موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثلاثون: في بيان حكمة بعثة الرسل في كل زمان وقع فيه إرسال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

اعلم أن الأصل في هذا المبحث قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:

15] . فما عاند بعد إرسال الرسل إلا من لم ينصح نفسه ممن حقت عليه كلمة العذاب والشقاء الأبدي. قال الشيخ محيي الدين رحمه اللّه: واعلم أن جميع الحدود التي حدها اللّه. أي:

قدرها الرب سبحانه وتعالى هذه الدار لا تخرج عن قسمين: قسم يسمى سياسة حكمية بكسر الحاء، وقسم يسمى شريعة وكلاهما إنما جاء لمصلحة بقاء الأعيان الممكنات في هذه الدار وسلامتها من الفساد فأما القسم الأول: فطريقه الإلقاء بمثابة الإلهام عندنا، وذلك لعدم وجود شريعة بين أظهر أهل ذلك الزمان فكان الحق تعالى يلقي في نظر نفوس الأكابر من الناس الحكمة فيحدون الحدود ويضعون النواميس في كل مدينة وجهة وإقليم بحسب المزاج الذي تقتضيه طباع تلك الناحية فانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم وسموها نواميس ومعناها أسباب خير لأن الناموس في الإصلاح هو الذي يأتي بخير عكس الجاسوس فهذه هي النواميس الحكمية وضعها العقلاء عن إلهام من اللّه تعالى من حيث لا يشعرون لأجل مصالح العالم ونظمه وارتباطه انتهى. وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة:

اعلم أنه إنما يتعين استعمال النواميس الوضعية والقوانين السلطانية في أيام الفترات وذلك ليجمع اللّه تعالى باستعمالها شمل العالم قال: وما حرم اللّه تعالى كل من وضع ذلك إجراما من باب إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120] . قال: وأما استعمال النواميس والقوانين في زمن الشرائع فلا ينبغي استعمالها إلا إذا وافقت الشرائع لأنه يحرم على كل حاكم أن يتعدى شريعة نبيه صلى اللّه عليه وسلم، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِم أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47] .

* - وقال أيضا في الباب التاسع والثلاثين وثلاثمائة: اعلم أن الشرع شرعان: شرع منزل إلهي وشرع حكمي سياسي عند فقد هذا الشرع فلا تخلو أمة عن نذير يقوم بسياستها لبقاء المصلحة في حقها سواء كان ذلك الشرع إلهيا أو سياسيا.(فإن قلت): فهل كان لواضعي هذه النواميس علم بأنها مقربة إلى اللّه تعالى أم لا ؟

(فالجواب): أنه لم يكن لهم علم بذلك كما أنه لم يكن لهم علم بأنه ثم بعث ولا حشر ولا نشر ولا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا جنة ولا نار ولا شيء من أحوال الآخرة جملة لأن ذلك ممكن وعدمه أيضا ممكن ولا دليل لهم في أحد الممكنين بل رهبانية ابتدعوها فلهذا كان مبنى نواميس الحكماء في كل زمان على إبقاء الصلاح في هذه الدار لا غير وغاية علمهم أنهم انفردوا في نفوسهم بالعلوم الإلهية من توحيد اللّه تعالى وما ينبغي لجلاله من التعظيم والتقديس وعدم المثل والشبيه وصارو يحرضون الناس على النظر الصحيح فكان جل أشغالهم في ذلك فلما عرفوا ذلك شرعوا في البحث عن حقائق نفوسهم حين رأوا أن الصورة الجسدية إذا ماتت ما نقص من أعضائها شيء فعلموا أن المدرك والمحرك لهذا الجسم أمر آخر زائد عليه فبحثوا عن ذلك الأمر الزائد فعرفوا نفوسهم وما حده لهم عقلهم لا غير فأورثهم ذلك ترددا بين التنزيه والتشبيه وحيرة من إثبات المعرفة ونفيها في حق العالم فلما أورثهم ذلك ما ذكر رحمهم اللّه تعالى بإرسال الرسل وأطال الشيخ في ذلك في الباب التاسع وثلاثين وثلاثمائة فراجعه واللّه تعالى أعلم. وأما القسم الثاني: المسمى بشريعة حقيقة هو ما جاء على لسان الصادق المصدوق من سائر الأحكام التي ليس للعقل فيها مدخل إلا من حيث قبوله والإيمان بها لا غير، كما مر في مبحث المعجزات إذ لو اشتغلت العقول بأمور سعادته لكان وجود الرسل عبثا، ومعلوم قطعا أن كل إنسان منا يجهل بالضرورة مآله وإلى أين ينتقل كما يجهل أيضا أسباب سعادته إن سعد أو شقاوته إن شقي وذلك لجهله بعلم اللّه السابق منه وبما يريده به ولماذا خلقه فهو مفتقر بالضرورة إلى التعريف الإلهي له بذلك ولولا إرسال الرسل ما عرفنا الفرق بين الطاعة والمعصية ولا تميز أحد من أهل القبضتين عن الآخر. فعلم أن إرسال الرسل قامت حجة اللّه تعالى على عباده وظهرت وما سعد من سعد إلا بالقسمة الإلهية وما شقي من شقي إلا بها وليس للرسل عليهم الصلاة والسلام أثر في ذلك إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:

48] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وكذلك ليس لإبليس أثر في الإضلال إنما هو موسوس للناس أن يفعلوا ما قدره اللّه عليهم وسوف يخطب في النار ويقول: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] وذلك مكان يصدق فيه الكذوب وكذلك إذا أمر الرسول أمته بفعل شيء مثلا فلسان حالهم يقول: هل نفعل ما قسمه الحق لنا أم لم يقسمه فلا يسع الرسول أن يقول: افعلوا ما قسمه لكم فإذا قالوا: هل نفعله في الوقت الذي قسم لنا الحق تعالى فعله فيه أو قبله يقول لهم الرسول: في الوقت الذي قسم لكم أن تفعلوه فيه ولكن سلطان الأمر الإلهي متوجه عليكم أن تفعلوا ذلك في الوقت المضروب لكم شرعا لا وقت إرادة نفوسكم وهنا تدحض حجتهم.(فإن قلت): فهل للحيوانات رسل منهم كالجن والإنس كما قيل ؟

(فالجواب): ليس للحيوانات رسل منهم وإنما ذلك خاص بالجن والإنس وقد أفتى المالكية بكفر من قال: إن في كل جنس من الحيوانات نذيرا منها لها.

(فإن قلت): فما تقولون في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] .

وفي قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] ؟

(فالجواب): إن هذا عام مخصوص بالجن والإنس فإنه قد ورد في الكلاب أنها أمة من الأمم وكذلك النمل والفيران ولم يرد لنا دليل قاطع بأن لها نذيرا منه فإياك والغلط.

(فإن قلت): فمتى ينقطع حكم التكليف في حق الأمة ؟

(فالجواب): ينقطع التكليف في حق أهل الجنة وأهل النار بالموت ما عد أهل الأعراف إلا أن يخروا ساجدين يوم القيامة فترجح ميزانهم بتلك السجدة ثم يدخلون الجنة فإنه لولا أن تكليفهم باق إلى ذلك الوقت ما نفعتهم تلك السجدة ولا رجحت ميزانهم بها.

(فإن قلت): فما أول وقت كان فيه تكليف الروح ؟

(فالجواب): هي مكلفة من يوم لَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] فلو لا أن تكليفها وفعلها موجود ذلك اليوم ما خوطبت ولا أجابت وعلى ما ورد في الحديث من الامتحان للأطفال والمجانين وأصحاب الفترات على لسان رسول يوم القيامة يرسل إليهم فيقوم بعث ذلك الرسول في ذلك اليوم مقام بعث الرسول إليهم في دار الدنيا فمن أطاعه نجا ودخل الجنة ومن عصاه وخالف أمره هلك ودخل النار ليقوم العدل من اللّه تعالى في عباده بعد إقامة الحجة واللّه أعلم.

