موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الفصل الأول: في بيان نبذة من أحوال الشيخ محيي الدين رضي اللّه عنه.

كان رضي اللّه عنه أولا من الموقعين عند بعض ملوك المغرب ثم إنه طرقه طارق من اللّه عز وجل فخرج في البراري على وجهه إلى أن نزل في قبر فمكث فيه مدة ثم خرج من القبر يتكلم بهذه العلوم التي نقلت عنه، ولم يزل سائحا في الأرض يقيم في كل بلد بحسب الإذن ثم يرحل منها ويخلف ما ألفه من الكتب فيها، وكان آخر إقامته بالشام وبها مات سنة ثمان وثلاثين وستمائة رضي اللّه عنه. وكان رضي اللّه عنه متقيدا بالكتاب والسنة ويقول كل من رمى ميزان الشريعة من يده لحظة هلك وسيأتي قوله، وكل ما خطر ببالك فاللّه تعالى خلاف ذلك وهذا اعتقاد الجماعة إلى قيام الساعة وجميع ما لم يفهمه الناس من كلامه إنما هو لعلو مراقيه وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وما عليه الجمهور فهو مدسوس عليه كما أخبرني بذلك سيدي الشيخ أبو الطاهر المغربي نزيل مكة المشرفة ثم أخرج لي نسخة "الفتوحات" التي قابلها على نسخة الشيخ التي بخطه في مدينة قونية فلم أر فيها شيئا مما كنت توقفت فيه وحذفته حين اختصرت "الفتوحات". وقد دس الزنادقة تحت وسادة الإمام أحمد بن حنبل في مرض موته عقائد زائغة ولولا أن أصحابه يعلمون منه صحة الاعتقاد لافتتنوا بما وجدوه تحت وسادته. وكذلك دسوا على شيخ الإسلام مجد الدين الفيروزآبادي صاحب " القاموس " كتابا في الرد على أبي حنيفة وتكفيره ودفعوه إلى أبي بكر الخياط اليمني البغوي فأرسل يلوم الشيخ مجد الدين على ذلك فكتب إليه الشيخ مجد الدين إن كان يكفك هذا الكتاب فأحرقه فإنه افتراء من الأعداء وأنا من أعظم المعتقدين في الامام أبي حنيفة وذكرت مناقبه في مجلد. وكذلك دسوا على الامام الغزالي عدة مسائل في كتاب " الإحياء " وظفر القاضي عياض بنسخة من تلك النسخ فأمر بإحراقها. وكذلك دسوا علي أنا في كتابي المسمى " بالبحر المورود " جملة من العقائد الزائغة وأشاعوا تلك العقائد في مصر ومكة نحو ثلاث سنين وأنا بريء منه كما بينت ذلك في خطبة الكتاب لما غيرتها وكان العلماء كتبوا عليه وأجازوه فما سكنت الفتنة حتى أرسلت إليهم النسخة التي عليها خطوطهم. وكان ممن انتدب لنصرتي الشيخ الامام ناصر الدين اللقاني المالكي رضي اللّه تعالى عنه، ثم إن بعض الحسدة أشاع في مصر ومكة أن علماء مصر رجعوا عن كتابتهم على مؤلفات فلان كلها فشك بعض الناس في ذلك فأرسلت النسخة للعلماء ثالث مرة فكتبوا تحت خطوطهم كذب واللّه من ينسب إلين إننا رجعنا عن كتابتنا على هذا الكتاب وغيره من مؤلفات فلان. وعبارة سيدن ومولانا الشيخ ناصر الدين المالكي فسح اللّه تعالى في أجله بعد الحمد للّه وبعد فما نسب إلى العبد من الرجوع عما كتبته بخطي على هذا الكتاب وغيره من مؤلفات فلان باطل باطل باطل، واللّه ما رجعت عن ذلك ولا عزمت عليه ولا اعتقدت في مؤلفاته شيئ من الباطل وأنا معتقد صحة مقالته باق على ذلك وأدين اللّه تعالى بالاعتقاد في صحة كلامه وولايته فلا ينبغي أن يصدق في شيء مما ينسب إلي على ألسنة الذين لا يخشون اللّه تعالى ، هذا لفظه في آخر نسخة العهود وعقب إجازته التي كتبها أولا وكتب نحو ذلك أيضا الامام المحقق الشيخ شهاب الدين الرملي الشافعي رحمه اللّه تعالى ، إذ علمت ذلك فيحتمل أن الحسدة دسوا على الشيخ في كتبه كما دسوا في كتبي أنا فإنه أمر قد شاهدته عن أهل عصري في حقي فاللّه يغفر لنا ولهم آمين. وأما من أثنى على الشيخ من العلماء ومدح مؤلفاته فقد كان الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب كتاب " القاموس " في اللغة يقول لم يبلغنا عن أحد من القوم أنه بلغ في علم الشريعة والحقيقة ما بلغ الشيخ محيي الدين أبدا وكان يعتقده غاية الاعتقاد وينكر على من أنكر عليه ويقول لم يزل الناس منكبين على الاعتقاد في الشيخ وعلى كتابة مؤلفاته بحل الذهب في حياته وبعد وفاته إلى أن أراد اللّه ما أراد من انتصاب شخص من اليمن اسمه جمال الدين بن الخياط فكتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء ببلاد الإسلام وقال هذه عقائد الشيخ محيي الدين بن العربي وذكر فيها عقائد زائغة ومسائل خارقة لإجماع المسلمين فكتب العلماء على ذلك بحسب السؤال، وشنعوا على من يعتقد ذلك من غير تثبت، والشيخ عن ذلك كله بمعزل.

* - قال الفيروزآبادي: " فلا أدري أوجد ابن الخياط تلك المسائل في كتاب مدسوس على الشيخ أو فهمها هو من كلام الشيخ محيي الدين على خلاف مراده. قال: والذي أقوله وأتحققه وأدين اللّه تعالى به أن الشيخ محيي الدين كان شيخ الطريقة حالا وعلما وإمام التحقيق حقيقة ورسما، ومحيي علوم العارفين فعلا واسما، إذ تغلغل فكر المرء في طرف من مجده غرقت فيه خواطره لأنه بحر لا تكدره الدلاء وسحاب لا يتقاصى عنه الأنواء، كانت دعواته تخرق السبع الطباق وتغترف بركاته فتمل الآفاق وهو يقينا فوق ما وصفته وناطق بما كتبته وغالب ظني أنني ما أنصفته.

وما علي إذا ما قلت معتقدي * دع الجهول يظن الجهل عدوانا

واللّه واللّه واللّه العظيم ومن * أقامه حجة للدين برهانا

إن الذي قلت بعض من مناقبه * ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا

* - قال: وأما كتبه رضي اللّه عنه فهي البحار الزواخر التي ما وضع الواضعون مثلها ومن خصائصها ما واظب أحد على مطالعتها إلا وتصدر لحل المشكلات في الدين ومعضلات مسائله وهذا الشأن لا يوجد في كتب غيره أبدا. قال: وأما قول بعض المنكرين إن كتب الشيخ لا تخل قراءتها ولا إقراؤها فكفر. قال: وقد قدّموا إلي مرة سؤال صورته: ما تقول في الكتب المنسوبة إلى الشيخ محيي الدين بن العربي، " كالفصوص " و "الفتوحات" هل يحل قراءتها وإقراؤها وهل هي من الكتب المسموعة المقروءة أم لا ؟ فأجبت نعم، هي من الكتب المسموعة المقروءة، وقد قرأها عليه الحافظ البرزلي وغيره. ورأيت إجازته بخط الشيخ محيي الدين على حواشي " الفتوحات المكية " بمدينة قونية وكتابة طبقة بعد طبقة من العلماء والمحدثين فمطالعة كتب الشيخ قربة إلى اللّه تعالى ، ومن قال غير ذلك فهو جاهل زائغ عن طريق الحق، فلقد كان الشيخ واللّه في زمنه صاحب الولاية العظمى والصديقية الكبرى فيما نعتقد وندين اللّه تعالى به، خلاف ما عليه جماعة ممن مقتهم اللّه تعالى فحرموا فوائده ووقعوا في عرضه بهتانا وزورا وحاشا جنابه الكريم أن يخالف كلام نبيه الذي استأمنه على شرعه ومن أنكر عليه وقع في أخطر الأمور: على نحت القوافي من معادنها * وما علي إذا لم تفهم البقر

انتهى كلام الشيخ مجد الدين رحمه اللّه تعالى .

وكان الشيخ سراج الدين المخزومي شيخ الإسلام بالشام يقول: إياكم والإنكار على شيء من كلام الشيخ محيي الدين فإن لحوم الأولياء مسمومة وهلاك أديان مبغضهم معلومة ومن أبغضهم تنصر ومات على ذلك، ومن أطلق لسانه فيهم بالسب ابتلاه اللّه بموت القلب. وكان أبو عبد اللّه القرشي يقول: من غض من ولي اللّه عز وجل ضرب في قلبه بسهم مسموم، ولم يمت حتى تفسد عقيدته ويخاف عليه من سوء الخاتمة.

وكان أبو تراب النخشبي يقول: إذا ألف القلب الإعراض عن اللّه صحبته الوقيعة في أوليائه قال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي: وقد رأيت إجازة بخط الشيخ كتبها للملك الظاهر بيبرس صاحب حلب ورأيت في آخرها وأجزت له أيضا أن يروي عني جميع مؤلفاتي ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفا وأربعمائة مؤلف، مؤلفا منها " تفسيره الكبير " في خمسة وتسعين مجلدا وصل فيه إلى قوله تعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] ، فاصطفاه اللّه لحضرته ومنها " تفسيره الصغير " في ثمانية أسفار على طريقة المحققين من المفسرين ومنها كتاب الرياض الفردوسية في بيان الأحاديث القدسية " فهل يحل لمسلم أن يقول لا يجوز مطالعة كتب الشيخ محيي الدين مطلقا ما ذاك إلا كفر وتعصب وعناد. وممن أثنى عليه أيضا الشيخ كمال الدين الزملكاني رحمه اللّه وكان من أجل علماء الشام، وكذلك الشيخ قطب الدين الحموي ؛ وقيل له لما رجع من الشام إلى بلاده كيف وجدت الشيخ محيي الدين ؟ فقال: وجدته في العلم والزهد والمعارف بحرا زاخرا لا ساحل له، قال: وقد أنشدني الشيخ بلفظه من جملة أبيات:

تركنا البحار الزاخرات وراءنا * فمن أين يدري الناس أين توجهنا

وممن أثنى عليه الشيخ صلاح الدين الصفدي في " تاريخ علماء مصر " وقال: من أراد أن ينظر إلى كلام أهل العلوم اللدنية فلينظر في كتب الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه اللّه. وسئل الحافظ أبو عبد اللّه الذهبي عن قول الشيخ محيي الدين في كتابه " الفصوص " إنه ما صنعه إلا بإذن من الحضرة النبوية، فقال الحافظ: ما أظن أن مثل هذا الشيخ محيي الدين يكذب أصلا، مع أن الحافظ الذهبي كان من أشد المنكرين على الشيخ وعلى طائفته الصوفية هو وابن تيمية، وممن أثنى عليه أيضا الشيخ قطب الدين الشيرازي وكان يقول: إن الشيخ محيي الدين كان كاملا في العلوم الشرعية والحقيقية، ولا يقدح فيه إلا من لم يفهم كلامه ولم يؤمن به كما لا يقدح في كمال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نسبتهم إلى الجنون، والسحر، على لسان من لم يؤمن بهم.

