موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الرابع والعشرون: في أن اللّه تعالى خالق لأفعال العبد كما هو خالق لذواتهم

وأن العباد مكتسبون لا خالقون خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعال نفسه.

* - قال الشيخ كمال الدين ابن أبي شريف رحمه اللّه: وقد كان الأوائل من المعتزلة كواصل وابن عطاء وعمرو بن عبيد لقرب عهدهم بإجماع السلف على أنه لا خالق إلا اللّه تعالى يتحاشون عن إطلاق لفظ الخالق ويكنون بلفظ المخترع والموجد ونحوهم فلما رأى أبو علي الجبائي وأصحابه أن معنى الكل واحد وهو المخترع من العدم إلى الوجود تجاسروا على إطلاق لفظ الخالق. واعلم يا أخي أن مسألة الكسب من أدق مسائل الأصول وأغمضها ولا يزيل إشكالها إلا الكشف على نزاع في ذلك كما سيأتي في نقول الصوفية وأما أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها وآراؤهم مضطربة فيها وذلك أن أفعال الإنس وجميع الحيوانات وحركاتهم في معايشهم وتصرفاتهم مشاهدة لا إنكار له من أحد ثم إذا رجحنا حاكم العقل لا يكاد يحكم بثبوتها حكما جليا بحيث لا يبقى من حزازة في الصدر. وها أنا أجلي عليك عرائس نقول المتكلمين ثم نقول العارفين من القوم فأقول وباللّه التوفيق: كان أبو الحسن الأشعري رحمه اللّه يقول: ليس للقدرة الحادثة أثر وإنما تعلقها بالمقدور مثل تعلق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وكان الشيخ أبو طاهر القزويني يقول: القضيات العقلية في هذه المسألة ثلاث وهي: إما أن تكون الأفعال كلها مقدورة للّه تعالى على الاستبداد أو مقدورة للخلق على الاستبداد أو تكون مقدورة للّه تعالى والخلق معا فالأولتان معلومتان وأما الثالثة وهي أن تكون مقدورة بين قادرين فيلزم عليه أن الحركة الواحدة تعلق بها قدرتان قديمة وحادثة وهي: إذا تعلقت بها قدرة واحدة استغنت عن القدرة الثانية فما فائدة الثانية وما متعلقها وما كيفية تعلقها وهي بالقدرة الأولى كائنة موجودة وحالاتها ثلاث: حالة عدم وحالة وجود وحالة إيجاد وتعلق القدرة الثانية بما في هذه الحالات الثلاث محال ثم لو قدرنا مقدورا بين قادرين خاصة بدواعيها وإرادتيهما لوجب أنه إذا منع أحدهما فعله ولم يمتنع الثاني كان الحاصل فعلا موجودا معدوما وهو من أمحل المحال.

بقي أن يقال: إنما يلزم المحال إذا تعلق به القدرتان من وجه واحد أم إذا كان الفعل مضافا إلى قادرين من وجهين مختلفين فلا استحالة فيه وذلك أن تعلق القدرة القديمة من وجه الإيجاد وتعلق القدرة الحادثة به من وجه الاكتساب وهذا غير محال.

فيقال: لو جاز ذلك لجاز أن يقع الوجهان في حالتين يعني: كأن يقع الوجود بإيجاد القدرة القديمة في حالة ويقع الحدوث باكتساب القدرة الحادثة في حالة ثانية وهو محال إذ حدوثها قد حصل بالقدرة القديمة فكيف يقال تعلقت القدرة الحادثة بها بعد وجودها ولو وقع الفعل بقدرة ممتزجة من القديم والحادث حتى تصلح للإيجاد والاكتساب كان من أمحل المحال على أن الاكتساب للموجد محال والإيجاد للمكتسب محال وهذا القسم مع دقته وغموضه هو اختيار الشيخ أبي الحسن الأشعري وممن تابعه النجار من المعتزلة على اختلاف بينهما قال الشيخ أبو طاهر: وإنما اختار الأشعري ومن تابعه هذا القسم على مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة لكونه أسهل من مذهبيهما قال الشاعر:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا * فلا رأي للمضطر إلا ركوبه

* - قال: وقد توجهت على الأشعري ومن تبعه أسئلة أظهرها: إن كان للقدرة الحادثة أثر في المقدور فهو شرك وإن لم يكن لها أثر فوجود تلك القدرة وعدمها سواء فإن قدرة لا يقع بها المقدور بمثابة العجز ومن أجل هذا الاعتراض افترق أصحاب الشيخ أبي الحسن فقال بعضهم:

