موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ذكر غزاة مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم

ذكر غزاة مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم وما عمل من الأعاجيب في بلاد الروم ودخوله القسطنطينية على أتم الروايات في ذلك إن شاء الله تعالى حدثنا ابن طليس، وأبو اليمن، وأبو الفرج، كلهم عن القزاز، نبأ أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، انا الشيخ أبو الحسن بن محمد بن أحمد زرقويه، انا أبو عمرو عثمان بن أحمد الدقاق قال: نبأ أبو علي الحسن بن سلام، نبأ صبح بن بيان البغدادي، نبأ يزيد بن أوس الحمصي، عن عامر بن شرحبيل، عن عبد الله بن سعيد بن قيس الهمداني، وكان ممن خرج مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الروم، قال: لما أراد عبد الملك بن مروان بن الحكم أن يوجه ابنه مسلمة إلى بلاد الروم، أمر المنادي بأن ينادي في الناس أن يجتمعوا.

وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أن يوجه إليه رؤساء أهل العراق، وكتب إلى عمر بن عثمان بن عفان وهو على الحجاز أن يوجه إليه رؤساء أهل الحجاز، وكتب إلى أخيه محمد بن مروان بن الحكم وهو عامله على البصرة أن يشخص

إليه بنفسه وبرؤساء أهل البصرة، وكتب إلى علقمة بن مروان وهو عامله على اليمن أن يوجه إليه رؤساء أهل اليمن.

فلما قدم الناس قام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إن العدو قد كلب عليكم، وقد طمع فيكم، وهنتم عليه بترككم الغزو له، واستخفافكم بحق الله عز وجل، وشغلكم عن الجهاد في سبيل الله. وقد علمتم ما وعد ربكم في الجهاد لعدوّه. وقد أردت أن أغزو بكم غزوة كريمة شريفة إلى صاحب الروم أليون. والله تعالى مهلكهم، ومبدّد شملهم، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد جمعتكم ي معشر المسلمين، وأنتم ذوو البأس والشدة والشجاعة والنجدة. فإن من حق الله تعالى أن تقوموا لله تعالى بحقه، ولنبيّه صلى الله عليه وسلم بنصرته. وقد أمّرت عليكم مسلمة بن عبد الملك، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره ترشدوا وتوفقوا، فإن استشهد فالأمير من بعده محمد بن خالد بن الوليد المخزومي، فإن استشهد فالأمير من بعده محمد بن عبد العزيز. وقد ولّيت الغنائم رجاء بن حيوة، وصيّرته أمينا على مسلمة وعليكم. وقد ولّيت على تميم محمد بن الأحنف بن قيس، وعلى همدان عبد الله بن قيس. فقلت: يا أمير المؤمنين، ولّ غيري، فإني آليت أن لا أكون أميرا أبدا. فولّى على همدان صدقة بن اليمان الهمداني، وعلى ربيعة عبد الرحمن بن صعصعة. و ولّى على طي ولخم وحزام عبد الله بن عدي بن حاتم الطائي. وولّى على قيس الضحاك بن مزاحم الأسدي. وولّى على بني أمية وجماعة من قريش محمد بن مروان بن الحكم. و ولّى على كندة وغسان الأصبغ بن الأشعث الكندي. وولّى على أهل الحجاز عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وولّى على أهل الجزيرة والشام البطّال. وولّى على أهل مصر يزيد بن مرة القبطي. وولّى على أهل الكوفة الهيثم بن الأسود النخعي. و ولّى على أهل البصرة سليمان بن أبي موسى الأشعري. وولّى على أهل اليمن جابر بن جبير المدحجي. وولّى على أهل الجبال عبد الله بن جرير بن عبد الله البجلي.

