليافعي: والناس في إنكار الكرامات على أقسام فمنهم من ينكرها مطلقا وهم أهل مذهب مشهور ومنهم من يصدق بكرامات من مضى ويكذب بكرامات أهل زمانه فهؤلاء كبني إسرائيل فإنهم صدقوا بموسى حيث لم يروه وكذبوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم حيث رأوه حسدا وعدوانا ومنهم من يصدق بأن للّه تعالى أولياء في عصره ولكن لا يصدق بأحد معين فهذا محروم من جميع الأمداد في عصره وبعضهم إذا رأى أحدا من أولياء زمانه متربعا في الهواء قال: هذا استخدام للجن لا ولاية وأطال اليافعي في ذلك ثم قال: وبالجملة فلا ينبغي لأحد التوقف في الإيمان بكرامات الأولياء لأنها جائزة وعقلا وواقعة نقلا أما جوازها عقلا فلأنها من جملة الممكنات التي لا تستحيل على القدرة الإلهية ولذلك قال أهل السنة والجماعة من المشايخ العارفين والنظار والأصولين والفقهاء والمحدثين رضي اللّه عنهم أجمعين. وأما وقوعها نقلا فمن ذلك قصة مريم عليها السلام في قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمران:

37] الآية وفي قوله تعالى لها أيضاوَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا(25) [مريم: 25] وكان ذلك في غير أوان الرطب. ومن ذلك كلام كلب أهل الكهف معهم وقصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام في عرش بلقيس وإتيانه قبل أن يرتد الطرف وكل هؤلاء ليسوا بأنبياء. ومن ذلك كلام الطفل لجريح الراهب حين قال: من أبوك، قال: فلان الراعي، ومن ذلك قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين دعوا اللّه عز وجل بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التي لا يستطيع الجم الغفير أن يزحزحوها عن فم الغار. ومن ذلك كلام البقرة التي حمل عليها صاحبها المتاع وقولها إني لم أخلق لهذ وإنما خلقت للحرث كما في " الصحيحين ". ومن ذلك أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه أكل مع ضيفه فكان كلما أكل لقمة من تلك القصعة يربو من أسفلها أكثر منها حتى شبع الضيوف وهي أكثر مما كانت قبل الأكل بثلاث مرات: ومن ذلك استجابة دعوة سعد بن أبي وقاص في الرجل الذي كذب عليه كما في " الصحيحين " وكان يقول: أصابتني دعوة سعد ومن ذلك ما رواه أبو نعيم في " الحلية " أن عون بن عبد اللّه بن عتبة كان إذا نام في الشمس أظلته الغمام، ومن ذلك حديث البخاري في قصة خبيب حين كان أسيرا موثق بالحديد وكانوا يجدون عنده العنب وما بأرض مكة حينئذ عنب، ومن ذلك قصة الرجل الذي سمع صوتا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان كما في " الصحيح " ومن ذلك قصة العلاء بن الحضرمي حين أرسله النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزاة وحال بين الجيش وبين عدوهم قطعة من البحر فدعا اللّه تعالى ومشوا كلهم بخيلهم ودوابهم على الماء، ومن ذلك تسبيح القصعة التي أكل منها سلمان الفارسي وأبو الدرداء حتى سمع تسبيحها الحاضرون روى هذا والذي قبله الحافظ أبو نعيم وغيره. ومن ذلك أن عمران بن الحصين كان يسمع تسليم الملائكة عليه ومن ذلك ما رواه أبو نعيم عن عبد اللّه بن شقيق أنه كان إذ مرت عليه سحابة يقول لها أقسمت عليك باللّه إلا مطرت علينا فتمطر في الحال. ومن ذلك أن عامر بن قيس كان يعطي عطاءه فيضعه في حجره ويصير يقبض منه ويعطي الناس حتى يصل إلى داره فيعده فيجده لم ينقص منه شيء. ومن ذلك أن عبد الرحمن بن أبي نعيم بلغ الحجاج أنه يمكث خمسة عشر يوما لا يأكل ولا يشرب فحبسه الحجاج خمسة عشر يوم ثم فتح الباب فوجده قائما يصلي بالوضوء الذي دخل به الحبس. ومن ذلك أن حارثة بن النعمان الصحابي كان يقول لعياله في كل شيء احتاجوا إليه ارفعوا الفراش تجدو حاجتكم فيرفعونه فيجدونها ولم يكن تحت الفراش شيء قبل ذلك. وبالجملة فقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الكرامات ما يبلغ حد الاستفاضة. وقد سئل الإمام أحمد رضي اللّه عنه: لم لم يشتهر عن الصحابة من كثرة الكرامات كما وقع لمن بعدهم من الأولياء فقال: إنما لم يشتهر عن الصحابة كثرة كرامات لأن إيمانهم كان في غاية القوة بخلاف إيمان من بعدهم فكلما ضعف إيمان قوم كثرت كرامات أولياء عصرهم تقوية ليقين الضعفاء منهم ويؤيد ذلك قول أبي الحسن الشاذلي رضي اللّه عنه أن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بداياتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلا ليقينها فكانتكُلَّم دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمران: 37] فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه فقيل لهاوَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا(25) [مريم: 25] انتهى.