وكان الشيخ مؤيد الدين الخجندي يقول: ما سمعنا بأحد من أهل الطريق اطلع على ما اطلع عليه الشيخ محيي الدين، وكذلك كان يقول الشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ كمال الدين الكاشي، وقال فيه إنه الكامل المحقق صاحب الكمالات والكرامات. مع أن هؤلاء الأشياخ كانوا من أشد الناس إنكارا على من يخالف ظاهر الشريعة. وممن أثنى عليه أيضا الشيخ فخر الدين الرازي، وقال: كان الشيخ محيي الدين وليا عظيما. وسئل الإمام محيي الدين النووي عن الشيخ محيي الدين بن العربي قال: " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة: 134] ولكن الذي عندنا أنه يحرم على كل عاقل أن يسيء الظن بأحد من أولياء اللّه عز وجل، ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم ما دام لم يلحق بدرجتهم، ولا يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق ". قال في " شرح المهذب ": " ثم إذا أول فليؤول كلامهم إلى سبعين وجها ولا نقبل عنه تأويلا واحدا ما ذاك إلا تعنت " انتهى. وممن أثنى عليه أيضا الإمام ابن أسعد اليافعي، وصرح بولايته العظمى كما نقل ذلك عن شيخ الإسلام زكريا في شرحه " للروض "، وكان اليافعي يجيز رواية كتب الشيخ محيي الدين، ويقول إن حكم إنكار هؤلاء الجهلة على أهل الطريق حكم ناموسة نفخت على جبل تريد إزالته من مكانه بنفختها قال ومن عادى أولياء اللّه فكأنما عادى اللّه وإن كان لم يبلغ حد التكفير الموجب للخلود في النار انتهى. وممن أثنى عليه أيضا من مشايخنا محمد المغربي الشاذلي شيخ الجلال السيوطي وترجمه بأنه مربي العارفين كما أن الجنيد مربي المربدين، وقال إن الشيخ محيي الدين روح التنزلات والإمداد وألف الوجود وعين الشهود وهاء المشهود الناهج منهاج النبي العربي قدس اللّه سره وأعلى في الوجود ذكره انتهى. قلت: وقد صنف الشيخ سراج الدين المخزومي كتابا في الرد عن الشيخ محيي الدين وقال كيف يسوغ لأحد من أمثالن الإنكار على ما لم يفهمه من كلامه في "الفتوحات" وغيرها وقد وقف على ما فيها نحو من ألف عالم وتلقوها بالقبول. قال وقد شرح كتابه " الفصوص " جماعة من الأعلام الشافعية وغيرهم منهم الشيخ بدر الدين بن جماعة وشاعت كتبه في الأمصار وقرئت متن وشرحا في غالب البلاد ورويناها بالقراءة الظاهرة في الجامع الأموي وغيره بالإسناد وتغالى الناس قديما وحديثا في شرائها ونسخها وتبركوا بها وبمؤلفها لما كان عليه من الزهد والعلم ومحاسن الأخلاق. وكان أئمة عصره من علماء الشام ومكة كلهم يعتقدونه ويأخذون عنه ويعدون أنفسهم في بحر علمه كلا شيء، وهل ينكر على الشيخ إلا جاهل أو معاند. قال الفيروزآبادي رحمه اللّه بعد أن ذكر مناقب الشيخ محيي الدين: ثم إن الشيخ محيي الدين كان مسكنه الشام، وقد أخرج هذه العلوم بالشام ولم ينكر عليه أحد من علمائها. قال: وقد كان قاضي القضاة الشيخ شمس الدين الخونجي الشافعي يخدمه خدمة العبيد وأما قاضي القضاة المالكي فهبت عليه نظرة من الشيخ فزوجه ابنته وترك القضاء وتبع طريقة الشيخ وأطال الفيروزآبادي في ذكر مناقب الشيخ ثم قال:

وبالجملة فما أنكر على الشيخ إلا بعض الفقهاء القح الذين لاحظ لهم في شرب المحققين وأما جمهور العلماء والصوفية فقد أقروا بأنه إمام أهل التحقيق والتوحيد وأنه في العلوم الظاهرة فريد وحيد. وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: ما وقع إنكار من بعضهم على الشيخ إلا رفقا بضعفاء الفقهاء الذين ليس لهم نصيب تام من أحوال الفقراء خوفا أن يفهموا من كلام الشيخ أمرا لا يوافق الشرع فيضلوا ولو أنهم صحبوا الفقراء لعرفوا مصطلحهم وأمنوا من مخالفة الشريعة. قال شيخ الإسلام المخزومي: وقد كان الشيخ محيي الدين بالشام وجميع علمائها تتردد إليه ويعترفون له بجلالة المقدار وأنه أستاذ المحققين من غير إنكار وقد أقام بين أظهرهم نحوا من ثلاثين سنة يكتبون مؤلفات الشيخ ويتداولونه بينهم انتهى. وقال الفيروزآبادي: قد كان الشيخ محيي الدين بحرا لا ساحل له ولم جاور بمكة شرفها اللّه تعالى كان البلد إذ ذاك مجمع العلماء المحدثين وكان الشيخ هو المشار إليه بينهم في كل علم تكلموا فيه وكانوا كلهم يتسارعون إلى مجلسه ويتبركون بالحضور بين يديه ويقرؤون عليه تصانيفه قال: ومصنفاته بخزائن مكة إلى الآن أصدق شاهد على ما قلناه وكان أكثر اشتغاله بمكة بسماع الحديث وإسماعه وصنف فيها " الفتوحات المكية " التي كتبها عن ظهر قلب جوابا لسؤال سأله عنه تلميذه بدر الحبشي ولما فرغ منها وضعها في سطح الكعبة المعظمة فأقامت فيه سنة ثم أنزله فوجدها كما وضعها لم يبتل منها ورقة ولا لعبت بها الرياح مع كثرة أمطار مكة ورياحها وما أذن للناس في كتابتها وقراءتها إلا بعد ذلك. قال: وأما ما أشاعه بعض المنكرين عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام وعن شيخنا الشيخ سراج الدين البلقيني أنهما أمرا بإحراق كتب الشيخ محيي الدين فكذب وزور، ولو أنها أحرقت لم يبق منه الآن بمصر والشام نسخة ولا كان أحد نسخها بعد كلام هذين الشيخين وحاشاهما من ذلك ولو أن ذلك وقع لم يخف لأنه من الأمور العظام التي تسير بها الركبان في الآفاق ولتعرض لها أصحاب التواريخ وقال الشيخ سراج الدين المخزومي كان شيخنا شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي ينكران على الشيخ في بداية أمرهما ثم رجعا عن ذلك حين تحققا كلامه وتأويل مراده وندما على تفريطهما في حقه في البداية وسلما له الحال فيما أشكل عليهما عند النهاية. فمن جملة ما ترجمه به الامام السبكي: كان الشيخ محيي الدين آية من آيات اللّه تعالى وإن الفضل في زمانه رمى بمقاليده إليه وقال لا أعرف إلا إياه. ومن جملة ما قاله الشيخ سراج الدين البلقيني فيه حين سئل عنه: إياكم والإنكار على شيء من كلام الشيخ محيي الدين فإنه رحمه اللّه لما خاض في بحار المعرفة وتحقيق الحقائق عبر في أواخر عمره في " الفصوص " و "الفتوحات" و " التنزلات الموصلة " وفي غيرها بما لا يخفى على من هو في درجته من أهل الإشارات ثم إنه جاء من بعده قوم عمي عن طريقه فغلطوه في ذلك بل كفروه بتلك العبارات ولم يكن عندهم معرفة باصطلاحه ولا سألوا من يسلك بهم إلى إيضاحه وذلك أن كلام الشيخ رضي اللّه عنه تحته رموز وروابط وإشارات وضوابط وحذف مضافات هي في علمه وعلم أمثاله معلومة وعند غيرهم من الجهال مجهولة ولو أنهم نظروا إلى كلماته بدلائله وتطبيقاتها وعرفوا نتائجها ومقدماتها لنالوا الثمرات المرادة ولم يباين اعتقادهم اعتقاده. قال: ولقد كذب واللّه وافترى من نسبه إلى القول بالحلول والاتحاد ولم أزل أتتبع كلامه في العقائد وغيرها وأكثر من النظر في أسرار كلامه ورابطه حتى تحققت بمعرفة ما هو عليه من الحق ووافقت الجم الغفير المعتقدين له من الخلق وحمدت اللّه عز وجل إذ لم أكتب في ديوان الغافلين عن مقامه الجاحدين لكراماته وأحواله " انتهى كلام الشيخ سراج الدين البلقيني. قال تلميذه شيخ الإسلام المخزومي رحمه اللّه تعالى: ولما وردت القاهرة عام توفي شيخنا سراج الدين البلقيني وذلك في عام أربع وثمانمائة ذكرت له ما سمعت من بعض أهل الشام في حق الشيخ محيي الدين من أنه يقول بالحلول والاتحاد فقال الشيخ: معاذ اللّه وحاشاه من ذلك إنما هو من أعظم الأئمة وممن سبح في بحار علوم الكتاب والسنة وله اليد العظيمة عند اللّه وعند القوم وقدم صدق عنده. قال المخزومي:

فقوى بذلك نفسي وكثر اعتقادي في الشيخ من تلك الساعة وعلمت أنه من رؤوس أهل السنة والجماعة. قال المخزومي: ولقد بلغنا أن الشيخ تقي الدين السبكي تكلم في شرحه " للمنهاج " في حق الشيخ محيي الدين بكلمة ثم استغفر بعد ذلك وضرب عليه فمن وجدها في بعض النسخ فليضرب عليها كما هو في نسخة المؤلف قال مع أن السبكي قد صنف كتابا في الرد على المجسمة والرافضة وكتب الأجوبة العلمية في الرد على ابن تيمية ولم يصنف قط شيئا في الرد على الشيخ محيي الدين مع شهرة كلامه بالشام وقراءة كتبه في الجامع الأموي وغيره بل كان يقول ليس الرد على الصوفية مذهبي لعلو مراتبهم وكذلك كذلك كان يقول الشيخ تاج الدين الفركاح. وأطال المخزومي في الثناء على الشيخ محيي الدين.

ثم قال: فمن نقل عن الشيخ تقي الدين السبكي أو عن الشيخ سراج الدين البلقيني أنهما بقيا على إنكارهما على الشيخ محيي الدين إلى أن ماتا فهو مخطىء انتهى. قال: ولما بلغ شيخنا السراج البلقيني أن الشيخ بدر الدين السبكي شيخ الإسلام بالشام رد على الشيخ في موضعين من كتاب " الفصوص " أرسل له كتابا من جملته: يا قاضي القضاة الحذر ثم الحذر من الإنكار على أولياء اللّه وإن كنت ولا بد رادا فرد كلام من رد على الشيخ وإلا فدع. وسئل العماد بن كثير رحمه اللّه عمن يخطئ الشيخ محيي الدين فقال: أخشى أن يكون من يخطئه هو المخطىء وقد أنكر قوم عليه فوقعوا في المهالك. وكذلك سئل الشيخ بدر الدين بن جماعة عن الشيخ محيي الدين فقال: ما لكم ولرجل قد أجمع الناس على جلالته انتهى. قال شيخ الإسلام المخزومي: وأم ما نقله بعضهم عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يقول ابن عربي زنديق فكذب وزور فقد روينا عن الشيخ صلاح الدين القلانسي صاحب " الفوائد " عن جماعة من مشايخه عن خادم الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال: كنا في درس الشيخ عز الدين في باب الردة فذكر القارئ لفظة الزنديق فقال بعضهم: هذه اللفظة عربية أو عجمية ؟ فقال بعض العلماء: فارسية معربة، أصلها زن دن وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان فقال شخص من الطلبة مثل من ؟ فقال شخص بجانب الشيخ عز الدين بن عبد السلام مثل محيي الدين بن العربي ولم ينطق الشيخ عز الدين بشيء، قال الخادم: فلما قدمت له عشاءه وكان صائما سألته عن القطب من هو ؟ فقال لا أرى القطب في زماننا هذا إلا الشيخ محيي الدين بن العربي وهو متبسم فأطرقت مليا متحيرا فقال:

مالك ذلك مجلس الفقهاء ما وسعني فيه غير السكوت. قال المخزومي فهذا هو الذي رويناه عن الشيخ عز الدين بالسند الصحيح انتهى. ذكر ذلك كله الشيخ المخزومي في كتابه المسمى " بكشف الغطاء " عن أسرار كلام الشيخ محيي الدين. قلت وقد صنف شيخنا الجلال السيوطي كتابا في الرد عن الشيخ محيي الدين سماه " تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي " وكتابا آخر سماه " قمع المعارض في نصرة ابن الفارض " لما وقعت فتنة الشيخ برهان الدين البقاعي بمصر فراجعهما.

الفصل الثاني: في تأويل كلمات أضيفت إلى الشيخ محيي الدين.

وذكر جماعة ابتلوا بالإنكار عليهم ليكون للشيخ أسوة بهم. اعلم رحمك اللّه أنه لا يجوز الإنكار على القوم إلا بعد معرفة مصطلحهم في ألفاظهم، ثم إذ رأينا بعد ذلك كلامهم مخالفا للشريعة رمينا به.

* - وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب كتاب " القاموس " في اللغة، لا يجوز لأحد أن ينكر على القوم ببادىء الرأي لعلو مراتبهم في الفهم والكشف، قال: ولم يبلغنا عن أحد منهم

أنه أمر بشيء يهدم الدين ولا نهى أحدا عن الوضوء ولا عن الصلاة ول غيرهما من فروض الاسلام ومستحباته، إنما يتكلمون بكلام يدق عن الأفهام، وكان يقول: قد يبلغ القوم في المقامات ودرجات العلوم إلى المقامات المجهولة والعلوم المجهولة التي لم يصرح بها في كتاب ولا سنة ولكن أكابر العلماء العاملين قد يردون ذلك إلى الكتاب والسنة بطريق دقيق لحسن استنباطهم وحسن ظنهم بالصالحين ولكن ما كل أحد يتربص إذا سمع كلاما لا يفهم بل يبادر إلى الإنكار على صاحبه وخلق الانسان عجولا. قال: وناهيك بأبي العباس بن سريج في العلم والفهم تنكر مرة ثم حضر مجلس أبي القاسم الجنيد ليسمع منه شيئا مما يشاع عن الصوفية فلما انصرف قالوا له ما وجدت قال لم أفهم من كلامه شيئا إلا أن صولة الكلام ليست بصولة مبطل انتهى. وكان شيخ الإسلام مجد الدين الفيروزآبادي يقول: كما أعطى اللّه تعالى الكرامات للأولياء التي هي فرع المعجزات فلا بدع أن يعطيهم من العبارات ما يعجز عن فهمه فحول العلماء. وكان شيخ الإسلام المخزومي يقول: لا يجوز لأحد من العلماء الإنكار على الصوفية إلا أن يسلك طريقهم ويرى أفعالهم وأقوالهم مخالفة للكتاب والسنة، وأما الإشاعة عنهم فلا يجوز الإنكار عليهم ولا سبهم وأطال في ذلك ثم قال: وبالجملة فأقل ما يحق على المنكر حتى يسوغ له الهم بالإنكار عليهم ولا سبهم وأطال في ذلك ثم قال: وبالجملة فأقل ما يحق على المنكر حتى يسوغ له الهم بالإنكار أن يعرف سبعين أمرا ثم بعد ذلك يسوغ له الإنكار منها غوصه في معرفة معجزات الرسل على اختلاف طبقاتهم وكرامات الأولياء على اختلاف طبقاتهم ويؤمن بها ويعتقد أن الأولياء يرثون الأنبياء في جميع معجزاتهم إلا ما استثنى ومنها اطلاعه على كتب التفسير والتأويل وشرائطه ويتبحر في معرفة لغات العرب في مجازاتها واستعاراتها حتى يبلغ الغاية، ومنها كثرة الاطلاع على مقامات السلف والخلف في معنى آيات الصفات وأخبارها ومن أخذ بالظاهر ومن أول ومن دليله أرجح من الآخر ومنها تبحره في علم الأصوليين ومعرفة منازع أئمة الكلام، ومنها وهو أهمها معرفة اصطلاح القوم فيم عبروا عنه من التجلي الذاتي والصوري وما هو الذات وذات الذات ومعرفة حضرات الأسماء والصفات والفرق بين الحضرات وبين الأحدية والوحدانية والواحدية ومعرفة الظهور والبطون والأزل والأبد وعالم الغيب والكون والشهادة والشؤون وعلم الماهية والهوية والسكر والمحبة ومن هو الصادق في السكر حتى يسامح ومن هو الكاذب حتى يؤاخذ وغير ذلك فمن لم يعرف مرادهم كيف يحل كلامهم أو ينكر عليهم بما ليس من مرادهم انتهى. وقد شرح الحافظ ابن حجر بعض أبيات من تائية ابن الفارض رضي اللّه عنه وقدمها إلى سيدي الشيخ مدين ليكتب له عليها إجازة فكتب له على ظاهرها ما أحسن ما قال بعضهم:

سارت مشرقة وسرت مغربا * شتان بين مشرق ومغرب

ثم أرسلها إلى الحافظ فتنبه لأمر كان عنه غافلا ثم أذعن لأهل الطريق وصحب سيدي مدين إلى أن مات وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: مما يدلك على أن أهل الطريق ما تعدوا على قواعد الشريعة دون غيرهم ما يقع على أيديهم من الكرامات والخوارق ولا يقع شيء من ذلك على يد أحد ولو بلغ في العلم ما بلغ إلا إن سلك طريقهم انتهى. وكان الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي يقول: لا ينبغي لأحد من أهل الفكر والنظر الاعتراض على أهل العطايا والمنح فإن علوم هؤلاء فرع علوم أهل النظر وكان الشيخ محيي الدين من أكابر أهل العطايا الذين كشف لهم الحق عن جمال وجهه الباقي فتلألأت سبحاته بالأنوار الساطعة إلى يوم التلاقي ومن تعرض لتخطئة مثله أو تكفيره فإنما هو لجهله وحرمانه أو لعدم فهمه وضعف إيمانه وعدم مبالاته بهفوات لسانه انتهى. وقد نقل الامام الغزالي في الباب الثامن من كتاب العلم من " الإحياء " عن بعض العارفين أنه كان يقول: من لم يكن له نصيب من علم القوم يخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق والتسليم لأهله كما أن من لم يتغلغل في علم الشريعة يخاف عليه الزبير إذا علمت ذلك فأقول وباللّه التوفيق مما أنكره المتعصبون على الشيخ بحسب الإشاعة قولهم: إن الشيخ محيي الدين يقول بفساد قول لا إله إلا اللّه وذلك كفر. والجواب بتقدير صحة ذلك عنه أن المراد أن الحق تعالى ثابت في ألوهيته قبل إثبات المثبت ومن كان ثابتا لا يحتاج إلى إثباتك إذ ما تم من تثبت ألوهيته من الخلق حتى ينفي وإنما تعبد المؤمن بذلك على سبيل التلاوة ليؤجره اللّه على ذلك وحاشى الشيخ أن يصرح بفساد قول لا إله إلا اللّه هذا لا يقوله عاقل لأنه من القرآن العظيم فافهم. ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول في كتبه مرارا لا موجود إلا اللّه. فالجواب أن معنى ذلك بتقدير صحته عنه أنه لا موجود قائم بنفسه إلا هو تعالى وما سواه قائم بغيره كما أشار إليه حديث. ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل. ومن كان حقيقته كذلك فهو إلى العدم أقرب إذ هو وجود مسبوق بعدم وفي حال وجوده متردد بين وجود وعدم لا تخلص لأحد الطرفين، فإن صح أن الشيخ قال: لا موجود إلا اللّه فإنما قال ذلك عندما تلاشت عنده الكائنات حين شهوده الحق تعالى بقلبه كما قال أبو القاسم الجنيد من شهد الحق لم ير الخلق انتهى. ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ رحمه اللّه جعل الحق والخلق واحدا في قوله في بعض نظمه فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده بتقدير صحة ذلك عنه. والجواب أن معنى يحمدني أنه يشكرني إذا أطعته كما في قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وأما في قوله فيعبدني وأعبده أي يطيعني بإجابته دعائي كما قال تعالى لا تَعْبُدُو الشَّيْطانَ [يس: 59] أي لا تطيعوه وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد اللّه فافهم. وقد ذكر الشيخ في الباب السابع والخمسين وخمسمائة من " الفتوحات المكية " بعد كلام طويل ما نصه وهذا يدلك صريحا على أن العالم ما هو عين الحق تعالى إذ لو كان عين الحق تعالى ما صح كون الحق تعالى بديعا انتهى. ومن دعوى المنكر أن الشيخ يقول بقبول إيمان فرعون وذلك كذب وافتراء على الشيخ فقد صرح الشيخ في الباب الثاني والستين من "الفتوحات" بأن فرعون من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين و "الفتوحات" من أواخر مؤلفاته فإنه فرغ منها قبل موته بنحو ثلاث سنين. قال شيخ الإسلام الخالدي رحمه اللّه:

والشيخ محيي الدين بتقدير صدور ذلك عنه لم ينفرد به بل ذهب جمع كثير من السلف إلى قبول إيمانه لما حكى اللّه عنه أنه قال آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90] وكان ذلك آخر عهده بالدنيا، وقال أبو بكر الباقلاني: قبول إيمانه هو الأقوى من حيث الاستدلال ولم يرد لنا نص صريح أنه مات على كفره انتهى ودليل جمهور السلف والخلف على كفره أنه آمن عند اليأس وإيمان أهل اليأس لا يقبل واللّه أعلم. ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ رحمه اللّه يقول بجواز إباحة المكث للجنب في المسجد فإن صح ذلك عن الشيخ فهو موافق فيه لمولانا عبد اللّه بن عباس والإمام أحمد بن حنبل وهو مذهب الامام المزني وجماعة من التابعين والفقهاء فقول المنكر إن الشيخ محيي الدين خالف في ذلك الشريعة وأقوال الأئمة مردود. ومن ذلك دعوى المنكر إن الشيخ محيي الدين خالف في ذلك الشريعة وأقوال الأئمة مردود. ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول الولي أفضل من الرسول. والجواب أن الشيخ لم يقل ذلك وإنما قال اختلف الناس في رسالة النبي وولايته أيهما أفضل ؟ والذي أقول به أن ولايته أفضل لشرف المتعلق ودوامها في الدنيا والآخرة بخلاف الرسالة فإنها تتعلق بالخلق وتنقضي بانقضاء التكليف انتهى. ووافقه على ذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام فالكلام في رسالة النبي مع ولايته لا في رسالته ونبوته مع ولاية غيره فافهم. وبقي مسائل كثيرة نسبت للشيخ وسيأتي بيان أنها افتراء وكذب على الشيخ منثورة في مباحثها إن شاء اللّه تعالى وفي المثل السائر ويعيا المداري في طريق المخالف واللّه أعلم، وقد قال تعالى وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً تَصْبِرُونَ [الفرقان: 20] وقد نقل الجلال السيوطي رحمه اللّه في كتابه " التحدث بالنعمة " ما صورته: ومما أنعم اللّه به على أن أقام لي عدو يؤذيني ويمزق في عرضي ليكون لي أسوة بالأنبياء والأولياء، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون رواه الحاكم في " مستدركه " وأوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السلام: لا يفقد نبي حرمته إلا في بلده. وروى البيهقي أن كعب الأحبار قال لأبي موسى الخولاني: كيف تجد قومك لك ؟ قال مكرمين مطيعين قال: ما صدقتني التوراة إذن وأيم اللّه ما كان رجل حليم في قوم قط إلّا بغوا عليه وحسدوه. وأخرج ابن عساكر مرفوعا: أزهد الناس في الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون وذلك فيما أنزل اللّه عز وجل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشعراء: 214] وكان أبو الدرداء يقول أزهد الناس في العلم أهله وجيرانه إن كان في حسبه شيء عيروه وإن كان عمل في عمره ذنبا عيروه انتهى. قال الجلال السيوطي رحمه اللّه: واعلم أنه ما كان كبير في عصر قط إلا كان له عدو من السفلة إذ الأشراف لم تزل تبتلى بالأطراف فكان لآدم عليه السلام إبليس وكان لنوح حام وغيره وكان لداود جالوت وأضرابه وكان لسليمان صخر وكان لعيسى في حياته الأولى بختنصر وفي الثانية الدجال وكان لإبراهيم النمرود وكان لموسى فرعون وهكذا إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فكان له أبو جهل وكان لابن عمر عدو يعبث به كلما مر عليه ونسبوا عبد اللّه بن الزبير إلى الرياء والنفاق في صلاته فصبوا على رأسه ماء حميما فزلع وجهه ورأسه وهو لا يشعر فلما سلم من صلاته فقال: ما شأني ؟ فذكروا له القصة فقال حسبنا اللّه ونعم الوكيل ومكث زمانا يتألم من رأسه ووجهه، وكان لابن عباس رضي اللّه عنهما نافع بن الأزرق كان يؤذيه أشد الأذى ويقول:

إنه يفسر القرآن بغير علم وكان لسعد بن أبي وقاص جهلة من جهال الكوفة يؤذونه مع أنه مشهود له بالجنة وشكوه إلى عمر بن الخطاب وقالوا إنه لا يحسن أن يصلي.

