موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السابع عشر: في معنى الاستواء على العرش

اعلم أن هذا المبحث من عضال المباحث، فلنبسط يا أخي الكلام فيه بنقول المتكلمين والعارفين حتى يتجلى لك وجه الحق فيه إن شاء اللّه تعالى فنقول وباللّه التوفيق: قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في رسالته يجب اعتقاد أن اللّه تعالى ما استوى على عرشه إلا بصفته الرحمانية كما يليق بجلاله كما قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ولا يجوز أن يطلق على الذات العلي أنه استوى على العرش وإن كانت الصفة لا تفارق الموصوف في جانب الحق تعالى لأن ذلك لم يرد لنا التصريح به في كتاب ولا سنة فلا يجوز لنا أن نقول على اللّه ما لا نعلم فكما أنه تعالى استوى على العرش بصفته الرحمانية كذلك العرش وما حواه به استوى واعلم أن غاية العقل في تنزيه الباريء عن كيفية الاستواء أن يجعل ذلك استواء تدبير كما استوى الملك من البشر على مملكته كما قالوا في استشهادهم بقولهم: قد استوى بشر على العراق. وأين استواء البشر الذي هو مخلوق من استواء البارىء جل وعل فتأمل وسيأتي بسط ذلك في الخاتمة آخر المبحث الآتي بعده إن شاء اللّه تعالى

وقد أنشد الشيخ محيي الدين في الباب الثالث عشر من "الفتوحات":

العرش واللّه بالرحمن محمول * وحاملوه وهذا القول معقول

وأي حول لمخلوق ومقدرة * لولاه جاء به عقل وتنزيل

وأطال في ذلك (فإن قلت) فما وجه الحكمة في كون الاستواء لم يكن يجيء في الكتاب والسنة إلا للاسم الرحمن (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين ومائة أن وجه الحكمة في ذلك إعلام الحق تعالى لنا أنه لم يرد لن بالإيجاد إلا رحمة الموجودين كل أحد بما يناسبه من رحمة الإمداد أو رحمة الإمهال أو عدم المعاجلة بالعقوبة لمن استحقها ونحو ذلك فعلم أن الاسم الرحمن من أعظم الأسماء حكما في المملكة ويليه الاسم الرب ولذلك لم يرد لنا أن الحق تعالى ينزل إلى سماء الدنيا إلا بالاسم الرب المحتوي على حضرات جميع المربوبين انتهى. (فإن قلت) فما الحكمة في إعلامه تعالى بأنه استوى على العرش بناء على أن المراد بالعرش مكان مخصوص في جهة العلو لا جميع الأكوان (فالجواب) كما ذكره الشيخ في الباب السبعين وثلاثمائة أن الحكمة في ذلك تقريب الطريق على عباده وذلك أنه تعالى لم كان هو الملك العظيم ولا بد للملك من مكان يقصده فيه عباده لحوائجهم وإن كانت ذاته تعالى لا تقبل المكان قطعا اقتضت المرتبة له أن يخلق عرشا وأن يذكر لعباده أنه استوى عليه ليقصدوه وبالدعاء وطلب الحوائج فكان ذلك من جملة رحمته لعباده والتنزل لعقولهم ولولا ذلك لبقي صاحب العقل حائرا لا يدري أين يتوجه بقلبه فإن اللّه تعالى خلق العبد ذا جهة من أصله فلا يقبل إلا ما كان في جهة ما دام عقله حاكما عليه فإذا من اللّه تعالى عليه بالكمال واندرج نور عقله في نور إيمانه تكافأت عنده الجهات في جناب الحق تعالى وعلم وتحقق أن الحق تعالى لا يقبل الجهة ولا التحيز وأن العلويات كالسفليات في القرب منه تعالى قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] وقال صلى اللّه عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فعلم أن الشرع ما تبع العرف إلا في حق ضعفاء العقول رحمة بهم

(فإن قلت) فإذن كل ما كان دنوّ من حضرة الحق تعالى فهو عروج وإن كان في السفليات.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب التاسع والثمانين وثلاثمائة: نعم لأن الحق تعالى من حيث هو لا يتقيد بالجهات.