ثم أقبل على مسلمة بن عبد الملك فقال: يا بني، إني قد ولّيتك على هذا الجيش فسر بهم، و اقدم على عدو الله أليون كلب الروم، وكن للمسلمين أبا رحيما، وارفق بهم، و تعاهدهم. وإياك أن تكون جبارا عنيدا مختالا فخورا. ثم أعرض الناس فانتخب منه ثمانين ألفا من أهل البأس والنجدة، واتخذ من الخيل والفرسان ثلاثين ألفا. و قال: يا بني، صيّر على مقدمتك محمد بن الأحنف بن قيس، وعلى ميمنتك محمد بن مروان، و صيّر على ميسرتك عبد الرحمن بن صعصعة، وصيّر على ساقتك محمد بن عبد العزيز،

وكن أنت في القلب، وصيّر على طلائعك البطّال وأمره فليعس بالليل في العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع. فإذا أردت بلاد الروم إن شاء الله تعالى فاقحم بالناس، واقدم بهم إقداما واحدا، حتى ترعب قلوبهم، وتزلزل أقدامهم، و تبدّد جمعهم، وتهابك ملوكهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

واعلم أنهم سيلقونك بجمع كثير وسلاح، فلا يهولنّك ذلك، فإن الله مخزيهم، وضارب وجوههم.

واعلم يا بنيّ إنما نصبتك لهذا الوجه، وشرّفتك بهذا الجيش، وصيّرته لك ذكرا وذخر تذكر به أبدا، فإياك أن تنكص أو تولّي منهزما، فإنك إن فعلت ذلك استوجبت من الله المقت، ومن عباده البغض، ومن ملائكته اللعنة.

واعلم يا بني أنك إن نكلت وأبليت وقتلت ورميت، والله الفاعل ذلك، والقاتل لهم، و هو رادّهم على أعقابهم خاسئين.

ثم أقبل على المسلمين فقال:

ي إخواني وأعواني، هذا مسلمة ابني، وهو سيفي وسهمي ورمحي، وهو أميني، جعلته عليكم، وقد رميت به في نحر العدو والروم، وقد علمتم أنه ثمرة قلبي، وحبيب نفسي من صلبي لا من أصلابكم، وقد وهبته لله عز وجل، وبذلت دمه ومهجته طلبا لرضوان الله عز وجل، فأعينوه أنتم، واعضدوه وانصروه، وأقدموا إذا قدم، وحثّوه إذ نكص، وشجعوه إذا جبن، وأيقظوه إذا نام، وأنبهوه إذا سها، ولا تغفلوا عنه، ول حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم عانق مسلمة وقال: السلام عليك يا حبيبي، وثمرة قلبي، ثم قلّده سيفين: سيف عبد الملك و سيفه، ثم عمّمه بعمامة بيضاء، وحمله على فرس أشهب، فخرج مسلمة يوم الجمعة بعد صلاة الظهر، وذلك أول يوم من رجب، وخرجنا معه، وخرج عبد الملك معنا يشيّعنا حتى بلغ إلى باب دمشق، فودّعنا عبد الملك بن مروان ورجع، وخرجنا فدخلنا طرسوس، و فيها نفر من المسلمين يسير، فأمرهم مسلمة أن يقيموا، ولم يغير تلك السنة.

قال عبد الله بن سعيد: فأقام القوم بها، وخرجنا، فلم نزل نسير حتى انتهينا إلى قريب من عمورية. وبلغ شمعون صاحب عمورية أن العرب قد غزتهم، فبعث إلى رؤساء أهل القرى و المدن فاجتمعوا إليه، فأقام بعمورية. وأتى مسلمة الخبر بجمع شمعون له، وأنه خارج إليه، فجمع مسلمة الناس ثم قال لهم: قد علمتم جلب عدوّكم عليكم، وطلبه لكم، فإنه خارج، وقد اجتمعوا، واشتدّ أمرهم. فتعالوا فاجتمعوا، فاجتمعنا، فصيّر على المقدمة

محمد بن الأحنف، وعلى الميمنة محمد بن مروان، وعلى الميسرة عبد الرحمن بن صعصعة، وصار هو في القلب.

