موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السادس والأربعون: في بيان وحي الأولياء الإلهامي والفرق بينه وبين وحي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغير ذلك

اعلم أن وحي الأنبياء لا يكون إلا على لسان جبريل يقظة ومشافهة وأم وحي الأولياء فيكون على لسان ملك الإلهام وهو على ضروب كما قاله الشيخ في الباب الخامس والثمانين ومائتين: فمنه ما يكون متلقى بالخيال كالمبشرات في عالم الخيال وهو الوحي في المنام فالمتلقى حينئذ خيال والنازل كذلك والموحى به كذلك. ومنه ما يكون خيالا في حس على ذي حس ومنه ما يكون معنى يجده الموحى إليه في نفسه من غير تعلق حس ولا خيال ممن نزل عليه. قال: وقد يكون ذلك كتابة ويقع هذا كثير للأولياء وبه كان يوحى لأبي عبد اللّه قضيب البان وغيره كبقي بن مخلد تلميذ الإمام أحمد رضي اللّه عنه، لكنه كان أضعف الجماعة في ذلك فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوبا في ورقة انتهى.

(فإن قلت): فما علامة كون تلك الكتابة التي في الورقة من عند اللّه عزّ وجلّ حتى يجوز للولي العمل بها ؟ (فالجواب): أن علامتها كما قاله الشيخ في الباب الخامس عشر وثلاثمائة: أن تلك الكتابة تقرأ من كل ناحية على السواء لا تتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها، قال الشيخ: وقد رأيت ورقة نزلت على فقير في المطاف بعتقه من النار على هذه الصفة فلما رآها الناس علموا أنها ليست من كتابة المخلوقين فإن وجدت تلك العلامة فتلك الورقة من اللّه عزّ وجلّ لكن لا يعمل به إلا إذا وافقت الشريعة التي بين أظهرنا. قال: وكذلك وقع لفقيرة من تلامذتنا أنه رأت في المنام أن الحق تعالى أعطاها ورقة فانطبق كفّها حين استيقظت فلم يقدر أحد على فتحها فألهمني اللّه تعالى أني قلت لها: انوي بقلبك أنه إذا فتح اللّه كفك أن تبتلعيها فنوت وقربت يدها إلى فمها فدخلت الورقة في فمها قهرا عليها فقالوا لي: بما عرفت ذلك فقلت: ألهمت أن اللّه تعالى لم يرد منها أن يطلع أحدا عليها قال: وقد أطلعني اللّه على الفرق بين كتابة اللّه تعالى في اللوح المحفوظ وغيره وبين كتابة المخلوقين وهو علم عجيب رأيناه وشاهدناه انتهى.

(فإن قلت): فما حقيقة الوحي ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين من "الفتوحات": أن حقيقته هو ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة إذ العبارة يتوصل منها إلى المعنى المقصود منها ولذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ولا عجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه فإن لم يحصل لك يا أخي معرفة هذه النكتة فليس لك نصيب من معرفة علم الإلهام الذي يكون للأولياء، ألا ترى أن الوحي هو السرعة ولا أسرع مما ذكرناه انتهى.

(فإن قلت): فما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء ؟

(فالجواب): صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما تجلّى إلى قلب ذلك الولي في صورة ذلك الأمر فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه صلى اللّه عليه وسلم، فهناك يجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم من الشريعة قبل ذلك كما وجد النبي صلى اللّه عليه وسلم، العلم في الضربة باليد الإلهية كما يليق بجلاله تعالى وكما وجد العلم في شربة اللبن ليلة الإسراء ثم إن من الأولياء من يشعر بذلك ومنهم من لا يشعر بل يقول وجدت كذا وكذ في خاطري ولا يعلم من أتاه به ولكن من عرفه فهو أتم لحفظه حينئذ من الشيطان وأطال في ذلك في الباب الثاني عشر وثلاثمائة.

* - وقال في الباب الثالث والخمسين وثلاثمائة: اعلم أنه لم يجيء لنا خبر إلهي أن بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحي تشريع أبدا إنما لنا وحي الإلهام قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر: 65] ولم يذكر أن بعده وحيا أبدا وقد جاء الخبر الصحيح في عيسى عليه السلام، وكان ممن أوحي إليه قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أنه إذا نزل آخر الزمان لا يؤمن إلا بنا أي:

بشريعتنا وسنتنا مع أن له الكشف التام إذا نزل زيادة على الإلهام الذي يكون له كما لخواص هذه الأمة.