(فإن قلت): فما الحكمة في إخباره تعالى لنا بأنه تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا مع أنه تعالى لا تقبل ذاته النزول ولا الصعود.

(فالجواب): الحكمة في ذلك: فتح باب تعليم التواضع لنا بالنزول إلى مرتبة من هو تحت حكمنا وتصريفنا وإعلامنا بأنه كما لا يلزم من الاستواء إثبات المكان كذلك لا يلزم من إثبات الفوقية إثبات الجهة وأيضا فإن إعلامه تعالى لن بأنه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل هل من مريض هل من مستغفر ونحو ذلك الإذن لعباده في مساعدته بالسؤال وطلب النوال ومناجاته بالأذكار والاستغفار كم أنه تعالى يسامرهم كذلك بقوله: هل من سائل إلى آخر النسق فيقول لهم: ويقولون له: ويسمعهم ويسمعونه من طريق الإلهام كأنهم في مجلس الخطاب وللّه المثل الأعلى هذ معنى النزول عند أهل العقول انتهى. واعلم يا أخي أن صفة الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا والفوقية للحق ونحو ذلك كله قديم والعرش وما حواه مخلوق محدث بالإجماع وقد كان تعالى موصوفا بالاستواء والنزول قبل خلق جميع المخلوقات كم أنه لم يزل موصوفا بأنه خالق ورازق ولا مخلوق ولا مرزوق فكان قبل العرش يستوي على ماذا وقبل خلق السماء ينزل إلى ماذا فانظر يا أخي بعقلك فما تتعقله في معنى

الاستواء والنزول قبل خلق العرش والسماء فاعتقده بعد خلقهما وأنا أضرب لك مثلا في الخلق تعجز عن تعقله فضلا عن الخالق وذلك أن كل عرش تصورت وراءه خلاء أو ملأ من جهاته الست فليس هو عرش الرحمن الذي وقع الاستواء عليه فلا يزال عقلك كلما تقف على شيء يقول لك فما وراءه فإذا قلت له: خلاء يقول لك: فما وراء الخلاء وهكذا أبد الآبدين ودهر الداهرين فلا يتعقل العقل كيفية إحاطة الحق تعالى للوجود أبدا فقد عجز العقل واللّه في تعقل مخلوق فكيف بالخالق وكل من ادّعى العلم باللّه تعالى على وجه الإحاطة به كذبناه وقلنا له: إن كنت صادقا فتعقل لنا شيئا لم يخلقه اللّه تعالى .

فإن اللّه تعالى خالق غير مخلوق بإجماع جميع الملل وقول الشبلي إن الحق تعالى إذا أحيطهم به أحاطوا به فرض محال لأنه لم يبلغنا وقوعه لأحد وكيف تصح الإحاطة لمخلوق على الوجه المعقول في حق الخلق اللهم إلا أن يريد الشبلي بالإحاطة الإحاطة بأنه لا تأخذه الإحاطة فلا بدع حينئذ كما بسطنا الكلام عليه في كتاب الأجوبة عما يتوهم في جناب الحق.

(فإن قلت): فإذن الحق تعالى لا يحيط هو بذاته لعدم تناهيها على حد ما تتعقله الخلق من الإحاطة والتناهي.

(فالجواب): نعم. وهو كذلك كما أوضحه الشيخ في الباب التاسع والثمانين وثلاثمائة فقال: اعلم أن من القول المستهجن قول بعض النظار إن الحق تعالى لا يحيط بنفسه لأن وجوده تعالى لا يتناهى ووجوده عين ماهيته ليس غيرها وم لا يتناهى لا يكون محاطا به إلا أنه تعالى لا يتناهى فقد أحاط تعالى علما بأنه لا تناهي له فضلا عن العالم قال الشيخ: وهذا القول وإن كان مستهجنا من حيث اللفظ فله وجه إلى الصحة وذلك أنه تعالى يعلم من ذاته أنه لا يقبل الإحاطة ولا التحيز لانتفاء البدء والنهاية ولمباينته لخلقه في سائر الأحكام.