لا أثر للقدرة الحادثة أصلا في المقدور فيلزمه الجبر وقال آخرون: القدرة الحادثة لها أثر في المقدور وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني واستدل بأن الإنسان يحس من نفسه تفرقة بين حركتي الاضطرار والاختيار وهذه التفرقة لا ترجع إلى نفس الحركتين من حيث الحركة لأنهما مثلان بل ترجع إلى أمر زائد عليها وهو كون إحداهما مقدورة ومرادة والثانية غير مقدورة ولا مرادة ثم لا يخلو أن يكون تعلق القدرة بأحدهما كتعلق العلم بالمعلوم من غير تأثير فيؤدي إلى نفي التفرقة والإنسان يجد التفرقة بينهما أو يكون تعلق القدرة بأحدهما تعلق تأثير ثم لا يخلو ذلك من أمرين أيضا إما أن تكون راجعة إلى الوجود والحدوث وإما أن تكون راجعة إلى صفة من صفات الوجود فالأول باطل، لأنه لو أثر في الوجود لأثر في كل موجود فتعين أن التأثير يرجع إلى صفة أخرى وهي حال زائدة على الوجود مثل قادرية القادر عند أبي هاشم فإنها لا تؤثر إلا في حال الوجود فقالوا للقاضي: قد أثبت حالا مجهولة لا اسم لها، ولا معنى فأجاب بل هي معلومة بالدليل لكن لا يمكنني الإفصاح عنه الآن بعبارة وأن التفرقة ترجع إلى اعتقاد العبد تيسير العقل له عند سلامة الآلة ووجود الاستطاعة وكل ذلك من اللّه تعالى . وتقدم قول الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه لا أثر للقدرة الحادثة وقال خصومه: نفي الأثر عن القدرة يؤدي إلى نفي حقيقة القدرة فإن القدرة فارقت العلم بتأثيره في المقدور ولو أنه كان في عدم التأثير كالعلم لاكتفى الفاعل بعلمه عن القدرة فعلى هذا الكسب هو مقدور القدرة الحادثة عنده. وأما عند القاضي فهو يعني الكسب حال وحكم هو مقدور القدرة الحادثة فيقال له: هذه الحال هي مقدورة للّه تعالى أم ليست بمقدورة فإن لم تكن مقدورة للّه تعالى فهي لا محالة تكون مقدورة للعبد وهو مذهب المعتزلة بعينه وإن كانت مقدورة للّه فلم يكن للعبد شيء البتة وذلك هو مذهب الجبرية بعينه فلا فائدة للتمسك بالحال في هذا المقام قال الشيخ أبو طاهر: وقد غلا أبو المعالي إذ أثبت للقدرة الحادثة أثرا هو الوجود غير أنه لم يثبت للعبد استقلالا بالإيجاد ما لم يستند إلى سبب آخر ثم سلسل الأسباب في سلسلة الترقي إلى الباري جل وعلا المستقل بالإبداع من غير حاجة إلى سبب وقال في بعض كتبه: إن القدرة الحادثة مقدور القدرة القديمة لأنها من أثرها. وقال في “ مدارك العقول “: العبد فاعل على الحقيقة وإن قدرته مؤثرة في إيقاع الفعل ومقدمة عليه، وقال في موضع آخر منه: نحن نقول: بأن قدرتنا الحادثة تؤثر في غير محلها على شرط الاتصال. وقال في الفطامي: إن القدرة الحادثة هي المؤثرة للفعل وشبهها بالعبد في بيع ماله بإذن سيده في البيع قال الشيخ أبو طاهر: وحاصل الأمر أن أبا المعالي كان تارة يثبت أثر القدرة الحادثة وتارة ينفيه هذه نهاية مذاهب الأئمة في هذه المسألة العويصة المشكلة فمن تأملها وكرر النظر فيها علم غموض معانيها وصعوبة مراقيه وملخص الأمر أن من زعم أن لا عمل للعبد أصلا فقد عاند وجحد ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك وابتدع وما بقي مورد التكليف إلا ما يجده العبد في نفسه من الاختيار للفعل وعدمه فإن العبد بين طرفي الاضطرار مضطر على الاختيار واللّه تعالى أعلم هذا أحسن ما وجدته من كلام المتكلمين. وأما كلام الصوفية في هذه المسألة فأكثر من أن يحصى ولكن نشير إلى طرف صالح منه فلعل اللّه تعالى يوضح لنا بعض معانيها حتى يأتينا الكشف على الحق فيها وزوال اللبس إن شاء اللّه تعالى فنقول وباللّه تعالى التوفيق. ذكر الشيخ الأكبر في الباب الثاني والعشرين من “ الفتوحات “: أن صورة مسألة خلق الأفعال صورة لام ألف في حروف الهجاء فإن الرائي لا يدري أي: الفخذين هو اللام حتى يكون الآخر هو الألف ويسمى هذا الحرف الذي هو لام ألف حرف الالتباس في الأفعال فلم يتخلص الفعل الظاهر على يد المخلوق لمن هو ولكن إن قلت: هو للّه صدقت وإن قلت: للمخلوق مع اللّه صدقت. ولولا ذلك ما صح خطاب اللّه تعالى للعبد بالتكليف ولا إضافة العمل إليه بنحو قوله: اعملو ه.

