موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الحادي والأربعون: في بيان أن ثمرة جميع التكاليف التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام يرجع نفعها إلينا وإلى الرسل لا إلى اللّه عز وجل فإن اللّه غني عن العالمين وذلك أنها كفارة لما نرتكبه من المخالفات فما من فعل منهي عنه إل ويقابله أمر مأم

إذا علمت ذلك فأقول وباللّه التوفيق نقل بعض العارفين أن سبب مشروعية جميع التكاليف هو الأكلة التي أكلها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، من الشجرة فكانت جميع التكاليف في مقابلتها كفارة لها وتطهيرا لمحلها انتهى.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه ينقل ذلك أيضا عن سيدي إبراهيم المتبولي رضي اللّه عنه، ولا يخفى أن أكل آدم من الشجرة لم يكن معصية حقيقة وإنما كانت صورة ليرى بنيه كيف يفعلون إذا وقعوا في محظور لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ترقيهم دائم فلا ينقلون قط من مقام أو حال إلا لأعلى منه كما مر بسطه في مبحث الأجوبة عن الأنبياء فراجعه. فكان حكم هذه الأكلة منسحبا على بنيه بالأصالة إلى يوم القيامة إلا من شاء اللّه تعالى لأن الشجرة كانت مظهرا لارتكاب بنيه النهي فعلا أو هما حراما أو مكروها أو خلاف الأولى ولكل أهل وإن تفاوتت مراتب الناس فأدونهم من يرتكب خلاف الأولى وأعلاهم من ارتكب أكبر الكبائر غير الشرك فإن الشرك لا كفارة له إلا التوبة منه والذي عندنا فيما ورد من إطلاق اسم المعاصي في حق الأنبياء فمحمول على خلاف الأولى لأنهم لا يتعدون قط مرتبة خلاف الأولى، فمعاصيهم كلها من هذا الباب وإن فعلوا مكروها فإنما يفعلونه لبيان الجواز للأمة توسعة من اللّه عليهم فلهم في ذلك الأجر كما يؤجرون على بيان المباح بفعلهم له، وأما معاصي غير الأنبياء فإن كان الولي محفوظا فحظه المكروه ما دامت العناية تحفه فإن تخلفت عنه العناية فقد يقع في الحرام أيضا وأما عامة الناس فربما يقعون في الثلاثة أحوال الحرام والمكروه وخلاف الأولى فعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا يشاركون غيرهم في ارتكاب حرام، ولا مكروه إلا لبيان الجواز ولكن لما شرف مقامهم سمى اللّه تعالى وقوعهم في خلاف الأولى معصية وخطيئة فافهم. فما من المكلفين من الأمة أحد إلا وقد وقع في النهي ولو في خلاف الأولى الذي هو كناية عن أكله من الشجرة فكانت جميع التكاليف في مقابلة وقوع بني آدم فيما ذكرنا وكان في أكل آدم من الشجرة ثم توبة اللّه عليه واجتبائه واصطفائه فتح باب الذلة والانكسار لبنيه وبيان أنهم كلهم تحت القضاء والقدر في كل ما يتحركون ويسكنون فيه من أمر ونهي ومباح. ولنبين لك أحكام التكاليف من حيث أنها كفارة من باب الطهارة إلى باب أمهات الأولاد فنقول وباللّه التوفيق: اعلم أن آدم عليه الصلاة والسلام، لما أكل من شجرة النهي الذي هو فعل خلاف الأولى بغير إذن صريح من الباري جل وعلا في حال نسيانه وفي حال ظنه أن إبليس لا يحلف باللّه كاذبا سمى الحق تعالى ذلك معصية لعلو مقامه ثم بعد التوبة زاد في اعتنائه به بأنه جعل له مذكرا من نفسه لما وقع منه وهو البطنة القذرة المنتنة على خلاف ما كان عليه في تلك الجنة فكان آدم عليه السلام كلما أخذته البطنة من بول أو غائط أو ريح كريه تذكر ما وقع منه فزاد في الاستغفار إجلال وتعظيما للّه عزّ وجلّ ولذلك جاءت شريعتن بطلب الاستغفار إذا خرجنا من الخلاء وهذا حكمته وزادت حواء وبناتها على آدم وذكور بنيه الحيضة في كل شهر زيادة على البطنة لتزيينها لآدم عليه السلام الأكل من الشجرة وقطعها الثمرة من الشجرة لآدم حتى أكلها وكانت شجرة التين على خلاف في ذلك ولا يخفى أن عقوبة من يأتي المخالفات وهو مستحسن لها أشد ممن يأتيه مستقبحا لها إذ التأويل يذهب قبح المعصية، واعلم يا أخي أن تلك الجنة التي كان فيها آدم وحواء ليست محلا للقذر الذي تولد من تلك الأكلة فلذلك أنزلا إلى الأرض التي هي محل العفونات ثم لما أنزلا إليها تولد في بطنهما من تلك الأكلة التي أكلاها من الشجرة البول والغائط والدم والنوم ولذة اللمس للنساء بجماع أو غيره. وتولد في ذريتهما كذلك بسبب أكلهم من شجرتهم الخاصة بهم وبمقامتهم زيادة على ذلك وهو الجنون والإغماء بغير مرض والمخاط والصنان والقهقهة والتبختر والتكبر بإسبال الإزار والقميص والسراويل والعمامة والغيبة والنميمة والبرص والجذام والكفر والشرك وغير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار أنه ينقض الطهارة وكل هذه الأمور متولدة من الأكل كما ذكرنا، ولا يوجد لنا ناقض للطهارة قط إلا وهو متولد من الأكل والشرب، فإن من لا يأكل ولا يشرب حكمه حكم الملائكة في عدم وقوعه في شيء ينقض الطهارة مم ذكرناه ومما لم نذكره فإن الملائكة لا تبول ولا تغوط ولا يجري لها دم أصلا، وكذلك لا تشتهي لذة اللمس ولا الجماع ولا تجن، ولا يغمى عليها، ولا تنام، ولا تعصي اللّه بقول ولا فعل ولا يبرص لها جسم ولا يلحقها جذام ولا يخرج لها صنان ولا مخاط ولا تضحك إلا تبسما من غير قهقهة ولا تكفر ولا تشرك باللّه ولا ترتد عن دينها أبد، وإيضاح ذلك أن العبد لا يعصي قط حتى يحجب ولا يحجب إلا حتى يأكل ويشرب فلو لا أنه حجب بالأكل والشرب ما وقع في معصية قط فصح قول الإمام علي رضي اللّه عنه: " من مس أبرص أو أجذم أو يهوديا أو نصرانيا أو صليبا فليتوضأ ". ولما كانت هذه النواقض كلها من لازمها سوء الأدب مع اللّه تعالى والغفلة عنه وكان ذلك مضعف للبدن والقلب حتى ربما ألحقه بالمريض أمرنا الشارع صلى اللّه عليه وسلم، وأتباعه المجتهدون بالتطهير بالماء المطلق المنعش للبدن وأمرونا بالتنزه عن كل شيء تولد من الأكل والشرب، وحرموا علينا الصلاة ونحوها مع وجوده حتى نتطهر بالماء أو التراب بل أمرنا الشارع صلى اللّه عليه وسلم، بالتنزه عن مس المحل الخارج منه البول والغائط حتى أن الشارع صلى اللّه عليه وسلم، أمرن بنضح السراويل التي يمسها الفرج وقال بذلك: أمرني جبريل عليه السلام، فكان صلى اللّه عليه وسلم، ينضح سراويله بالماء كلما توضأ وليس النضح المذكور دفعا للوسواس في حقه صلى اللّه عليه وسلم، كما يتوهمه بعضهم لعصمته عن مثل ذلك إذ قيل: إنه نوع من الجنون والحق أن ذلك إنما هو لملامسة السراويل للفرج كما قررن ذلك. وقد أورد على الولد عبد الرحمن هنا سؤالا فلم يفتح اللّه تعالى لي فيه بجواب وهو أنه إذا حكم الشارع بنقض الوضوء من لمس الفرج لكونه محلا للخارج فلم لا يأمرن بالوضوء إذا مسسنا الغائط الذي هو أقبح من محله انتهى. فقد علمت أن القول: بالنقض بمس الذكر والدبر وفرج المرأة ليس لذاتهما وإنما هما لكونهما محلا لخروج الناقض وملامسته إذ لو كان النقض بذلك لذات الفرج من حيث كونه متولدا من الأكل لكان حكم جميع أعضاء البدن كذلك. ولا قائل به فإن جميع الأعضاء قد تولدت من الأكل ونمت به وقد جاءت أقوال المجتهدين وفق الأدلة الواردة في النقض تخفيفا وتشديد فمنهم المشدد ومنهم المخفف ومنهم المتوسط في الناقض، وفي الماء الذي يتطهر به فمما اتفقوا على النقض به البول والغائط والجماع والجنون ومما اختلفوا في النقض به لمس المحارم ومس الفرج بباطن الكف ولمس العجوز الشوهاء وخروج الدم من البدن والغيبة والقهقهة ومس الإبط الذي فيه صنان ومس المشركين والأوثان والصلبان وقد جمع بعضهم بين قولي النقض بمس الفرج وعدمه فجعل النقض به خاصا بالأكابر من العلماء وجعل عدم النقض به خاصا بالعوام من أهل الضرورات كالموسوسين في أيام البرد الشديد فليس للأكابر الترخص في ترك الوضوء من جعل الذكر والمرأة إلا لعذر شديد وكذلك القول في كل ما جاء فيه تخفيف وتشديد من الشارع كما سيأتي بسطه إن شاء اللّه تعالى في مبحث أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم فعلم أن الناقض حقيقة إنما هو الطبيعة المتولدة من الأكل حتى القول بنقض الطهارة بخروج حصاة أو عود مثلا إنما الناقض حقيقة ما على الحصاة أو العود من الطبيعة لا نفس الحصاة والعود فإن الطبيعة هي التي تحركت الشهوة بها حتى حجبت العبد عن شهوده لربه عز وجل وليس في الحصاة والعود إثارة شهوة ولو بلعهما المكلف ثم خرجا منه وأما بطلان الصوم ببلعهما فإنما حكم به العلماء سدا لباب الأكل من باب تحريم الحريم، كما منعوا الاستمتاع بما بين السرة والركبة فرارا من القرب من الفرج الذي هو المقصود بالنهي. وكما حكمو ببطلان الصوم بأكل مقدار سمسمة مع أن ذلك لا يثير شهوة وكما حرموا شرب قطرة خمر مع أن أصل علة التحريم هي الإسكار، وقس على ذلك دخول الميل في ذكر الصائم أو دبره مثلا فإنهم حكموا على فاعل ذلك بالإفطار مع أنه لا يسمى أكلا ولا شربا لا شرعا ول لغة ولا عرفا.