* - قال: وهذه المسألة مزلة قدم فإن غالب الناس إذا سمع أحدا يقول: إن الحق لا يحيط بذاته يبادر إلى الإنكار عليه ويقول: بل هو محيط بها على وجه الإحاطة التي تتعقلها الخلق وتعالى اللّه عن ذلك انتهى.

وقد نبه على ذلك أيضا الشيخ عبد الكريم الجيلي في الباب الخامس والعشرين من كتابه المسمى " بالإنسان الكامل " ولفظه: اعلم أن ماهية الحق تعالى غير قابلة للإدراك والغاية فليس

لكماله تعالى غاية ولا نهاية فهو سبحانه يدرك ماهيته ويدرك أنها لا تدرك في حقه ولا حق غيره أعني يدركها بعد أن يدركها أنها لا تقبل البدء ول النهاية فإن نفي البدء والنهاية درجة من درجاته التي تميز تعالى عن العالم بها قال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر: 15] .

كأنه تعالى يقول: ليس لي نهاية في نفسي حتى يتعلق بها علمي

* - قال: وقولنا إن الحق تعالى يدرك ماهية ذاته وصف له بالعلم والقدرة ونفي الجهل وقولنا: ويدرك أنها لا تدرك نفي للتشبيه وإثبات للتنزيه

* - قال: ومن هنا ينقدح لنا الجواب عن قول الإمام الغزالي رحمه اللّه: ليس في الإمكان أبدع مما كان. أي: لأن كل ما كان من هيئات الممكنات وأحوالها قد تعلق به العلم القديم والعلم القديم لا يقبل زيادة أبدا فكذلك معلومه فصح أنه ليس في علم الحق أبدع من هذا العالم من حيث كونه في رتبة الحدوث لا يرقى قط لرتبة الخالق فلو خلق تعالى ما خلق أبد الآبدين لا يخرج عن رتبة الحدوث هذ مراد الغزالي رحمه اللّه انتهى.

(فإن قلت): فإذا كانت ذات الحق تعالى تجل عن الاستواء والنزول إلى الكرسي وإلى سماء الدنيا لكونه تعالى قديما وهذه الأمور محدثة لها أول وآخر فم معنى قوله تعالى:

وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] . مع أن في معنى الحديث كل شيء خلق من الماء فشمل العرش وما حواه.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب السابع عشر وثلاثمائة: إن على ههنا بمعنى في أي كان العرش في الماء بالقوة فإن الماء أصل الموجودات كلها فهو له كالهيولى لجميع ملك اللّه تعالى إذ هو عرش الحياة فعلم أن العرش هنا كناية عن جميع ملك اللّه تعالى وكان حرف وجودي أي الملك كله موجود في الماء.

(فإن قلت): فما معنى حديث: " كان ربنا في عماء ما فوقه هواء فإنه تحته هواء ". فإنه أثبت له صفة الفوق والتحت مع أن ما في الحديث نافية لا موصولة فليس فوق العماء الذي كان الحق تعالى فيه هواء ولا تحته هواء وذلك ليخالف مرتبة المحدثات فإن العماء عند العرب هو السحاب الرقيق وكيف أجابه صلى اللّه عليه وسلم، بما ذكر مع أن السائل إنما قال يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق فم هذا العماء إن كان مخلوقا فالسؤال باق من السائل.

(فالجواب): أن جواب ذلك لا يذكر إلا مشافهة لأهله لأن الكتاب يقع في يد أهله وغير أهله واللّه أعلم.

(فإن قلت): فإذا قلتم: إن العرش لا وراء له لأنه اسم لمجموع الكائنات فأين الخلاء الذي يكون فيه الحافون من حول العرش يوم القيامة.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثامن والتسعين ومائة: أنه لا فرق بين كونهم حافين من حول العرش ولا بين الاستواء على العرش في عدم التعقل ويكفينا الإيمان في مثل ذلك.

(فإن قلت): فما وجه تسمية العرش بثلاثة أسماء عظيم وكريم ومجيد. فهل هي مترادفة أم لا.

