موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الأول: في بيان أن اللّه تعالى واحد أحد منفرد في ملكه لا شريك له

اعلم أيدك اللّه تعالى أن كل من له عقل يعرف أن اللّه تعالى واحد لا شريك له إذ لو جاز كون الإله اثنين لجاز أن يريد أحدهما شيئا ويريد الآخر ضده كحركة زيد وسكونه فيمتنع وقوع المرادين وعدم وقوعهما لامتناع ارتفاع الضدين المذكورين واجتماعهما كما سيأتي بسطه في آخر مباحث هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى . فيتعين وقوع أحدهما فيكون مريده هو الإله الحق دون الآخر لعجزه فلا يكون الإله إلا واحدا بإجماع العقلاء. قال جمهور المتكلمين: والواحد هو الذي لا ينقسم ول يشبه بفتح الموحدة المشددة أي لا يكون بينه وبين غيره شبه بوجه من الوجوه فلا يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء إذ لو كان له ابتداء أو انتهاء لكان حادثا والحادث يحتاج إلى محدث وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. وسمعت سيدي عليا المرصفي رحمه اللّه يقول: الآحاد أربعة أقسام: الأول: أحد لا يتحيز ولا ينقسم ولا يفتقر إلى محل وهو الباري جل وعلا. الثاني: أحد يتحيز وينقسم ويفتقر إلى محل وهو الجسم. الثالث: أحد يتحيز ولا ينقسم ويفتقر إلى محل وهو الجوهر. الرابع: أحد لا يتحيز ولا ينقسم ويفتقر إلى محل وهو العرض. انتهى. وهذا هو مجموع الوجود القديم والحادث فتأمله فإنه نفيس فهذه عبارة المتكلمين.

وأما عبارة الشيخ محيي الدين رحمه اللّه فقال في باب الأسرار من "الفتوحات":

اعلم أن اللّه تعالى واحد بإجماع ومقام الواحد تعالى أن يحل فيه شيء أو يحل هو في شيء إذ

الحقائق لا تتغير عن ذواتها فإنها لو تغيرت لتغير الواحد في نفسه وتغير الحق تعالى في نفسه وتغير الحقائق محال. انتهى. وسيأتي بسط ذلك في مبحث نفي الحلول والاتحاد إن شاء اللّه تعالى . فإن قيل: فما وجه كفر من قال إن اللّه ثالث ثلاثة مع كون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق وهما في الغار حين خاف من المشركين ما ظنك بإثنين اللّه ثالثهما. فالجواب كما قاله الشيخ محيي الدين في باب الأسرار: إن وجه كفر من قال إن اللّه ثالث ثلاثة كونه جعل الحق تعالى واحدا من الثلاثة على الإبهام والتساوي في مرتبة واحدة ولو أنه قال إن اللّه تعالى ثالث اثنين لم يكفر كما في الحديث والمراد بقوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث اللّه ثالثهما أي حافظهما في الغار من الكفار واللّه أعلم. وقال الشيخ أيضا في الباب الحادي والثلاثين ومائة من " الفتوحات المكية ": وإنما لم يكفر من قال إن اللّه تعالى ثالث اثنين أو رابع ثلاثة لأنه لم يجعله من جنس الممكنات بخلاف من قال إن اللّه ثالث ثلاثة أو رابع أربعة أو خامس خمسة ونحو ذلك فإنه يكفر فتأمل فإن اللّه تعالى واحد أبدا لكل كثرة وجماعة ولا يدخل معها في الجنس لأنه إذ جعلناه رابع ثلاثة فهو واحد منفرد أو خامس أربعة فهو واحد منفرد وهكذا بالغا ما بلغ. قال:

وليس عندنا في العلم الإلهي أغمض من هذه المسألة لأن الكثرة حاكمة في عين وجود الواحد بحكم المعية ولا وجود لها فيه إذ لا حلول ولا اتحاد. انتهى.

* - وقال في الباب التاسع والسبعين وثلاثمائة من "الفتوحات" أيضا في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] الآية: اعلم أن اللّه تعالى مع الخلق أينما كانو سواء كان عددهم شفعا أو وترا لكن لا يكون اللّه تعالى واحدا من شفعيتهم ولا واحد من وتريتهم إذ صفته التي ظهرت للمشاهد لا يمكن أن تقف في المرتبة العددية التي وقف فيها الخلق أبدا فمتى انتقلوا إلى المرتبة التي كان فيها صفة الحق تعالى انتقلت صفة الحق تعالى إلى المرتبة التي تليها قبل انتقالهم. قال وهذا تنزيه عظيم لا يصح للخلق فيه مشاركة مع الحق تعالى أبدا.