(فإن قلت): فلم وجب علينا تعميم البدن بالغسل من خروج المني مع أنه دون الغائط في الاستقذار بيقين ؟

(فالجواب): أنه إنما وجب علينا تعميم البدن في الغسل من الجنابة بخروج المني لأنه فرع أقوى لذة من أصله فما وجب تعميم البدن في ذلك إلا من حيث اللذة لا من حيث الاستقذار فإن المجامع لما كان يحس باللذة أنها قد عممت بدنه كله حتى أنه لا يكاد يتعقل شيئا معها أمر بتعميم بدنه بالماء لينعشه من ذلك الفتور الذي حصل للبدن عقب خروج المني فكانت الغفلة عن اللّه تعالى فيه أكثر من الغائط والبول ولذلك قال أبو حنيفة رضي اللّه عنه: إن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء لم كانت لا تقع إلا من قلب غافل غير حاضر مع ربه عزّ وجلّ ومعلوم أن حضرة الرب منزهة عن وقوع القهقهة فيها من أحد من أهل حضرتها إنما شأنهم الأدب والبهت والذبول.

(فإن قيل): فما وجه وجوب تعميم البدن على الحائض والنفساء ؟

(فالجواب): أن وجه ذلك زيادة القذر الحاصل من دم الحيض والنفاس وكثرة انتشار الدم في محلات البدن بواسطة العرق وغيره، وأيضا فلبعد الزمن المتخلل بين الحيضات فلا يشق عليها الغسل كلما حصل موجبه بخلاف الحدث الأصغر لقرب زمنه من بعضه بعضا عادة فلذلك خفف الأمر علينا فيه بغسل الأعضاء المفروضة والمسنونة فقط، لكثرة تكرر سبب حدثها وأيضا. فإن أعضاء الوضوء آلة غالب المعاصي الواقعة من العبد فإذا غسل المتوضىء الحاضر القلب مع اللّه تعالى أعضاء الوضوء وتذكر عند غسل كل عضو منها ما جناه من المعاصي واستغفر اللّه تعالى عند ذلك وندم عليه طهر ذلك العضو ظاهرا وباطنا وخرت خطاياه لأن من كان مصرّا على المعاصي ربما لا تخر له خطايا بغسل أعضائه بالماء فافهم بخلافه إذ تاب وندم فإذا خطاياه تخر إن قبلت توبته بنص الحديث مع الماء فيدخل حينئذ حضرة اللّه تعالى التي هي الصلاة على أكمل حال يليق به.

(فإن قيل): فما وجه اتفاق العلماء على نجاسة البول والغائط من الآدمي دون البهائم التي تؤكل مع أن الآدمي أشرف من البهائم كلها ؟

(فالجواب): أنا نقول: وما جاءنا الاتفاق على نجاسة بوله وغائطه، إلا من جهة شرفه فإنه هو المكلف دون البهائم، فلما أكل من شجرة النهي بالمعنى السابق أول المبحث بخلاف البهائم فإنها لا توصف بطاعة ولا معصية فلذلك خفف في لونها وغائطها، والقاعدة أن كل من عظمت مرتبته عظمت صغيرته وكان الأصل من حيث العقل عكس ذلك ليسامح المقرب ويؤاخذ المبعد وكان ينبغي لكل من شرفت مرتبته أن يطهر كل شيء خالطه من المآكل والمشارب لكنه لما غفل عن ربه واشتغل بشهوات طبيعته انعكس حكمه فلذلك صارت المآكل والمشارب الطيبة المبخرة بالمسك والعود نجسة خبيثة قذرة بولا وغائطا ودما ومخاطا وصنانا حين صاحبته نحو يوم وليلة فلا حول ولا قوة إل باللّه العلي العظيم.

(فإن قيل): يفهم من تقريركم هذا أن من كان معصوما ولم يشتغل عن ربه بحكم طبيعته أن يكون بوله وغائطه طاهرا ؟

(فالجواب): نعم، وهو كذلك كما أفتى به شيخ الإسلام البلقيني والسبكي والجلال السيوطي وغيرهم، حتى قال شيخ الإسلام السراج البلقيني: واللّه لو وجدت شيئا من بول النبي صلى اللّه عليه وسلم، وغائطه لأكلته وشربته. وفي الحديث ما يؤيد ذلك فروى الطبراني وغيره نحن معاشر الأنبياء بنيت أجسادنا على أجسام أهل الجنة ه. ولذلك كانوا يشمون المسك من موضع برازه صلى اللّه عليه وسلم، وأما دليل من قال بنجاسة البول والغائط من النبي صلى اللّه عليه وسلم، فهو كونه صلى اللّه عليه وسلم، كان يتنزه عنه ويغسل ما أصاب منه أو يمسحه بالحجر ولو من حيث الجزء البشري.

(فإن قيل): فلم لم يتفق العلماء على نجاسة فضلات الآدمي كلها من مخاط وبصاق وعرق إبطه لتولده كله من الأكل ؟ (فالجواب): إنما لم يتفقوا على ذلك لخفية القبح والقذر فيه وبعدها عن صورة لون الطعام والشراب بخلاف البول والغائط فإنهما يشبهان غالبا لون أصلهما.