وأما الأئمة المجتهدون فلا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمسا وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق ومن أهل مصر وكذلك لا يخفى ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس وما قاساه البخاري حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك وقد نقل الثقات منهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي وأحمد بن خلكان والشيخ عبد الغفار القوصي وغيرهم أنهم نفوا أبا يزيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيدا مغلولا وسافر معه أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة، ورموا سمنون المحب أحد رجال القشيري بالعظائم وأرشو امرأة من البغايا فادعت عليه أنه يأتيها هو وأصحابه واختفى بسبب ذلك سنة، وأخرجوا سهل بن عبد اللّه التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلالته ولم يزل بالبصرة إلى أن مات بها ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه وشهدوا على الجنيد بالكفر مرارا حين كان يتكلم في علم التوحيد على رؤوس الأشهاد فصار يقرره في قعر بيته إلى أن مات وكان من أشد المنكرين عليه وعلى رويم وعلى سمنون وعلى ابن عطاء ومشايخ العراق ابن دانيال كان يحط عليهم أشد الحط وكان إذا سمع أحدا يذكرهم تغيظ وتغير لونه وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بلخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم اللّه فيها ولما أرادو إخراجه قال لا أخرج إلا إن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد وقلتم هذ مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا ففعلوا ذلك وأخرجوه، فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ نزع اللّه من قلوبكم معرفته قال الأشياخ فلم يخرج بعد دعوته عليهم تلك من بلخ صوفي أبدا مع أنها كانت أكبر بلاد اللّه صوفية وأخرجوا الإمام يوسف بن الحسين الرازي وقام عليه زهاد الري وصوفيوه وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله وضربوه ضربا مبرحا وطافوا به على جمل فأقام ببغداد إلى أن مات بها، وشهدوا على الشبلي بالكفر مرارا مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وأدخله أصحابه البيمارستان ليرجع الناس عنه مدة طويلة وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله وكثرة علمه واستقامته في طريقه من الغرب إلى مصر وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر فأمر بسلخه منكوسا فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع حتى قطع قلوب الناس وكادوا أن يفتتنوا به، وكذلك سلخوا النسيمي بحلب وعملوا له حيلة حين كان يقطعهم بالحجج وذلك أنهم كتبوا سورة الاخلاص وأرشوا من يخيط النعال وقالوا هذه ورقة محبة وقبول فضعها لنا في أطباق النعل، ثم أخذوا ذلك النعل وأهدوه للشيخ من طريق بعيدة فلبسه وهو لا يشعر ثم طلعوا لنائب حلب وقالوا له: بلغنا من طريق صحيحة أن النسيمي كتب قل هو اللّه أحد وجعلها في طباق نعله وإن لم تصدقنا فأرسل وراءه وانظر ذلك ففعل، فاستخرجوا الورقة فسلم الشيخ للّه تعالى ولم يجب عن نفسه وعلم أنه لا بد أن يقتل على تلك الصورة، وأخبرني بعض تلامذة تلامذته أنه صار ينشد موشحات في التوحيد وهم يسلخونه حتى عمل خمسمائة بيت وكان ينظر إلى الذي يسلخه ويتبسم، ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى المسان فمات بها، وكذلك أخرجوا الشيخ أب الحسن الشاذلي من الغرب إلى مصر وشهدوا عليه بالزندقة وسلمه اللّه من كيدهم، ورموا الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالكفر وعقدوا له مجلسا في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه ثم حصل له اللطف، ذكره ابن أيمن في " رسالته " ورموا الشيخ تاج الدين السبكي بالكفر وشهدوا عليه أنه يقول بإباحة الخمر واللواط وأنه يلبس في الليل الغار والزنار وأتوا به مغلولا مقيدا من الشام إلى مصر، وخرج الشيخ جمال الدين الإسنوي فتلقاه من الطريق وحكم بحقن دمه، وأنكروا على سيدي إبراهيم الجعبري وسيدي حسين الجاكي ومنعوهما أن يجلسا على كرسي الوعظ وغير ذلك مما ذكرناه في مقدمة كتاب " الطبقات " وإنما ذكرنا لك يا أخي محن هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين تأنيسا لتقبل على مطالعة كتب الصوفية لا سيما الشيخ محيي الدين لأن هؤلاء الأئمة ثناؤهم عندنا كالمسك الأذفر بذلك لا يقدح في كمالهم ما قيل فيهم، كذلك لا يقدح ما قيل في كمال الشيخ محيي الدين واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

الفصل الثالث: في بيان إقامة العذر لأهل الطريق في تكلمهم في العبارات المغلقة على غيرهم رضي اللّه عنهم.

اعلم رحمك اللّه أن أصل دليل القوم في رمزهم الأمور ما روي في بعض الأحاديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوما لأبي بكر الصديق: أتدري يوم يوم ؟ فقال أبو بكر:

نعم يا رسول اللّه، لقد سألتني عن يوم المقادير. وروي أيضا أنه قال له يوما: يا أبا بكر أتدري ما أريد أن أقول ؟ فقال: نعم هو ذاك هو ذاك، حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء اللّه في بعض كتبه وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الرابع والخمسين من "الفتوحات" ما نصه: اعلم أن أهل اللّه لم يضعوا الإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك وإنما وضعوه منعا للدخيل بينهم حتى لا يعرف ما هم فيه شفقة عليه أن يسمع شيئا لم يصل إليه فينكره على أهل اللّه فيعاقب على حرمانه فلا يناله بعد ذلك أبدا قال:

ومن أعجب الأشياء في هذه للطريق بل لا يوجد إلا فيها أنه ما من طائفة تحمل علما من المنطقيين والنحاة وأهل الهندسة والحساب المتكلمين والفلاسفة إل ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم لا بد من ذلك إلا أهل هذه الطريق خاصة فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه وجلس معهم وسمع منهم ما يتكلمون به من الإشارات فهم جميع ما تكلموا به حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح ويشاركهم في الخوض في ذلك العلم ولا يستغرب هو ذلك من نفسه بل يجد علم ذلك ضروريا لا يقدر على دفعه فكأنه ما زال يعلمه ولا يدري كيف حصل له ذلك هذا شأن المريد الصادق وأما الكاذب فلا يعرف ذلك إلا بتوقيف ولا يسمح له قبل إخلاصه في الإرادة وطلبه لها أحد من القوم ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتوقفون في فهم كلام القوم وناهيك بالإمام أحمد بن سريج، حضر يوما مجلس الجنيد، فقيل له: ما فهمت من كلامه، فقال: لا أدري ما يقول. ولكن أجد لكلامه صولة في القلب، ظاهرة تدل على عمل في الباطن، وإخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل. انتهى. ثم إن القوم لا يتكلمون بالإشارة إلا عند حضور من ليس منهم أوفى تأليفهم لا غير، ثم قال: ولا يخفى أن أصل الإنكار من الأعداء المبطلين إنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد وسلكوا طريق أهل اللّه لم يظهر منهم إنكار ولا حسد، وازدادوا علما إلى علمهم ولكن هكذا كان الأمر فلا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وأطال في ذلك ثم قال: وأشد الناس عداوة لأصحاب علوم الوهب الإلهي في كل زمان أهل الجدال بلا أدب فهم لهم من أشد المنكرين ولما علم العارفون ذلك عدلوا إلى الإشارات، كما عدلت مريم عليها السلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة فلكل آية أو حديث عندهم وجهان وجه يرونه في نفوسهم ووجه يرونه فيما خرج عنهم قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ليأنس المنكرون عليهم ولا يقولوا إن ذلك تفسير لتلك الآية أو الحديث وقاية لشرهم ورميهم لهم بالكفر جهلا من الرائمين معرفة مواقع خطاب الحق تعالى واقتدوا في ذلك بسنن من قبلهم وإن اللّه تعالى كان قادرا أن ينص ما تأوله أهل اللّه وغيرهم في كتابه كآيات المتشابهات والحروف. أوائل السور، ومع ذلك فما فعل بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية والحروف علوما اختصاصية لا يعلمها إل عباده الخلص، ولو أن المنكرين كانوا ينصفون لاعتبروا في نفوسهم إذا رأوا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمونها فيما بينهم فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ويعلمو لبعضهم على بعض في الكلام والفهم في معنى تلك الآية ويقر القاصر منهم بفضل غير القاصر عليه وكلهم في مجرى واحد ومع هذا التفاضل المشهور، فيما بينهم ينكرون على أهل اللّه تعالى إذا جاؤوا بشيء يغمض عن إدراكهم. قال: وكل ذلك لكونهم لا يعتقدون في أهل اللّه تعالى أنهم يعلمون الشريعة وإنما ينسبونهم إلى الجهل والعامية لا سيما إن لم يقرءوا على أحد من علماء الظاهر وكثيرا ما يقولون من أين أتى هؤلاء العلم لاعتقادهم، أن أحدا لا ينال علما إلا على يد معلم، وصدقوا في ذلك. فإن القوم لما عملوا بما علموا أعطاهم اللّه تعالى علما من لدنه بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقا لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة قال تعالى خلق الإنسان علمه البيان وقال علم الإنسان ما لم يعلم وقال في عبده الخضر وعلمناه من لدنا علما فصدق المنكرون فيما قالوا إن العلم لا يكون إلا بواسطة معلم وأخطئوا في اعتقادهم أن اللّه تعالى لا يعلم من ليس بنبي ولا رسول. قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 269] والحكمة هي العلم وجاء بمن وهي نكرة ولكن هؤلاء المنكرون لما تركوا الزهد في الدنيا وآثروها على الآخرة على ما يقرب إلى اللّه تعالى وتعودوا أخذ العلم من الكتب، ومن أفواه الرجال حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن للّه عبادا تولى تعليمهم في سرائرهم، إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله وعلمه هو العلم الصحيح الذي لا يشك مؤمن ولا غير مؤمن في كماله، فإن الذين قالو أولا إن علم الحق تعالى لا يتعلق بالجزئيات لم يريدوا نفي علمه تعالى بها، وإنما قصدوا بذلك أن الحق تعالى يعلم جميع الأشياء كليات وجزئيات علما واحدا، فلا يحتاج في علمه بالجزئيات إلى تفصيلها، كما هو شأن علم خلقه تعالى اللّه عن ذلك فقصدوا تنزيهه عن توقف علمه على التفصيل فأخطئوا في التعبير، فعلم أن من كان معلمه اللّه تعالى كان أحق بالاتباع ممن كان معلمه فكره، ولكن أين الإنصاف وأطال في ذلك ثم قال فصان اللّه نفوسهم بتسميتهم الحقائق إشارات لكون المنكرين، لا يردون الإشارات وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل اللّه في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، لو تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحملت لكم منها سبعين وقرا فهل ذلك إلا من العلم اللدني الذي آتاه اللّه تعالى له من طريق الإلهام إذ الفكر لا يصل إلى ذلك. وقد كان الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول لعلماء زمانه: أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علومنا عن الحي الذي لا يموت. وكان الشيخ أبو مدين إذا سمع أحدا من أصحابه يقول في حكاية: أخبرني بها فلان بن فلان يقول: لا تطعمونا القديد، يريد بذلك رفع همة أصحابه، يعني لا تحدثوا إلا بفتوحكم الجديد الذي فتح اللّه تعالى به على قلوبكم في كلام اللّه تعالى أو كلام رسوله صلى اللّه عليه وسلم. فإن الواهب للعلم الإلهي حي لا يموت، وليس له محل في كل عصر إلا قلوب الرجال. انتهى. وسيأتي بسط ذلك أيضا في آخر المبحث السابع والأربعين. قال شيخ الإسلام سراج الدين المخزومي رضي اللّه عنه في رمز الأشياخ علومهم ثلاثة أمور محققة: أحدها:

حجب من يريد التسلق على طريق القوم بغير أدب، ولا دخول من بابهم عن إفشاء أسرار الربوبية من غير ذوق، فيقع في إفشائه، أو يكفر أهل اللّه بفهمه السقيم. الثاني: أن في ذلك إشارة لطالب هذا الفن أن يكون متبحرا في العلوم مداوما على آداب طريق القوم حتى تنكشف له الحجب ويطلع على العلم والمعلوم مع إهدة وذوقا. الثالث: أن علم القوم من سالف الزمان لا يخوض فيه إلا كل جواد في العلوم صنديد في علوم المتكلمين حتى كان الفخر الرازي يقول: ما أذن لي في تدريس علم الكلام حتى حفظت منه اثنتي عشرة ألف ورقة هذا مع أن علم الكلام أهون من علم التوحيد الذي يخوض فيه القوم، وقد قال الإمام الشافعي للربيع الجيزي: إياك وعلم الكلام وعليك بالاشتغال بعلم الفقه والحديث فلأن يقال لك أخطأت خير من أن يقال لك كفرت. انتهى. وسئل الأستاذ علي بن وفا رضي اللّه عنه من بعض العارفين على لسان بعض المعترضين: لم دون هؤلاء العارفون معارفهم وأسرارهم التي تضر بالقاصرين من الفقهاء وغيرهم. أما كان عندهم من الحكمة وحسن الظن والنظر والرحمة بالخلق ما يمنعهم عن تدوينها فإن كان عندهم ذلك فمخالفتهم له نقص وإن لم يكن عندهم حكمة ولا حسن ظن، فكفاهم ذلك نقصا، فأجاب بقوله: يقال لهذا السائل أليس الذي أطلع شمس الظهيرة ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة، عليم حكيم فلا يسعه إلا أن يقول نعم هو تعالى عليم حكيم فإن قال صحيح ذلك ولكن عارض ذلك مصالح أخر تربو على هذه المفاسد قلت: وكذلك الجواب عن مسئلتك فكما أن الحق تعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهيرة مراعاة لأبصار من ضعف بصره فكذلك العارفون لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم بل الزاهدين فيها بل المنكرين عليها، وأطال في ذلك، ثم قال: وحسبك جواب أن من دون المعارف والأسرار لم يدونها للجمهور بل لو رأى من يطالع فيها ممن ليس هو بأهلها نهاه عنها. وكان بعض العارفين يقول: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا، وكذلك لا يجوز لأحد أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله إلى من لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار. وقد صرح بذلك أهل اللّه تعالى على رؤوس الأشهاد، وقالوا من باح بالسر استحق القتل. ومع ذلك فلم يسع أهله الغفلة والحجاب، بل تعدوا حدود القوم وأظهروا كلامهم لغير أهله، فكانو كمن نقل المصحف إلى أرض العدو الذي لا يؤمن به، مع أن اللّه تعالى نهاه عن ذلك، فمكنوا أعداء اللّه تعالى من قراءته بقلوب زائغة وألسنة معوجة، فطائفة تستهزىء به. وطائفة تتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله فزادوا بتمكينهم منه في الضلال والطغيان والإنكار على أهل الإسلام وأطال في ذلك. ثم قال وهل دون المجتهدون رضي اللّه تعالى عنهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما استنبطوه من الكتاب والسنة ليستعان به على هوى النفس، وحب الرياسة، وكسب الدنيا به والمزاحمة به على التقرب من الملوك والأمراء لا واللّه ما كان ذلك قصدهم، ولكن كان أمر اللّه قدرا مقدورا، فكما أن المجتهدين لم يمنعوا من تدوين العلم الذي يكتسب الناس به بعض الدنيا، بل جعل الشارع لهم أجزيتهم الصالحة، وإن لم يعمل بذلك الناس، فكذلك العارفون لهم أجزيتهم وقصدهم الصالح من نفع المريدين بما وضعوه من الحقائق الكاشفة لمشكلات علم التوحيد وأمراض القلوب ومن فوائد تدوينهم: تلقيح قلوب الناظرين في رسائلهم من بعدهم فيظفروا من تلك المعاني بما يرقيهم ويبعث سحائب الرحمة على قلوبهم وعلى ألسنتهم فتشرق أرض قلوبهم بنور رشدهم وتحيا بإثر هدايتهم، فنابت عنهم رسائلهم بعد موتهم في نصح المريدين وكان تدوين معارفهم وأسرارهم من أحق الحقوق عليهم لكون غيرهم لا يقوم مقامهم في تدوين دواء أمراض القلوب وآداب حضرات الحق تعالى في جميع الأمور المشروعة فإن لكل مقام حضورا وأدبا يخصه.