فإن قيل فما أجرأ الخلق على القول بتعدد الآلهة مع أن تعددها لا وجه له عقلا. فالجواب كما قاله الشيخ في الباب الرابع والأربعين وثلاثمائة: إن الذي أجرأهم وأدخل عليهم الكفر والشرك هو وجود التنكير الذي جاء من لفظ إله من قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [المائدة: 73] فهذا هو الذي أجر المشركين على اتخاذ الآلهة من دون اللّه قال وانظر إلى الاسم

العظيم اللّه لما لم يدخله تنكير كيف لم يصح للكفار أن يسموا ما اتخذوه باسمه تعالى اللّه لأن اللّه تعالى واحد معروف غير مجهول عندهم كما أقر بذلك عبدة الأوثان في قولهم عن آلهتهم التي اتخذوها ما نعبدهم إلا ليقربونّا إلى اللّه زلفى فلم يقولوا إلا ليقربونا إلى إله كبير هو أكبر منها فكان قبول لفظ إله التنكير هو السبب في ضلال من اتخذ آلهة من دون اللّه مع اللّه، ومن هنا أنكروا أنه إله واحد ولو أنهم كانوا أنكروا اللّه تعالى ما كانوا مشركين وإن كانوا كافرين فيمن يشركون إذا أنكروا اللّه تعالى ولذلك قالوا: جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] وما قالوا أجعل الآلهة اللّه فإن اللّه تعالى ليس عند المشركين بالجعل. قال الشيخ محيي الدين وقد عصم اللّه تعالى الاسم اللّه يطلق على أحد وما عصم إطلاق لفظ إله قال تعالى: فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] وللّه تعالى في ذلك سر يعلمه العلماء باللّه تعالى لا يسطر في كتاب لأن الكتاب يقع في يد أهله وغير أهله. فإن قيل فما ألطف الأوثان وما أكثفها. فالجواب كما قاله الشيخ في الباب الخامس والسبعين ومائتين: إن ألطف الأوثان الهوى وأكثفها الحجارة ولهذا قال المشركون لما دعوا إلى توحيد الإله في الألوهية: جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فرد اللّه عليهم بقوله إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فهو من قول اللّه تعالى عندنا من قول الكفار خلاف ما وقع لبعض المفسرين فإن التعجب الواقع من جهة الحق تعالى إنما وقع من فعل الكفار حين قالوا: جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] لما دعوا إلى توحيد الإله في الألوهية وأنه إله واحد وهم يعتقدون كثرتها أي فآخر مقالة الكفار هو قولهم إِلهاً واحِداً وأما قوله إِنَّ هذ لَشَيْءٌ عُجابٌ فليس من قولهم. قلت ويؤيد ما نسبه الشيخ لبعض المفسرين أن المتعجب لا يتعجب إلا مما ورد عليه من الأمور الغريبة التي لا تعمل له فيها واللّه تعالى منزه عن ذلك.

* - قال الشيخ رحمه اللّه: تعلم عقلا أن الإله لا يكون بجعل جاعل فإنه إله لنفسه ولذلك وبّخ الخليل عليه السلام قومه لما نحتوا آلهتهم بقوله تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] لما علم في ضرورة العقل أن الإله لا يتأثر وقد كان هذا الإله الذي اتخذوه خشبة يلعب بها الصبيان أو حجر يستجمر به، ثم أخذه هذ المشرك وجعله إلها يذل له ويتأله إليه في الشدائد ويفتقر إليه ويدعوه خوفا وطمعا، فمن مثل هذا يقع التعجب مع وجود العقل عندهم فتعجب الحق تعالى من ذلك ورسوله ليعلم المحجوبين أن الأمور كلها بيد اللّه عز وجل وأن العقول لا تعقل بنفسه

وإنما تعقل بما يلقي إليها ربها وخالقها ولهذا تتفاوت درجاتها فمن عقل مجعول عليه قفل، ومن عقل محبوس في كن، ومن عقل طبع على مرآته صدأ.

فعلم أن العقول لو كانت تعقل بنفسها لما أنكرت توحيد موجدها فلهذ جعلنا التعجب ليس من قول الكفار انتهى فإن قيل فهل كون الحق تعالى لم يولد من خصائصه أم يشاركه في ذلك خلقه.

فالجواب كما قاله الشيخ محيي الدين في الباب الخامس والأربعين وثلاثمائة: إن عدم الولادة ليس خاصا بالحق تعالى فإن آدم عليه الصلاة والسلام أيضا لم يولد ولكن لما كانت الولادة معلومة عند السائلين خوطبوا بما هو معلوم عندهم ونزه الحق تعالى نفسه عن مجانسة خلقه انتهى. قلت فقوله تعالى: إِنَّ هذ لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] يحتمل أن يكون للتعجب وهو المسمى عند علماء الرسوم بالتعجب أي من شأن ذلك الأمر أن يتعجب منه السامع وإن لم يكن المتكلم متعجبا منه لاستحالة التعجب الحقيقي عليه فيصرف إلى السامع من جهة الحق جل وعلا تنزلا للعقول ويحتمل أن يكون من جهة الكفار أما من جهة الحق فهو لكونهم قالوا بتعدد الآلهة وأم من جهة الكفار فمن كون الإله واحدا فكلام الشيخ على أحد الاحتمالين، فإن قلت: فهل وصف الشرك بأنه ظلم عظيم راجع إلى ظلم العبد نفسه أو إلى ظلم غيره من الخلق أو إلى ظلم صفات الألوهية.