(فإن قيل): فما وجه الأمر بالجمع بين الماء والتراب في نجاسة الكلب ؟

(فالجواب): وجهه أن اللّه تعالى جعل سؤره نجسا يميت القلب إذا أكل أو شرب ومعلوم أن من مات قلبه صار لا يحن إلى موعظة ولا إلى خير ولا يهتدي لتوبة إذا وقع في ذنب وما كان يؤثر أكله أو شربه ما ذكر صح التعبير عنه بالرجس والنجس كما قال تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] فكما سماها رجسا من حيث ما تورثه من الصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة فكذلك صح تسمية سؤر الكلب نجسا بالنظر لما يورثه من القساوة في الإنسان ووجب علينا التباعد عنه فلذلك أمرنا الشارع بالجمع بين الماء والتراب في الغسل من سؤره أو غير ذلك من فضلاته لكون الماء والطين إذا اجتمع أنبتا الزرع بخلاف أحدهما بمفرده إذا وضع على الحب لا ينبت ثمرة ولا يتم له نتاج فكذلك من غسل نجاسة الكلبة بالماء فقط أو التراب بأن مسحها به لا يزيل ذلك الأثر الذي يميت القلب.

(فإن قيل): فأيّ المذهبين أولى بالعمل من يقول: بطهارته أو من يقول: بنجاسته ؟

(فالجواب): القائل بنجاسته أولى وأحوط في الدين وإن لم يصرح الشارع بنجاسته لفظا وقد تتبع الإمام البيهقي الأدلة على التصريح بنجاسة الكلب فلم يجده فاستدل على نجاسته بأنه صلى اللّه عليه وسلم، نهى عن أكل ثمن الكلب. وقال: لول نجاسته لما حرم اللّه تعالى علينا أكل ثمنه انتهى. ومما وقع أن سيدي عليا الخواص رحمه اللّه نهى شخصا من المالكية عن شرب لبن شرب منه الكلب فقال الفقيه مذهبي أنه طاهر فقال له الشيخ: إن شربت فضلته يميت قلبك فلم يسمع للشيخ فقسا قلبه تسعة شهور وصار يجيء للشيخ ويقول: يا سيدي تبت إلى اللّه فإن قلبي صار لا يحن إلى قراءة قرآن ولا علم ولا يستلذ بعبادة، فقال له الشيخ: قد نهيتك فلم تسمع فلو لا أن هذ الفقيه ذاق العلة في نفسه لما آمن بكلام الشيخ وما رأيت أحدا نبه على هذه العلة غيره رضي اللّه عنه، فإن قيل: فما الوجه الجامع بين أقوال الأئمة في التطهير بالماء المطلق والمستعمل وما ملحظهم في ذلك. (فالجواب): أن ملحظهم الأعمال الواقعة من المكلفين فمن كان ملحظه عظمة الذنوب وقبحها اشترط في الطهارة الماء المطلق ومن كان ملحظه غلبة الرحمة على الخلق جوز الطهارة بالماء المستعمل بشرطه لبقاء الروحانية في الماء ولو تكررت الطهارة به بدليل إنباته الزرع فكلما كانت ذنوب العبد أقبح وأكثر طولب باستعمال الماء الذي لم يستعمل قط إلا أن يكون مستبحرا ولا شك أن الماء الذي لم يستعمل أنعش لبدن العاصي ومن شك فليجرب. وللإمام أبي خنيفة في الماء المستعمل ثلاث روايات: (أحدها): أن المستعمل في الحدث حكمه حكم الماء المتغير بالنجاسة. (ثانيها): أنه كبول البهائم سواء. (ثالثها): أنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره كقول الشافعية وهذا أعدل الروايات، وأما الإمام مالك فيجوز الطهارة بالماء متكررا ما لم يتغير جدا على ما بلغنا فهو أوسع الأئمة قولا في ماء الطهارة ولكل من روايات أبي حنيفة الثلاث وجه فوجه الرواية الأولى: الأخذ بالاحتياط فيجعل غسالة تلك الطهارة كأنها غسالة في الكبائر من زنى ولواط وشرب خمر، ومرافعة في الناس، وغيبة في العلماء العاملين والأولياء والصالحين، وغسالة هذه الكبائر إذا خرجت في ماء قذرته ضرورة وغيرته، والناس بين مقل ومكثر في ارتكابه هذه الذنوب ومن الناس من يجمع بين فعلها كلها في يوم أو جمعة.

(فإن قيل): إن الحكم بنجاسة غسالة طهارة الناس يلزم منه سوء الظن بهم ؟

(فالجواب): لا يلزم من ذلك سوء ظن إنما ذلك احتياط فيعامل الناس كمعاملة من يسيء بهم الظن من غير سوء ظن فلا يلزم من الحكم بنجاسة الماء المستعمل إثبات المعاصي في حقهم. وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول مرارا: إنما قال الإمام أبو حنيفة بنجاسة غسالة ماء الطهارة لأنه كان من أهل الكشف فكان إذا رأى في الماء عرف غسالة كل ذنب وميزه عن غسالة غيره وصاحب هذا الكشف لا يقدر على الخروج عن حكم مشهده لأنه يشاهد الماء قذرا منتنا فكيف يتوضأ منه أو يغتسل وكان سيدي علي رحمه اللّه يقول: من كشف اللّه عن بصيرته رأى غسالة الكبائر أقذر وأنتن من بول الكلب والحمار أو جيفتهما انتهى. وأما وجه الرواية الثانية فهو: أن غالب معاصي العباد الذين يتطهرون منها صغائر والأصل عدم وقوعهم في الكبائر أو ندور ذلك بالنسبة لوقوعهم في الصغائر ومعلوم أن الصغائر حالة متوسطة بين الكبائر والمكروهات فيكون على قياسه حكم الماء المستعمل حكم النجاسة المتوسطة بين المغلظة والمعفو عنها، وأما وجه الرواية الثالثة من قول الإمام أبي حنيفة ومن وافقه رضي اللّه عنه: فهو أن إحسان الظن بالمسلمين واجب بالأصالة ولأن الأصل عدم ارتكاب المتطهرين للكبائر والصغائر أو أنهم ارتكبوها وكفرت عنهم بأعمال أخر، فما أتوا الماء للطهارة إلا وليس عليهم خطيئة اللهم إلا أن يشاهد إنسانا زنى مثلا ولم يتب فورا ولم يعمل أعمالا تكفر عنه من جناه فهذه ربما يندب للمتورع أن يجتنب ماء طهارته لأن ماءه كماء أهل الرواية الأولى، فرضي اللّه تعالى عن الإمام أبي حنيفة ما أدق نظره وما أنصحه لدين اللّه لعباده رضي اللّه عن بقية المجتهدين آمين. ثم لا يخفى أن التراب قائم مقام الماء عند فقده فلا يقال: إنا أسقطن الكلام على التيمم كما لا يقال: إنا أسقطنا الكلام على مسح الخف لأنه لا بد من غسل الرجلين أو مسح الخفين واللّه تعالى أعلم. فقد بينا لك وجه تعلق الحدث والطهارة بالأكل فتأمله فإنه نفيس. وأما وجه تعلق مشروعية الصلاة بأنواعها بالأكل من شجرة النهي كل أحد بما يليق بحاله من ارتكابه محرما أو مكروها أو بخلاف الأولى فهو أن تعلم أن الصلاة ما شرعت إلا توبة واستغفارا أو تقربا إلى اللّه تعالى ، وفتحا لباب رضا الحق سبحانه وتعالى عنا حين أكلنا من شجرة النهي أو هممنا به، فشرع تعالى لنا الصلاة فرضها ونفلها تكفيرا لذلك وفي الحديث تقول الملائكة عند دخول وقت الصلاة: يا بني آدم قوموا إلى ناركم التي أو قدتموها فأطفئوها وقد جمع لما ألحق تعالى في الصلاة جميع عبادات الملأ الأعلى والأسفل لمن يعقلها.