(فإن قيل): إذا كان الحق تعالى خلاقا على الدوام يوجد كوائن بعد كوائن فما ثم عوائد تنخرق إنما هو خلق جديد ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الستين وثلاثمائة: نعم والأمر كذلك ونقله عن المحققين من أهل الكشف ولفظه: اعلموا أنه ليس عند المحققين عوائد تنخرق أبدا وإنما هو إيجاد كوائن وما ثم في نفس الأمر عوائد تنخرق لعدم التكرار في الوجود فما ثم هناك ما يعود وإنما هي خرق العوائد في أبصار العامة فقط وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] أي في الصفات لا في الذوات فافهم انتهى.

* - وقال في الباب الثاني والخمسين وثلاثمائة: اعلم أن أكابر الأولياء يشهدون كونهم في حال خرق العادة في عين العادة فلا يشهدهم الناس إلا وهم آخذون من الأسباب ولا يفرقون بينهم وبين العامة وليس لأصحاب خرق العوائد الظاهرة من هذا المقام شمة لأنهم آخذون من الأسباب مع الوقوف معها فم زالت الأسباب عنهم وإنما خفيت عليهم لأنه لا بد لصاحب خرق العادة الظاهرة من حركة حسية هي سبب عين وجود ذلك المطلوب فيغرف أو يقبض بيده من الهواء ذهبا أو سكرا أو نحوهما فلم يكن إلا عن سبب من حركة يده وقبض وفتح فما خرج عن سبب لكنه غير معتاد فسموه خرق عادة انتهى.

(فإن قلت): فهل كرامة كل ولي تكون تبعا لمعجزة من هو وارثه من الأنبياء، أم هي غير متوقفة على إرث ؟

(فالجواب): لا يكون قط كرامة لولي إلا تبعا لمن هو وارثه من الأنبياء، ولذلك كان خواص هذه الأمة يمشون في الهواء وخواص قوم عيسى يمشون على الماء دون الهواء فكل وارث لا يتعدى كرامة مورثه فلا يقال كيف قال صلى اللّه عليه وسلم عن عيسى عليه السلام لو ازداد يقينا لمشى على الهواء مع أن عيسى عليه السلام أقوى يقينا من خواص هذه الأمة الذين مشوا على الهواء بما لا يتقارب لأنا نقول: إن الخواص منا مشوا على الهواء إل بحكم التبعية لنبيهم صلى اللّه عليه وسلم فإنه أسري به محمولا في الهواء فما كان مشي الخواص منا على الهواء لزيادة يقينهم على يقين عيسى عليه السلام وإنما كان لصدق التبعية لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فنحن مع الرسل في خرق العوائد التي اختصو بها وورثناهم فيها بحكم صدق التبعية لا غير ألا ترى أن المماليك الذين يمسكون نعال أساتيذهم من الأمراء يدخلون مع أساتيذهم على السلطان وغيرهم من الأمراء واقف على الباب حتى يؤذن لهم بالدخول ومعلوم أن الأمراء أرفع مقاما عند السلطان من المماليك فما دخل المماليك إلا بحكم التبعية لأساتيذهم لا لشرفهم على الأمراء انتهى ذكره الشيخ في الباب السادس والثلاثين من "الفتوحات".