فالجواب ما قاله الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والسبعين من "الفتوحات" أن الشرك إنما هو من مظالم العباد وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُو أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف: 160] فيأتي يوم القيامة من أشركوه مع اللّه تعالى في الألوهية من كوكب وحيوان ونحو ذلك فيقول يا رب خذ لي مظلمتي من هذا الذي جعلني إلها ووصفني بما لا ينبغي لي فيأخذ اللّه تعالى له مظلمته من المشرك ويخلده في النار مع شريكه إن كان حجرا أو حيوانا غير إنسان أما الإنسان فلا يخلد في النار مع عبدته إلا إن رضي بما نسب إليه من الألوهية أما نحو عيسى والعزير عليهما السلام أو علي بن أبي طالب فلا يدخلون النار مع من عبدهم لأن هؤلاء ممن سبقت لهم من اللّه تعالى الحسنى انتهى.

فإن قيل فهل لقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117] مفهوم فالجواب كما قال في "الفتوحات" في الباب الثامن والتسعين ومائة: إنه لا مفهوم له لأن الاجتهاد في الأصول ممنوع عند المحققين فيأثم من أخطأ فيه. فإن قيل: فما وجه تنكير قوله تعالى إِلهاً في هذه الآية. فالجواب أنه إنما نكره لأنه لم يكن موجودا ثم إذ لو كان موجودا لتعين ولو تعين لم يصح تنكيره فدل على أن من يدعو مع اللّه إلها آخر قد نفخ في غير ضرم واستسمن ذا ورم وليس له متعلق يتعين ولا حق يتضح ويتبين وكان مدلول ادعائه العدم المحض ولم يبق إلا من له الوجود المحض إذ كل شيء يتخيل فيه أنه شيء فهو هالك في عين شيئيته عن نسبة الألوهية إليه لا عن شيئيته في نفسه فإن وجه الحق تعالى فيه باق إذ هو معلوم علمه اللّه تعالى فاللّه تعالى هو المعلوم المجهول انتهى.

فإن قلت: لفظة التوحيد توهم أن العبد هو الذي وحد ربه وفي ذلك رائحة الافتقار وتعالى اللّه عن ذلك فالجواب ما قاله في "الفتوحات" في الباب الثالث والسبعين أن الحق تعالى غني عن توحيد عباده له فإنه الواحد لنفسه ووحدانيته ما هي بتوحيده موحد وذلك لئلا يكون الحق تعالى الذي هو المقدس أثرا لهذا العمل فتفطنو أيها الإخوان لهذه النكتة فإنها دقيقة جدا.

* - قال الشيخ: ولغناه تعالى عن توحيد عباده قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] فأخبر تعالى أنه الموحد نفسه بنفسه وعباده إنما هم شهداء على شهادته لنفسه على سبيل التصديق، والاعتراف والإذعان. فإن قيل عطف الملائكة أولوا العلم على شهادته لنفسه بالواو قد يوهم الاشتراك في الوقت والاشتراك هنا لأن شهادة الحق لنفسه لا افتتاح لها والملائكة وأولوا العلم محدثون بلا شك. فالجواب أنه لا اشتراك إلا في الشهادة قطعا، وأما الوقت فلا يصح فيه اشتراك لكون شهادة الحق تعالى كانت قبل خلق الزمان ووقت شهادة عباده له إنما هي حين أظهرهم فافهم.

فإن قيل فلم خص في الآية أولي العلم بالشهادة دون أولي الإيمان. فالجواب أنه تعالى إنما خص أولي العلم بالشهادة لأن شهادتهم ليست عن علم من طريق الإيمان وإنما هي عن