(فإن قلت): فما وجه تكرارها في الليل والنهار ؟

(فالجواب): وجهه حتى يتذكر العبد ما جناه من المعاصي والشهوات والغفلات من الصلاة إلى الصلاة كلما توضأ أو صلّى فيتوب ويستغفر داخل الصلاة وخارجها فلو كشف للمصلي لرأى ذنوبه تتحدر يمينا وشمالا عنه في حال قيامه وركوعه فلا يصل إلى حضرة السجود التي هي أقرب ما يكون العبد من شهود ربه وعليه خطيئة واحدة فيناجي ربه عزّ وجلّ في سجوده وهو طاهر مطهر من الذنوب.

(فإن قلت): فإذا كان لا يصل إلى السجود حتى لا يبقى عليه خطيئة إل كفرت بالأفعال والأقوال التي في الصلاة فأي فائدة للوضوء قبلها ؟

(فالجواب): أن الوضوء شرط من شروط الصلاة حتى إن الصلاة تصح فتكفر الذنوب، فإنه إذا انتفى الوضوء انتفت الصحة إلا لعذر شرعي كفاقد الطهورين فمغفرة الذنوب في الصلاة لا تكون إلا باجتماع الوضوء والصلاة وذلك أن من الناس من يموت بدنه بالمعاصي أو يضعف أو يفتر ومن الناس من يموت بدنه بخلاف الأولى أن يضعف أو يفتر ومنهم من يموت قلبه بتوالي الغفلات أو يضعف أو يفتر فإذا تطهر بذلك الماء المنعش لذلك البدن حيي ثم إنه يقوم فيدخل حضرة الحق تعالى في صلاته فيعبد اللّه تعالى كأنه يراه فهو ما بين تكبير للّه عز وجل وتحميد له، وثناء عليه، بما هو أهله وسؤال إن اللّه تعالى يعينه على أداء ما كلف به في هذه الدار حتى الصلاة التي هو فيها وهدايته إلى الصراط المستقيم وموافقة الإمام في قوله آمين فيغفر له ما تقدم من ذنوبه أي: الخاصة بالصلاة وإلا فقد ورد أن من توضأ كما أمره اللّه خرت خطايا أعضائه كلها حتى يخرج نقيا من الذنوب ثم يكون مشيه إلى صلاة الجماعة رفع درجات فمرادنا بالذنوب التي تبقى إلى الدخول في الصلاة الذنوب الخاصة بها كما مر فعلم أنه لا يخر من الوضوء إلا المعاصي الخاصة به لا بالصلاة ولو كان المراد بالذنوب التي تخر في الوضوء جميع الذنوب بحكم العموم لم يبق بغيره من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك مما ورد في الشريعة شيء يكفر فافهم. وقد قدمنا أن كل منهى له مأمور يكفره هذا إذا أتى بالمأمورات على التمام وإلا احتاجت نفس المأمورات إلى مكفرات كما بسطنا الكلام على ذلك في كتاب أسرار العبادات وهو كتاب نفيس ما وضع مثله فيما أظن ومما يؤيد ما قررناه ما قاله المفسرون في قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] أن المراد بالسيئات هن الصغائر دون الكبائر إذ الكبائر لا يكفرها إلا التوبة النصوح هذا في أحكام الدني، وأما أحكام الآخرة فقد يكفر الزنى صدقة الزاني برغيف على مسكين كما ورد في قصة العابد الذي عبد اللّه خمسمائة سنة ثم زنى فوزنت عبادته كلها فرجحت الزنية عليه ثم تصدق برغيف فرجح على تلك الزنية فافهم. (فإن قيل): فإذا كانت الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فلم أمرنا بالنوافل ؟

(فالجواب): إنما أمرنا بالنوافل جبرا لما يقع في فرائضنا من الخلل والنقص فإن تأدية الفرائض بلا خلل ولا نقص من خصائص نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، وغيره من الأنبياء قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] فتأمل قوله لك تعثر على ما قلناه: لا نفل إلا بعد كمال فرض ومن ذلك أيضا سجود السهو فإنه يجبر خلل النقص الواقع بترك الأبعاض كما ورد وكم قيس.

(فإن قلت): فما كيفية تكملة الفرائض بالنوافل ؟

(فالجواب): كيفيتها أن يكمل الخلل الذي في أركان الفرائض بأركان النوافل والخلل الذي في نوافل الفرائض كالأذكار المستحبة بالسنن التي في النوافل، فلا يكمل واجب بسنة ولا عكسه هكذا قال الشيخ محيي الدين في "الفتوحات" واللّه أعلم.

(فإن قيل): فما وجه تأكيد الشارع بعض النوافل دون بعض ؟

(فالجواب): وجهه أنه صلى اللّه عليه وسلم، فعل ذلك توسعة على أمته إذ لو أكدها كلها لربما شق ذلك عليهم وقد كان صلى اللّه عليه وسلم، يحب التخفيف على أمته ويقول: اتركوني ما تركتكم وصلى ركعتين مرة في جوف الكعبة ثم خرج وقال لعلي: شققت على أمتي انتهى. أي: إذ تأسوا بي في ذلك.

فإن طلوع البيت الغالب فيه المشقة من الرحمة وغيرها وصلى ركعتين قبل المغرب وقال لمن شاء، انتهى. أي: كراهة أن يشدد أحد من أمته على نفسه بالمواظبة عليها.

(فإن قيل): فما وجه تعلق مشروعية صلاة الجماعة، وصلاة السفر، وصلاة الجمعة، وصلاة الخوف بالأكل من شجرة النهي ؟

(فالجواب): وجهه أن من شأن من يأكل الحجاب فإذا حجب تكلف العبادات ومل منها وثقل عليه الخروج لصلاة الجماعة في المسجد البعيد والقريب وخرج عن كمال طاعة الشارع ولو كان في ذلك ذهاب شعار دينه، فلذلك أمرنا بصلاة الجماعة في المسجد لئلا يذهب نظام ديننا ويضعف. وعلم الشارع أن نظام الدين في الصلاة يحصل بلا جماعة ما أمرنا بها في الجمعة والصلوات الخمس وما ألحق بذلك من العيدين والتراويح والنوافل وإنما خفف عنا الشارع في صلاة السفر والمرض وجعل للمسافر القصر والجمع تقديم وتأخيرا وللمريض الجمع دون القصر رحمة بنا لما يحصل عادة للمسافر والمريض من المشقة في تأدية الفرائض ومعلوم أن أصل ذلك كله الأكل وكذلك من لا يأكل لا يحصل عنده ملل من عيادته كما قال تعالى في الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون وكذلك من لا يأكل لا يحصل عنده كسل عن عبادة ولا يأنف من طاعة إمامه وكذلك من لا يأكل لا يخاف من عدو أبدا فإن الخوف إنما حصل من حجاب العبد عن ربه بالأكل فمن لا يأكل لا يخاف أحدا من خلق اللّه كما هو شأن الملائكة فإن من يجوع كثيرا ولا يأكل أصلا يصير الغالب عليه الروحية والأرواح ملائكة لا تخاف من بعضها بعضا وكذلك من لا يأكل لا يتبختر في مشيته ولا يلبس حريرا ولا ذهبا للتفاخر فتأمل ذلك.

(فإن قيل): فما وجه مشروعية النوافل المؤكدات التي شرعت فيه الجماعة كالعيدين والصلوات ذوات الأسباب كالكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة وما وجه مشروعية قتل تارك الصلاة جحدا أو كسلا.