* - وقال الشيخ أيضا في الباب الثاني والعشرين وأربعمائة: إنما أضاف تعالى الأعمال إلينا لأننا محل الثواب والعقاب وهي للّه حقيقة ولكن لما شهدنا الأعمال بارزة على أيدينا وادعيناها لنا أضافها تعالى إلين بحسب دعوانا ابتلاء منه لأجل الدعوى ثم إذا كشف اللّه تعالى عن بصيرتنا رأين الأفعال كلها للّه تعالى ولم نر إلا حسنا فهو تعالى فاعل فينا ما نحن العاملون ثم مع هذا المشهد العظيم لا بد من القيام بالأدب فما كان من حسن شرعا أضفناه إليه خلقا وإلينا محلا وما كان من سئ أضفناه إلينا بإضافة اللّه تعالى فنكون حاكين قول اللّه تعالى وحينئذ يرينا اللّه عز وجل وجه الحكمة في ذلك المسمى سوءا فنراه حسن من حيث الحكمة فيبدل اللّه سيئاتنا حسنات تبديل حكم لا تبديل عين انتهى.* - وقال أيضا في الباب التاسع والسبعين ومائتين: لولا النسبة بين الرب والمربوب يعني رابطة الاستمداد بالحق ما دل العبد على الرب ولا قبل التخلق بأخلاقه قال وبتلك النسبة كان الحق تعالى مكلف عباده بالأمر والنهي وبها بعينها كان المخلوق مكلفا مأمورا منهيا قال فحقق ما نبهناك عليه فإني أظن أنه ما طرق سمعك قط وإن لم تكن كذلك فاتك أدب كثير.* - وقال في الباب السادس والتسعين ومائتين: كنت لم أزل أنفي التجلي الإلهي في الفعل تارة وأثبته أخرى بوجه يقتضيه ويطلبه التكليف إذ كان التكليف بالعمل من حكيم عليم ولا يصح أن يقول تعالى لمن يعلم أنه لا يفعل: افعل إذ لا قدرة له على الفعل وقد ثبت الأمر الإلهي للعبد بالعمل مثل أقيموا الصلاة فلا بد أن يكون له في المنفعل عنه تعلق من حيث الفعل به يسمى قابل وإذا كان كذلك صحت نسبة وقوع التجلي في الفعل فهذا الطريق كنت أثبته وهو طريق في غاية الوضوح يدل على أن القدرة الحادثة لها نسبة تعلق بما كلفت عمله لا بد من ذلك وحاصله أن العبد ما صحت له نسبة الفعل إلا من كون الحق تعالى جعله خليفة في الأرض فلو جرد عنه الفعل بالكلية لما صح أن يكون خليفة ولما قبل التخلق بالأسماء. قال: وهذه الفائدة مما نبهني عليها تلميذي إسماعيل حفظه اللّه تعالى ولما أفادها لي لم يعرف أحد قدر ما دخل عليّ من السرور انتهى.* - وقال في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة: اعلم أنه لولا صحة النسب بكسر النون وتحقيق النسب الصوري بفتحها ما كان للأسباب عين ولا ظهر عندها أثر وأنت تعلم أن استناد العالم أكثره إلى الأسباب فلو لا أن اللّه تعالى حاضر عندها ما استند إليها مخلوق فإنا لم نشاهد أثرا إلا منها وم عقلناه إلا عندها فمن الناس من قال بها ولا بد ومن الناس من قال عندها ولا بد ونحن من جرى مجرانا من أهل التحقيق يقولون عندها وبها أي: عندها عقلا. وبها شهود وحسا، فما طلب الحق تعالى من عباده إلا ما لهم فيه تعمل فلا بد من حقيقة تكون هن تعطي صحة الإضافة في العمل إليك مع كون عملك خلقا للّه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) [الصافات: 96] أي: وخلق ما تعملون قال: وبعض أهل الإشارة جعلوا ما هنا نافية فالعمل للعبد والخلق للّه تعالى وبين الخلق والعمل فرقان في المعنى واللفظ فم أضافه تعالى إليك هو عين ما أضافه تعالى إليه لكن مع اختلاف المعنى وما فعل ذلك إلا ليعلمك أن الأمر الواحد له وجوه: فمن حيثما هو عمل هو لك وتجزى به ومن حيثم هو خلق هو للّه تعالى ، فلا تغفل عن معرفة هذا فإنه لطيف خفي انتهى.(قلت): ونظير ذلك قول عيسى عليه الصلاة والسلام، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] لأن المعنى تعلم ما في نفسي التي هي لك ملك ولا أعلم ما في نفسك التي خلقتها ونفختها في النفس في الموضعين مضافة إلى اللّه تعالى من وجهين: خلقا وإسنادا وإلى العبد إسنادا فقط واللّه تعالى أعلم. قال الشيخ أيضا في الباب التسعين وأربعمائة: اعلم أن الحق تعالى ما أضاف الفعل إلى العبد إلا لكونه تعالى هو الفاعل حقيقة من خلف حجاب جسم العبد فلم يكن الفعل إلا للّه تعالى غير أن من عباد اللّه من أشهده ذلك ومنهم من لم يشهده ذلك قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36] .

فالقسم الذي هداه هو الذي حفظه من دعوى الفعل لنفسه حقيقة وأما القسم الذي لم تحق عليه الضلالة فهو الذي حار ولم يدر وهم القائلون بالكسب وأما من حقت عليه الضلالة فهم القائلون بخلق الأفعال لهم انتهى. وقال في الباب الأحد وثمانين وأربعمائة: اعلم أن مقام الإحسان هو العمل على شهود الحق تعالى ، في حال العبادة وفي ذلك تنبيه عجيب فإنه بتلك المشاهدة يبصر أن الفاعل هو اللّه تعالى ، لا هو فإن العبد إنما هو محل لظهور العمل لا غير.

* - وقال في الباب الثاني والعشرين وأربعمائة: اعلم أن أعمالنا حقيقة للّه وحده وإنما أضافها إلينا ابتلاء واختبارا لينظر تعالى وهو العالم بما يكون قبل أن يكون هل ندعيها لأنفسنا فيقيم الحق تعالى بذلك علينا الحجة أو نضيفها له فنقف موقف الأدب نظير قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [محمد: 31] .

فإنه تعالى إنما قال ذلك لينظر هل نضيف إليه تعالى ما أضافه إلى نفسه مع جهلنا بالكيف أم نرد ظاهر ذلك ونؤوله فنقع في سوء الأدب انتهى. وقال في الباب السابع عشر وثلاثمائة: ومن أراد أن يعرف حقيقة أن اللّه تعالى هو الفاعل من خلف حجاب الخلق فلينظر في خيال الستارة وصورها ومن هو الناطق في تلك الصور عند الصبيان الصغار الذين بعدوا عن حجاب الستارة المضروبة بينهم وبين اللاعب بتلك الصور والناطق فيها فالأمر كذلك في صور العالم كله والناس أكثرهم أولئك الصغار الذين فرضناهم فهناك يعرف من أين أتى عليهم فالصغار في ذلك المجلس يفرحون ويطربون والغافلون يتخذون ذلك هزوا ولعبا والعلماء باللّه يعتبرون ويعلمون أن اللّه تعالى ما نصب هذا إلا مثلا لعباده ليعلموا أن هذا العالم مع اللّه تعالى مثل هذه الصور مع محركها وأن هذه الستارة هي حجاب سر القدر الذي لا يجوز لأحد كشفه وأطال في ذلك.