وقد رأيت في كتاب سراج العقول للإمام أبي طاهر القزويني في الباب الخامس والثلاثين منه ما نصه: اعلم أن اللّه تعالى قد خلق جميع الكائنات من فضله وكرمه بعد أن لم يكن للكون أثر ولا للمكون خبر ثم أنه تعالى لما خلقهم من فضله لم يتركهم سدى هملا غافلين عما يرجع إلى مصالحهم في الأمور الدينية والدنيوية ولم كان الجليل جل جلاله منزها عن المجيء إليهم والنزول عليهم ولم يكن كلامه بحرف ول صوت حتى يسمعوا كلامه كفاحا بعث إليهم منهم رسلا مبشرين ومنذرين ليبلغوا إلى أسماع عباده كلامه وقد ألم بعض الشعراء بهذا المعنى فقال:

ولما تعذر أن نلتقي * وزاد النزاع وجد القدم

سعيت إليك برجل الرسول * وناجاك عني لسان القلم

* - قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:

165] . إن الحق تعالى من جملة فضله علينا إرسال الرسل إلينا كما أنه خلقنا بفضله من العدم إذ لا يجب عليه تعالى شيء البتة.(فإن قلت): فما حقيقة النبوة ؟

(فالجواب): هو خطاب اللّه تعالى شخصا بقوله: “ أنت رسولي واصطفيتك لنفسي “. كما مر في المبحث قبله اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

(فإن قلت): فهل النبوة مكتسبة أو موهوبة ؟

(فالجواب): ليست النبوة مكتسبة حتى يتوصل إليها بالنسك والرياضات كما ظنه جماعة من الحمقى فإن اللّه تعالى حكى عن الرسل بقوله: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إبراهيم: 11] وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن يقول: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93] فالنبوة إذن محض فضل اللّه تعالى كما مر خلافا للمعتزلة ومن تابعهم من قولهم: بوجوب النبوة عقلا من جهة اللطف والحق أنها جائزة عقلا واجبة تواترا ونقلا ينتهي إلى المعاينة وهي من فضل اللّه ورحمته وتدبيره في الملك والملكوت بأوامره ونواهيه على من يشاء كيف يشاء وعلى هذا فالنبوة صفة راجعة إلى اصطفاء اللّه شخصا بخطابه ولو بواسطة الملك ولا ترجع إلى نفس ذلك الشخص الذي هو النبي حتى إنه يقال: استحق النبوة لذاته وإذا كانت كذلك فلا تبطل بالموت كما لا تبطل بالنوم والغفلة من قال: أن النبوة مأخوذة من النبأ وهو الخبر إذ هو المخبر عن اللّه تعالى ومن مات لا يخبر نقول له: حكم النبوة باق عليه أبدا حيا وميتا كما أن حكم نكاحه كذلك. وفي الحديث: “ زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة “. وفي الحديث أيضا: “ الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون “. وقد أفتى المالكية وغيرهم بكفر من قال: إن النبوة مكتسبة واللّه أعلم.

(فإن قيل): هلّا أرسل اللّه تعالى الملائكة فإنهم كانوا بهيئتهم الملكية أدعى إلى الحق والاستجابة لهم وكانت الكفرة لا تقول: بَشَراً مِنَّ واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] .(فالجواب): أن هذا السؤال قد سبق من كفار مكة وأجاب اللّه تعالى عن ذلك بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) [الإسراء: 95] وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْن عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) [الأنعام: 9] . والمعنى في ذلك أن في الرسالة امتحانا واختبارا فينظر تعالى وهو العالم بما يكون قبل أن يكون هل يقوم بهم داء الحسد فلا يطيعون ذلك الرسول أو يطيعونه وذلك أن الحسد موضوعه أن يكون بين الجنس الواحد فليس بين البشر والملك حسد ولذلك طلب كفار مكة أن يكون الرسول إليهم ملك لعدم الحسد بينهم وبين الملك بخلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأيضا فإن عامة البشر لا تطيق أن ترى الملائكة بأعيانهم وصفاتهم في صورهم فضلا عن أخذ الكلام عنهم وإنما يستأنس الجنس بالجنس ولا عجب من أن يفزع الآدمي من صورة الملك الذي يسد الخافقين بنشر جناح واحد. ولقد بلغنا أن اللّه تعالى خلق عجائب في أعالي الهند وأقاصي بلاد الصين وجزائرها أناسا إذا أبصروا أحدا منا خروا لوجوههم ميتين ولو أبصر منا واحد صورة أحدهم لانشقت مرارته خيفة منه وفي القصر المشيد خلق لا يقع بصر أحد منا عليهم إلا ترامى فمات لوقته ولقد ربطوا إنسانا بحبال وثيقة وقالوا له: انظر ونحن نمسك فنظر إليهم فتمزع من الحبال ونزل إليهم قطعا قطعا. وحديث بدء الوحي مشهور فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مع قوته وشهامته لما رأى الملك أولا بحراء قاعدا على كرسي بين السماء والأرض، وله صوت هائل امتلأ منه رعبا وهوى من الجبل إلى الأرض وجاء إلى بيت خديجة وهو يقول: زملوني فعلى هذا لو بعث اللّه تعالى ملائكة رسلا إلى عباده لفروا منهم ولم يطيقو سماع كلامهم بل ربما صعقوا من هيبتهم وماتوا كما قال تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْن مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] . أي: لماتوا من هيبته في الحال فقد بان لك فائدة كون الرسول من جنس المرسل إليهم وهو تمكنهم من الأخذ عنه لاستئناسهم بحكم الجنسية كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] . وقال تعالى أيضا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] .(فإن قلت): فما التحقيق في قوله: فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة: 87] هل جميع ما جاءت به الرسل مخالف لهوى النفس من كل وجه أم بعضه موافق لهواها ؟