(فالجواب): وجه مشروعيتها أنها شرعت لحكم مصالح للعباد، وأصل ذلك كله حجابهم بالأكل من شجرة النهي، فإنهم لما أكلوا منها بحسب مقاماتهم من الحرام إلى خلاف الأولى قلّ خوفهم من اللّه تعالى فخوفهم اللّه تعالى بالآيات العظام من كسوف الشمس والقمر والقحط والغلاء فلو لا حجابنا بالأكل ما احتجنا إلى التخويف بالآيات ولا غفلنا عما خلقنا له لا سيما من يأكل الحرام والشبهات فإنه ربما يحجب بالكلية عن مصالح الدنيا والآخرة، فلذلك شرعت هذه الصلوات مشحونة بالدعاء والاستغفار والتكبير للّه تعالى عن جميع وجوه صفات التعظيم التي تبلغها عقولنا أو تكبيره عن أن يخرج شيء في الوجود عن إرادته ومعلوم أن من يأكل الشهوات لا يؤدي حق إخوانه لا أحياء ولا أمواتا لحجابه فلذلك شرعت لنا صلاة الجنازة تكملة لوفاء حقوق إخواننا التي أخللنا بها في حال حياتهم فنفعتهم بصلاتنا عليهم وطلبنا من الحق تعالى أن يغفر لهم وأن يسامحهم .وأما الحكمة في مشروعية جماعة العيدين

فهي تأليف القلوب المتنافرة من كثرة المزاحمة على الأغراض النفسانية والمشاحة فيها حتى ربما تعلق الشخص بما ليس هو من رزقه فلا يكون. وأصل ذلك كله الحجاب بالأكل وكذلك الحكمة في مشروعية مصالحة الأعداء قبل الخروج لطلب السقيا من اللّه تعالى إنما ذلك لكون التشاحن يرفع نزول الرحمة فإذا تصالحوا وتصافحو وائتلفت قلوبهم نزلت عليهم الرحمة وناسبهم إذ ذاك الفرح في العيدين والسرور ولبس الثياب النفيسة والحلي للغلمان والنساء والبنات. فلا ينبغي لمؤمن أن يفارقه العبد وفي قلبه كراهة لأحد من المسلمين إلا بطريق شرعي هذا وإن كان مطلوبا في كل وقت ففي العيد آكد لا سيما الحجاج في الحرم المكي، فإن اللّه تعالى توعد بالعذاب من أراد فيه بأحد سوءا ولو لم يفعله .وأما وجه تعلق حكم تارك الصلاة جحدا أو كسلا بالأكل من الشجرة

فهو لكونه لما أكل حجب عن تأدية حقوق اللّه تعالى وحقوق نفسه بتعريضه للقتل فأمرنا الشارع بإقامة الحد عليه وإن أدى إلى قتله كفارة لذلك الفعل إلى أن يترك الصلاة جحدا لوجوبها فإنه يقتل كفرا فهذا كان سبب مشروعية الصلاة بأنواعه وتعلقها بالأكل من شجرة النهي. واللّه تعالى أعلم .وأما وجه تعلق الزكاة بأنواعه بالأكل من شجرة النهي فظاهر

وذلك أننا لما أكلنا ما لا ينبغي لنا شرعا إما من حيث الزيادة على الحاجة، وإما من حيث الحرام والشبهات حجبنا عن كون الملك للّه تعالى في الأموال والأقوات فادعينا الملك فيها لأنفسنا دون اللّه تعالى ، وشححنا بما دخل تحت يدن فلم تسمح نفوسنا أن نعطي منه شيئا لمحتاج بل صار أحدنا يجمع ويمنع ويتخذ الحلي الذي لم يشرع ومنع حق اللّه تعالى من المواشي والنقود ومن المعدن والركاز ومن ربح مال التجارة ونسيت نفسه كون الحق تعالى ألزمها بإخراج الزكاة على الحكم المشروع فيها حتى أنها لم تخرج زكاة فطرها فحصل بذلك ضيق على الفقراء والمساكين وابن السبيل وغيرهم من الأصناف، فلما حصل الضيق المذكور أمرنا الشارع بإخراج نصيب معين من كل نوع من أموال الزكاة تطهير لنا ولأرواحنا من الرجس الحاصل بمنعها من سواد القلب وغضب الرب وقلة البركة في الرزق وما سماها اللّه تعالى زكاة إلا ليتنبه المؤمن الكامل على كثرة نمو أمواله إذا أخرج حق اللّه تعالى منها وعدم نقصها بذلك الإخراج قال تعالى: وَم أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] ، وقال صلى اللّه عليه وسلم ،: " ما نقص مال من صدقة " .وأما وجه تعلق نوافل الزكاة بالأكلة المذكورة

فهو أن العبد إذا أكل ما لا ينبغي حجب وإذا حجب لم تطب نفسه بإخراج الزكاة فأخرجها كارها لها أو ناقصة العدد أو رديئة فأمرنا الشارع بصدقة النافلة جبرا لذلك الخلل كما تقدم نظيره في نوافل الصلاة، وأما زكاة الفطر فإنما أمرن بها ليصعد صومنا إلى محل القبول فقد ورد في الحديث صوم رمضان معلق بين السماء والأرض حتى يؤدي زكاة الفطر وما عوقه عن الصعود إلا الخلل الواقع في الصوم من حجاب الأكل في الليل ولولا أن الأكل ما نقص للمكلف عمل ولكان يأتي به كاملا من غير أن يخرقه بغيبة أو نميمة أو شتم أو أكل حرام أو نظر إلى محرم عليه ونحو ذلك واللّه تعالى أعلم .وأما وجه تعلق مشروعية صوم رمضان وغيره بالأكلة المذكورة

فهو أن اللّه تعالى جعل الصوم تطهيرا للنفوس وتقوية للاستعداد والتوجه إلى اللّه تعالى في قبول توبتنا من سائر الذنوب التي وقعنا فيها لما حجبنا بالأكل وذلك أن الصوم يورث رقة القلب وزوال الحسد ويسد مجاري الشياطين التي انفتحت بالأكل في سائر البدن حتى صار البدن كطاقات شبكة الصياد، فإن العبد إذا جاع ثم تعشى بقدر السنة وتسحر بقدر السنة فقط لم يزد في السحور على ثلاث تمرات مثلا ضاقت على الشيطان المجاري حتى لا يجد له مسلكا يدخل منه إلى بدن الصائم ليوسوس له بما يريد منه ولذلك ورد الصيام جنة يعني: على البدن ما لم يخرقه بغيبة ولا نميمة فلو فرض أن عبدا صام الصوم الشرعي ولم يخرق صومه بشيء لكان محفوظا من الشيطان من رمضان إلى رمضان.

(فإن قيل): فلم كان رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما بحسب تمام الشهر ونقصه ؟

(فالجواب): قد ورد أن تلك الأكلة التي أكلها آدم عليه الصلاة والسلام، من الشجرة مكثت في بطن آدم شهرا والشهر يكون تارة ثلاثين وتارة تسع وعشرين ثم خرجت فاستمر حكم تلك المدة في بنيه فلو لا أكله عليه السلام، من الشجرة التي هي مظهر خلاف الأولى كما مر، ما فرض صوم رمضان عليه وعلى بنيه لا سيما من أكل من الحرام والشبهات.

(فإن قيل): فلم شرع صوم النفل ؟

(فالجواب): شرع جبرا للخلل الواقع في صوم الفرض نظير الصلاة والزكاة، فلما علم الشارع من أمته أنهم لا يؤدون عبادة صومهم على وجه الكمال شرع لهم زيادة على صوم رمضان صوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر وغير ذلك وقد ورد أن آدم عليه السلام، لما أكل من الشجرة اسود جسده إما باعتبار البنية في نظر أهل الحجاب وإما إظهارا لحصول سيادته بذلك في نظر العارفين إذ الأنبياء لا ينقلون قط من حال إلا لأعلى منها لدوام ترقيهم في المقامات لعصمتهم، كما مرّ بسطه في مبحث عصمة الأنبياء فأمره اللّه تعالى لما اسود جسده أن يصوم ثلاثة أيام الليالي البيض فزال بكل يوم ثلث سواد بدنه وذلك واقع لكل من وقع في مخالفة الأمر من بنيه بعده ولكن لا يشعر بذلك إلا من كشف اللّه عن بصيرته وما منا إلا من وقع ولو في مكروه وقد وقع لشخص من تلامذة الجنيد رضي اللّه عنه أنه نظر إلى أمرد جميل فاسود وجهه في الحال حتى صار كالزفت الأسود فما زال حتى استغفر له الجنيد ثلاثة أيام ومن الحكمة في صوم هذه الثلاثة أيام أن كل شهر ورد على العبد فهو ضيف نزل به من قبل الحق جل وعلا وحق الضيف ثلاثة أيام فإذا استوفى قراه ذهب شاكرا صنيع العبد معه للّه تبارك وتعالى .