(فالجواب): أنها غير مترادفة من حيث الإحاطة، عظيم لكونه أعظم الأجسام ومن حيث إنه أعطى ما فوقه لمن هو في حيطته وقبضته كريم ومن حيث نزاهته من أن يحيط به غيره من الأجسام فهو مجيد لشرفه على سائر الأجسام واللّه أعلم.

فهذا ما وجدته من "الفتوحات" المكية. وقد رأيت في كتاب " سراج العقول " للشيخ أبي طاهر القزويني رحمه اللّه كلاما نفيسا في مسألة الاستواء على العرش وها أنا ملخص لك عيونه فأقول وباللّه التوفيق: قال في الباب الثالث من كتابه المذكور في قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه: 5]

اعلم أن اللّه تعالى قد خلقنا من الأرض في الأرض وخلق فوقنا الهواء وخلق من فوق الهواء السماوات والأرض طبقا فوق طبق وخلق فوق السماوات الكرسي وخلق فوق الكرسي العرش العظيم الذي هو أعظم المخلوقات ولم يبلغنا في كتاب ولا سنة أن اللّه تعالى خلق فوق العرش شيئا وأما ما جاء من ذكر السرادقات والشرفات والأنوار فهو من جملة العرش وتوابعه فقوله جل جلاله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه: 5]

أي: استتم خلقه على العرش فلم يخلق خارج العرش شيئا وجميع ما خلق ويخلق دنيا وأخرى لا يخرج عن دائرة العرش لأنه حاو لجميع الكائنات ومع ذلك فلا يزن في مقدوراته ذرة فأنى يكون مستقره

* - قال: وأولى ما يفسر القرآن بالقرآن. قال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى [القصص: 14] .

أي: استتم شبابه وقال تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ

شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الفتح: 29] أي: استتم ذلك الزرع وقوي وإذا احتملت الآية أو الحديث وجها صحيحا سالما من الإشكال وجب المصير إليه ولكن النفوس تميل إلى الخوض في الشبهات وقد اختلف آراء السلف والخلف في معنى آية الاستواء وذكروا في تفسيرها كل رطب ويابس وضلت المشبهة بذلك حتى أداهم إلى التصريح بالتجسيم واقتضى الأمر بين الأئمة إلى التكفير والتضليل والضرب والشتم والقتل والنهب والألقاب الفاضحة وللّه تعالى في ذلك سر مع أن الآية عما فهموه بمعزل كما ذكرنا قال: وإيضاح ذلك أن اللّه تعالى ما ذكر الاستواء على العرش في جميع القرآن إلا بعد ذكر خلق السماوات والأرض وذلك في ستة مواضع: (الأول): في سورة الأعراف: [54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. (الثاني): في سورة يونس: [3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. (الثالث): في سورة طه: [4، 5] تَنْزِيلً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5). (الرابع): في سورة الفرقان [59]: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ. (الخامس): في سورة السجدة: [4] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ. (السادس): في سورة الحديد: [4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ.

(والمعنى): في هذه الآيات كلها ثم استوى الخلق على العرش أي: استتم خلقه بالعرش فما خلق بعد العرش شيئا كما يقال: استقر الملك على الأمر الفلاني واستقر الأمر على رأي القاضي أي: ثبت وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال: استوى استقر انتهى. وهو بمعنى استتم واستكمل قال: وأصل الاستواء في العربية المساواة قال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] . وقد جعل اللّه تعالى لكل شيء نهاية وكمالا. فإذا بلغ حد الكمال قيل:

استوى ومنه استواء الشمس واستواء الميزان وإذا تمكن الجالس على موضعه واستقر يقال:

استوى قال تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: 28] . وقال لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف: 13] . وقال في ذكر السفينة وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] ولما أكمل اللّه