(فالجواب): كما قال الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والتسعين ومائتين: إن الشرع لم يجئ لنا إلا بمساعدة الطبع فلا ندري من أين جاء الإنسان المشقة والكلفة وإيضاح ذلك أن الصفات التي جبل عليها الإنسان لا تتبدل فإنها ذاتية له في هذه النشأة الدنيوية والمزاج الخاص فلا يكاد يفارق الجبن، والبخل، والشح، والحسد، والتكبر، والغلظة وطلب القهر وأمثال ذلك ثم لما سبق في علم الحق تعالى أن هذه الصفات لم تكن تتبدل جعل اللّه تعالى لها مصارف وأمر بصرفها إليها حكم مشروعا فإن تبعت النفس تلك المصارف سعدت ونالت الدرجات العلا، عن إتيان المحارم لم تتوقعه من المضرة لها دنيا وأخرى وشجت كذلك بدينها أن تقع في شيء ينقصه وحسدت من أنفق المال ابتغاء مرضاة اللّه وطلب العلم على وجه الإخلاص وحرصت على الخير أيضا وتكبرت وتعززت باللّه على من تكبر عن أمر اللّه وأغلظت القول والفعل في المواطن التي أمرها اللّه تعالى بها وطلبت القهر والغلبة لمن ناوأ الحق وقاواه فقد بان لك أن صفات النفس لم تتغير في حد ذاتها وإنما صرفت تلك الصفات في المصارف التي ندب الحق تعالى إليها ليحمدها ربها وملائكته ورسله وبيان ذلك أيضا أن الحق تعالى لم يحجر على العبد ما يقتضيه طبعه بالكلية وإنما حجر عليه البعض وما أهلك الناس إل سلطان الأغراض فإنه الذي أدخل الألم عليهم والمكروه ولو أنهم كانوا صرفوا أغراضهم إلى ما أراده لهم خالقهم واختاره لهم لاستراحوا وأطال الشيخ في ذلك.

(فإن قلت): قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] . هل هو نور العقل مع نور الشرع أو غير ذلك ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ محيي الدين: أن المراد بهذين النورين نور الشرع مع نور التوفيق والهداية، فلو لا اجتماع هذين النورين ما كمل حال المكلف وذلك لأن النور الواحد وحده لا يظهر له ضوء ولا شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس من حين إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن الأعمى لا يبصر ذلك كما لا يبصر الخفاش شيئا في ضوء النهار ولذلك من أعمى اللّه تعالى بصيرته لا يؤمن به لعدم إدراكه ذلك النور ولو كان نور البصيرة موجودا ولم يظهر للشرع نور لم يدر صاحب نور البصيرة أين يسلك ولا كيف يسلك لأنها طريق مجهولة لا يعرف ما فيه ولا ما تنتهي إليه. فعلم أن الماشي في هذه الطريق إن لم يحفظ سراجه من الأهواء وإلا هبت عليه رياح زعازع أطفأته وأذهبت نوره ومرادنا بالزعازع كل شيء يؤثر في نور توحيده وإيمانه فإن هبت ريح لينة أمالت سراجه ولسانه يعني: السراج حتى يحار في الطريق فتلك الريح كتبعات الهوى في فروع الشريعة وهي المعاصي التي لا يكفر به الإنسان ولا تقدح في توحيده وإيمانه انتهى.