تجل إلهي لقلوبهم أفادهم العلم الضروري بتلك الشهادة لأنه شهادته تعالى لنفسه بالتوحيد ما هي عن إخبار عن غيره حتى تكون إيمانا فإن متعلق الإيمان إنما هو الخبر عن وقوع أمر فيسمعه السامع فيؤمن به، وإخبار اللّه تعالى عن نفسه ليس كذلك وقد استفدنا من إضافتهم إلى العلم دون الإيمان الإعلام من اللّه تعالى لنا بأن المراد بأولي العلم أهل التوحيد الذين حصل لهم التوحيد بالطريق المتقدم وقد يلحق بهم من حصل له التوحيد من طريق العلم النظري وليس المراد بهم من حصل له ذلك من طريق الخبر وكأنه تعالى يقول وشهد الملائكة بتوحيدي بالعلم الضروري الذي استفادوه من التجلي لقلوبهم وقام لهم مقام النظر الصحيح في الأدلة فشهدت لي يعني الملائكة بالتوحيد كما شهدت لنفسي وشهد بذلك أيضا أولوا العلم بالنظر العقلي الذي جعلته لهم انتهى. قلت: ويؤيد ما قرره الشيخ قوله صلى اللّه عليه وسلم: من مات وهو يعلم أن لا إله إلا اللّه دخل الجنة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يقل يؤمن ولا يقول بل قال: يعلم وأفرد العلم وذلك لأن الإيمان متوقف وجوده على وجود الخير كما مر وذلك متوقف على مجيء الرسل والرسول لا يثبت حتى يعلم الناظر العاقل أن ليس ثم إلا إله واحد ثم يقول ذلك لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له قل لا إله إلا اللّه لقول اللّه له: قل ذلك له وحينئذ يسمى مؤمنا فإن الرسول أوجب عليه أن يقولها لو كان عالما هو بها في نفسه من غير واسطة قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136] أي آمنوا بمحمد ولو كنتم مؤمنين من جهة شريعة موسى وعيسى إذ الحكم إنما هو لشريعة محمد الآن وكذلك الحكم في أهل الفترات يؤمرون كذلك بالإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا أدركوا زمن رسالته ولو كانوا موحدين قبل ذلك بالنور الذي قذفه اللّه في قلوبهم كقس بن ساعدة وسيف بن ذي يزن وأضرابهما. فعم صلى اللّه عليه وسلم بقوله من مات وهو يعلم جميع أنواع التوحيد من طريق الخبر أو العلم الضروري وإنما جعل صلى اللّه عليه وسلم صاحب هذا التوحيد العلمي سعيدا ويدخل الجنة وإن لم يتصف بالإيمان لأن النار بذاتها لا تقبل خلود موحد فيه أبدا بأيّ طريق كان توحيده. فإن قيل: فلم لم يقل صلى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث السابق ويعلم أن محمدا رسول اللّه مع أنه لا بد من ذلك في طريق سعادة المؤمن فالجواب كما قاله القصري في " شرح شعب الإيمان " أنه إنما لم يأت بها في الحديث لتضمن الشهادة بالتوحيد الشهادة بالرسالة في حق من قاله امتثالا للشارع صلى اللّه عليه وسلم فإن القائل لا إله إلا اللّه لا يكون مؤمن إلا إذا قالها لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

له: قل، فإذا قالها لقوله له قل، فهو عين إثبات رسالته فلما تضمنت هذه الكلمة الخاصة الشهادة بالرسالة لم يقل في الحديث ويعلم أن محمدا رسول اللّه على أنها قد جاءت في رواية أخرى انتهى.

ويحتمل أن يكون الحق تعالى أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالكف عمن قال لا إله إلا اللّه فقد ورد عنه أن من مات عليها دخل الجنة ثم إن اللّه تعالى أمره بأن يكلفهم بالإيمان بالرسول آخر الأمر لما خف عنهم الحد الذي كان عندهم أوائل البعثة وأذعنوا له كما هو سنة اللّه تعالى في تكليفه لعباده بالأحكام شيئا فشيئ ويحتمل أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما سكت عن لفظة وأن محمدا رسول اللّه ليدخل أهل الفترات ومن لم يبلغهم الرسالة واللّه تعالى أعلم. فإن قيل فأي التوحيد أعلى ؟ توحيد من ينظر في الأدلة أو توحيد من لا ينظر من الحيوانات والجمادات ؟ فالجواب كما قاله سيدي علي الخواص أن توحيد من لا ينظر في الأدلة أعلى إذا كان توحيده كشف فإن كان تقليدا فتوحيد من ينظر في الأدلة أعلى منه واللّه أعلم. بل سمعته يقول: من توقف في توحيده للّه عز وجل على دليل فهو جاهل لأن كل مخلوق يعلم أن اللّه واحد بالفطرة وغاية الإنسان إذا نظر في الأدلة أن ينتهي أمره إلى الحيرة في اللّه تعالى من حيث كنهه وذلك هو حال البهائم لأنهم مفطورون على الحيرة والإنسان لما خلقه اللّه تعالى على صورة الكمال يريد الخروج عن الحيرة وما علم أن ذلك لا يصح له. فإن قيل فهل يصح لعبد أن يترقى في تنزيه الحق تعالى عما وجده في نفسه من صفات المحدث أم لا يصح له الترقي عن ذلك. فالجواب ما قاله في "الفتوحات" في الباب العشرين وثلاثمائة: إنه لا يصح لعبد أن يترقى في تنزيه الحق تعالى عما يعلمه من نفسه أبدا فكل عبد ينزه ربه عن كل ما هو عليه إذ كل ما هو عليه العبد محدث والحق لا ينزه إلا عن قيام الحوادث به ولهذا كان التنزيه يختلف باختلاف المنزهين فالعرض يقول سبحان من لم يفتقر في وجوده إلى محل يكون به ظهوره والجوهر يقول سبحان من لم يفتقر في وجوده إلى أداة تمسكه والجسم يقول سبحان من لم يفتقر في وجوده إلى موجد يوجده قال وفي هذا حصر التنزيه من حيث الأمهات فإنه ماثم إلا جسم أو جوهر أو عرض والكامل يسبح اللّه تعالى بجميع تسبيح العالم كله لانطواء العالم فيه انتهى.