قال عبد الله: فكنت معه في القلب، قال: وأمر البطّال أن يتقدم في الطلائع، فتقدم، و تقدمنا معه، فلقي البطال بطريقا من بطارقة شمعون، فقاتله قتالا شديدا حتى انهزم، فلحقناه، فلما قربنا منه حمل على القوم، وحمل محمد بن الأحنف في المقدمة، فلم نزل نقاتل القوم يومنا وليلتنا حتى أصبحنا، فلما أصبح الصباح صلى مسلمة الفجر، و أمرنا بالتقدم، فتقدمنا، وزحف شمعون من المدينة، فحمل وحملنا. ولقد رأيت البطال و قد حمل على القوم وهو يريدهم، وحمل عبد الرحمن بن صعصعة فقتل وأسر، ثم حمل عبد الله بن جرير فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم حمل محمد بن مروان فطعن طعنة منكرة، ثم رجع إلى العسكر. ثم حمل محمد بن عبد العزيز فقتل منهم نفرا كثيرا، ثم حمل مسلمة بنفسه. وحملت، فقتلنا وأسرنا، فلما نظر البطال إلى مسلمة يقاتل ترجّل، وأقدم هو، ومحمد بن الأحنف، وعبد الرحمن بن صعصعة، ورؤساء أهل العراق، فقاتلوا، و حثّوا على الركب. وكان شمعون في عشرين ومائة ألف، فما كان إلا ساعة حتى أقبل عبد الرحمن بن صعصعة يلهث، فقال: أيها الأمير، قد قتل شمعون، فأقبل على المدينة، و أقدم عليها، فقال له مسلمة: فكيف علمت ذلك؟ قال: لأني أسرت علجا فسألته أين شمعون؟ فقال: قد كان أمام القوم وقد فقد. فما كان بأسرع حتى أقبل البطال ومعه رأس شمعون، فلما رأى مسلمة الرأس خرّ لله ساجدا، ثم حمل، وحملنا معه حملة واحدة، فقاتلوا بقية يومهم، فلما جننا الليل التجئوا إلى المدينة، مدينة عمورية، فأقمن على بابها، فخلوا المدينة وهربوا من الباب الآخر، فدخلنا المدينة، فأصبنا نساء و صبيانا، فأخذناهم أسرى وغنمنا غنيمة كثيرة، فبلغت غنيمة عمورية مائة ألف دينار و ثمانية وثمانين ألف دينار، واثنا عشر ألف شاة، وألفا وستمائة فرس، فبعث بهم مسلمة إلى عبد الملك، ثم عرض الناس، ففقد منهم ستمائة وثلاثين رجلا، فخرج مسلمة، و كتب إلى أبيه عبد الملك بما فتح الله سبحانه على يده، وبما أصيب من المسلمين، و يستأذنه في التقدم، ويستأذنه في الغنائم، فأمر أن تقسم الغنائم بين المسلمين، ففعل ذلك رجاء بن حيوة، ثم أمرنا مسلمة بالتقدم، فقدمنا إلى التقفورية، وفيه تقفور الأكبر، وهو على ابنة أليون ملك الروم، ومعه ستون ألف فارس، ما فيهم راجل، فخرج، ثم حمل علينا حملة منكرة حتى أزالنا عن مراكزنا، وردّنا على أعقابنا.

ثم إن مسلمة نادى بأعلى صوته: إلى أين يا أهل الشام؟ فلا شام لكم إن غلبت الروم

على دياركم، وإلى أين يا أهل العراق؟ فلا عراق لكم إن ولّيتم من علوج الروم. اليوم يعلم الله منكم صدق اليقين.

ثم قام رجاء بن حيوة فقال:

يا معشر المسلمين إلى أين تنهزمون؟ يا أهل العراق وأهل الدين وأهل الصدق، من أهل الصلبان و عبدة الأوثان، أما ترغبون؟ أما ترجعون؟ اثبتوا يثبت الله أقدامكم.

ثم أقبل شابّ من أهل الكوفة يقرأ: إِنْ تَنْصُرُوا اَلله يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ .

قال: فرجعنا إلى مصافّنا، وحملنا، وترجّل البطال، وترجل مسلمة، وترجل محمد بن مروان، وترجل محمد بن الأحنف، وترجل الناس، فحمل تقفور لعنه الله على مسلمة، فضربه بالسيف ضربة حتى خرّ مسلمة صريعا. ثم حمل على الناس حملة منكرة، فانهزم المسلمون حتى أقبل عبد الرحمن بن صعصعة في الخيل، وأقبل محمد بن عبد العزيز فحمل مسلمة، وأفاق مسلمة من ضربته فنادى: يا أهل الإسلام، اليوم يوجب الله لكم الرضوان، أنا مسلمة لم أقتل، فتراجع الناس، وحملنا عليهم من خلفهم، فلقد رأين الجيف يومئذ كأنها التلول، وجننا الليل، وبادر البطال إلى باب المدينة، وثبت عليها. ثم حمل عليهم من خلفهم، وحملنا عليهم من بين أيديهم. فقتل تقفور لعنه الله وعامة أصحابه، فانهزموا بالليل، وهم يريدون المدينة، فلقيهم البطال، فقتل و أسر، وولّوا الأكتاف، فقدمنا المدينة ليلا وهم لا يشعرون، فقتلنا وأسرنا و غنمنا وسبينا.

فلم أصبحنا عرضنا مسلمة، ففقد من المسلمين خمسمائة، ونظر رجاء بن حيوة في الغنائم قال: فكانت غنائم التقفورية ستمائة ألف دينار سوى المتاع، وإن مسلمة وهبه للمسلمين، وأقمنا بالتقفورية عشرين ليلة، ثم تقدمنا إلى السماوة الكبرى، وهي مدينة عظيمة، ولها أربعة أبواب من حديد، فيها بطريق عظيمة الشأن يقال له أيفريظون، فتحصّن بها، وأقام بالمدينة، فتقدمنا نحن إلى المدينة، وأقمنا عليه أياما، ونصبوا المجانيق على سورها، ونصب مسلمة المجانيق عليها، فرميناهم و رمونا، وأحطنا بالمدينة من سائر الأبواب، وصبرنا لهم، وصبروا لنا أربعين ليلة، ثم إن بطريقا من بطارقة أيفريظون كتب إلى مسلمة يسأله الأمان، أن يفتح له بابا من أبوابها، فبعث إليه البطال، فأمّنه، فلما جننا الليل فتح له الباب الأعظم، فدخل البطال، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتح له بابا آخر، فدخل مسلمة، وخرج أيفريظون من الباب الآخر، وخلى المدينة، ولحق بالمسيحية، فقتلنا منهم، وأسرنا منهم، من غير أن يقتل أحد من المسلمين يومئذ إلا تسعة رهط، وغنمنا غنيمة كثيرة.

ثم خرجنا من السماوة نريد المسيحية، فلقينا شاس صاحب مقدمة أيفريظون في ثمانين ألفا، وكان أيفريظون مقيما بالمسيحية، فقتل منا شماس مقتلة عظيمة حتى ردّنا إلى سماوة. ثم رجعنا، ورجعوا. فعند ذلك كانت الهزاهز. فقتل يومئذ من المسلمين ألف ومائة. ثم قتل شماس. فعند ذلك خرج أيفريظون من المسيحية، فحمل عليه مسلمة بنفسه، فطعن. ثم حمل عبد الرحمن بن صعصعة، فطعن. ثم حمل عبد الله بن سعيد طعنة منكرة. ثم حمل محمد بن عبد العزيز، فطعن. ثم حمل محمد بن مروان، فطعن.

ثم حمل محمد بن الأحنف، فطعن. ثم حمل البطّال، فضرب على مفرق رأسه فخرّ صريعا. ثم حمل عبد الله بن جرير بن عبد الله البجلي، فطعن. ثم رجاء بن حيوة، فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم حمل الضحّاك بن يزيد السلمي، فلم يزل يقاتل حتى طعن طعنة في بطنه، فاستشهد رحمه الله. ثم أفاق محمد بن عبد العزيز، فحمل على القوم، فلم يزل يقاتلهم حتى عقر فرسه. ثم حمل عليه أيفريظون، فطعنه فخرّ صريعا. ثم ضرب عنقه ورمى به إلى المسلمين. فانكسر الناس لقتل محمد بن عبد العزيز، ولقتل الضحاك بن يزيد السلمي. ثم أفاق مسلمة فحمل، وحمل البطال على أيفريظون فضربه ضربة بالسيف على رأسه فخرّ ميتا. ثم كبّر البطال، وكبّر الناس، وكبّر مسلمة، وحملنا حملة واحدة، ورفعن رأس أيفريظون، فانهزم أهل المسيحية. فدخلنا فسبيناهم، وغنمنا غنائمهم. قلت: فكم بلغت غنيمة أهل المسيحية؟ قال: بلغت ألف ألف دينار واثنين وعشرين ألف دينار.