فإن قيل لو كان علم هؤلاء الصوفية مطلوبا لدون فيه الأئمة المجتهدون كتبا ولا نرى لهم في ذلك كتابا واحدا. فالجواب إنما لم يضعوا في أمراض القلوب كتبا لأنها لم تكن ظاهرة على أهل زمانهم ولو أنها كانت ظهرت في زمانهم لتأكد عليهم بيان طريق علاجها برسائل مستقلة كما فعل من بعدهم من أئمة طريق أهل اللّه تعالى لأنها من الكبائر بخلاف الزمن الذي بعدهم ظهر فيه الرياء والحسد والكبر والغل والحقد فلذلك دون الناس فيه الرسائل المستقلة وأيضا فإنما لم يدون المجتهدون في طريق القوم كتبا لأنهم كانوا مشتغلين بما هو أهم من ذلك وهو جمع أدلة الشريعة وبيان ناسخها ومنسوخها ومفصلها ومجملها وتمهيد قواعدها ليرجع الناس إلى ذلك إذ حصل لهم زيغ فلو لا قواعد الشريعة التي مهدها المجتهدون ما عرف أحد موازين الأعمال الظاهرة والباطنة، فكان اشتغال الأئمة المجتهدين بذلك أهم من اشتغالهم بتأليف بعض رسائل خاصة ببعض أقوام قلائل بالنسبة لبقية الأمة، فافهم. فعلم أن لأئمة الشريعة المنة على سائر الناس من الصوفية وغيرهم فجزى اللّه الجميع خيرا فيما صنفوه، فإنما كما كان في الكلام في علم الظاهر بقاء روح الاجتهاد الظني الموجب للعمل وإشراقه في مظاهر المرشدين فكذلك كان من باب أولى كلام العارفين فيه بقاء روح اليقين وإشرافها في مظاهر الهادين بالحق.

فإن قيل فلم لم يقتصر هؤلاء الصوفية على المشي على ظاهر الكتاب، والسنة، فقط أليس ذلك كان يكفيهم، كما كفى غيرهم، فالجواب هذا الاعتراض بعينه اعتراض على الأئمة المجتهدين ومقلديهم فإنهم لم يقفوا على ظاهر النصوص ولا اقتصرو عليه، بل استنبطوا من النصوص ما لا يحصى من الأحكام والوقائع كما هو مشاهد، فإن رددت يا أخي استنباط العارفين لزمك أن ترد استنباط المجتهدين، ولا قائل بذلك، فكما لا يجوز لك الاعتراض على كلام الأئمة المجتهدين لكونهم لم يخرجوا عن شعاع نور الشريعة فكذلك لا يجوز لك الاعتراض على العارفين المقتفين آثار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الآداب الظاهرة والباطنة، فكما أوجب المجتهدون وحرموا وكرهوا واستحبوا أمورا لم تصرح بها الشريعة في دولة الأعمال الظاهرة، فكذلك العارفون أوجبوا أمورا وحرمو وكرهوا واستحبوا أمورا في دولة الأعمال الأعمال الباطنة فالاجتهاد واقع في الدولتين ولا غنى بإحداهما عن الأخرى، فحقيقة بلا شريعة باطلة، وشريعة بلا حقيقة عاطلة يعني ناقصة.

فإن قيل: فلم رمز القوم كلامهم في طريقهم بالاصطلاح الذي لا يعرفه غيرهم إلا بتوقيف منهم كما مر، ولم لم يظهروا معارفهم للناس، إن كانت حقا كم يزعمون ويتكلمون بها على رؤوس الأشهاد كما يفعل علماء الشريعة في دروسهم، فإن في إخفاء العارفين معارفهم عن كل الناس رائحة ريبة وفتحا لباب رمي الناس لهم بسوء العقيدة وخبث الطوية. فالجواب:

إنما رمزوا ذلك رفقا بالخلق ورحمة بهم وشفقة عليهم، كما مر في كلام الشيخ محيي الدين أوائل الفصل. وقد كان الحسن البصري وكذلك الجنيد والشبلي وغيرهم لا يقرؤون علم التوحيد إلا في قعور بيوتهم بعد غلق أبوابهم وجعل مفاتيحها تحت وركهم ويقولون أتحبون أن ترمى الصحابة والتابعون الذين أخذنا عنهم هذا العلم بالزندقة بهتانا وظلما. انتهى. وما ذلك إلا لدقة مداركهم حين صفت قلوبهم وخلصت من شوائب الكدورات الحاصلة بارتكاب الشهوات والآثام ولا يجوز لأحد أن يعتقد في هذه السادة أنهم ما يخفون كلامهم إلا لكونهم فيه على ضلال حاشاهم من ذلك. فهذا سبب رمز من جاء بعدهم للعبارات التي دونت وكان من حقها أن لا تذكر إلا مشافهة ولا توضع في الطروس، لكن لما كان العلم يموت بموت أهله إن لم تدون دونوا علمهم ورمزوه مصلحة للناس وغيره على أسرار اللّه أن تذاع بين المحجوبين وأنشدوا في ذلك:

ألا إن الرموز دليل صدق * على المعنى المغيب في الفؤاد

وكل العارفين لها رموز * وألغاز تدق على الأعادي

ولولا اللغز كان القول كفرا * وأدى العالمين إلى الفسادي أي كفرهم عند من لا يعرف اصطلاحهم، وكان الإمام أبو القاسم القشيري رضي اللّه تعالى عنه يقول: نعم ما فعل القوم من الرموز فإنهم إنما فعلوا ذلك غيرة على طريق أهل اللّه عز وجل أن تظهر لغيرهم فيفهموها على خلاف الصواب فيضلوا في أنفسهم ويضلوا غيرهم ولذلك نهوا المريد أن يطالع في رسائل القوم لنفسه من غير قراءة على شيخ انتهى. وكان سيدي علي بن وفا رضي اللّه عنه إذا سئل لم رمز القوم كلامهم يقول: افهموا هذا المثال تعلموا سبب رمزهم وذلك أن الدنيا غابة ونفوس المحجوبين عن حقائق الحق المبين من أهلها كالسباع والوحوش الكواسر والعارف بينهم كإنسان دخل ليلا إلى تلك الغابة وهو حسن القراءة والصوت فلما أحس بما فيها من السباع الكواسر اختفى في بطن شجرة ولم يجهر بالقرآن يتغنى به هناك حذر أمنهم أليس يدل اختفاؤه عنهم وعدم رفع صوته بالقرآن على أنه عليم حكيم أو هو بضد ذلك ؟ لا واللّه بل هو عليم حكيم إذ لو تراءى لهم أو أسمعهم صوته وقراءته لم يهتدوا به ولم يفهموا عنه وسارعوا إلى تمزيق جسده وأكل لحمه وكان هو الملقي بنفسه إلى التهلكة، وذلك حرام فافهموا هذا المثال وقولوا لمن يعترض على العارفين في رمزهم لكلامهم قد أنزل اللّه تعالى على محمد صلى اللّه عليه وسلم فواتح سور كثيرة من القرآن مرموزة وقال تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء: 110] أي بقراءتك وَل تُخافِتْ بِها فأمره أن لا يجهر بالقرآن بحيث يسمعه الجهلة المنكرون فيسبون بجهلهم من لا يجوز سبه، لا يخفيه عمن يؤمن به. فكما لم يدل إخفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم قراءته عن الجاهلين المنكرين على بطلان قراءته ولا قدح في صحتها كذلك لا يدل إخفاء العارفين كلامهم عن المجادلين بغير علم على بطلانه ومخالفته للشريعة فافهم. لكن إن هيأ اللّه تعالى للعارف أسباب ظهور شأنه وقدر على قهر المنكرين عليه بالحال أو بإدحاض أقوالهم بالحجج الواضحة حتى صاروا يقرون له بالفضل طوعا وكرها فله حينئذ إظهار معارفه على رؤوس الأشهاد كما أظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قراءته بالقرآن على رؤوس الكفار حين تهيأت أسباب الظهور وتمكن في أمره وصار له أنصار يحفظونه من الأذى فعلم أن للعارفين في ذلك الأسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد اختفى الإمام أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه أيام الفتنة ثلاثة أيام ثم خرج، فقيل له: إنهم إلى الآن في طلبك فقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يختف في الغار أكثر من ثلاثة أيام، فقد بان لك أنه ليس للإنسان مقابلة الوحوش والسباع الكواسر والظهور لهم إلا إن علم قدرته على دفع أذيتهم له بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة والمكنة والأنصار. فإن قيل: فلم لم يترك هذا العارف إظهار معارفه وأسراره بالكلية ويدخل فيما فيه الجمهور حتى يتمكن ويقوى فيكون ذلك أسلم له، فالجواب: أن العارفين ورثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا يخالفون هديه فحيثما سلك سلكوا كما مر عن الإمام أحمد بن حنبل آنفا فكما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما معه من الحق المبين وكتمه عن الجهلة المنكرين حتى أتاه الأمر من اللّه تعالى بإظهار ما معه من الحق فكذلك ورثته. قال سيدي علي بن وفا: ويقال لهذا المعترض أيضا على القوم في رمزهم معارفهم:

أرأيت لو أنكر المجانين على رجل عاقل مخالفته لأمرهم وجنونهم أينبغي له أن يوافقهم على جنونهم فيتجنن مثلهم ويترك عقله حتى يألفوه وهو يمكنه الفرار بعقله أو أرأيت الإنسان الكائن بين الذئاب الضواري إذا لم يرضوه أن يقيم بينهم إلا أن يمشي على يديه ورجليه مكبا على وجهه أو حتى يعوي كعيهم، أينبغي له أن يفعل ذلك ليقيم بينهم ويألفوه مع أنه يمكنه الفرار منهم والإقامة على طريقة الإنسانية ؟ لا واللّه، لا ينبغي للقادر على الخير أن ينسلخ منه ليرضي أهل الشر فاللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين فنعوذ باللّه أن نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه. وكان بعض العارفين رحمه اللّه يقول: ألسنة جميع المحبين أعجمية على غيرهم وهي لأصحابهم عربية هذا كله في حق المتمكنين من الأولياء، أما من غلب عليه حاله فمن أدب أهل الطريق التسليم له لأنه يتكلم بلسان العشق لا بلسان العلم الصحيح. وقد بلغنا أن عصفورا راود عصفورة في قبة سليمان بن داود فأبت عليه فقال لها: قد بلغ بي من حبك ما لو قلت لي أقلب هذه القبة على سليمان وجنده لقلبتها فحملت الريح كلامه إلى سليمان فأرسل خلفه وقال: ما حملك أن تقول ما لم نقدر عليه ؟ فقال: مهلا يا نبي اللّه إني عاشق والعشاق إنما يتكلمون بلسان المحبة والعشق، لا بلسان العلم والتحقيق فأعجب ذلك سليمان انتهى.