(فإن قيل): فلم خصّ الشارع الثلاثة المذكورة بالثالث عشر وتالييه ؟ (فالجواب): إنما خصها بذلك لأن من جملة إكرام الضيف تعجيل إكرامه سواء كان قبل إطالة الجلوس أو في وسط المدة أو قبل انصرافه ولذلك شرع صوم ثلاثة أيام من آخره أيضا ليفارق الشهر ذلك العبد على أثر الإكرام.

(فإن قيل): هل تحصل السنة بصيام الثلاثة أيام متفرقة في غير الثالث عشر وتالييه ؟

(فالجواب): نعم لكن يفوته كمال السنة.

(فإن قيل): فلم شرعت الكفارة لمن جامع في نهار رمضان بشرطه ؟

(فالجواب): أن الكفارة شرعت لتكون حجابا بين العبد وبين ما عرض نفسه له من حلول البلايا وهي العقوبات بارتكاب المخالفة وأصل ذلك كله الأكل فإنه لم أكل ما لا ينبغي له حجب فانتهك حرمة رمضان بالجماع فشرعت له الكفارة كما شرعت للمظاهر والقاتل والحالف فإن البلاء إذا أراد أن ينزل من حضرة الاسم المنتقم يجد الكفارة قد سترت ذلك العاصي في ظل جناحها واكتنفته وصارت عليه جنة ووقاية فرجع البلاء غير نافذ كل ذلك لسبق الرحمة الغضب على من عصى اللّه تعالى فهذا كان سبب مشروعية الصوم فرضا ونفلا .وأما وجه تعلق مشروعية الاعتكاف عقب الصوم وكلما دخل المسجد في أي وقت شاء بالأكلة المذكورة

فهو أن العبد إذا أكل حجب فغفل فنسي مراقبة اللّه عز وجلّ فوقع في المخالفات فشرع الشارع العبد كل قليل أن يعتكف بقلبه وبدنه في بيت اللّه الخاص مستشعرا به أنه بين يدي اللّه تعالى ليجبر ذلك الخلل الحاصل بالغفلة عن اللّه عز وجل المؤذنة بإرخاء العنان في تناول الشهوات ولذلك حرم عليه الشارع أن يباشر امرأته أو حليلته في المسجد لا سيما حال الاعتكاف خروجا عن مقام الإدلال في حضرة الحق فإن الإدلال فيها يجر إلى العطف فلا يناسبها إلا الخوف المحض والهيبة والجلال لا الترفه بالجماع ومقدماته فإن ذلك ينافي الأدب ولو أنه وقع في شيء من ذلك لتعدى حدود اللّه ومن هنا أوجب بعض الأئمة الصوم في الاعتكاف سدا لباب الترفه جملة واحدة أدبا مع اللّه تعالى وقالوا: لا ينبغي للمعتكف أن يعود مريضا ولا يشهد جنازة لأنه في حضرة اللّه الكبرى والعيادة وصلاة الجنازة تفرقه وتخرجه من تلك الحضرة وثم مقام رفيع وأرفع واللّه أعلم .وأما وجه تعلق مشروعية الحج والعمرة بالأكل من الشجرة

فهو أن اللّه تعالى شرع الحج تكفيرا للذنوب العظام التي لا يكفرها شيء إلا الحج وقد تقدم في الكلام على مشروعية الوضوء والصلاة أن لكل مأمور شرعي تكفير خاصا لمنهي خاص. وأصل وقوعنا في الذنوب حتى احتجنا إلى المكفرات هو الأكل، فلو لا الأكل لما احتجنا إلى مكفر وكان الحج آخر ما وجب على آدم من المكفرات فإنه صلى اللّه عليه وسلم، تلقى الكلمات من ربه في تلك الأماكن فتاب عليه وهدى، قال ابن عباس: والكلمات هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَن وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] . وقد تقدم في مبحث عصمة الأنبياء أن ذنب آدم عليه السلام لم يكن ذنبا في الحقيقة وإنما ذلك صورة ذنب ليعلم بنيه إذا وقعوا في مخالفة كيف يتوبون فلذلك أمره الحق تعالى بالحج تكفير لتلك الأكلة التي صورتها صورة المخالفة فافهم.

(فإن قيل): فلم كان الحج على الناس مرة واحدة في العمر فقط. ولم يتكرر كالصلاة والصوم وغيرهما ؟

(فالجواب): إنما كان مرة واحدة تخفيفا من اللّه عزّ وجلّ لضعفن ولكثرة المشقة علينا في السفر للحج كل سنة، لا سيما في حق أهل البلاد البعيدة وقالوا: من ورد حضرة اللّه عز وجل الخاصة مرة واحدة في عمره لم تمسسه النار أبد.

(فإن قيل): فما حكمة التجرد عن لبس المخيط ؟

(فالجواب): ذلك إشارة إلى أن من أدب كل داخل للحضرة الإلهية أن يدخل مفلسا متجردا عن شهود حسناته السابقة، وتائبا من جميع زلاته، إذ الأمداد الإلهية إنما هي الخاصة بالفقراء والمساكين غالبا وقد أجمع أهل اللّه قاطبة على أنه لا يصح دخول حضرة اللّه قط. لا غني ولا متكبر قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: 60] ، فلما تجرد المحرمون مما ذكرنا استحقوا مواهب اللّه تعالى ، وفضله عليهم وفي الحديث: " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ". فكأن المحرم يولد هناك ولادة جديدة ثم لا يخفى أن سبب دعوى الغنى والتكبر إنما هو الأكل فإنه أكل حجب فنازع الصفات الإلهية في الكبرياء والعظمة ودعوى الغنى فحرم بركة إمداده.

(فإن قيل): فما وجه تعلق بعض الناس بأستار الكعبة ؟

(فالجواب): أن ذلك نظير تعلق الرجل بثوب صاحبه إذا كان بينه وبينه جناية ليصفح عنه ويسامحه وإلا فمن أدب الأكابر عدم التعلق بأستار بيت اللّه الخاص لما لا يخفى فقد كمل لآدم عليه السلام، بالحج كمال مقام التوبة من أكله من الشجرة على ما قررناه وكذلك كمل لذريته بحكم التبع كمال توبتهم، فمن لم يحج لم يحصل له كمال التوبة من حيث الذنوب الخاصة بالحج التي لا يكفرها إلا هو كما مر في الكلام على الوضوء والصلاة وإنما قلنا كمال التوبة ولم نقل لم تحصل له التوبة من أجل أن الندم وقع من آدم لما أكل من الشجرة وكذلك الحكم في كل مؤمن من ذريته لا بد من ندمه عقب المعصية أمر لازم لكل من رد إليه عقله بعد الزلة ومعلوم أن الندم هو معظم أركان التوبة لاستلزامه عادة وجود بقية الأركان وقد ورد أن آدم عليه السلام، لم حج البيت قال: " يا رب اغفر لي ولذريتي "، فقال اللّه عزّ وجلّ: أما أنت فقد غفرت لك ذنبك حين ندمت وأما بنوك فمن أتاني لا يشرك بي شيئا غفرت له ذنوبه فهذ كان أصل مشروعية الحج وتعلقه بالأكل من شجرة النهي كل حاج بما يناسبه يكفر عنه الحج ذنوبه كلها من الكبائر إلى خلاف الأولى .وأما وجه تعلق البيع والشراء وسائر المعاملات وتوابعها بالأكلة المذكورة