فقسمه رجاء بن حيوة بيننا. وأقمنا بالمسيحية، وهي مدينة عظيمة على شاطئ الفرات، له ثمانية أبواب، وفيها البساتين، وهي أعمر بلاد الروم وأحصنها، وأقمنا بها ستة أشهر.

فصارت بلاد الروم ما دون المسيحية إلى بلاد الشام كلها في يد مسلمة. ثم كتب إلى أبيه بذلك، فكتب إليه يأمره بالتقدم. قال: فتقدمنا إلى مدينة البوش، وهي مدينة صغيرة، إلا أن البوش كتب إلى أليون أن يمدّه، فأمدّه بالخيل والرجال. فخرج إلينا في خمسين ألفا، فلبثنا يوما وليلة، وتقاتلنا قتالا شديدا. ثم إن البوش قتل، فانهزم أصحابه، ودخلنا المدينة.

قال عبد الله بن سعيد: فما رأيت مدينة كانت أكثر غنائم منها على صغرها، أصبنا فيها ستمائة ألف أوقية من ذهب، فقسمها رجاء بن حيوة بيننا. قال: ثم خرجنا إلى القسطنطينية، فم لقينا منهم أحدا حتى وردنا البحر، فأقمنا على شاطئ البحر ثمانية أشهر.

ثم إن مسلمة بعث إلى أهل عمله من الروم، فهيئوا لنا سفنا فركبنا فيها. فقاتلناهم في البحر ثلاثة أيام، حتى وصلنا إلى الجزيرة التي فيها القسطنطينية، والجزيرة التي فيها

القسطنطينية ثمانية فراسخ. المدينة منها أربع فراسخ، والبقية جزيرة. فأقام مسلمة بتلك الجزيرة، وبعث إلى أهل عمله من الروم أن يبنوا له مدينة: فرسخين في فرسخين، فأقمنا فيها. وصارت بلاد الروم كلها في يد مسلمة ما بين الشام إلى جزيرة القسطنطينية، وجبي إليها الخراج. ونصب أليون ملك الروم على المدينة المجانيق، و أقمنا بها سبع سنين.

وسمّاه مسلمة مدينة القهر، لأنه قهرهم عليها.

قال عبد الله بن سعيد بن قيس: لقد غرسنا بها التفاح وأكلنا منه، وغرسنا بها الكمثرى و أكلنا منها، وأقمنا إقامة قوم لا يردون الرجوع إلى بلادهم. وكنا مع هذا نغزوهم في كل يوم ويغزونا، ونقاتلهم ويقاتلونا. حتى إذا جننا الليل رجعوا إلى القسطنطينية، ورجعنا إلى مدينة القهر. فلم نزل على ذلك سبع سنين. ثم تقدمنا إلى باب القسطنطينية، فوقفنا على بابها سبعة أيام، ما نفترّ ولا نرجع إلى مدينتنا. و إن مسلمة ليقاتل بنفسه، وما يرجع ولا ينثني. وأقبل البطّال فقتل منهم ما بين الخمسين إلى المائة، حتى قتل في تلك الأيام ستمائة رجل.

قال: فلما اشتد حصارنا لهم كتب ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك أمير العرب:

من أليون. أما بعد، فقد أخربت بلادي، وقتلت بطاركي، وحصرتني في مدينتي، وبلغت مني كل مبلغ. وقد أردت أن أجمع عليك الجموع من الروم كلها، ثم أصول عليك صولة واحدة أفرّق جمعك، وأقلّ فيها أصحابك، وأبدّد شملك. ثم إني أحببت أن لا أفعل ذلك، وقد عزمت على مصالحتك على أن ترجع إلى المسيحية فتقيم بها، وأؤدّي إليك في كل سنة عشرة آلاف أوقية فضة، وستة آلاف أوقية ذهب، وخمسة آلاف رمكة، على أن أحقن دماء أصحابك وأصحابي، وعلى أن أسالمك وتسالمني، فإن ذلك أبقى لك.

فكتب مسلمة بن عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم، من مسلمة بن عبد الملك إلى أليون كلب الروم.