* - وقال في الباب الخامس عشر وأربعمائة: مم يدلك على أن أفعال العبد للّه حقيقة كونه جعل نفسه عين قوى العبد المحبوب في حديث: كنت سمعه وبصره ويده ورجله ومعلوم أن العمل ليس هو بجسم الإنسان مما هو جسم حس وإنما العمل فيه لقواه فما تصرف في باطن العبد إلا الرب وهذا من أسرار المعرفة وقليل من عثر عليه ولذلك ادّعى المعتزلة أنهم يخلقون أفعال نفوسهم لحجابهم عن شهودهم مقوى قواهم انتهى.* - وقال في الباب التسعين وأربعمائة: في قوله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) [الصف: 3] . اعلم أن للمقت درجات بعضها أكبر من بعض ومن قال قولا ولم يصدق مقت نفسه عند اللّه تعالى أكبر المقت إذا اطلع على ما حرمه من الخير بترك الفعل ولا سيما إذا رأى غيره قد عمل بما سمعه منه وأطال في ذلك، ثم قال: ومعنى الآية بلسان الإشارة: يا أيها الذين آمنوا من وراء حجاب لم تقولون أن الفعل لكم وما هو كذلك فإنه لي فكيف تضيفون إلى أنفسكم ما لا تفعلون حقيقة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصف: 4] . أي:

يقاتلون في سبيله من ينازع الحق في إضافة الأفعال إلى نفسه ويقول: إن الفعل لي كالمعتزلة حتى يرجع إلى الحق ويترك النزاع فيضيف الأفعال كلها إلى اللّه تعالى . وقال في الباب الحادي والستين وثلاثمائة: اعلم أن الإنسان مجبور في عين اختياره عند كل ذي عقل سليم مع أن جميع ما يظهر عنا من الأفعال يجوز أن يفعله الحق تعالى وحده لا بأيدينا ولكن ما وقع ذلك في الشاهد ولا ظهر إلا بأيدينا إذ الأعمال أعراض والأعراض لا تظهر إلا في جسم وهذا إن كان صدقا فقد أنف أهل اللّه أن يصرحوا به وإنما قالوا: الأعمال للّه خلقا وللعبد إسنادا مجازا انتهى.

وسمعت أخي الشيخ زين العابدين المرصفي رحمه اللّه يقول مرارا: اختيار العباد غير مفوض إليهم قطعا وأما قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] . فهو وعيد وليس بتفويض لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً [الكهف: 29] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) [الصافات: 96] . لا يقال: إن كان خالق أفعالهم وحده فكيف يعذبهم لأنا نقول الثواب والعقاب إنما هو على استعمال العبد الفعل المخلوق لا على أصل الخلق فيعاقب عليه لصرف الاستطاعة التي تصلح للطاعة إلى المعصية لا على إحداث الاستطاعة انتهى.