(فإن قلت): فما المراد بقولكم في ترجمة المبحث إن الكرامات فرع المعجزات ؟

(فالجواب): مرادنا أنها فرع الحال النبوي فلا تقع كرامة لولي إلا إن كان صحيح الحال والحال هو ما يرد على القلب من غير تعمل ولا اجتلاب ومن علامته تغير صفات صاحبه فهو إلى الوهب أقرب من الكسب ولذلك يقتل صاحب الحال بالهمة ويعزل ويولى كما عليه بعض الطوائف بأفريقية.

(فإن قلت): فهل هذا الحال خاص بأهل الإسلام ؟

(فالجواب): نعم هو خاص بأهل الإسلام وإن وقع لبعض المشركين أنه مشى في الهواء أو قتل بالهمة فلذلك باستعمال عقاقير على أوزان معلومة فيفعل بها ما أراد هذا بخلاف حال أهل اللّه عز وجل والفارق بين الحالين هو أن أهل اللّه عز وجل لا يحصل لهم هذا الحال إلا بعد المبالغة في اتباع الشريعة بخلاف الكفار فإن حكم حالهم حكم من شرب الدواء المسهل فيفعل ما وضع له بالخاصية لا بالمكانة عند اللّه عز وجل فلا يسمى بالكرامة إلا من كان صاحبه على شرع.

(فإن قلت): فهل القتل بالهمة والولاية والعزل الذي يقع من بعض الأولياء كمال فيهم أم نقص ؟ (فالجواب): هو نقص بالنسبة لما فوقه من المقامات، وقد أعطى الشيخ أبو السعود بن الشبل مقام التصريف في الوجود فتركه، وقال: نحن قوم تركنا الحق تعالى يتصرف لنا فكان أكمل من الشيخ عبد القادر الجيلاني مع أنه تليمذه هكذا ذكره الشيخ في الباب الثاني والتسعين ومائة، وأيضا فإن الكامل لا يجد في الوجود شيئ حقيرا حتى يرسل تصريفه عليه أو ينفذ همته فيه ومن شرط نفوذ الهمة أن تكون على حقير فيرى صاحب الحال نفسه كبيرا وغيره حقيرا فيجمع حقارته في قلبه ثم يتوجه بقلبه إليه فيؤثر فيه القتل أو المرض ونحو ذلك.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: الكامل من الأولياء هو من مات عن التصريف والتدبير اكتفاء بفعل اللّه تعالى له فيسرق الناس ماله حال حياته ويسرقون ستره وشمعه بعد مماته فلا يقابل أحدا بسوء بخلاف الولي الناقص كل من تعرض له عطبه وذلك علامة على بقايا بخل عنده ومن شرط الكامل الكرم حيا وميتا انتهى.