(فإن قلت): فهل يشترط في وقوع العذاب على من خالف الرسل ثبوت رسالتهم عنده ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السادس والسبعين وثلاثمائة، نعم يشترط ثبوت رسالتهم عنده ذلك حتى يبني عليه وجوب امتثال أمره واجتناب نهيه.

(فإن قلت): فما صورة ثبوت الرسالة ؟

(فالجواب): أن تقوم الدلالة الظاهرة عند كل شخص ممن بعث إليهم سواء كانت بواسطة التواتر وبإشراق نور في القلب، فرب آية يكون فيها غموض أو احتمال بحيث لا يدرك معناها بعض الناس ولا يعرف وجه دلالتها فلا بد أن يكون الدليل على صحة الرسالة واضحا في غاية الوضوح عن كل من قام له حتى يثبت عنده أنه رسول وحينئذ إن جحد بعد ما تبين وتيقن تعينت مؤاخذته ولذلك قال تعالى: وَما كُنَّ مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] . ولم يقل: نبعث شخصا لأنه لا بد أن تثبت رسالة المبعوث عند من وجه إليه كم مر، وفي هذه الآية رحمة عظيمة للأمة لما الخلق عليه من اختلاف الفطر المؤدي ذلك إلى اختلاف النظر وما فعل اللّه ذلك إلا ليفتح باب الرحمة على من يريد أن يرحمه من عباده.

(فإن قلت): فما السبب الذي منع العبد من العمل بما سمعه من الدعاء إلى اللّه تعالى مما يجب عليه العمل به وهل حكمه حكم من لم يسمع فيكون الحق تعالى قد تفضل عليه وعفا عنه أو حكمه حكم من علم فلم يعمل فعاقبه اللّه تعالى على ذلك عدلا منه فإنه تعالى قال:

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) [الأنفال: 21] . أي: فإنهم سمعوا ذلك حقيقة وفهموه لأنه بلسانهم، ثم قال تعالى: وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. أي: حكمهم حكم من لم يسمع مع كونهم سمعوا.

(فالجواب): إن قرائن الأحوال تشهد بالعقوبة لمن يسمع ولم يعمل بم سمع ولكن الإمكان لا يرتفع في نفس الأمر في حق الموحدين لما يعرف من سعة رحمة اللّه وتجاوزه عن سيئات جميع الموحدين إلا من شاء اللّه ولم يخبرنا الحق بحكم من قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون هل يعاقبهم أم لا.(فإن قلت): فهل الأولى دعاء الرسول بالإلحاح للمدعو أو من غير إلحاح ؟

(فالجواب): أن من شروط الداعي إلى اللّه تعالى نفوذ البصر إلى باطن المدعو وإن رأى المدعو يمكنه الإجابة دعاه بالإلحاح وإلا دعاه بغير الإلحاح لإقامة الحجة عليه خاصة ولذلك لم تبعث الأنبياء بالأمر بالتوحيد إلا للمشركين فقط، كم ذكره الشيخ في آخر الباب الثاني والسبعين من “ الفتوحات “ قال: وذلك لأنهم أبعد الخلق عن اللّه تعالى فبعثوا إليهم بالتوحيد ليهدوهم إلى طريق الهدى وهذا هو سر إهداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البدن إلى الكعبة مع ذكره فيها أنها شياطين ليثبت عند العقلاء العالمين بذلك أن مقامه صلى اللّه عليه وسلم رد البعداء عن حضرة اللّه وإنما أشعرها في صفحة سنامها الأيمن الذي هو أرفع ما فيها لينبه على كبرياء المشركين التي كانوا عليها في نفوسهم، وأيضا فإن الصفحة مشتقة من الصفح فكان في ذلك إشعار من اللّه تعالى أن يصفح عمن هذه صفته إذا أراد التقريب من حضرة اللّه تعالى ، وإنما جعل في رقابها النعال إشارة إلى زوال الكبرياء والشيطنة التي كانت في البدن إذ لا يصفع بالنعال إلا أخو الهون والذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي عنده كبرياء تظهر وأهدى صلى اللّه عليه وسلم مرة غنما وهي من الحيوان الطاهر من الشيطنة فكان ذلك إشارة منه إلى تقريب الموحدين في ترقيهم في مقامات التوحيد فقد علمت أن من حكمة بعثة الرسل أن يردو الشاردين عن حضرة اللّه إليها ويرقوا أهلها في درجاتهم واللّه أعلم.