فإن قيل: فهل عبادة الخلق للحق تعالى من طريق أحديته أو من طريق واحديته ؟ فإن قلتم

إنها من طريق الأحدية فكيف صح ذلك مع امتناع التجلي فيها فإن الأحد لا يقبل وجود غيره معه بخلاف الواحدية. فإن الجواب ما قاله في "الفتوحات" في الباب الثاني والسبعين ومائتين:

أنه لا يصح لعبد أن يعبد اللّه تعالى من حيث أحديته ذوقا لأن الأحدية تمحي وجود العابد فكأنه تعالى يقول لا تعبدوني إلا من حيث ربوبيتي فإن الربوبية هي التي تعرفونها لكونها أوجدتكم فما صح لأحد تعلق إلا بها ولا تذلل إلا لها فمن تعبد لحضرة الأحدية فقد تعبد نفسه لغير معروف وطمع في غير مطمع لأن الأحدية من خصائص الذات التي تمحق الأغيار فعلم أن ما سوى اللّه لا أحدية له مطلقا وأن المراد بقوله تعالى ولا يشرك بعبادة ربه أحدا المجاز لا الحقيقة لأنه خلاف ما يفهمه أهل اللّه تعالى في تقديرهم المعاني وإن كانت لفظة الأحدية جاءت ثابتة الإطلاق على ما سواه تعالى كما في هذه الآية ويؤيد ما قررنا قوله تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] أي لا يشاركه أحد في صفة الأحدية.

* - قال الشيخ محيي الدين: وأما الواحد فقد نظرنا في القرآن فلم نجده أطلقه على غيره كما أطلق الأحدية وما أنا منه على يقين فإن كان لم يطلقه فهو أخص من الأحدية ويكون اسما للذات علما لا صفة كالأحدية، إذ الصفة محل الاشتراك ولهذ أطلقت على ما سوى اللّه كما مر انتهى.

فإن قيل: قد أجمعوا على أن كل صادق ناج ومعلوم أن المشرك صادق في أنه مشرك فلم لا ينفعه صدقه.

فالجواب ما قاله الشيخ في الباب الخامس والخمسين وثلاثمائة من "الفتوحات": أن الصدق لا ينجي صاحبه إلا إن وافق الحق فإن النميمة والغيبة قد تكونان صدقا ومع ذلك فهما محرمتان ولذلك قال تعالى لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] يعني أهل أمرهم الحق بذلك الصدق أم نهاهم عنه ؟ فكل حق صدق وليس كل صدق حقا. فعلم أن المشرك صادق في أنه مشرك وما هو صادق في أن الشركة في الألوهية صحيحة وقد بحث هو بالأدلة الشرعية والعقلية فلم يجد لما ادعاه عينا في الصدق انتهى.

فإن قيل: فهل يصح أن يتبرأ الحق تعالى من الشريك من حيث إنه عدم لا وجود له في نفس الأمر.

فالجواب ما قاله الشيخ في الباب الحادي وثلاثمائة: أنه لا يصح أن يتبرأ الحق تعالى من الشريك لأنه عدم وإنما يتبرأ من المشرك من حيث إنه اتخذ آلهة من دون اللّه بغير

سلطان أتاه ثم المراد بتبريه تعالى من المشرك ذمه وبغضه وإلا فلو تبر منه حقيقة فمن كان يحفظ عليه وجوده فحكم البراءة منه حكم صفة تنزه الحق عنها لأن متعلق البراءة عدم انتهى.

 

* - وقال في الباب الخامس والأربعين وثلثمائه: لا تصح الشركة باللّه أبد لأن شرط صحتها عدم تمييز الأنصباء والأمور كلها معينة عند اللّه تعالى في هذ الشيء المسمى مشتركا.

 

* - وقال في الباب الثاني والسبعين لا تصح الشركة في الوجود لأنه كله فعل واحد فما للشركة مصدر تصدر عنه. فتحقق يا أخي هذا التنبيه في الشركة فإنه بعيد أن تسمعه من غيري وإن كان يعرفه فإنه يغلب عليه الجبن الذي فطر عليه فيفزع من حيث كون الحق تعالى أثبت الشركة وصفا في المخلوق وأنه يشرك بربه وما شعر هذا بقوله أن أغنى الشركاء عن الشرك فلم يقل إن الشركة صحيحة ولا أن الشريك موجود فالعبد الذي أشرك وما في نفس الأمر شركة لأن الأمر من واحد هذا هو الحق الذي إن قلته لا تغلب وما سوى ذلك فهو مثال يضرب مثل فرض المحال وجوده موجودا انتهى وأطال في ذلك. فإن قيل: فهل كل كافر مشرك كما أن كل مشرك كافر أم لا. فالجواب ما قاله في الباب الخامس والسبعين ومائتين أن كل مشرك كافر وليس كل كافر مشركا، فأما كفر المشرك فلعدو له عن أحدية الإله وأما شركه فلأنه نسب الألوهية إلى غير اللّه مع اللّه وجعل له نسبتين فأشرك، وأما وجه كونه لا يلزم أن يكون كل كافر مشركا فهو أن الكافر هو الذي يقول إن الإله واحد غير أنه أخطأ في تعيين الإله كما قال تعالى:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72] ما قال لقد أشرك الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم فكفره من حيث إنه جعل ناسوت عيسى إلها كما أنه يكفر أيضا بكفره بالرسول أو ببعض كتابه وكفر هذا على وجهين الأول أن يكون كفره بما جاء من عند اللّه مثل كفر المشرك في توحيد اللّه. الثاني أن يكون عالما برسول اللّه وبما جاء من عند اللّه أنه من عند اللّه ثم ستر ذلك عن العامة والمقلدة من أتباعه كما وقع لقيصر ملك الروم وأطال في ذلك. (فإن قيل) من أين جاء للناس اعتقاد الشريك مع اللّه تعالى مع أنهم كلهم أجابوا بالإقرار بالربوبية له وحده يوم ألست بربكم (فالجواب) ما قاله الشيخ في الباب الخامس والثلثمائة: أنهم ما ادعوا الشريك مع اللّه تعالى حتى حجبوا عن ذلك المشهد فلما حجبو