(فإن قلت): فما الفرق بين الكرامة والمعجزة ؟

(فالجواب): الفرق بينهما أن الرسول يجب عليه إظهار المعجزة من أجل دعواه إذا توقف إيمان قومه عليها بخلاف الولي لا يجب عليه إظهار الكرامة إنم الواجب عليه سترها هذا ما عليه الجماعة وذلك الولي تابع والتابع غير مشرع فهو يدعو إلى شرع قد ثبت وتقرر على يد رسوله فلا يحتاج إلى إظهار كرامة على أن يتبعه الناس على ما دعاهم إليه. وقال الشيخ في الباب الحادي والثلاثين ومائتين: إنما كان الأولياء يجب عليهم ستر الكرامات دون الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن الولي متبع فهو يدعو إلى اللّه بحكاية دعوة الرسول الذي ثبت عنده رسالته بلسانه لا بلسان يحدثه من قبل نفسه وقد صار الشرع كله مقررا عند العلماء فلا يحتاج ولي إلى آية ول بينة على صدقه بل لو فرض أنه قال ما يخالف شرع رسوله لم يتبع عليه بخلاف الرسول يحتاج إلى آية لأنه ينشئ التشريع ويريد ينسخ بعض الشرائع المقررة على يد غيره من الرسل فلذلك كان لا بد من إظهار آية تدل على صدقه وأنه يخبر عن اللّه تعالى انتهى وكان يقول: قد وضع اللّه تعالى ميزان الشرع بيد العلماء أهل التقوى فهم أرباب التعديل والتجريح فما وقع على يد من ظهرت أمارات اتباعه للشرع سموه كرامة وما وقع عل يد غيره سموه شعرا وشعبذة غير ذلك ذكره الشيخ في الباب الخامس والثمانين ومائة قال: ولا يخفى أن الكرامة عند أكابر الرجال معدودة من جملة رعونات النفس إلا إن كانت لنصرة دين أو جلب مصلحة لأن اللّه تعالى هو الفاعل عندهم لا هم هذا مشهدهم وليس وجه الخصوصية إلا وقوع ذلك الفعل الخارق على يدهم دون غيرهم فإذا أحيا كبش مثلا أو دجاجة فإنما ذلك بقدرة اللّه لا بقدرته وإذا رجع الأمر إلى القدرة فل يعجب فتأمل.

(فإن قلت): فهل التطور الذي يقع للأولياء كمال أم نقص ؟

(فالجواب): هو كما يدل على فناء بشريتهم وقوة أرواحهم حتى صارو كأهل الجنة يلبسون من الصور ما شاؤوا فإن من غلبت بشريته على روحانيته فهو كشف لا يصح له تطور، إذ التطور من خصائص الأرواح. وقد ذكر الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والستين وأربعمائة: أن الحلاج كان يدخل بيتا عنده يسميه بيت العظمة فكان إذا دخله ملأه كله بذاته في عين الناظرين حتى إن بعض الناس نسبه إلى علم السيمياء لجهله بأحوال الفقراء في تطوراتهم ولما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب كان في ذلك البيت فما قدر أحد أن يخرجه من ذلك البيت لأن الباب يضيق عنه فجاءه الجنيد وقال: سلم للّه تعالى واخرج لما قضاه وقدّره فرجع إلى حالته المعهودة وخرج فصلبوه، وكان ينشد وهو يرفل في قيوده حال ذهابهم به إلى الصلب: حبيبي غير منسوب * إلى شيء من الحيف

سقاني ثم حياني * كفيل الضيف بالضيف

فلما دارت الكاسات * دعا بالنطع والسيف

وذاك جزاء من يشرب * مع التنين في الصيف(فإن قلت): فما دليل القوم في تسميتهم ما وقع على يد المتبعين للشرع كرامة دون المخالفين ؟

(فالجواب): دليلهم في ذلك أن الكرامة صادرة من حضرة اسمه تعالى البر فلا يكون إلا للأبرار من عباده جزاء وفاقا إذ المناسبة تطلبها وإن لم يطلبه صاحبها ذكره الشيخ في الباب الرابع والثمانين ومائة وأطال في ذلك ثم قال: واعلم أن الكرامة على قسمين حسية ومعنوية ولا تعرف العامة إلا الحسية مثل الكلام على الخاطر والأخبار بالمغيبات الآتية والأخذ من الكون والمشيء على الماء واختراق الهواء وطيّ الأرض والاحتجاب عن الأبصار وإجابة الدعوة في الحال ونحو ذلك، فهذا عند العامة هو الولي.