(فإن قلت): فإذن إلهام خبر إلهي ؟

(فالجواب): نعم. وهو كذلك إذ هو إخبار من اللّه تعالى للعبد على يد ملك مغيب عن الملهم.

(فإن قلت): فهل يكون إلهام بلا واسطة أحد ؟

(فالجواب): نعم. قد يلهم العبد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وبين ربه عز وجل فلا يعلم به ملك الإلهام لكن علم هذا الوجه يتسارع الناس إلى إنكاره ومنه إنكار موسى على الخضر عليهما الصلاة والسلام وعذر موسى في إنكاره أن الأنبياء ما تعودوا أخذ أحكام شرعهم إلا على يد ملك لا يعرف شرعا من غير هذه الطريق فعلم أن الرسول والنبي يشهدان الملك ويريانه رؤية بصر عندما يوحى إليهم وغير الرسول يحس بأثره ولا يراه فليهمه اللّه تعالى بواسطته ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوساط وهو أجل الإلقاء وأشرفه إذا حصل الحفظ لصاحبه ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضا.

(فإن قلت): فما محل الإلهام من العبد ؟

(فالجواب): محله من العبد هو النفس قال تعالى: فَأَلْهَمَه فُجُورَها وَتَقْواها(8) [الشمس: 8] أي: أن اللّه تعالى ألهم النفس فجورها لتجتنبه وتعلمه لا لتعمل به وألهمها تقواها لتعمل به وتعلمه فهو إلهام إعلام لا كما يظنه من لا علم له بالحقائق ولذلك قال تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها(10) [الشمس: 10] والدس هو إلحاق خفي بازدحام فقد ألحق هذا الجاهل العمل بالفجور بالعمل بالتقوى وما فرق في مواضع التفريق فأخطأ قال: وسبب خطئه رميه ميزان الشريعة من يده ولو أن الميزان كانت في يده لرأى أنه مأمور بالتقوى منهي عن الفجور فتبين له الأمران معا.

(فإن قلت): قد ذكر الغزالي في بعض كتبه أن من الفرق بين تنزل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك فإن الولي يلهم ولا ينزل عليه ملك قط والنبي لا بد له في الوحي من نزول الملك به فهل ذلك صحيح.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة: إن ذلك غلط والحق أن الكلام في الفرق بينهما إنما هو في كيفية ما ينزل به الملك لا في نزول الملك إذ الذي ينزل به الملك على الرسول أن النبي خلاف ما ينزل به الملك على الولي التابع فإن الملك لا ينزل على الولي التابع إلا بالاتباع لنبيه وبإفهام ما جاء به مما لم يتحقق له علمه كحديث قال العلماء بضعفه مثلا فيخبره ملك الإلهام بأنه صحيح فللولي العمل به في حق نفسه بشروط يعرفها أهل اللّه عز وجل لا مطلقا وقد ينزل الملك على الولي ببشرى من اللّه بأنه من أهل السعادة كما قال تعالى في: الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] وهذا وإن كان إنما يقع عند الموت فقد يعجل اللّه تعالى به لمن يشاء من عباده. قال الشيخ: وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الولي عدم الذوق وظنهم أنهم قد عمو بسلوكهم جميع المقامات فلما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه وقالوا ذلك خاص بالأنبياء فذوقهم صحيح وحكمهم باطل مع أن هؤلاء الذين منعو قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة وأهل اللّه كلهم ثقات. قال: ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل اللّه وأخبرهم بتنزل الملك على الولي لقبلو ذلك ولم ينكروه قال: وقد نزل علينا ملك الإلهام بما لا يحصى من العلوم وأخبرن بذلك جماعات كثيرة ممن كان لا يقول بقولنا: فرجعوا إلينا فللّه الحمد.

(فإن قلت): فهل ينزل ملك الإلهام على أحد من الأولياء بأمر أو نهي ؟ (فالجواب): أن ذلك ممتنع كما قاله الشيخ في الباب العاشر وثلاثمائة فلا ينزل ملك الإلهام على غير نبي بأمر ونهي أبدا وإنما للأولياء وحي المبشرات وهو الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وهي حق ووحي غالبا لأنها غير معصومة.

(فإن قلت): فهل يكون وحي المبشرات في غير النوم كما هو في النوم ؟

(فالجواب): نعم. وعلى كل حال فهي رؤيا بالخيال وبالحس لا في الحس والمتخيل قد يكون من دخل في القوة وقد يكون من بحار تمثيل روحاني أو هو التجلي المعروف عند القوم إذا كان المزاج مستقيما مهيئا للحق وهو خيال حقيقي وأطال الشيخ في ذلك.