(خاتمة: في آثار بعثة الرسل): اعلم أن من آثارها وجود القرينين اللذين هما الملك والشيطان فمن كان من أهل الفترات فلا قرين له بل هو يتصرف بحكم طبعه لأن ناصيته بيد ربه خاصة، فكل ما تمنى في ذلك الزمان من أحوال الموحدين فهو فيه على صراط مستقيم وأما من كان في أمة بعث فيها رسول أو خلق في أمة بعث فيه رسول فإن القرينين يلزمانه من حين ولادته لأجل وجود الشرع.(فإن قلت): إن المولود غير مكلف حتى يبلغ الحنث فلماذا يقرن به هذان القرينان وهو لم يكلف ؟

(فالجواب): إن اللّه تعالى ما جعل هذين القرينين في حق المولود نفسه وإنما ذلك من أجل تربية والديه أو من كان فيهمزه القرين الشيطاني فيبكي أو يلعب بيده فيفسد شيئا مما يكره والداه فساده أو غيرهما فتكون تلك الحركة الموجودة من المولود الغير المكلف شيئا مثيرا في الغير ضجرا أو سخطا كراهية لفعل اللّه وتقديره فيتعلق به الإثم فلهذا قرن بالصغير الشيطان لا لأجل نفسه فإنه ليس له حركة نفسية ولا ربانية حتى يبلغ الحلم.

(فإن قلت): فإذا كان المولود في زمن لا شرع فيه فهل يقال: إن حركته نفسية أم لا ؟

(فالجواب): إذا لم يكن المولود في أمة لها شرع فحركته كلها نفسية من حال ولادته إلا أن يموت ما لم يرسل إليه رسول أو يدخل هو في دين إلهي يتعبد به، أي دين كان مشروعا من اللّه أو غير مشروع وحينئذ يوكل به القرينان إذ لم يكن للعقل وحده أن يشرع القربات.

(فإن قلت): فما حكم من يكون على مكارم الأخلاق المعتادة في العرف المحبوبة بالطبع المدركة بالعقل ؟

(فالجواب): مثل هذا لا يحكم عليه بحكم يقطع به على اللّه تعالى فإن العقل لا يدرك أن ثم آخرة ولا جنة ولا نارا ولا حشرا بعد الموت ولا يعرف هذ المدبر لبدنه ما هو وإنما يدرك ذلك من جهة إخبار الشارع عن اللّه عز وجل، كما مر في مبحث المعجزات.

(فإن قلت): فهل القرينان خاصان بالجن والإنس في دار التكليف أم يكونان لهما ولغيرهما حتى في الجنة ؟

(فالجواب): أن القرينين خاصان بالجن والإنس في دار التكليف فقط، فإن كل مخلوق سوى الإنس والجن مفطور على تعظيم اللّه والتسبيح بحمده لا يعصي اللّه ما أمره وكذلك أعضاء جسد الإنسان وجسد الجني، ولكن تسبيح هؤلاء الأعضاء لا على جهة للتقريب وابتغاء المنزلة العظمى بل ينتعشون بذلك كالأنفاس الداخلة والخارجة وكما يسبح الجن والإنس في الجنة والنار، فإنه لا على طريق القربة المكلف بها ول تنسخ لهم قربة لانقضاء زمن التكليف، فكل واحد من الخلق هناك على مقام معلوم في تسبيحه وتحميده لكون العادة صارت هناك طبيعية تقتضيها حقيقة كل أحد ويرتفع التكليف والوقوع في المخالفات فلا يصير القرين يجد شيئا يكتبه واللّه تعالى أعلم.

(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله المبحث الحادي والثلاثون).

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!