(وقال): الشيخ محيي الدين في باب الوصايا: أنت محل للعمل لا عامل، ولكن لولاك لما ظهر للعمل صورة لأنه عرض. وقال في “ لواقح الأنوار “: أيضا محال من الحكيم أن يقول: امش يا مقعد أو افعل يا من لا يفعل، فإن الحكمة لا تقتضيه فبقي نسبة الفعل إلى الفاعل ينبغي أن يعرف انتهى.(وقال): في الباب الثالث والعشرين وثلاثمائة: اعلم أنه لا أثر لمخلوق في الأعمال التي تظهر على يديه أبدا من حيث التكوين وإنما له فيها حكم لا أثر وأكثر الناس لا يفرقون بين الحكم والأثر، فإن اللّه تعالى إذا أراد إيجاد حركة أو معنى من الأمور التي لا يصح وجودها إلا في موادها لأنها لا تقوم بنفسها فلا بد من وجود محل يظهر فيه تكوين هذا الأمر لا يقوم بنفسه فللمحل حكم في الإيجاد لهذا الممكن وما له فيه أثر فهذا الفرق بين الحكم والأثر إذا تحققته علمت أنه لا أثر للعبد جملة واحدة في الفعل فلماذا يقول: فعلت كذا مع أنه لا أثر له ولذلك يمقت نفسه عند اللّه إذا انكشف حجابه وينكشف له يقين أن ذلك الفعل الذي كان يدعيه ليس هو له حين انقضى زمان التكليف فليس المراد إن اللّه تعالى يمقت العبد على نسبة الفعل لنفسه فإن اللّه قد أضافه إليه وإنما المراد أن العبد يمقت نفسه ولو أنه فعل مستحضرا مشيئة اللّه تعالى في ذلك الفعل لم يمقت نفسه عند اللّه تعالى قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) [الكهف: 23، 24] . فشرع المشيئة ليدفع وقوع مقت العبد نفسه وقال في الباب الثامن والتسعين ومائة: إذا نزهت الحق تعالى عن الشريك فقيده بالشركة في الملك دون الشركة في الفعل، لأجل صحة التكليف فإنه لولا أن للعبد شركة في الفعل ما صح تكليفه، إذ لا بد من شركة العبد في الفعل من خلف حجاب الأسباب فعلم أن من نزه ربه عن الشركة مطلقا فإنه مقام الكمال. وقال في الباب الثاني والسبعين: حكم أفعال العبد مع الحق حكم آلة النجار أو الحائك وللّه المثل الأعلى ونحوها: فإن اللّه يفعل بالواسطة وبلا واسطة قال: وبهذا القدر الذي هو كأنه آلة تعلق الجزاء والتكليف لوجود الاختيار من الآلة ولا دليل في العقل يخرج العبد عن الفعل ولا جاء بذلك نص عن الشارع لا يحتمل التأويل فالأفعال كلها من المخلوقين مقدورة للّه تعالى ووجود أسبابها بالأصالة من اللّه تعالى وليس لمخلوق فيها مدخل إلا من حيث كونه محلا لها. انتهى. وقال في الباب الثامن والتسعين ومائة في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] . أثبت الفعل للعبد بالضمير ونفاه بالفعل الذي هو خلق كما انتفى أبو بكر فلم يظهر له لفظ في القرآن وأثبته ضمير التثنية في القرآن انتهى. وقال في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة على اسمه تعالى الواجد بالجيم: اعلم أنه تعالى لا يصعب عليه شيء طلب إيجاده فإذا طلب من العبد أمرا ولم يقع منه كان تعويقا من قبله تعالى بمشيئة لا عجزا عن تنفيذه مثاله طلب من أبي جهل أن يؤمن باللّه ورسوله وبما جاء به من أحدية الخالق فلم يجبه إلى ما طلبه منه فالظاهر من أبي جهل أن إبايته ما كانت إلا من حيث كونه ليس بواجد لما طلب منه والمنع إنما كان منه تعالى إذ لم يعطه التوفيق وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] فعلم أنه تعالى لو قال للإيمان كن في محل أبي جهل أو خاطبه بالإيمان بلا واسطة لكان الإيمان في محل المخاطب فكونه واجدا إنما هو إذا تعلقت الإرادة بكونه وما عداكن فما هي حضرة الوجدان انتهى. وقال في هذا الباب أيضا في الكلام على اسمه تعالى الخالق: اعلم أن الخلق خلقان: خلق بتقدم الأمر الإلهي كما في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] . فإنه قدمه في الذكر وخلق إيجاد وهو الذي يساوق الأمر الإلهي فيكون عين قوله: كن عين قبول الكائن للتكوين فيكون على الأثر فالفاء جواب الأمر وهي فاء التعقيب وليس الجواب والتعقيب إلا في الرتبة لا في الأمر الباطن خلاف ما يتوهم من أنه لا يتكون إلا عند الأمر بقوله تعالى له: كن ولولا هذا القول لم يكن. والحق الذي نعتقده أنه لا افتتاح للقول كما لا افتتاح لمعلوم علمه تعالى فما حدث إلا ظهور المكون لعالم الشهادة بعد أن كان غيبا في علم اللّه تعالى والسلام. وقال في كتاب “ لواقح الأنوار “ لا يصح لعبد قط عصيان الإرادة الإلهية وإنما يعصي العبد الأمر من خلف حجاب الداعين إلى اللّه تعالى من الرسل وأتباعهم من العلماء قال تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل: 40] . فما وقع العبد في تخلفه عن امتثال أمر واجتناب نهي إلا إذا كان الأمر والنهي على لسان الوسائط من الخلق كما إذا قال الرسول أو نائبه للناس: صلوا أو صوموا فقد يقع المأمور به من العبد المأمور وقد لا يقع وأم إذا قال الحق تعالى لعبده من غير واسطة كن مصليا أو صائما فإنه يقع ولا بد وتأمل قوله تعالى على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم: “ أقيموا الصلاة واصبروا وصابرو ورابطوا وجاهدوا، ولا يقع من بعض الناس شيء من ذلك لتوقف امتثالهم على الإرادة وهي لم ترد لهم امتثال الأمر فكأنه تعالى قال لهم حينئذ اخلقوا بأنفسكم من غير إرادتي وليس من قدرتهم ذلك فكان المتعلق بهم جسم كن لا روحها فكانت كالميتة يحرم عليهم استعمالها بخلاف ما إذا تعلق بهم كن الحية الذي هو الأمر الإلهي بلا واسطة فإنه يوجد عين الجهاد والرباط والصلاة وغيرها من أفعال العباد في حين توجه الإذن لهم وليس من شأن الأفعال أن تقوم بنفسها وإلا كانت الصلاة تظهر في غير مصل والجهاد في غير مجاهد وذلك لا يصح فلا بد من ظهورها فيمن ظهرت عنه فإذا ظهر ذلك فيمن ظهرت عنه من المصلي أو المجاهد أو نحوهما نسب الفعل إلى العبد وجازاه الحق تعالى عليه فضلا منه أو عدلا ولولا أن العمل نفسه كان محلا للتنعم أو التألم لكان هو أولى بالجزاء ولكن لما كان ليس محلا لذلك جعل اللّه تعالى الجزاء لأقرب نسبة إليه وهو العبد الذي هو الآلة قال: ولولا هذه النسبة التي جعلها الحق تعالى للعبد لكان ذلك قد حافى الخطاب والتكليف ومناهاة للحسن وكان لا يوثق بالحسن في شيء وقد أطال الشيخ الكلام على ذلك في الباب السادس والثمانين ومائتين. وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: العبد محل ظهور الأفعال كالباب الذي يخرج منه الناس فليس الناس متولدين من نفس الباب وإنما ظهر بروزهم منه لا غير إذ الأعضاء الفعالة في الظاهر أبواب للحركات الربانية المستورة إذ الأكوان كلها سترة وهو الفاعل من خلف حجاب بهذا الستر فقوم لا يشعرون بأن اللّه تعالى هو الفاعل وهم المعتزلة وقوم يشهدون ويشعرون بذلك وهم الجبرية غلب عليهم شهود الفعل للّه وحده ولم يتسع نظرهم حتى يضيفوه للعبد كما أضافه الحق تعالى إليه فأخطأوا الشريعة وقوم لا يشهدون ويشعرون وهم الأشعرية منهم حجاب القول بالكسب عن الشهود وكل من هؤلاء الطوائف الثلاث على بصره غشاوة ولا تزول عنهم تلك الغشاوة إلا بالكشف.