(فإن قلت): إن بعضهم يقول: إذا اعترضوا عليه في فعله أمرا من الأمور ما فعلت ذلك إلا بأمر من اللّه تعالى كما نقل عن سيدي عبد القادر الجيلي رضي اللّه عنه، أنه ما قال قدمي هذه على عنق كل ولي للّه تعالى إلا بعد أمر الحق له بذلك فهل ذلك صحيح.

(فالجواب): الأمر بذلك غير صحيح ولعل الناقل لذلك اشتبه عليه الإذن بالأمر إذ الإذن يطلق على المباح شرعا بخلاف الأمر فإنه تشريع جديد يقتضي عصيان من خالفه فافهم. وقد قال الشيخ محيي الدين في الباب الثاني والعشرين من "الفتوحات": من قال من الأولياء إن اللّه تعالى أمره بشيء فهو تلبيس لأن الأمر من قسم الكلام وصفته وهذا باب مسدود دون الأولياء من جهة التشريع.

(وإيضاح ذلك): أنه ليس في الحضرة الإلهية أمر تكليفي إلا وهو مشروع فما بقي للأولياء إلا سماع أمرها فإذا أمرهم الأنبياء بشيء كان لهم المناجاة واللذة السارية في جميع وجودهم لا غير، ومعلوم أن المناجاة لا أمر فيها ولا نهي إنما حديث وسمر وكل من قال من أهل الكشف: إنه مأمور بأمر إلهي مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي فقد التبس عليه الأمر، وإن كان صادقا فيما قال: إنه سمعه قال: ويمكن أن بعض الأولياء يكشف اللّه عن قلبه الحجاب ويقيم اللّه تعالى له مظهر محمديا فيسمع فيه أمر الحق ونهيه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فيظن أن الحق تعالى كما هو وإنما كلم روح محمد صلى اللّه عليه وسلم، فيكون ذلك من باب التعريف بالأحكام الشرعية لا شرعا جديدا فإن ذلك باب قد أغلق بموت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، انتهى. (فإن قلت): فإذن وحي البشائر هو الأعم الأغلب ؟

(فالجواب): نعم إذ هو الوحي الخاص الذي بين كل إنسان وبين ربه عزّ وجلّ فيناجيه منه في سره حال سجوده وغيره، فلا يجد أحدا أقرب إليه من اللّه تعالى . وذلك تأييد من اللّه تعالى لبعض الصادقين وقد يكون وحي البشائر أيضا بواسطة ملك ولكن النبوة من شأنها الواسطة فلا بد من الملك فيها والمبشرات ليست كذلك فالعارف لا يبالي بما فاته من الأمر مع بقاء المبشرات عليه وأطال الشيخ في ذلك في الباب الثالث والعشرين وثلاثمائة.

* - وقال في الباب الثامن والستين ومائتين: اعلم أن الفرق بين وحي الأولياء ووحي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن الأولياء يشاهدون تنزل الأرواح على قلوبهم لكن لا يرون الملك النازل بخلاف النبي والرسول، فإن شهد الولي الملك لا يشهد إلقاءه عليه حال شهوده وإن شهد الإلقاء لا يشهد الملك فيعلم أنه من الملك من غير شهود له فلا يجمع بين رؤية الملك والإلقاء منه إليه إلا نبي أو رسول وبهذا يفرق بين الرسول والولي وقد أغلق اللّه تعالى باب التنزل بالأحكام الشرعية وما أغلق باب التنزل به بالعلم بها على قلوب أوليائه الذي هو التنزل الروحاني بالعلم وذلك ليكون الأولياء على بصيرة في دعائهم إلى اللّه بها كما كان مورثهم صلى اللّه عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] . فهو آخذ لا يتطرق إليه تهمة. قال الجنيد في معرض الثناء على علم أهل اللّه تعالى فما ظنك، بعلم علم الناس فيه تهمة فإن علم غيرهم لا يكون صاحبه على بصيرة لا في الفروع ولا في الأصول أما في الفروع فللاحتمال في التأويل وأما في الأصول فلما يتطرق إلى الناظر في الدليل من الدخل عليه فيه من نفسه وغيره فهو يتهم دليله لهذا الخلل وقد كان يقطع به قبل ذلك وأهل اللّه تعالى كلهم أهل بصائر وعلمهم كله من حق اليقين أي: حق استقراره في القلب فلا يزلزله شيء عن مقره. يقال: قر الماء في الحوض إذا استقر وهناك يحصل له السكون والاستقرار ويزول التردد والأوهام والظنون وهذا السكون والاستقرار إن أضيف إلى النفس والعقل يقال له: علم اليقين وإن أضيف إلى الروح الروحاني يقال له عين اليقين وإن أضيف إلى القلب الحقيقي يقال له حق اليقين وإن أضيف إلى السر الوجودي يقال له حقيقة حق اليقين انتهى.