حكمت عليهم الأوهام بوجود الشريك مع أنه عدم في نفس الأمر فإنه لو صح شريك للحق ما صح من العباد الإقرار بالربوبية للّه تعالى عند أخذ الميثاق ولو صح وجود شريك له فيهم ما صح إقرارهم بالملك له وحده هناك فإن ذلك الموطن كان موطن حق من أجل الشهادة فنفس إطلاقهم الملك له بأنه تعالى ربهم هو عين نفي الشريك، قال الشيخ: وإنما قلنا ذلك من طريق الاستنباط لأنه لا يجرهنا للتوحيد لفظ أصلا وإنم المعنى يعطيه فعلم أن الشريك منفي من الأصل والسلام (فإن قيل) فإذن المشرك جاهل باللّه تعالى على الإطلاق (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الخامس والثمانين ومائتين: نعم إذ الشركة لا تصح بوجه من الوجوه ولا يكون الإيجاد بالشركة قط قال الشيخ ولهذا لم تلحق المعتزلة بالمشركين لأنهم إنما وجدوا أفعال العباد للعباد فم جعلوهم شركاء للّه تعالى وإنما أضافوا الفعل إليهم عقلا وصدقهم الشرع على ذلك كم أن الأشعرية وجدوا أفعال الممكنات كلها للّه تعالى من غير تقسيم عقلا وساعدهم الشرع على ذلك أيضا لكن ببعض محتملات وجوه ذلك الخطاب ولم يجعلهم من المشركين، بل قالوا إن اللّه تعالى خالق كل شيء. قال: ولكن لا يخفى أن ما ذهبت إليه الأشاعرة أقوى عند أهل الكشف مع أن كلّا من الطائفتين أصحاب توحيد شرعي انتهى.

 

* - وقال في الباب الثالث والسبعين وأربعمائة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116] أي لأن الشريك عدم لا وجود له كما يتيقنه المؤمن بإيمانه وإذا كان عدما فلا يغفره اللّه إذ الغفر والستر لا يكون إلا لمن له وجود والشريك عدم فما ثم من يستر فهي كلمة تحقيق فمعنى قوله إن اللّه لا يغفر أن يشرك به أي لأنه لا وجود للشريك ولو كان له وجود لكان للمغفرة عين تتعلق بها وأطال في ذلك.

 

* - وقال في الباب الخامس والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن الشرع قد يتبع العرف في بعض المواضع كما في قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء: 111] فنفي الشريك مع أنه لا وجود له في الشرع ولكن لما ثبت اسم الشريك في العرف العام تبعه الشرع في ذلك ليفهم عنه الحكم فإنه صلى اللّه عليه وسلم جاء بلسان قومه وهو ما تواطؤوا عليه انتهى. (فإن قيل) فهل في الجن المخلدين في النار من يشرك كالإنس (فالجواب) ما قاله الشيخ في الباب التاسع والستين

وثلاثمائة: أنه ليس في الجن من يجهل الحق تعالى ولا من يشرك به فهم ملحقون بالكفار لا بالمشركين وإن كانوا هم الذين يوسوسون بالشرك للناس ولذلك قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) [الحشر: 16] فليتأمل (فإن قيل) فإذا كان مذهب الأشعرية لا بد فيه من إضافة العقل للعبد فكيف يصح التوحيد الخالص للّه تعالى: (فالجواب) ما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين ومائة: وهو أنه يجب على الإنسان أن ينزه ربه عن الشريك لا عن الشركة في العقل والملك لأجل صحة التكليف فإن للعبد في الفعل والملك شركة لكن من خلف حجاب الأسباب كالنجار تضاف إليه الصنعة وهو لم يعمل التابوت بيده فقط وإنم فعله بآلات متعددة من حديد وخشب فهذه أسباب النجارة ولم يضف عمل التابوت إلى شيء منها انتهى. (فإن قيل) فما الفرق بين من يقول بالأسباب وبين من قال عن الأوثان ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وهل كان يكفر من وقف مع الأسباب كما يكفر من عبد الأوثان. (فالجواب) ما قاله الشيخ في الباب الثاني والسبعين في الكلام على الحج: اعلم أن عباد الأوثان قد اجتمعو معنا في كوننا ما عبدنا الذات لكونها ذاتا بل لكونها إلها وإنما خالفونا في الاسم فإنا وضعنا الاسم على حقيقة مسماه ونسبنا ما ينبغي لمن ينبغي فهو اللّه حقا لا إله إلا اللّه هو وأولئك وضعوا الاسم على غير مسماه فأخطؤوا، فسمينا نحن علماء سعداء وأولئك سموا جهلاء أشقياء فنحن عباد المسمى والاسم مندرج فيه وهم عباد الاسم لا المسمى كما قال وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد: 15] فالمؤمن يسجد للّه طوعا والمشرك يسجد للّه كرها لأنه عبد الوثن فتبرأ الوثن منه فوقعت عبادته للّه تعالى كرها على رغم أنفه.