أما بعد، فإنك ذكرت أن لو أردت أن تجمع الجموع، فلو قدرت لفعلت، ولكن الله مهلكك إن شاء الله تعالى، وهذه أمدادي تأتيني من الشام، وهم ذو البأس والشدة والقوة و النجدة، وهم أصحاب الدين والقرآن، لا يريدون إلا قتالك، يطلبون بذلك الجنة، ل يريدون الدنيا، ولا ذهبا ولا فضة، ولا يريدون الدنيا ولا أهلها. هم أشد حب للموت منك للحياة، يطلبون بذلك الجنة وجنات النعيم.

وأما م ذكرت من أمر الصلح فإني قد آليت بيمين أن لا أرجع إلى بلادي حتى أدخل

مدينتك، فإن أبررت يميني، وإلا وقفت على بابها حتى أموت، أو يفتحها الله سبحانه على يدي.

وأما م ذكرت من مالك وما تصالحني عليه فإن ذلك حقير عندي، ذليل في عيني، إن كان قد عظم عليك كثرة ذلك فإنه لا يكثر عندي. وبعد ذلك فإني إن وصلت إلى مدينتك، وإلا فهي الجنة.

فلما قر أليون الكتاب خرج إلى باب القسطنطينية ثم نادى: أنا أليون فأين مسلمة؟ فدنا مسلمة قريبا من الباب، ثم إن أليون قال لمسلمة: أنا قد ضمنت لك الرضا وفوق الرضا، فارفق و لا تعجلنّ إلى قتالي، فإني سأعدّ لك خيلا غير هذه الخيل. قال له مسلمة:

أثبت مكانك. وأمرنا مسلمة أن نتهيأ في السلاح الشاك. فلما نظر أليون إلى ذلك هاله، و نحن حينئذ ستون ألف مقاتل، فهاله ذلك هولا شديدا. فعندها قال لمسلمة: ما الذي تريد؟ فقال له مسلمة: عزمت على أن لا أرجع حتى أدخل مدينتك. قال له أليون: ادخل وحدك ولك الأمان. فقال له مسلمة: نعم، على أن آمر البطّال وأصحابه يقفون على باب القسطنطينية، ولا يغلقون الباب. فقالوا له: لك ذلك. ففتح الباب الأعظم، ولم يفتح قبل ذلك سبع سنين إلا لقتال، وهو الباب الأعظم. فثبتنا عليه، والبطال على المقدمة على الباب ثابت، ما يزول ولا يتحرك.

قال مسلمة: إني داخل فاثبتوا على الباب. فإن صليتم العصر ولم أخرج فاقحموا بخيلكم على المدينة، فاقتلوا من أصبتم، والأمير من بعدي محمد بن مروان. فركب على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة، متقلدا بسيفين، سيف أبيه وسيف نفسه، حتى دخل وبيده الرمح، فصفّ له ملك الروم الخيل من باب المدينة إلى باب الكنيسة العظمى، كلما مرّ بقوم ساروا خلفه وقد رمقوه بأبصارهم، وهم يتعجبون من شجاعته وشدته وجرأته، فلم يزل يتقدم حتى وصل قصر أليون. فخرج إليه أليون فقبّل يده، فقال مسلمة: أنت أليون؟ فقال: نعم. قال: فأين الكنيسة العظمى؟ قال: هذه. فدخل على فرسه، فجزعت الروم من ذلك جزعا شديدا، فلما دخل إلى الكنيسة نظر إلى صليبهم الأعظم وهو موضوع على كرسي من ذهب، وعيناه ياقوتتان حمراوتان، وأنفه زبرجدة خضراء. فلما نظر مسلمة إلى الصليب أخذه فوضعه على قربوس فرسه. فقالت الرهبان لأليون: لا ندعه. فقال له أليون: إن الروم لا ترضى بهذا. فحلف لا يخرج حتى يأخذه. فقال أليون للروم: دعوه يخرج به، لكم عليّ مثله. دعوه يخرج، وإلا دخل عليكم البطال. فأخذه وخرج وهو على فرسه، و أليون مسايره حتى إذا توسط المدينة رفع الصليب على الرمح. فلما نظرت الروم

إلى ذلك همّوا به، ثم فكّروا في خراب مدينتهم إن قتلوه. فنكسوا رءوسهم فخرج والصليب على رمحه بعد العصر وقد همّ القوم بالدخول. فلما نظرنا إليه كبّرنا تكبيرة واحدة كادت الأرض تخور بهم. وسررنا بخروج مسلمة، سرورا عظيما، ورجعنا إلى مدينتنا، فأقمنا بها سبعة أيام ونحن مسرورون، ننتظر المال والدواب التي ضمنها أليون لمسلمة.