فهو أن الإنسان إذا أكل حجب وإذا حجب حاف في البيع والشراء وغش وجار وظلم فشرع له البيع على الميزان الشرعي دفعا للحيف والجور فإن الإنسان إذا حجب ربما أكل أموال الناس بالباطل ضرورة وشرهت نفسه وكثر ظلمه واشتدت ظلمة باطنه، ومن لازم ذلك كثرة محبة الدنيا حتى أنه يصير يتلقى الركبان ويبيع الناس بالربا ويمتنع من قرض المحتاجين إلا إن راباهم وربما باع وندم أو اشترى وندم فشرع له الخيار، وربما غصب الأموال واحتكر الطعام على الناس فجاءت الشريعة بالنهي عن الاحتكار والغصب وربم جحد البيع أو الشراء فشرع التحالف قطعا للنزاع وربما اشترى الثمرة قبل التأبير فادعاها المشتري أو اشترى عقارا فقط فادّعى ما فيه من المنقولات وهكذا فشرع له أحكام باب بيع الأصول والثمار وأمر بإعطاء كل ذي حق حقه على يد شهود عدول ليرجع إليهم كما هو الغالب على أهل الدنيا وسبب مشروعية ذلك كله إنما هو الأكل لما أكل حجب عن جميع الحقوق التي ذكرناها ثم إن الشارع صلى اللّه عليه وسلم، لما علم حجاب أمته بالأكل عن إرفاق بعضهم بعضا على حكم المسامحة اللائقة بإخوة الإسلام وسع صلى اللّه عليه وسلم، على الناس بالسلم والرهن وضرب الحجر على من عليه ديون الناس ول يجد لها قضاء حتى إن المفلس لا يحبس ويحجر على السفيه حتى لا يتلف ماله في غير طريق شرعي فإن اللّه تعالى قد جعلها له قياما وأصل وجود السفه في الإنسان إنما هو من الأكل وكذلك وسع صلى اللّه عليه وسلم، على الناس بالعارية والوديعة والشركة والوكالة والشفعة والحوالة وأمرهم أن يقروا بما عليهم من الحقوق في هذه الدار قبل الدار الآخرة، وأصل ذلك حجابهم بالأكل عن شهود مصالحهم ومصالح إخوانهم وكذلك شرع لأمته أن يضمنوا بعضهم بعضا ويصالحوا ببعض ديونهم إذا عجز المديون عن الوفاء، وكذلك نفس صلّى اللّه عليه عن أمته بالمساقاة والقراض والإجارة ووسع عليهم في إحياء الموات وأمرهم برد اللقطة واللقيط وإعطاء الجعالة من رد الآبق لما حجبوا عن فعل ذلك مع إخوانهم وأصل حجابهم الأكل فلو لا الأكل لكان الناس كلهم يتعاونون على البر والتقوى من غير مخالفة فيكونون كالملائكة لا يتصرفون قط إلا في خير ولا يقعون في شر البتة. وتأمل الملائكة تجدهم منزهين عن الوقوع في شيء من هذه الأمور لعدم حجابهم وأما الهبة والهدايا والوقف فإنما شرع ذلك شكرا للنعمة الحاصلة بالبيع والشراء فهي نوع آخر معدود من مكارم الأخلاق، وإنما كان الوقف لا يصح إلا على التأبيد مبالغة في دوام المعروف والصدقة بعد الموت وجبرا للخلل الواقع من صاحب المال طول مدة كون المال في يده فلو كان كل من وجده محتاجا أعطاه حاجته أولا فأول ما شدد عليه في تأبيد الوقف وكان يكفيه أن يقدر له مدة معلومة انتهى.

(فإن قيل): فما وجه تعلق باب الفرائض وبيان قسمتها بالأكل من الشجرة ؟ (فالجواب): إن وجهه أنه لما أكمل حجب فشرهت نفسه عن أن يعطي غيره من مال مورثه شيئا، فجعل اللّه تعالى لكل وارث نصيبا مفروضا دفعا للفساد وكانت الوصية في مرض الموت أو غيره كالنافلة مع الفريضة ليجبر خلل ما أخل به من المعروف مدة عمره ولذلك ورد أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تؤمل البقاء وتخاف الفقر وليست الصدقة إذا بلغت الروح الحلقوم فقلت لفلان كذا ولفلان كذا. الحديث بالمعنى في بعضه أي: فإن ذلك قليل الثواب بالنسبة لصدقة الإنسان حال صحته فالحمد للّه رب العالمين فهذا كان سبب مشروعية ربع البيع كله وتعلقه بالأكلة المذكورة واللّه أعلم .وأما وجه تعلق مشروعية النكاح وتوابعه بالأكلة المذكورة

فظاهر وذلك أن شهوة النكاح ما نشأت إلا من الأكل فلو لا الأكل لما وجد في الناس شهوة وكان الناس كالملائكة وإنما أمرنا الشارع صلى اللّه عليه وسلم بالنكاح، وقال: " شراركم عزّابكم ". ولم يكتف فيه بالوازع الطبيعي شفقة علين وتقوية لقلب من يستحي من فعل ذلك، بل أكثر الناس يستحيون من ذكره فضلا عن فعله، وأيضا فإنما أمرنا بالنكاح لنكون بذلك تحت طاعة الشارع وممثلين لأمره لا تحت طاعة نفوسنا فنثاب بذلك بل بعض الأولياء ربما يحضر مع اللّه تعالى في حال جماعه كم يحضر معه في حال صلاته من حيث جامع المشروعية من كل منهما، وأيضا فإن حثه صلى اللّه عليه وسلم لنا على التزويج يورث الإكثار منه فيكثر بذلك نسلنا وذرارين ليستغفروا لنا ولتكون أعمالهم الصالحة من جملة حسناتنا فإننا كنا محلا لوجودهم فينا ومنا ليس علينا من أوزارهم شيء كما أنه ليس على آدم عليه السلام، من أوزار أولاده المخالفين لأمر اللّه عز وجل، شيء ونرجو من فضل ربنا قبول استغفار ذريتن لنا وأن يعفو عنا ربنا ويصلح بذلك حالنا هذا هو الأصل في الغرض بالنكاح .وأما حكم دفع شهوة الزنى ومقدماته

فإنما ذلك بحكم التبع لتلك المنافع الحاصلة لنا من أولادنا. وأما وجه تعلق محرمات النكاح بالنسب والمصاهرة بالأكلة المذكورة

فهو أن العبد لما أكل ما لا ينبغي أظلم قلبه فقل حياؤه، فربما اشتهى وطء محارمه فحرم اللّه تعالى عليه ما حرم من المحارم ومن النساء من لا كتاب لهن من المشركين ولولا بيان الشارع لنا صلى اللّه عليه وسلم لذلك لنكحنا محارمنا .وأم وجه تعلق باب الخيار والإعفاف ونكاح العبد بالأكلة من الشجرة

فلأن نفرة أحد الزوجين من الآخر بعاهة من العاهات إنما سببه الشهوة الطبيعية الناشئة من الأكل فلو لا الأكل ما حصل لأحدهما جنون ولا جذام ولا برص ول عنة ولا نفر من الرتقاء ولا القرناء كما لا ينفر منها الملك لعدم الشهوة إلى وطئه وكذلك لولا حجابه بالأكل ما خفي عليه وجوب إعفاف والده إذا تاقت نفسه إلى النكاح ولا كان امتنع من تزويج عبده مع استخدامه في مهماته ليلا ونهارا. وأما وجه تعلق هذا بالإصهار قبل التزويج ووزن الصداق بالأكلة المذكورة فإنما شرع ذلك استجلاب لميل خاطر الولي والزوجة إلى إجابة الخاطب فإن خاطر الولي والمرأة إذا كان مائل إلى الزوج بالمحبة أسرع بالحمل وجاء الولد نجيبا وكثر النسل لعدم الأمر المنغص للخاطر من كراهة المرأة وأهلها للزوج وأصل وقوع المنغصات كلها من الأكل فإنه إذ أكل حجب وإذا حجب عمي عن إكرام أصهاره، ومن أمره اللّه تعالى بموالاتهم من المسلمين، وكذلك القول في سبب مشروعية القسم والنشوز ووجود الشقاق بين الزوجين أصله كله الأكل فلو لا الأكل لما حجب الزوج ولما حاف ولما ظلم ولكان يعدل بين زوجاته لانتفاء الأغراض النفسانية حينئذ، وكذلك لولا الأكل لما أخلت المرأة بحق زوجها ولما كفرت نعمته ولو أن الزوجين أكلا ما ينبغي لم يقع منهما حيف ولا جور كم هو شأن الأنبياء والأولياء .وأما وجه تعلق الخلع والطلاق والرجعة والإيلاء والظهار بالأكلة المذكوة