* - قال: ولا ينبغي أن يقال: العبد مجبور في عين اختياره وإن كان ذلك القول صحيحا لأن في ذلك سوء أدب ويرجع إلى رائحة إقامة الحجة على الحق جل وعل ه. وسيأتي بسط ذلك في المبحث عقبه. وقال في باب الأسرار من “ الفتوحات “: ما طلب الحق تعالى من عباده أن يستعينوا به في عباداتهم وغيرها إلا لينبههم على عجزهم عن الاستقلال بالأفعال وكان الإمام الجنيد رحمه اللّه تعالى يقول: “ إياك أن تقف في حضرة شهود الفعل للّه تعالى وحده دون عباده فتقع في مهواة من التلف ولا ترى لك من ذلك قط ذنبا فتهلك مع الهالكين وفي ذلك هدم للشرائع كلها “ انتهى.(فإن قلت): فما منشأ الخلاف في مسألة خلق الأفعال بين الفرق.(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والستين: إن منش الخلاف بينهم كونهم لم يدروا لماذا يرجع ذلك التمكن الذي أعطاه اللّه تعالى للعبد ووجده من نفسه حال الفعل هل هو راجع إلى كون القدرة الحادثة لها فينا أثر في تلك العين الموجودة عن تمكننا أو عن الإرادة المخلوقة فينا فيكون التمكن أثر الإرادة لا أثر القدرة الحادثة فعلى ذلك ينبني كون الإنسان مكلفا لعين التمكين الذي يجده من نفسه ولا يحقق بعقله لماذا يرجع ذلك التمكين هل هو لكونه قادرا أو لكونه مختار وإن كان على قول بعضهم هو مجبور في اختياره ولكن بذلك القدر من التمكن الذي يجده من نفسه صح أن يكون مكلفا ولهذا قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّ ما آتاها [الطلاق: 7] فقد أعطاها أمرا وجوديا ولا يقال: أعطاها لا شيء. وقال في الباب الأحد وتسعين وثلاثمائة في قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] . اعلم أن في هذه الآية إثبات القتل والرمي لمن نفاه عنه ثم إنه لم يثبت على الإثبات بل أعقب الإثبات نفيا كما أعقب النفي إثباتا بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وبقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى فم أسرع ما نفى وما أسرع ما أثبت لعين واحدة وإيضاح ذلك أن اللّه تعالى قال: فاقتلو المشركين فأظهروا أمرا وآمرا ومأمورا في هذا الخطاب فلما وقع الامتثال وظهر القتل بالفعل من أعيان المحدثات، قال: ما أنتم الذين قتلتموهم بل أنا قتلتهم فأنتم لن بمنزلة السيف لكم أو أي آلة كانت للقتل كما أن القتل وقع في المقتول بآلة ولم نقل فيها إنها القاتلة بل الضارب هو القاتل فكذلك الضارب بالنسبة إلينا ليس هو القاتل بل هو مثل السيف بالنسبة إليه هو فافهم. وقال في باب الأسرار: ما أجهل من قال: إن اللّه تعالى لا يفعل بالآلة وهو يقرأ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] فتراه يكفر بما هو به مؤمن هذا هو العجب العجاب فالسيف آلة للعبد والعبد والسيف آلة له تعالى انتهى. وقال في الباب الخمسين: اعلم أن الحق تعالى ما كلفنا إل بعد أن جعل لنا قدرة نجد أثرها في نفوسنا تعجز عنها العبارة وإذا فقدت لم يكلفن كما لم يكلف الزمن القيام في الصلاة وهذه القدرة هي التي أظهرها النفخ الإلهي في الإنسان بواسطة الملك فلو لا هذه القدرة ما توجه علينا التكليف ولا قيل لأحدنا قل وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فإن في الاستعانة إثبات جانب من الفعل للعبد فصدقت المعتزلة في إضافتها الأفعال إلى العبد من وجه واحد بدليل شرعي وأخطأت في إضافتها الأفعال إليه بحكم الاستقلال وصدقت الأشعرية في إضافتها الأفعال إلى اللّه خلقا وإلى العباد كسبا من الوجهين بدليل شرعي وعقلي انتهى. وقال في الباب الثاني والسبعين من “ الفتوحات “: اتفق النظار كلهم على أن خلق القدرة المقارنة للفعل من العبد للّه وحده وإنها ليست من كسب العبد ولا من خلقه فكل إنسان معه اختيار لا أن له من نفسه اختيارا استقلالا. وقال في باب الأسرار: ما أمر اللّه تعالى عباده بنصره إلا وأعطاهم الاشتراك في أمره فمن قال: لا قدرة لي ويعني: الاقتدار فقد رد الأخبار وكان ممن نكث الحق وتكليف الحق تعالى ، بالميت انتهى. وقال في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة في الكلام على اسمه تعالى الخافض: اعلم أن حضرة الخفض لا يتصرف الحق تعالى فيها تصرف المحدث إلا إذا تنزل إليها فإذا تنزل إليها أضفنا إليه أحكام تلك الحضرة فليس سلطان حضرة الخفض في المحدث إلا الإتيان ولو كان قرآنا فإنه حدث عندهم بإتيانه ألا ترى حروف الخفض هي الخافضة للأسماء مع أنها دونها في الدرجة وعلو الأسماء فيها بقول العبد: أعوذ باللّه فالباء خافضة ومعمولها كلمة اللّه فهي التي تخفض الهاء من الكلمة فأثرت فيما هو أعلى منها الذي هو الأسماء فالعالم وإن كان في مقام الخفض في الرتبة فبعضه لبعض كأدوات الخفض في اللسان لا يخفض المتكلم الكلمة إلا بها كذلك ما يفعله الحق تعالى ، بواسطة الأسماء الإلهية لا بد من التنزل إلى رتبة الخفض ليتصرف في أدوات الخفض ثم إن حروف الخفض إذا دخل بعضها على بعض صار المدخول عليها منها أسماء وزال عنه حكم الحرفية فيرجع مخفوضا بالإضافة كسائر الأسماء وأبقوا عليه البناء حتى لا يتغير عن صورته لأن الخافض أصالة لا يكون مخفوضا حقيقة فهو هنا مخفوض المعنى غير مخفوض الصورة بما هو عليه من البناء مثل قوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: 4] قال: وهكذا يكون الأمر في الطريق التي نحن فيها إذا أثر المحدث في المحدث لم يشركه أثر فيه غير أن يكون محدثا فالحدوث له بمنزلة البناء للحرف والأثر فيه للمؤثر ولا مؤثر بالإجماع إلا اللّه فهذا فعل الخلق ظهر بصورة فعل الحق تعالى فانفعل المنفعل بصورة الحق قال: ومن هذه الحضرة قال تعالى: كنت سمعه الذي يسمع به. وقال: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] مع قوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99] ه. وقال في باب الأسرار: ما في الوجود إلا أفعاله مع أنه حرم الفواحش فسلم ولا تناقش انتهى. وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي اللّه تعالى عنه يقول: في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النساء: 79] . أي: إيجادا وإسنادا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] ، يعني:

إسنادا لا إيجادا. وتأمل يا أخي قول السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [الشعراء: 80] كيف لم يقل وإذا أمرضني بل أضاف المرض إلى نفسه حيث كان مكروها للنفس وأضاف الشفاء إلى اللّه لكونه محبوبا للنفس وكذلك تأمل قول أيوب عليه الصلاة والسلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) [الأنبياء:

83] ، ولم يقل: أمسستني الضر فارحمني بل حفظ أدب الخطاب وكذلك تأمل قول الخضر عليه الصلاة والسلام، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79] فأضاف العيب إلى نفسه لما كان العيب مكروها وانظر كيف أضاف الأمر المحبوب للنفس إلى اللّه تعالى في قوله تعالى: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما [الكهف: 82] .(فإن قيل): فما الجواب عن قول الخضر عليه الصلاة والسلام، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما [الكهف: 81] بنون الجمع الشاملة للعبد ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الحادي والثلاثين من “ الفتوحات “ أن قوله: أردنا تحته أمران: أمر إلى الخير وأمر إلى غيره في نظر موسى وفي مستقر العادة فما كان من خير في هذا الفعل فهو للّه من حيث ضمير النون وما كان فيه من نكر في ظاهر الأمر في نظر موسى في ذلك الوقت كان للخضر من حيث ضمير النون فعلم أن لنون الجمع هنا وجهين لما فيها من الجمع وجه إلى الخيرية به أضاف الأمر إلى اللّه تعالى ووجه إلى العيب به أضاف العيب إلى نفسه ولو أن الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى كان يعرف هذين الوجهين اللذين علمهما الخضر ما كان صلى اللّه عليه وسلم، قال له: بئس الخطيب أنت وقد جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بين نفسه وبين ربه بضمير واحد فقال: ومن يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر اللّه شيئا وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وكذلك جمع الحق تعالى نفسه مع الملائكة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] . فتأمل يا أخي فيما ذكرناه لك من آداب الأنبياء تجدهم أكثر أدبا من سائر الخلق وقد قالوا لأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه، لما مرض ألا ندعو لك طبيبا فقال: الطبيب أمرضني فهو وإن شهد الأمر من اللّه تعالى لم يراع أدب اللفظ كما راعاه الخليل عليه الصلاة والسلام، وأيوب انتهى.

(قلت): الذي نراه أن السيد أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه لم يقل ما قال من إسناد المرض إلى اللّه جهلا بمقام الأدب مع اللّه، وإنما ذلك تنزل لعقل السائل له أن يدعو له طبيبا لما رأى من عدم شهود مقام الخليل الأعظم عليه الصلاة والسلام، واللّه أعلم. وقال في الباب الأحد وعشرين ومائة: اعلم يا أخي أن مسألة خلق الأفعال وتعقل وجه الكسب منها من أصعب المسائل قال: وقد مكثت دهري كله أستشكله ولم يفتح لي بالحق فيها على ما هو الأمر عليه إلا ليلة تقييدي لهذا الباب في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وكنت قبل أن يفتح علي بذلك يعسر علي تصور الفرق بين الكسب الذي يقول به قوم وبين الخلق الذي يقول به قوم وما كنت أعتقد إلا الخبر المحض والآن قد عرفت تحقيق هذه المسألة على القطع الذي لا أشك فيه وعرفت الفرق بين المذاهب الثلاثة فيها وذلك أن الحق تعالى أوقفني بكشف بصيرتي على المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مخلوق إذ لم يكن ثم إلا اللّه وحده، وقال لي: انظر هل هنا أمر يورث اللبس والحيرة قلت: لا يا رب، فقال لي: هكذ جميع ما تراه من المحدثات ما لأحد فيه أثر ولا شيء من الخلق فأنا الذي أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب فتتكون عن أمري خلقت النفخ في عيسى وخلقت التكوين في الطائر قلت له: يا رب فنفسك إذن خاطبت بقولك: افعل ولا تفعل فقال لي: إذ طالعتك بشيء من علمي فالزم الأدب ولا تحاقق فإن الحضرة لا تقبل المحاققة فقلت له: يا رب وهذا عين ما نحن فيه ومن يحاقق ومن يتأدب إلا أن خلقت الأدب والمحاققة فإن خلقت المحاققة فلا بد من وقوعها وإن خلقت الأدب فلا بد من وجوده قال:

هو ذاك فاسمع وانصت. قلت: ذلك لك يا رب، أخلق السمع حتى أسمع والإنصات حتى أنصت وما يخاطبك الآن سوى ما خلقت وحدك فقال لي: ما أخلق إلا ما علمت وما علمت إلا ما هو المعلوم عليه حين تعلق به علمي في الأزل ولي الحجة البالغة انتهى. وسيأتي إيضاح ذلك في المبحث بعده إن شاء اللّه تعالى فتأمل يا أخي في هذه النقول ولكن مع اجتناب جميع ما يسخط اللّه عز وجل فإن القلب المظلم من لازمه الاستشكال في الأمور الواضحة فضلا عن مثل هذه المسألة وقد قال الإمام الغزالي رحمه اللّه: هذه مسألة لا يزول إشكالها في الدنيا وهو معذور في قوله: واللّه تعالى أعلم.

(خاتمة): إن قيل: ما المراد بإضافة الخلق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، مع أن عيسى في ذلك عبد مخلوق الذات ومن شأن المخلوق أن لا يخلق ولا يقدر على ذلك ؟(فالجواب): قد صرح القرآن العظيم بأن خلق عيسى عليه الصلاة والسلام، للطير إنما كان بإذن اللّه تعالى فكان عيسى في ذلك كالملك الذي يصور الجنين في الرحم بإذن اللّه، فكان خلقه عليه الصلاة والسلام، للطير من جملة العبادة التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى لإذنه تعالى له في ذلك قال تعالى: رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُو مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] .

* - قال الشيخ محيي الدين في الباب السابع والثلاثين وثلاثمائة في تفسير هذه الآية: اعلم أن لفظة ما عامة لأنها لفظة تطلق على كل شيء ممن يعقل ومما لا يعقل كذ قال سيبويه وهو المرجوع إليه في هذا الفن فإن بعض المنتحلين للفن يقولون: إن لفظة ما تختص بما لا يعقل ولفظة من تختص بمن يعقل وهو قول غير محرر فقد رأينا في كلام العرب جمع ما لا يعقل جمع من يعقل وإطلاق ما على ما يعقل كهذه الآية فدخل عيسى في هذا الخطاب وإن كان يعقل لأنه لا يقدر يخلق شيئا استقلالا، قال: وقول سيبويه أولى والسلام. وتقدم قوله تعالى للشيخ قبيل الخاتمة خلقت النفخ في عيسى وخلقت التكوين في الطائر إلى آخره وهذا أمر لا إشكال فيه واللّه تعالى أعلم.

(فإن قيل): فإذا أعطى الحق تعالى بعض خواصه في هذه الدار حرف كن هل يتصرف بها أم الأدب تركه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابع والسبعين ومائة: إن من أدب أهل اللّه تعالى إذا أعطاهم اللّه تعالى التصرف بلفظة كن في هذه الدار لا يتصرفون بها لأن محلها الدار الآخرة ولكنهم جعلوا مكان لفظة كن بسم اللّه ليكون التكوين للّه تعالى ظاهرا كما هو له تعالى باطنا.

(فإن قيل): إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر الخلق أدبا وقد استعملها في بعض الغزوات.(فالجواب): إنما استعملها صلى اللّه عليه وسلم، في غزوة تبوك بحضرة أصحابه بيانا للجواز ولأنه كان مأذونا له في إظهار المعجزات وهذه المسألة من قبيلها فقال صلى اللّه عليه وسلم: “ كن أبا ذر “ فكان أبا ذر وقال لعسيب النخل: كن سيفا فكان سيفا.(فإن قلت): فهل يصح لأحد من الخلق أنه يخلق إنسانا بإذن اللّه تعالى أم غاية أمر الخلق أن يخلقوا الطير كما وقع لعيسى عليه الصلاة والسلام، في خلقه الخفاش ؟

(فالجواب): أن هذا السؤال أورده الشيخ محيي الدين في الباب الخامس والثلاثين وثلاثمائة ولفظه: إذا خلق الإنسان بإذن اللّه تعالى إنسانا لو فرض فهل هو إنسان أو حيوان في صورة جسم إنسان لأن اللّه تعالى أعجز الخلق كلهم أن يخلقو ذبابا ولو اجتمعوا له فضلا عن صورة إنسان التي هي أكمل الصور ولكن قد ذكر لنا في الفلاحة النبطية أن بعض العلماء بعلم الطبيعة كون من المني الإنساني بتعفين خاص على وزن مخصوص من الزمان والمكان إنسانا بالصورة الآدمية وأقام سنة يفتح عينه ويغلقها ولا يتكلم ول يزيد على ما يتغذى به شيئا فعاش سنة ومات قال الشيخ: فلا أدري أكان إنسانا حكمه حكم أخرس أو كان حيوانا في صورة إنسان انتهى واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!