تعالى خلق السماوات والأرض وأتمه قال فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] وقال في تمام خلق آدم وتصويره فَإِذا سَوَّيْتُهُ [الحجر: 29] وقال وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس: 7] فعلى هذا الأصل يكون تفسير الاستواء في الآيات السابقة بالمساواة أحق وأصدق وذلك كما يقال استوى أمر فلان أي: استتم واستكمل قال: ولما كان الفعل الماضي والمستقبل يدلان على المصدر جاز أن يخرج للمصدر المقدر فعلا ظاهرا كان أو كناية فالظاهر نحو قولك ساومت زيدا متاعه فاستوى على العشرة أي: استوى السوم والقيمة على العشرة والكناية نحو قوله:

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [الشورى: 11] . أي: في الجعل ومنه قول الشاعر:

إذا نهى السفيه جرى إليه

أي: إلى السفه فلما دل لفظ السفيه على السفه أعاد الكناية إليه فكذلك حكم هذه الآيات قال ومثاله في الكلام: بنى زيد بيته فاستوى على السقف أي: استوى بناؤه على السقف يعني:

استقر البناء على سقفه واستتم به وكذلك معنى خلق السماوات والأرض في الآيات لما يتراءى فاستقر الخلق على العرش واستتم به وما خلق فوقه شيئا.

(فإن قيل): فما قولك في قوله تعالى في سورة طه: [5] الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.

وفي سورة الفرقان: [59] ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ.

(فالجواب): أن الشبهة إنما وقعت فيهما من جهة النظم وإلا فالقصة في جميع الآيات واحدة وللنظم طرق عجيبة في القرآن فأما قوله في طه: تَنْزِيلً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5).

فإن الرحمن تفسير وإيضاح لقوله: ممن، أي هذا الخالق هو الرحمن ثم قال: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] أي: استوى خلقه وفاعل استوى هو المصدر الذي يدل عليه لفظ خلق ويسمى ذلك بالضمير المستتر فوقع استوى آخر الآية لأن مقاطع آيات هذه السورة على الألف المقصورة وأما قوله في سورة الفرقان: [59] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ.

ففيه تقديم وتأخير في الآية تقديره الذي خلق السماوات والأرض هو الرحمن ثم استوى على العرش، فالرحمن مبتدأ خبره مقدم عليه وذلك

الخبر هو قوله: الذي خلق كما تقول الذي جاءك زيد. وقوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان: 59] اعتراض في الكلام.

(والمعنى): كما قلنا: استوى خلقه على العرش. يعني: استتم قال الشيخ أبو طاهر بعد كلام طويل: هذا وكم ناظر في كلامي يبادر إلى ملامي ويقول: إنك ابتدعت للآية تفسيرا مخالفا لما قاله جمهور السلف والخلف وفي مخالفتهم خرق للإجماع وإني واللّه أعذره في ذلك فإن الفطام على المعهود شديد والنزول عما تلقاه الفتى من آبائه وشيوخه صعب جدا حقا كان أو باطلا والذي أقوله: إن الذي ذكرناه محتمل صحيح واضح وإن سماه بعضهم بدعة فكم من بدعة مستحسنة وأطال في ذلك

ثم قال: وبالجملة فالعرش أعظم الممالك كلها والحق تعالى فوقه بالرتبة وذلك أننا إذا تأملنا ما فوقنا رأينا الهواء وإذا تأملنا فوق الهواء رأينا سماء فوق سماء بقلوبنا ثم إذا ترقينا بأوهامنا من السماوات السبع رأينا الكرسي وإذ ترقينا من الكرسي رأينا العرش الذي هو منتهى المخلوقات التي هي بجملتها تدل على الخالق جل جلاله ثم إذا تدرجنا بالفكر من العرش الذي هو نهاية المخلوقات لم نر للفكر مرقاة البتة، فيقف الفكر هناك لأن مطار الفكر ينتهي بانتهاء الأجسام فنرى إذ ذاك بقلوبنا وعقولنا الرحمن فوق العرش من حيث الرتبة، إذ رتبة الخالق فوق رتبة المخلوقات فهو تعالى فوق العرش فوقية تباين فوقية العرش على الكرسي لأن فوقية العرش على الكرسي لا تكون إلا بالجهة والمكان بخلاف فوقية الرب على العرش فإنه بالرتبة والمكانة دون المكان انتهى. واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!