وفي ذلك عذر عظيم للعشاق في طريق أهل اللّه عز وجل كسيدي عمر بن الفارض وأضرابه رضي اللّه عنهم أجمعين وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام باب عذر عظيم لعلماء الشريعة وعلماء الحقيقة وإن كان الذي وقع من موسى إنما هو عن نسيان لشرط الخضر عليه فإن في هذه القصة إقامة عذر لمن أنكر ولمن أنكر عليه لكان من شأن أهل الطريق أن لا يقيموا الحجج على من أنكر عليهم لعلمهم بحجابه عن طريقهم وإنم يقولون له كما قال الخضر:

هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] ، ولو أن أهل اللّه أقاموا الحجة على المنكرين عليهم لقدروا على ذلك لما هم عليه من النور المبين، فلا تظن يا أخي أنهم عاجزون عن إقامة الحجة وتنسبهم إلى العامية. وإيضاح قصة موسى مع الخضر كما قاله سيدي علي بن وفافي كتابه " الوصايا " أن في القصة تعليم موسى عليه السلام أن يسلم للأولياء باطنا فيما يذكرونه من العلوم اللدنية ثم بعد ذلك التسليم إن اقتضى الشرع منك إنكار شيء من كلامهم أو من أحوالهم فلك إنكاره ظاهر لكن على وجه الاستعلام والاستفهام لا غير خوفا أن يتشبه بهم في ذلك من ليس هو في مقامهم، وإلا فما لموسى عليه السلام كف عن الخضر بتلك المعاني التي أبداها الخضر فإن مثلها لا يسقط به المطالبة في ظاهر الشرع فمن خرق سفينة قوم بغير إذنهم وقال: خرقتها كي لا يغصبها ظالم لم تسقط عنه المطالبة بذلك ظاهرا، ومن قتل صبيا وقال: خشيت أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا لم تسقط عنه المطالبة به في ظاهر الشرع أيضا. قال: وقول الولي وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] ليس مسوغا لمثل هذه الأعمال في الحكم الظاهر ولو تحققت ولايته لكونه غير رسول، فعلم أن الإنكار ما وقع من موسى أولا إلا حفظا لنظام الشرع الظاهر خوفا أن يتبع الخضر على ذلك لا غير ثم إنه كف عن الإنكار آخرا حفظا لرعاية أمر اللّه عز وجل في خواص أوليائه، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وعلم موسى عند ذلك أن اللّه تعالى عباد أقامهم لبيان العلوم الموهوبة، وأنه ليس لأحدهما أن يعترض على الآخر ولا أن ينازعه فيما أقيم فيه وإن كان المعترض أعلى درجة فافهم. ولا يخفى أن جملة العلوم ثلاثة: علم العقل وعلم الأحوال وعلم الأسرار، فعلم العقل: هو كل علم ضروري بديهي أو حاصل عقب نظر في دليل شرطه العثور على وجه ذلك الدليل وعلامة هذا العلم أنك كلما بسطت عبارته حسن وفهم معناه وعذب عند السامع الفهيم. وأما علم الأحوال فلا سبيل إليه إلا بالذوق ولا يقدر عاقل على وجدانه ومعرفته البتة كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع ونحو ذلك وهذا العلم متوسط بين علم الأسرار وعلم العقل وأكثر من يؤمن به أهل التجارب وهو إلى علم الأسرار أقرب منه إلى علم العقل النظري، فلا يلتذ به إذا جاء من غير معصوم إلا أصحاب الأذواق السليمة وعلامة العلم المكتسب أن يدخل في ميزان العقول وعلامة العلم الوهبي أن لا يقبله ميزان العقول من حيث أفكارها بل تمجه

غالبا. وأما علم الأسرار فهو العلم الذي فوق طور العقل ولذلك يتسارع إلى صاحبه الإنكار لأنه حاصل من طريق الإلهام الذي يختص به النبي والولي وعلامته أنه إذا أخذته العبارة سمج وبعد عن الأفهام دركه وربما رمت به العقول الضعيفة أو المتعصبة التي لم توف النظر والبحث حقه ومن هنا كان من يريد تفهيم العلم لغيره لا يقدر أن يوصل ذلك العلم إلى الأفهام الضعيفة إلا بضرب الأمثلة والمخاطبات الشعرية وأكثر علوم الكمل من هذا القبيل، وكان الشيخ محيي الدين بن العربي يقول: من شأن العارفين أنهم إن كانوا في سلطان الحال أجابوا بالنصوص وإن كانوا في المقام أجابوك بظواهر الأدلة فهم بحسب أوقاتهم. فقد بان لك أن علوم الأسرار لا تنال بالفكر وإنما تنال بالمشاهدة أو الإلهام الصحيح وما شاكل هذه الطرق. ومن هنا تعلم الفائدة في قوله صلى اللّه عليه وسلم إن يكن من أمتي محدثون فهو عمر ذكره الشيخ محيي الدين في رسالته التي كتبها إلى الشيخ فخر الدين الرازي وهي نحو ثلاثة كراريس ثم لو قدر أن الإنكار لم يقع في الوجود على أهل اللّه تعالى وكان الناس كلهم أصحاب عقول سليمة لم يفد قول أبي هريرة حفظت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم يعني مجرى الطعام وكذلك لم يفد قول ابن عباس لو أني ذكرت لكم ما أعلم من تفسير قوله تعالى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق: 12] لرجمتموني أو لقلتم إني كافر. ونقل الإمام الغزالي في " الإحياء " وغيره عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه عنه أنه كان يقول:

يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال المسلمين دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا

* - قال الغزالي: والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه هو العلم اللدني الذي هو علم الأسرار لا من يتولى من الخلفاء ومن يعزل كما قاله بعضهم، لأن ذلك لا يستحل علماء الشريعة دم صاحبه ولا يقولون له أنت ممن يعبد الوثن انتهى. فتأمل في هذا الفصل فإنه نافع لك واللّه يتولى هداك.

الفصل الرابع: في بيان جملة من القواعد والضوابط التي يحتاج إليها من يريد التبحر في علم الكلام.

اعلم رحمك اللّه أن علماء الإسلام ما صنفوا كتب العقائد ليثبتوا في أنفسهم العلم باللّه تعالى وإنما وضعوا ذلك ردعا للخصوم الذين جحدوا الإله أو الصفات أو الرسالة أو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالخصوص أو الإعادة في هذه الأجسام بعد الموت ونحو ذلك مما لا يصدر إلا من كافر فطلب علماء الإسلام إقامة الأدلة على هؤلاء ليرجعوا إلى اعتقاد وجوب الإيمان بذلك لا غير وإنما لم يبادروا إلى قتلهم بالسيف رحمة بهم ورجاء رجوعهم إلى طريق الحق فكان البرهان عندهم كالمعجزة التي ينساقون بها إلى دين الإسلام ومعلوم أن الراجع بالبرهان أصح إيمانا من الراجع بالسيف إذ الخوف قد يحمل صاحبه على النفاق وصاحب البرهان ليس كذلك فلذلك وضعوا علم الجوهر والعرض وبسطوا الكلام في ذلك ويكفي في المصر الواحد واحد من هؤلاء، وأطال الشيخ محيي الدين في صدر "الفتوحات" من الكلام في ذلك. ثم قال: ولا يخفى أن الشخص إذا كان مؤمنا بالقرآن قاطعا بأنه كلام اللّه تعالى فالواجب عليه أن يأخذ عقيدته منه من غير تأويل ولا عدول إلى أدلة العقول مجردة عن الشرع فإن القرآن دليل قطعي سمعي عقلي فقد أثبت سبحانه وتعالى أنه منزه عن أن يشبهه شيء من المخلوقات أو يشبه هو شيئا منها بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وبقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) [الصافات: 180] ونحوهما من الآيات وأثبت رؤيته للمؤمنين في الآخرة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة: 22 - 23] وبمفهوم قوله تعالى في الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين: 15] فدل على أن المؤمنين يرونه ولا يحجبون عنه وأثبت نفي الإحاطة بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] وبقوله تعالى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت: 54] وأثبت كونه تعالى قادرا بقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] وأثبت كونه تعالى عالما بقوله تعالى: أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق: 12] وأثبت كونه مريدا للخير والشر بقوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) [البروج: 16] وبقوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [فاطر: 8] وأثبت كونه تعالى سميعا لخلقه بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] وأثبت كونه تعالى بصيرا بأعمال عباده بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 265] وبقوله: ألَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) [العلق: 14] وأثبت كونه تعالى متكلما بقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] وأثبت كونه حيا بقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وأثبت رسالة الرسل بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْن مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: 109] وأثبت رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وأثبت أنه صلى اللّه عليه وسلم آخر الأنبياء بعثا بقوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] وأثبت أن كل ما سواه خلقه بقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وأثبت الجن بقوله تعالى: وَم خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] وأثبت أن الجن يدخلون الجنة بقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 74] وأثبت حشر الأجساد بقوله تعالى: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [العاديات: 9] إلى أمثال ذلك مما هو مذكور من الأدلة الصحيحة في كتب العقائد كوجوب الإيمان بالقضاء والقدر والميزان والحوض والصراط والحساب وتطاير الصحف وخلق الجنة والنار قال اللّه تبارك وتعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] وأثبت المعجزة لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى في كتابه العزيز: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا [البقرة: 23] فإن القرآن كله معجزته صلى اللّه عليه وسلم. قال الشيخ محيي الدين فعلم أنه لا ينبغي لمؤمن أن ينسى حدود ربه التي كلفه بها في هذه الدار ويستغرق غالب عمره في الاشتغال برد خصوم لم يوجد لهم عين في بلاده وبدفع شبه يمكن أن لا تكون ثم بتقدير وجودها فسيف الشريعة أفظع وأردع وفي الحديث الصحيح: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وحتى يؤمنوا بي وبما جئت به " ولم يدفعن صلى اللّه عليه وسلم إلى مخاصمتهم إذا حضروا إنما هو الجهاد بالسيف إن عاندوا بي الحق قال وهذا هو جل اشتغال الناس اليوم فقطعوا عمرهم في الاشتغال برد خصوم متوهمة أو خصوم موجودة لكن بلازم المذهب وذلك ليس بمذهب على الراجح ويتخيل لصاحب الكلام في مثل ذلك أنه يتكلم مع غيره والحال أنه إنما يتكلم مع نفسه فعلم أن السلف رضي اللّه تعالى عنهم ما وضعوا كتب الكلام إلا ردعا للخصوم الذين كانوا في عصرهم كم مر. فاللّه تعالى ينفعهم بقصدهم. قال: فالعاقل من اشتغل اليوم بالعلوم الشرعية فإن فيها غنية عن علم الكلام لقيام الدين بها ولو أن الإنسان مات وهو لم يعرف الكلام على الجوهر والعرض لم يسأله اللّه تعالى عن ذلك يوم القيامة ثم إن احتاج إنسان إلى رد خصم حدث في بلاده ينكر الشرائع مثلا وجب علينا تجريد النظر في رد مذهبه لكن بالأمور العقلية دون الاستدلال عليه بالشرع كالبرهمي مثلا فإنه لا يقبل دليل الشرع على إبطال ما انتحله من المذهب الغريب الذي يقدح في الشريعة فإن الشرح هو محل النزاع بيننا وبينه فلا يثبته فلذلك قلنا ليس له دواء إلا رده بالنظر العقلي فنداويه بنحو قولنا مثلا انظر بعقلك في هذه المسألة وحقق النظر. انتهى. وقد بان لك مما ذكرناه أن من أراد حفظ عقيدته من الشبه والضلالات فليأخذها من القرآن العظيم كما مر فإنه متواتر قطعي معصوم بخلاف من يأخذ عقيدته من طريق الفكر والنظر من غير أن يعضده شرع أو كشف وانظر يا أخي إلى نبينا صلى اللّه عليه وسلم لما قال له اليهود: انسب لنا ربك كيف تلا عليهم سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ولم يقم لهم من أدلة النظر دليلا واحدا فقوله تعالى اللَّهُ أَحَدٌ أثبت الوجود للأحد ونفى العدد وأثبت الوحدانية للّه تعالى وحده لا شريك له، اللّه الصمد نفى الجسمية لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ نفي الوالد الولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نفى الصاحبة والشريك أفيطلب صاحب الدليل العقلي البرهان على صحة هذه المعاني بالعقل بعد ثبوتها بالدليل القطعي ؟ إن ذلك من الجهل العظيم ويا ليت شعري من يطلب معرفة اللّه تعالى من حيث الدليل ويكفر من لا ينظر فيه كيف كانت حالته هو قبل النظر وفي حال النظر هل هو مؤمن أم لا ؟

وهل كان ثبت عنده أن اللّه تعالى موجود وأن محمدا عبده ورسوله أم لا ؟ وهل كان يصلي ويصوم أم لا ؟ فإن كان معتقدا لهذا كله فهذه هي حالة العوام فليتركهم على ما هم عليه ولا يكفر أحدا منهم. وإن كان لا يعتقد هذه الأمور إلا بعد النظر في علم الكلام والاشتغال به فنعوذ باللّه تعالى من هذا المذهب حيث أداه سوء النظر إلى الخروج من الإيمان وكان الشيخ محيي الدين رضي اللّه عنه يقول: ليس من شأن أهل اللّه تعالى أن يتصدوا للرد على أحد من أهل الفرق الإسلامية إلا إن خالفوا النصوص أو خرقوا الإجماع فمن تصدى للرد على أحد منهم فلا يأمن أنه ينكر عليهم أمرا هو حق في نفس الأمر فإن أهل الاسلام ما داموا في دائرة الإسلام لا يعتقدون إلا حقا أو ما فيه شبهة حق بخلاف من خرج عن الإسلام. انتهى.