فسببه أيضا الأكل، وذلك أنه إذا شبع من الحلال فضلا عن الحرام وبطر جاعت جوارحه فخاصم وفجر وكان من أقرب الناس إليه في ذلك زوجته فضاجرها وغايره بالضرائر والسراري حتى سألته الطلاق بعوض منها لتستريح من سوء خلقه فخلعها أو طلقها هو ابتداء من غير عذر بطرا وطلب أن يتزوج أعلى منها وحلف أن لا يطأها فظاهر منها ثم إذا راقت نفسه من ذلك التكدير ربما طلب مراجعتها أو لم يطلب وكانت العدة والاستبراء والرضاع من توابع النكاح عند حصول فراق أو طلاق أو زوال فراش أو وجود ولد رضيع ذكر أو أنثى أو موت. فبين لنا الشرع حدود ذلك كله حتى لا ينزع الولد ممن هو أحق به ولئلا يتزوج الإنسان أخته من الرضاع ويشح على المرضعة بأجرتها كل ذلك لحجابه بالأكل .وأما وجه مشروعية نفقة الزوجة والأولاد والوالدين

فإنما كان ذلك لحجابنا بالأكل، فإنا لما أكلنا حجبنا عن تأدية حقوق زوجاتنا وأولادنا ووالدينا وأقاربنا ورقيقنا وبهائمنا وغفلنا عن تأدية حقوقهم للحجاب الحاصل لنا من الأكل.

فلو لا الحجاب ما احتجنا إلى أن نؤمر بذلك لعظم حق الوالدين وبيان فضل صلة رحمهم ومن ألحق بهم من القرائب ويزيد الوالدان في الحق علينا لكونهما كان سببا في إيجادنا مع تحملهما همومنا وغمومنا وخدمتنا في حال طفوليتنا وشبابنا، ورجوليتنا وفي حال صحتنا ومرضنا .وأما وجه نفقة رقيقن

فهو مكافأة لهم على خدمتهم لنا وصبرهم على تحجيرنا عليهم ليلا ونهارا، في شيء لا يستطيع أحدنا الإقامة عليه، وأما البهائم فلكثرة نفعها لنا بالحرث والدراس والطحن وحملنا وأمتعتنا إلى البلاد البعيدة التي لا يستطيع أحدنا أن يمشي إليها بنفسه فضلا عن حملنا متاعنا عليها وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم إن أصل حجابنا عن تأدية جميع هذه الحقوق إنما هو الأكل واللّه تعالى أعلم .وأما وجه تعلق مشروعية جميع الحدود بالأكلة المذكورة وما يذكر معها فهو ظاهر

فإن الإنسان إذا أكل الشهوات ربما فسق وتعدى حدود اللّه تعالى . فقتل النفس بغير حق وقطع العضو أو جرحه أو شج الرأس وقلع العين وكسر السن والعظم وسرق أمتعة الناس وقطع الطريق وشرب الخمر وزنى وقذف الناس بالباطل وصال على البضع والمال وجار في القسمة، لم يقر بما جناه فأحوج الناس إلى أن تحلف الناس خمسين يمينا وصار يحلف الأيمان الكاذبة، ويكثر من الصادقة وبخل بالطعام والمال على المحتاجين ولم تسمح نفسه أن يعطيه لأحد من عباد اللّه إلا إن شفى اللّه تعالى مريضه أو رد ضالته أو أخذ بيده في الشدائد فلذلك عاهد اللّه بالنذر حتى قدر على نفسه أنها تسمح به كل ذلك لعظم محبته ورغبته في الدنيا الناشئ عن ذلك كله من حجاب الأكل ولو أنه ترك الأكل جملة أو جاع وأكل سد الرمق أو الأكل الشرعي لضعفت جوارحه عن تعدي هذه الحدود التي قدمناها كلها، بل ربما يكلمه أخوه إذا جاع فيثقل عليه الكلام، ولا يرد عليه إلا بتكلف من شدة الجوع وكذلك لولا الأكل ما حجب العبد حتى ادّعى الدعاوى الباطلة التي يقول اللّه له فيها: كذبت. ولا تحمل الشهادة على غير علم ولا قضى بين الناس بغير علم ولو أنه كان لا يأكل طعاما أو أكل الأكل المشروع فقط لما وقع منه شيء من ذلك. فلذلك أمر اللّه تعالى أصحاب هذه الصفات أن ينقادو لأصحاب الحقوق ليقتصوا منهم وتقام عليهم هذه الحدود وحفظا لنظام الوجود عن الفساد الحاصل بالأكل وإنما شرع في بعض الحدود الكفارة بعتق أو إطعام أو كسوة أو صوم لزيادة القبح في ذلك الذنب ولتكون الكفارة حجابا مانعا من وقوع البلاء على ذلك العاصي كما مرت الإشارة إليه في الكلام على صوم رمضان واللّه أعلم .وأما وجه تعلق عتق الرقبة وكتابته وتدبيره وتحريم بيع أمهات الأولاد بالأكلة المذكورة

فهو أن سبب العتق والكتابة والتدبير مقابلة العبد بنظير ما فعل مع سيده من الخدمة ولولا أن الشارع أمر السيد بذلك لما اهتدى لتلك المقابلة لحجابه بالأكل عن إدراك قبح تحمل منن الخلائق إذ ملكه للعبد ليس ملكا حقيقيا وإنما الملك فيه للّه رب العالمين، ولو أن اللّه عزّ وجلّ جعل الرقيق خفيف العقل ما أدخله تحت تحجير عبد آخر فكان حكم العبد مع سيده كحكم الطفل في يد وليه لولاه لضاعف مصالحه فافهم. ويؤيد ما قلناه حديث: " إخوانكم خولكم أطعموهم مما تطعمون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم " .وأما وجه تعلق مشروعية تحريم تبع أمهات الأولاد بالأكلة المذكورة

فهو أن السيد لما أكل ما لا ينبغي حجب ونسي حقوق أم ولده عليه حين كانت له فراشا مع أن ماءها اختلط بمائة في الولد فكان عتقها كفارة لذلك الجهل الحاصل بحجاب الأكل واللّه أعلم .وأما وجه تعلق مشروعية نصب الإمام الأعظم وسائر نوابه بالأكلة المذكورة من الشجرة فظاهر

فإنه لولا الإمام الأعظم ونوابه ما نفذ شيء من الأحكام ولا أقيم شيء من الحدود ولا قام لدين الإسلام شعار وكان يفسد نظام العالم كله وأصل الإخلال بذلك كله حجاب الخلق بالأكل فلو لا الأكل ما تعدى أحد حدود اللّه، ولا احتاج الناس إلى إمام ولا حاكم ولا قاض وكان الإنسان يعطي الحقوق التي عليه لأربابها قبل المطالبة كما عليه طائفة الأولياء الذين كشف اللّه حجابهم لكن لما كان الخلق لا يقدرون على المشي على الطريقة المذكورة احتاجوا ضرورة إلى الحاكم ليحموا نفوسهم وأموالهم وحريمهم من الفسقة والمتمردين، وأيضا فلو لا الإمام الأعظم ونوابه ما انتظم لبيت المال حال ولا قدر أحد على تخليص خراج يصرف على عساكر الإسلام فكانت تضيع مصالح الخلق أجمعين فالحمد للّه رب العالمين فهذا ما حضرني الآن في حكمة وجود التكاليف التي جاءت بها الشرائع كلها واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!