(وأما): الكرامة المعنوية فهي التي بين الخواص من أهل اللّه تعالى وأجلها وأشرفها أن يحفظ اللّه على العبد آداب الشريعة فيوفق لفعل مكارم الأخلاق واجتناب سفسافها وأن يحافظ على أداء الواجبات والسنن في أوقاتها مطلقا والمسارعة إلى الخيرات وإزالة الغل والحقد والحسد وطهارة القلب من كل صفة مذمومة وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس ومراعاة حقوق اللّه تعالى في نفسه وفي الأشياء ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها فيتلقاها بالأدب ويخرجها وعليها حلة الحضور مع اللّه تعالى لأنها رسل اللّه إليه فترجع شاكرة من صنيعه معها. فهذه عند المحققين هي الكرامات التي لا يدخلها مكر ولا استدراج بخلاف الكرامات التي يعرفها العامة فإنه يمكن أن يدخلها المكر والاستدراج فالكامل من قدر عل الكرامة وكتمها ثم إذا فرضن كرامة فلا بد أن تكون نتيجة عن استقامة فلا يبعد أن يجعلها اللّه عز وجل هي حظ جزاء أعمال ذلك الولي فيذهب إلى الآخرة صفر اليدين من الخير وإنما قلنا إن الكرامات المعنوية لا يدخلها مكر ولا استدراج لأن العلم يصحبها والحدود الشرعية لا تنصب حبالة للمكر الإلهي بل هي عين الطريق الواضحة إلى نيل السعادة.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: إذا وقع على يد الكامل شيء من الكرامات المحسوسة خاف وضج إلى اللّه تعالى وسأل اللّه ستره بالعوائد وأن لا يتميز عن العامة بأمر يشار إليه فيه ما عدا العلم فإن العلم هو المطلوب وبه تقع المنفعة لو لم يعمل أحد بهقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]

(وسمعته) أيضا يقول: أسنى ما أكرم اللّه تعالى به العلماء هو العلم خاصة فهو الكرامة التي لا يعاد لها كرامة إذا عمل به وذلك لأن موطن الدنيا إنما هو للعلم والعمل وأما النتائج من خرق العوائد ونحو ذلك فإنما موطنه الدار الآخرة انتهى. وقد ذكر الشيخ في الباب السابع والسبعين ومائة: إن أعظم الكرامات أن يصل العبد إلى حد لو غفل العالم كله عن اللّه عز وجل لقام ذكر ذلك الولي مقام ذكر الجميع فإذا قال سبحان اللّه مثلا انتقش في جوهر نفسه جميع ما كان يقوله ذلك العالم كله لو ذكر اللّه تعالى وذلك لأن اللّه تعالى إذا جازى ذلك الولي أعطاه مثل ثواب جميع العالم انتهى.

(فإن قلت): فما الذي يحفظ الولي من المكر الخفي الذي في الكرامات الحسية ؟

(فالجواب): يحفظه من ذلك عدم رمي ميزان الشريعة من يده ليزن به حاله في كل نفس، لأن في الكرامات مكرا خفيا لا يشعر به إلا العارفون قال تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم: 44] . قال الشيخ في الباب الحادي والثلاثين ومائتين: أكثر ما يقع المكر الخفي للمتأولين آيات الصفات وأخبارها وفيمن يبقى على حاله مع وقوعه في المخالفات وفيمن يرزق العلم الذي يطلب العمل ويحرم العمل به أو يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه فإذا رأيت يا أخي هذا الحال من نفسك أو من غيرك فاعلم أن المتصف بذلك ممكور به. وأطال في ذلك، ثم قال: فعلم أن اللّه تعالى ما أخفى المكر إلا عن الممكور به خاصة دون غير الممكور به فإن اللّه تعالى ما أعاد الضمير في يعلمون إلا على الضمير في سنستدرجهم. وقال أيضاوَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(50) [النمل: 50] فمضمر قوله هم هو المضمر في مكروا فكان مكر اللّه تعالى بهؤلاء هو عين مكرهم الذي اتصفوا به وهم لا يشعرون. وأطال في ذلك ثم قال: وكل من لا يدعو إلى اللّه على بصيرة وعلم يقيني فهو غير محفوظ من المكر وإن كان هو صاحب اتباع واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!