* - وقال في الباب الثلاثين من "الفتوحات" من شأن أهل اللّه تعالى أنهم لا يجرحون عقائد أحد من المسلمين وإنم شأنهم البحث عن منازع الاعتقادات ليعرفوا من أين انتحلها أهلها وما الذي تجلى له حتى اعتقدت ما اعتقدت وهل يؤثر ذلك في سعادتها أم لا هذا حظهم من البحث في علم الكلام فعلم أن عقائد العوام بإجماع كل متشرع صحيحة سليمة من الشبه التي تطرق المتكلمين وهم على قواعد دين الإسلام وإن لم يطالعوا كتب الكلام لأن اللّه سبحانه وتعالى قد أبقاهم على صحة العقيدة بالفطرة الإسلامية التي فطر اللّه الموحدين عليها إما بتلقين الوالد المتشرع وإما بالإلهام الصحيح وهم من معرفة الحق تعالى وتنزيهه على حكم المعرفة والتنزيه الوارد في ظاهر الكتاب والسنة وأقوال الأئمة وهم على صواب في عقائدهم ما لم يتطرق أحدهم إلى التأويل فإن التأويل قد لا يكون مرادا للشارع وإن تطرق أحدهم إلى التأويل للآيات والأخبار فقد خرج عن حكم العامة في ذلك والتحق بأهل النظر والتأويل وهو على حسب تأويله وعلمه يلقى اللّه سبحانه وتعالى فإما مصيب وإم مخطىء بالنظر إلى ما يناقض ظواهر أدلة الشريعة المطهرة. فتأمل في ذلك فإنه نفيس، وكان شيخ مشايخنا الشيخ كمال الدين بن الهمام رحمه اللّه يقول: تصوير التقليد في مسائل الإيمان عسر جدا فقل أن ترى واحدا مقلدا في الإيمان باللّه تعالى من غير دليل حتى آحاد العوام فإن كلامهم في الأسواق محشو بالاستدلال بالحوادث على وجود الحق تعالى وصفاته وصورة التقليد هو أن يسمع الناس يقولون إن للخلق ربا خلقهم وخلق كل شيء يستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له فيجزم السامع بذلك لجزمه بصحة إدراك هؤلاء تحسينا لظنه بهم وتكبيرا لشأنهم عن الخطأ فإذا حصل له عند ذلك جزم لا يجوز معه كون الواقع النقيض فقد قام بالواجب من الإيمان ومقصود الاستدلال هو حصول ذلك الجزم. فإذن قد حصل ما هو المقصود منه من قيامه بالواجب. وقال شيخ مشايخنا الشيخ كمال الدين بن أبي شريف: ومقتضى هذا التعليل أن لا يكون عاصيا بعدم الاستدلال لأن وجوبه إنما كان لتحصيل ذلك فإذا حصل سقط هو غير أن التقليد عرضة لوقوع التردد بعروض الشبهة بخلاف الاستدلال فإن فيه حفظه عن ذلك. انتهى. ونقل الشيخ أبو طاهر القزويني في كتابه " سراج العقول " عن أحمد بن زاهر السرخسي أجل أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه اللّه قال: لما حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة في داري ببغداد قال لي: اجمع أصحابي فجمعتهم فقال لنا اشهدوا على أني لا أقول بتكفير أحد من عوام أهل القبلة لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم. انتهى. قال الشيخ أبو طاهر فانظر كيف سماهم مسلمين وكان الإمام أبو القاسم القشيري رحمه اللّه يقول من نقل عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه كان يقول لا يصح إيمان المقلد فقد كذب لأن مثل هذا الإمام العظيم يبعد منه أن يجرح غالب عقائد المسلمين بما يكفرون به ولا يصح لهم معه إيمان. انتهى.

* - وقال الشيخ تاج الدين بن السبكي: التحقيق الدافع للتشنيع على الأشعري في هذه المسألة أن المقلد إن كان آخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي إيمان هذ المقلد لعدم الجزم به إذ لا إيمان مع أدنى تردد وإن كان المقلد آخذا لقول الغير بغير حجة لكن جزما فيكفي إيمان المقلد عند الأشعري وغيره قال الجلال المحلي وهذ هو المعتمد. انتهى. وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني وغيره: التحقيق في مسألة ذم الخوض في علم الكلام أن النظر في ذلك على طريق المتكلمين من تحرير الأدلة وتدقيقها ودفع الشكوك والشبه عنها فرض كفاية في حق المتأهلين له فيكفي قيام بعضهم به وأما غير المتأهلين ممن يخشى عليه من الخوض فيه الوقوع في الشبه المضلة فليس له الخوض فيه. قال الجلال المحلي: وهذا محمل نهي الإمام الشافعي وغيره من السلف عن الاشتغال بعلم الكلام. انتهى. وكان الشيخ محيي الدين بن العربي يقول: محل النهي عن الخوض في علم الكلام إنما هو في حق من يتكلم فيه بالنظر والفكر إذ الفكر كثير الخطأ في الإلهيات أما من يتكلم في التوحيد ولوازمه من طريق الكشف فلا يدخل في نهي السلف لأن صاحب الكشف من شأنه أن يتكلم على الأمور من حيث ما هي عليه في نفسها فل يخطئ. انتهى. قلت ومن هنا خصصت تشييد هذه العقائد بكلام أهل الكشف دون النظر الفكري لا سيما ما كان من كلام الشيخ محيي الدين رضي اللّه عنه فقد قال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من " الفتوحات المكية " جميع ما أتكلم به في مجالسي وتآليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فيه فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج من مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه. وقال في الكلام علىالأذان من "الفتوحات": اعلم أني لم أقرر بحمد اللّه تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي.

* - وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة: جميع ما أكتبه في تصانيفي ليس هو عن فكر ولا روية وإنما هو عن نفث في روعي من ملك الإلهام

* - وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة: ليس عندي بحمد اللّه تقليد لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلومنا كلها محفوظة من الخطأ.

* - وقال في الباب العاشر من "الفتوحات" نحن بحمد اللّه لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه اللّه تعالى في قلوبنا لا على ما تحتمله الألفاظ.

* - وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه إنما هو عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع

كياني كل ذلك لي بحكم الإرث لا بحكم الاستقلال فإن النفث في الروع منحط عن رتبة وحي الكلام ووحي الإشارة والعبارة. ففرق يا أخي بين وحي الكلام ووحي الإلهام تكن من العلماء الأعلام.

* - وقال في الباب السابع والأربعين من "الفتوحات": اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر وإنما هي من الفيض الإلهي.

* - وقال في الباب السادس والأربعين ومائتين منها: جميع علومنا من علوم الذوق لا من العلم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجل إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح.

* - وقال في الباب التاسع والثمانين منها والباب الثامن والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن ترتيب أبواب "الفتوحات" لم يكن عن اختيار مني ولا عن نظر فكري وإنما الحق تعالى يملي لنا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره وقد نذكر كلاما بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بما بعده كما في قوله تعالى:

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] بين آيات طلاق ونكاح وعدة وفاة نتقدمها وتتأخر عنها انتهى. وأطال في ذلك.

* - وقال في الباب الثامن من "الفتوحات": اعلم أن العارفين رضي اللّه عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوّبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا لإلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس من جنسه امتثالا لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمة ذلك. انتهى. فهذه النقول تدل على أن كلام الكمل لا يقبل الخطأ من حيث هو واللّه أعلم. وقال الشيخ محيي الدين في الباب الحادي والسبعين: اعلم أن العلوم الضرورية مقدمة على العلوم النظرية إذ العلم النظري لا يحصل إلا أن يكون الدليل ضروريا أو متولدا من ضروري على قرب أو بعد وإن لم يكن كذلك فليس بدليل قطعي ولا برهان.

* - وقال في الباب الثامن والستين من "الفتوحات": اعلم أن العقائد الصحيحة هي كل ما كان عن كشف وشهود وأما من ربط عقيدته بأمر مربوط مقيد بوجه دون آخر فلا يبعد أنه ينكر الحق إذا جاءه من غير ذلك الوجه الذي تقيد به فإذن: الكامل من بحث عن منازع الاعتقاد ونظر في كل قول من أين انتحله قائله وأطال في ذلك. ثم قال: واعلم أن الإنسان إذا أخذ عقيدته من أبويه أو من مربيه تقليدا ثم إنه بعد ذلك عقل الأمر ورجع إلى نفسه واستقل بالنظر فللعلماء في ذلك خلاف فمنهم من قال يبقى على عقيدته تلك ومنهم من قال ينظر في الدليل حتى يعرف الحق ولكل منهما وجه. انتهى.

* - وقال في الباب السادس والسبعين وأربعمائة: ثم علوم باللّه تعالى تعلم ولا يجوز اعتقادها ولا النطق بها ولا تجري على لسان عبد مخصوص إلا عند غلبة حاله فيحميه حاله ويعذّر كالسكران وإذا صحا ذهبت الحماية.

* - وقال في الباب الحادي والأربعين وثلاثمائة:

لا يجوز النظر في كتب الملل الباطلة والنحل الزائغة لأحد من القاصرين وأما مثل صاحب الكشف فله النظر فيها ليعرف من أي وجه قالوها وهو آمن من موافقتهم في ذلك الاعتقاد الباطل لما هو عليه من الكشف الصحيح. انتهى.

* - وقال في الباب الخامس والسبعين ومائتين من "الفتوحات" يجب على كل عارف ستر ما تعطف الحق تعالى به على قلبه من علوم الأسرار ولا يظهره للعامة فيقع عليه النكير ومن هنا قال أبو القاسم الجنيد سيد هذه الطائفة: لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق وذلك لأنه إذا نطق بعلوم الأسرار لا يسع الصديقين إلا أن ينكروا عليه غيرة على ظاهر الشريعة المطهرة. قال الشيخ محيي الدين ولقد وقع لنا وللعارفين أمور ومحن بواسطة إظهارنا المعارف والأسرار وشهدوا فينا بالزندقة وآذونا أشد الأذى وصرنا كرسول كذبه قومه وما آمن معه إلا قليل وأعدى عدو لنا المقلدون لأفكارهم وأم الفلاسفة فيقولون عنا هؤلاء قوم أهل هوس قد فسدت خزانة خيالهم فضعفت عقولهم وي ليتهم إذ لم يصدقونا جعلونا كأهل الكتاب لا يكذبونا فيما لم يخالف شرعنا مع أنا لا يضرنا بحمد اللّه إنكارهم علينا لجهلهم. انتهى.

 

* - وقال في الباب الثامن والثلاثين وأربعمائة:

إنما كان الناس ينكرون على أهل اللّه تعالى علومهم لأنها جاءت أصحابه من طرق غريبة غير مألوفة وهي طرق الكشف وأكثر علوم الناس إنما جاءتهم من طريق الفكر فلذلك كانوا ينكرون كل ما جاءهم من غير هذا الطريق وما كل أحد يقدر على جلاء مرآة قلبه بالمجاهدة والرياضة حتى يصير يفهم كلام أهل اللّه ويدخل دائرتهم ولكن للّه في ذلك حكم وأسرار. انتهى.

* - وقال في الباب الثامن والثلاثين وأربعمائة: من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام اللّه عز وجل وكلام رسله وأوليائه فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض خاطره من دخولها عليه ويفرح لزوالها من يده وأما مع ميله إلى الدنيا فلا سبيل له إلى فهم الغوامض أبدا. انتهى.

* - وقال في الباب الثاني والثمانين وثلاثمائة من "الفتوحات" من أراد الدخول إلى فهم غوامض الشريعة وحل مشكلات علوم التوحيد فليترك كل ما يحكم به عقله ورأيه ويقدم بين يديه شرع ربه ويقول

لعقله إن نازعه إنما أنت عبد مثلي فكيف أترك ما نسبه الحق تعالى إلى نفسه من آيات الصفات مثلا لعجزك أنت عن تعقله مع أنك قاصر عن معرفة نفسك فكيف بمعرفة ربك ولو أنك ألزمت نفسك الإنصاف للزمت حكم الإيمان والتلقي وجعلت النظر والاستدلال في ما أخبر به ربك عز وجل وأطال في ذلك.