 

* - وقال في الباب السبعين من "الفتوحات": إنما لم يقبل توحيد المشركين شرعا في قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُون إِلَى اللَّهِ زُلْفى لأن الدليل يضاد المدلول والتوحيد المدلول والدليل مغاير له فلا توحيد انتهى. (فإن قيل) فهل لنا علة أخرى في برهان التمانع غير الفساد في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين: أنّ علة منع وجود إلهين كون الحق تعالى لا مثل له فلو صح أن يكون في الوجود إلهان لصح أن يكون له تعالى مثل وذلك محال لأن اللّه تعالى نفى أن يكون له مثل

بخلاف الأسماء فإنه يصح اجتماعها في عين واحدة لعدم التشببيه بالكون. قال: وانظر إلى التفاحة مثلا كيف خلقها اللّه تعالى تحمل لونا وطعما ورائحة في جوهر واحد ويستحيل وجود لونين أو طعمين أو ريحين في ذلك الحيز، قال: ومن هن يفهم معنى كون الحق تعالى يسمى بالظاهر والباطن دون الظاهرين أو الباطنين انتهى.

 

* - وقال في الباب الأحد والثمانين ومائة: إنما كان المريد لا يفلح قط بين شيخين قياسا على عدم وجود العالم بين إلهين وعلى عدم وجود المكلف بين رسولين وعلى عدم وجود امرأة بين رجلين انتهى.

وقد قيل للشيخ محيي الدين رحمه اللّه: إن الإله الذي جاء بوصفه ونعته الشارع لا يدرك كنهه لمباينته لخلقه فهل هو غير الإله الذي أدركه العقل وأحاط به علما أم هو عينه ولكن قصر العقل عن الإحاطة به ؟ فأجاب الشيخ في الباب السابع والستين من "الفتوحات" بما نصه: أن الإله الذي أدركه العقل ليس هو عين الإله المنزه المقدس لأن الإله الذي جاء بوصفه ونعته الشارع لا يقبل اقتران محدث به وقد قرن بهذا الإله محمد رسول اللّه في شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فعلم أن التوحيد من حيث ما يعلمه اللّه ما هو التوحيد الذي أدركه النظر العقلي إذ الإله الذي دعا الشرع إلى عبادته لا يعقل كنهه لمخالفته لسائر الحقائق وأطال في ذلك فليتأمل، ثم قال: ومن عرف ما قررناه علم أن الإله الذي أدركه العقل لا يحتاج إلى تأويل شيء من صفاته التي أدركناها بعقولنا وتنزل الحق تعالى فيه لعقولنا فيصح وصفه بالاستواء والنزول والمعية والتردد وغير ذلك من غير تأويل انتهى.

قلت فما احتاج إلى تأويل إلا من ظن أن الإله الذي كلفنا اللّه بمعرفته ليس هو صاحب الصفات المقدسة التي لا تعقل وذلك أن الحق تعالى له مرتبتان مرتبة هو عليها في علي ذاته ومرتبة تنزل منها لعقول عباده فما عرف الخلق منه إلا رتبة التنزل لا غير، لأن اللّه تعالى لم يكلف الخلق أن يعرفوه تعالى كما يعرف نفسه أبدا ولو كلفهم بذلك لأدى إلى الإحاطة به كما يحيط هو بنفسه وذلك محال لتساوي علم العبد وعلم الرب حينئذ انتهى. وقد قال الشيخ أيضا في الباب الثاني والسبعين إلى التنزيه سمع في الشرع ولم يوجد في العقل انتهى. وقد أنشد

سيدي محمد وفا رضي اللّه تعالى عنه في هذا المعنى:

عقال عقلك بالأوهام معقول * وقد قلب القلب منك القال والقيل

نحت بالفكر معبودا وقلت به * وصنت عقدا بكف الحق محلول

قد عشت قبلك دهرا في مكابدة * ولي فؤاد بهذا الداء معلول

انتهى فعلم أنه ما ترقى عن الأوهام إلا الأنبياء وكمل ورثتهم من الأولياء والعلماء فهؤلاء هم الذين خرجوا عن الأوهام في اللّه عز وجل ولذلك لم ينقل عنهم تأويل صفات اللّه لأنفسهم وإنما أولوها لاتباعهم لقصور عقولهم فكان من جملة رحمة اللّه تعالى بعامة عباده التنزل لعقولهم بضرب من التشبيه الخيالي ومخاطبتنا منه لنتعقل عن أمره ونهيه فإذا تعقلنا ما خاطبنا به ذهبت المثلى المتخيلات كأنها جفاء وبقي معنا العلم وهذا نظير ما نزل إلينا من كلامه القديم المنزه عن الحروف والأصوات فإنا لا نتعقله إلا إن كان بصوت وحرف ولو أنه كشف عن الغطاء لوجدناه بغير صوت ولا حرف كما أن الحق تعالى إذا تجلى يوم القيامة يراه بعض الناس في صورة ولو أنه حقق النظر لم يجد للحق صورة ونظير ذلك أيضا السراب يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39] . وقد ذكر الشيخ في الباب الثاني والسبعين أن للحق أن يناقش الموحدين ويقول لهم: فبماذا وحدتموني ولماذا وحدتموني وما الذي اقتضى لكم توحيدي فإن كنتم توحدوني في المظاهر فأنتم القائلون بالحلول والقائلون بالحلول غير موحدين لأنهم أثبتوا أمرين حالا ومحلا، وإن كنتم وحدتموني في الذات دون الصفات الأفعال فما وحدتموني لأن العقول لا تبلغ إليها والخبر لم يجئكم بها من عندي، وإن كنتم وحدتموني في الألوهية بما تحمله من الصفات الفعلية والذاتية مع اختلاف النسب فبم وحدتموني هل بعقولكم أو بي فكيفما كان ما وحدتموني لأن وحدانيتي ما هي بتوحيد موحد لا بعقولكم ولا بي فإن توحيدكم إياي بي هو توحيدي وتوحيدكم بعقولكم هباء منثورا كيف تحكمون علي بحكم من خلقته ونصبته وإن كان الذي اقتضى توحيدي هو وجودكم فأنتم تحت حكم ما اقتضاه منكم فقد خرجتم عني فأين التوحيد ؟ وإن قلتم إن الذي اقتضى توحيدكم هو أمري فأمري ما هو غيري فعلى يدي من وصل إليكم ؟ وإن قلتم إنه هو ما رأيتموه مني فمن ذ الذي

رآه منكم وإن لم تروه مني فأين التوحيد ؟ وأنتم تشهدون الكثرة انتهى.

* - وقال في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة في الكلام على اسمه تعالى الجامع: اعلم أن التوحيد المطلوب منا معقول غير موجود والجمع موجود ومعقول ولو أنه تعالى أراد منا التوحيد الخالص الذي ليس معه فيه سواه لما أوجد العالم. لكن لما سبق علمه أنه إذا أوجد العالم كان بعض الناس يشرك به وقع ذلك على حكم ما سبق به العلم وماثم شيء خارج عن حكمه وإرادته وأطال في ذلك.

ثم قال: وهذا هو وجه استناد وجود الشرك في العالم وقد كان تعالى ول شيء معه يتصف بالوجود ولا الشريك ولا المشرك فنشأ الشرك من وجود العالم معه تعالى فما فتح العالم عينه على نفسه إلا وهو موجود مع الحق تعالى فلذلك كان ليس له في التوحيد الخالص ذوق فلما قيل له وحد خالقك لم يفهم هذا الخطاب فكرر عليه القول فقال: لا أدري ولا أعقل التوحيد إلا بين اثنين موحّد بكسر الحاء وموحّد بفتحه وأطال في ذلك. ثم قال في باب الوصايا من "الفتوحات" اعلم أنه لا يعرف التوحيد الذي يستحقه الحق إلا الحق وأما نحن فإذا وحدناه فإنما نوحده بتوحيد الرضا ولسانه فإن توحيد الاستحقاق محال أن يصحبه هم أو حزن أو اختيار أو حب رياسة أو بغض أحد من الخلق لأن الوجود كله في قبضة قهره وتصريفه فافهم.

* - وقال في الباب الثاني والسبعين ومائة بعد كلام طويل: فإذن التوحيد الشرعي هو التعمل في حصول العلم في نفس الإنسان بأن اللّه الذي أوجده واحد لا شريك له في ألوهيته وأما الوحدة فهي صفة الحق والاسم صفة الأحد والواحد وأما الوحدانية فهي قيام الوحدة بالواحد من حيث إنها لا تعقل إلا بقيامها بالواحد وإن كانت نسبته في التنزيه فهذا هو معنى التوحيد فإذا حصل في نفس العالم أن اللّه تعالى واحد فهو موحد وأطال في ذلك.

خاتمة: قال الشيخ في باب الوصايا من "الفتوحات": إياكم ومعاداة أهل لا إله إلا اللّه فإن لهم من اللّه الولاية العامة فهم أولياء اللّه ولو أخطئو وجاؤوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون باللّه شيئا فإن اللّه يتلقى جميعهم بمثله مغفرة ومن ثبتت ولايته حرمت محاربته، وإنما جاز لنا هجر أحد من الذاكرين للّه لظاهر الشرع من غير أن نؤذيه أو نزدريه وأطال في ذلك، ثم قال: وإذا عمل أحدكم عملا توعد اللّه عليه بالنار فليمحه بالتوحيد فإن التوحيد يأخذ بيد صاحبه يوم القيامة لا بد من ذلك واللّه تعالى أعلم فتأمل في هذا المبحث وأمعن النظر فيه فإنك

لا تجده في كتاب واللّه سبحانه وتعالى أعلم والحمد للّه رب العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!