* - وقال في الباب الثامن والثلاثين: لما أغلق اللّه تعالى باب الرسالة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كان ذلك من أشد ما تجرعت الأولياء مرارته لانقطاع الوصلة بينهم وبين من يكون واسطتهم إلى اللّه تعالى فرحمهم الحق تعالى بأن أبقى عليهم اسم الولي الذي هو من جملة أسمائه تعالى جبرا لمصيبتهم قال: ولذلك نزع اللّه تعالى هذا الاسم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وسماه بالعبد والرسول اللذين لا يليقان باللّه شرفا له صلى اللّه عليه وسلم، أن يزاحم الحق تعالى في التسمية وأما وصفه صلى اللّه عليه وسلم، برؤوف رحيم فذلك خلعة من اللّه تعالى بيانا لشرفه من اللّه على وجه خاص ليغبط به قوم خاصين قال: ولما علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أن في أمته من تجرع كأس انقطاع الوحي والرسالة جعل لخواص أمته نصيبا من الرسالة ليكونوا بذلك عبيدا تبعا له صلى اللّه عليه وسلم، إذ أشرف مقام يضاف إلى العبد كونه عبدا للّه عزّ وجلّ فقال: ليبلغ الشاهد الغائب فأمرهم بالتبليغ ليصدق عليهم اسم الرسل إذ الرسالة مخصوصة بالعبد وقال صلى اللّه عليه وسلم: " رحم اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كم سمعها ". يعني: حرفا بحرف من غير تصرف فيما يبلغه كما تبلغ الرسل كلام ربه باللفظ الذي يلقيه اللّه إليهم بواسطة أو بغيرها وما فاز بهذه الدرجة وبدعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له بالرحمة، إلا الذين يروون أحاديثه بالألفاظ التي سمعوها من غير زيادة لفظ، فإن من يروي الحديث بالمعنى إنما ينقل إلينا صورة فهمه هو فكأنه رسول نفسه ولا يحشر يوم القيامة في صفوف الرسل إلا من بلغ الوحي من كتاب أو سنة بلفظه كما سمعه، فالصحابة إذا نقلوا الوحي على لفظة رسل رسول اللّه والتابعون رسل الصحابة وهكذا جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة فإن شئنا قلنا في المبلغ إلينا إنه رسول اللّه وإن شئنا أضفناه لمن بلغ عنه وإنما جوزنا حذف الواسطة لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كان يخبره جبريل أو ملك من الملائكة ول نقول فيه رسول جبريل ولا رسول ذلك الملك، وأطال في ذلك ثم قال: فعلم أن تسمية العبد بالولي ينقص من عبوديته بقدر هذا الاسم فمن أراد أن لا ينقص وليا من مقام عبوديته فليسمه محدثا بفتح الدال المهملة فإنه أولى به من اسم الولي انتهى.

(فإن قلت): فهل جميع الأولياء يعرفون الروح النازل عليهم ؟

(فالجواب): ليس كل الأولياء يعرفون ذلك فيرى أحدهم العلوم النازلة على قلبه ولا يدري عمن جاءته كما يقع للكهنة وأصحاب الزجر وأصحاب الخواطر وأهل الإفهام، فكل هؤلاء يجدون العلم في قلوبهم ولا يعرفون من جاءهم به حقيقة والخواص يعرفون من جاءهم ولذلك يتلقونه بالأدب ويأخذون عنه الأدب رضي اللّه عنهم أجمعين. وقد قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين في الأجوبة عن أسئلة الحكيم الترمذي: اعلم أن مما اختص به المحدثون من أهل اللّه كونهم يعرفون حديث الحق تعالى معهم في نفوسهم لما هم عليه من الصفاء وغيرهم لا يعرف ذلك، قال ورأس المحدثين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، والناس كلهم من الأمة ورثته في ذلك.