* - وقال في الباب السادس والأربعين ومائتين من "الفتوحات": إياك أن ترمي ميزان الشرع من يدك في العلم الرسمي بل بادر إلى العمل بكل ما حكم به وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس مم يجول بينك وبين إمضاء ظاهر الحكم به فلا تعول عليه فإنه مكر إلهي بصورة علم الإلهي من حيث لا تشعر وأطال في ذلك. ثم قال: واعلم أن تقديم الكشف على النص ليس بشيء عندنا لكثرة اللبس على أهله وإلا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقا لظاهر الشريعة فمن قدم كشفه على النص فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل اللّه ولحق بالأخسرين أعمالا. انتهى.

* - وقال في الباب الخامس والثمانين ومائة من "الفتوحات": اعلم أن ميزان الشرع الموضوعة في الأرض هي ما بأيدي العلماء من الشريعة فمهم خرج ولي عن ميزان الشرع المذكورة مع وجود عقل التكليف وجب الإنكار عليه فإن غلب عليه حاله سلمنا له حاله ولا ننكر عليه لعدم من يتبعه على ذلك من أهل العقول فإن ظهر بأمر يوجب حدا في ظاهر الشرع ثابت عند الحاكم أقيم عليه الحد ولا بد ولا يعصمه من إقامة الحد عليه قوله إنا كأهل بدر إذ المؤاخذة لم تسقط عن أهل بدر في الدني وإنما سقطت عنهم في الدار الآخرة على أن العبد ولو قيل له إفعل ما شئت فقد غفرت لك فهو عاص في الشرع إذ المغفرة لا تكون إلا عن ذنب ولذلك قال فقد غفرت لك ولم يقل أسقطت عنك الحدود فالحاكم الذي يقيم عليه هذا الحد والتعزير مأجور. قال: ومن علامة صاحب الحال أن يحمي نفسه من متولي الحدود فتيبس يده مثلا فلا يستطيع أن يحركه نحوه. انتهى.

* - وقال في الباب الثالث والستين ومائتين: اعلم أن عين الشريعة هي عين الحقيقة إذ الشريعة لها دائرتان عليا وسفلى فالعليا لأهل الكشف والسفلى لأهل الفكر فلما فتش أهل الفكر على ما قاله أهل الكشف فلم يجدوه في دائرة فكرهم قالو هذا خارج عن الشريعة فأهل الفكر ينكرون على أهل الكشف وأهل الكشف لا ينكرون على أهل الفكر فمن كان ذا كشف وفكر فهو حكيم الزمان فكما أن علوم الفكر أحد طرفي الشريعة فكذلك علوم أهل الكشف فهما متلازمان ولكن لما كان الجامع بين الطرفين عزيزا فرق أهل الظاهر بينهما وإلا فما لموسى كف عن الخضر آخر الأمر فلو لا أن موسى فهم أن الخضر على حق لأنكر عليه آخرا كما أنكر عليه أولا. انتهى.

* - وقال في الباب الأحد وعشرين وخمسمائة من "الفتوحات": اعلم أن قطاع الطريق في سفر المعقولات هي الشبه التي تطرق الناظر بعقله وقطاع طريق السفر في المشروعات هي التأويلات ولا يخلو المسافر من أن يكون في إحدى هذين الطريقين فإن وصل المسافر إلى محل ليس فيه تأويل ولا شبهة فقد انتهى سيره. انتهى.

* - وقال في الباب الثاني والسبعين: اعلم أن موازين الأولياء المكملين لا تخطئ الشريعة أبدا فهم محفوظون من مخالفة الشريعة وإن كان العامة تنسبهم إلى المخالفة فما هي مخالفة في نفس الأمر وإنما هي مخالفة بالنظر إلى موازين غيرهم ممن هو دونهم في الدرجة، ثم إن ذلك لا يقدح في علم أهل اللّه تعالى وأطال في ذلك ثم قال: والموازين ثلاثة ميزان الإجماع وميزان الكشف وميزان الاجتهاد المطلق وما عدا هؤلاء الثلاثة فهي آراء لا يعول أهل اللّه تعالى عليها.

* - وقال في الباب السادس والستين ومائتين: إياك أن تجد مسألة استدل لها صاحبها بآية من القرآن فتقول هذه الآية لا يصح بها الاستدلال لهذه المسألة ببادئ الرأي بل تربص في ذلك فإن مرتبة كلام اللّه تعالى أن يقبل جميع ما فسره به المفسرون من أئمة الهدى لوسعه ولا يوجد ذلك في غيره وأطال في ذلك. ثم قال: لكن لا يخفى أن من شرط من يفسر القرآن أن لا يخرج عما يحتمله اللفظ وإلا فقد ورد أن من فسر القرآن برأيه فقد كفر. انتهى.

* - وقال في مقدمة "الفتوحات" إياك أن تبادر إلى إنكار مسألة قاله فيلسوف أو معتزلي مثلا وتقول هذا مذهب الفلاسفة أو المعتزلة فإن هذا قول من لا تحصيل له، إذ ليس كل ما قاله لفيلسوف مثلا يكون باطلا فعسى أن تكون تلك المسألة مما عنده من الحق ولا سيما إن كان الشارع صلى اللّه عليه وسلم صرّح بها أو أحد من علماء الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وقد وضع الحكماء من الفلاسفة كتبا كثيرة مشحونة بالحكم والتبري من الشهوات ومكايد النفوس وما انطوت عليه من خفايا الضمائر وكل ذلك علم صحيح موافق للشرائع فلا تبادر يا أخي إلى الرد في مثل ذلك وتمهل وأثبت قول ذلك الفيلسوف حتى تحد النظر فقد يكون ذلك حقا موافق للشريعة لكون الشارع قال تلك المسألة أو أحد من علماء شريعته وأما قولك إن ذلك العالم سمع تلك المسألة من فيلسوف أو طالعها في كتب الفلاسفة مع ذهولك عن كونها من الحق الذي وافق الشريعة فيه فهو جهل وكذب. أما الكذب فقولك إن ذلك العالم سمع تلك المسألة من الفلاسفة أو طالعها في كتبهم وأنت لم تشاهد ذلك منه ولا أقيمت عندك بذلك بينة عادلة وأما الجهل فكونك لم تفرق في تلك المسألة بين الحق والباطل فقد خرجت باعتراضك هذا عن العلم والصدق وانخرطت في سلك أهل الجهل والكذب ونقص العقل وفساد النظر والانحراف عن طريق أهل الحق بالحمية الجاهلية. فخذ يا أخي ما أتاك به الفيلسوف أو المعتزلي مثلا ثم تربص واهتد على نفسك قليلا قليلا حتى يتضح لك معناه أحسن من أن تقول يوم القيامة يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كن ظالمين.

* - وقال في الباب السادس والعشرين ومائتين من "الفتوحات" اعلم أن الفلاسفة ما ذمت لمجرد هذا الاسم وإنما هو لما أخطئوا فيه من العلم المتعلق بالإلهيات فإن معنى الفيلسوف هو محب الحكمة وسوفا باللسان اليوناني هو الحكمة وكل عاقل بلا شك يحب الحكمة غير أن أهل الأفكار خطئوهم في الإلهية أكثر من إصابتهم سواء كان معتزليا أو فيلسوفيا وكان من أصناف أهل النظر. انتهى. وقال الشيخ محيي الدين في كتاب " لواقح الأنوار ": لقد دخلت الخلوة وعملت على الاطلاع على الحقيقة الإدريسية فرأيت الخطأ إنما دخل على الفلاسفة من التأويل وذلك لأنهم أخذوا العلم عن إدريس عليه السلام فلما رفع إلى السماء اختلفوا في فهم شريعته كما اختلف علماء شريعتنا فأحل هذا ما حرم هذا وبالعكس. انتهى. وقال في مقدمة "الفتوحات": مدار صحة العقائد على حصول الجزم بها حتى إن من أخذ إيمانه تقليدا جزما للشارع كان أعصم وأوثق ممن يأخذ إيمانه عن الأدلة وذلك لما يتطرق إليها إذا كان حاذقا فطنا من الحيرة والدخيل في أدلته وإيراد الشبه عليها فلا يثبت له قدم ولا ساق يعتمد عليه فيخاف عليها الهلاك وأطال في ذلك، قال:

وتأمل كلام العقلاء تجدهم إذا نظروا واستوفوا في نظرهم الاستقلال وعثروا على وجه الدليل أعطاهم ذلك الأمر العلم بالمدلول ثم تراهم في زمان آخر يقوم لهم خصم من طائفة كمعتزلي أو أشعري بأمر آخر يناقض دليلهم الذي كانوا يقطعون به ويقدح فيه فيرون أن ذلك الأول كان خطأ وأنهم ما استوفوا أركان دليلهم وأنهم أخلو بالميزان في ذلك وأين هذا ممن هو في علمه على بصيرة بتقليده الجازم للشارع فإنه كضروريات العقول لا تردد فيه، إذ البصيرة للعلماء باللّه تعالى كالضروريات للعقول بخلاف كل ما نتج من العقل فإنه مدخول يقبل الشبه والتردد. من هنا كان دليل الأشعري يورث شبهة عند المعتزلي ودليل المعتزلي يورث شبهة عند الأشعري وما من مذهب من مذاهب المجتهدين والمتكلمين إلا ويدخله الاشكال ثم إنهم كلهم يتصفون باسم الأشاعرة أو باسم مذهب معين فترى أبا المعالي يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه القاضي وترى القاضي يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الأستاذ والأستاذ يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن والكل يدعون أنهم أشعرية كما يقع لأهل المذهب الواحد من مذاهب المجتهدين وأطال في ذلك. ثم قال: واعلم أن أهل النظر لا يعذرون في مواطن وجوب العلم وأن التقليد المعصوم فيما أخبر به ملحق بالعلم وأقوى من علوم النظر كما يدل عليه قبول شهادتنا على الأمم السالفة أن أنبياءها بلغوه دعوة الحق تعالى ونحن ما كنا في زمان تبليغهم وإنما صدقنا اللّه عز وجل فيما أخبرن به في كتابه عن نوح وعاد وثمود وفرعون وغيرهم ولا يقبل ذلك يوم القيامة إلا ممن كان في الدنيا على يقين من أمره. وقال الشيخ في الباب الثمانين ومائتين: اعلم أنه لا يصح من إنسان عبادة إلا إن كان يعرف ربه على القطع وأما من أقام في نفسه معبودا يعبده على الظن لا على القطع فلا بد أن يحزنه ذلك الظن ولا يغني عنه من اللّه شيئا.

انتهى. وقال في صدر "الفتوحات" من شرط وجوب الاعتقاد في أمر من الأمور وجود نص متواتر فيه أو كشف محقق ومن كان عنده الخبر الواحد الصحيح يكفي فليحكم به ولكن فيما يكون متعلقا بأحكام الدنيا فإن تعلق حكمه بالآخرة فلا ينبغي أن يجعله في عقيدته على التعيين وليقل إن كان هذا صحيحا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفس الأمر كما وصل إلي فأنا مؤمن به وبكل ما صح عن اللّه تبارك وتعالى ورسوله صلى اللّه عليه وسلم مما علمت ومما لم أعلم فلا يصح أن يكون في العقائد إلا ما صح من طريق القطع إما بالتواتر وإما بالدليل العقلي ما لم يعارضه نص متواتر لا يمكن الجمع بينهما وهناك يعتقد النص ويترك دليل العقل ويجب على المؤمن أن يدوم عليه لكن من حيث ما هو علم لا من حيث ما هو اعتقاد فقد يكون الأمر الوارد على غير الصورة التي يعطيها مقام الإيمان. وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه اللّه يقول: علوم النظر أوهام إذا قرنت بعلوم الإلهام. وكان الشيخ محيي الدين رضي اللّه تعالى عنه يقول: إياك أن تقنع في باب معرفة اللّه تعالى بدون الكشف كما عليه طائفة النظار والمتكلمين فإن المتكلمين يظنون عند نفوسهم أنهم ظفروا بمطلوبهم بم نصبوه من العلامات وشاهدوه من الحقائق فتراهم يسكنون إلى ما حصل عندهم من الاعتقاد المربوط ويكفرون من خالفهم وذلك قصور في المعرفة ولو اتسع نظرهم لأقروا جميع عقائد الموحدين بحق ذكره في الباب الثالث والسبعين ومائتين واللّه تعالى أعلم. انتهت المقدمة بفضل اللّه تعالى ، ولنشرع في ذكر مباحث علم الكلام مبسوطة بذكر سوابق عقائد الشيخ محيي الدين ولواحقها عكس ما يفعله المنكرون على الشيخ فيذكرون الكلمة الغريبة عن الشيخ منفردة فلا يكاد الشخص يقبلها فإن لكل شيء دهليزا يدخل إليه منه. وصدرت مباحث الكتاب بتقول المتكلمين تمهيدا لفهم كلام أهل الكشف ثم أعقبتها بتقولهم فلا أزال أسأل وأجيب بالنقول في ذلك المبحث حتى يتضح للطالب الإشكالات التي في ذلك المبحث إن شاء اللّه تعالى . إذا علمت ذلك فأقول وباللّه تعالى التوفيق:


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!