(فإن قلت): فمن يحفظ الولي من التلبيس عليه فيما يأتيه من وحي الإلهام ؟

(فالجواب): يعرف ذلك بالعلامات فمن كان له في ذلك علامة بينه وبين اللّه عرف الوحي الحق الإلهامي الملكي من الوحي الباطل الشيطاني حفظ من التلبيس ولكن أهل هذا المقام قليل، قال الشيخ في الباب الثالث والثمانين ومائتين: مم غلط فيه جماعة من أهل اللّه عزّ وجلّ كأبي حامد الغزالي وابن سيدلون رجل بوادي اشت قولهم: إذا ارتقى الولي عن عالم العناصر وفتح لقلبه أبواب السماء حفظ من التلبيس قالوا: وذلك لأنه حينئذ في عالم الحفظ من المردة والشياطين فكل ما يراه هناك حق قال الشيخ محيي الدين: وهذا الذي قالوه: ليس بصحيح وإنما يصح ذلك أن لو كان المعراج بأجسامهم مع أرواحهم إن صح أن أحدا يرث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في هذا المعراج وأما من عرج به بخاطره وروحانيته بغير انفصال موت وجسده في بيته مثلا فقد لا يحفظ من التلبيس إلا أن يكون له علامة في ذلك كما مر. وأطال في ذلك ثم قال: واعلم أن الشيطان لا يزال مراقبا لقلوب أهل الكشف سواء كان أحدهم من أهل العلامات أم لم يكن لأن له حرصا على الإغواء والتلبيس لعلمه بأن اللّه تعالى قد يخذل عبده فلا يحفظه فيعيش إبليس بالترجي ويقول لعل وعسى فإن رأى إبليس باطن العبد محفوظا وأنوار الملائكة قد حفت به انتقل إلى جسد ذلك العبد فيظهر له في صورة الحس أمورا عسى يأخذه بها فإذا حفظ اللّه تعالى قلب ذلك العبد ولم ير له على باطنه سبيلا جلس تجاه قلبه فينتظر غفلة تطرأ عليه فإذا عجز عن أن يوقعه في شيء يقبله منه بلا واسطة نظر في حال ذلك الولي فإن رأى أن من عادته الأخذ للمعارف من الأرض أقام له أرضا متخيلة ليأخذ منها فإن أيد اللّه تعالى ذلك العبد رده خاسئا لاطلاعه حينئذ على الفرق بين الأرضين المتخيلة والمحسوسة وقد يأخذ الكامل من إبليس ما ألقاه إليه من اللّه لا من إبليس فيرده أيضا خاسئا وكذلك إن رأى إبليس أن حال ذلك الولي الأخذ من السماء أقام له سماء متخيلة مثل السماء التي يأخذ منها ويدرج له فيها من السموم القاتلة ما يقدر عليه فيعامله العارف بما قلناه في شأن الأرض المتخيلة والأصلية وإن رأى أن حال ذلك الولي الأخذ من سدرة المنتهى أو من ملك من الملائكة خيل له سدرة مثلها أو صورة ملك مثل ذلك الملك وتسمى له باسمه وألقى إليه ما عرف أن ذلك الملك يلقيه إليه من ذلك المقام فإن كان ذلك الشخص من أهل التلبيس فقد ظفر به عدوه وإن كان محفوظا حفظ منه فيطرد عنه إبليس ويرمي ما جاء به أو يأخذ ذلك عن اللّه تعالى لا عن إبليس كما مر ويشكر اللّه تعالى على ذلك وإن رأى الشيطان أن حال ذلك الولي الأخذ من العرش أو العماء أو الأسماء الإلهية ألقى إليه الشيطان بحسب حاله ميزانا بميزان. وأطال الشيخ في ذلك في الباب الثالث والثمانين ومائتين.

(فإن قلت): فهل يصح أن الحق تعالى يمكر بإبليس فيجعله طريقا لوصول الخبر لبعض العباد ؟

(فالجواب): نعم يصح أن اللّه تعالى يمكر بإبليس كما ذكره الشيخ في الباب الثامن والستين وعبارته: واعلم أن من مكر اللّه تعالى بإبليس أن يلهمه ما به يكون فعل الخير مع العباد من حيث لا يشعر إبليس وذلك أنه يوسوس في قلب العبد بلمته فيخالفه العبد ويعمل بخلافه فيحصل له بمخالفته إبليس الأجر فلو علم إبليس أن ذلك العبد يسعد بوسوسته تلك ما ألقى إليه شيئا. قال: وما رأيت أحدا من أهل اللّه نبه على هذا المكر أبدا انتهى.

(فإن قلت): فما صورة وصول الأولياء إلى العلم بأحوال السماوات ؟

(فالجواب): يصل الأولياء إلى ذلك بانجلاء مرآة قلوبهم، كما يكشفون عن أحوال أهل الجنة وأهل النار الآن بحكم الإرث لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف ورأى في النار عمرو بن لحي الذي سيب السوائب وصاحب المحجن وصاحبة الهرة التي حبستها حتى ماتت وفي بعض طرق الحديث: " رأيت الجنة والنار في عرض هذا الحائط ".

انتهى. واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!