فكتب إليه مسلمة بن عبد الملك:

بسم الله الرحمن الرحيم:

من مسلمة بن عبد الملك إلى كلب الروم أليون.

أما بعد، فإن الله تعالى قد أظفرني بك، وأعلاني عليك، وجعل لي خدّك الأسفل، فلله الحمد و الشكر كثيرا، وأعزم بالله عائمة ثانية، لتوجهن المال إليّ، أو لأقدمنّ مدينتك، و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فكتب إليه أيضا أليون:

إلى الأمير مسلمة بن عبد الملك، من عبده الذليل أليون.

أما بعد، فقد وجهت إليك خمسة آلاف رمكة، وعشرة آلاف أوقية فضة، وستة آلاف أوقية من ذهب، و تاجا مفصّصا بالدرّ والياقوت، فهو لك خاصة.

أسألك أيها الأمير وأطلب إليك طلب العبد الذليل، أن تخرج من هذه الجزيرة، وتقيم في أي البلاد شئت من بلاد الروم إن أحببت ذلك.

فلما أتى مسلمة الكتاب والمال والدواب والتاج، حمد الله وأثنى عليه، ثم عرض الناس فكانوا يومئذ أربعة وأربعين ألف رجل قد أصابهم الجهد، فقسم المال بينهم، وباع التاج من بعض بطارقة الروم بمائة ألف دينار، فقسمه بيننا.

ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

أيه الناس، إنني في غمرات الموت منذ سبع سنين، لم أحب أن أخبركم، كرهت أني أخبث أنفسكم، وأفشلكم عن قتال عدوكم، وقد توفي خليفتكم عبد الملك منذ سبع سنين، و ولّي الوليد بن عبد الملك، وكتب إليّ يوم مات، وقد ولّي سليمان بن عبد الملك، و بايع له الناس، وإنما وجّهت رجاء بن حيوة يوم وصلت إلى الجزيرة، لأن الوليد كتب إليّ، فلذلك وجّهته، فبكى الناس بكاء شديدا، ثم قالوا: أيها الأمير، أنت أحقّ

بالخلافة، فهلمّ نبايعك، فقال: أيها الناس، لله قد ركبت أمس في المشركين، وأشقّ عص المسلمين اليوم، فأخالف أمرهم.

ألا إني قد بايعت لسليمان بن عبد الملك، فبايعوا له، فبايع الناس كلهم عند ذلك، فأقمنا في الجزيرة بعد ذلك ثلاثة أشهر، حتى أصلحنا سفننا، وهيأنا أمرنا، فأعطانا الغنائم. ثم كتب إلى أليون ملك الروم:

بسم الله الرحمن الرحيم.

من الأمير مسلمة بن عبد الملك إلى أليون ملك الروم:

أما بعد، فإني قد عزمت على الخروج من بلادك، فأجمعت على ذلك، وأحببت أن أحسن إليك كما طلبت العافية، وقد خلفت عندك وديعة، مسجدي هذا الأعظم، فإياك ثم إياك أن تحرّك منه حجرا أو عودا، فإني أقسم عليك بالله فأعزم لئن فعلت لأرجعن، ثم لأقدمنّ عليك حتى يهلك الله ويخزيك، وأما سوى ذلك من بناء فأنت أعلم، فإياك أن تغير في أثري حتى أخرج من بلاد الروم، فإنك إن فعلت فقد خالفت ونقضت ما بيني وبينك فلا أمان، فأعزم بالله عزيمة ثانية لئن خالفتني أو رأيت سوءا، لأقيمنّ عمري أو يظفرني الله بك، مع أني أرجو أن يضيّع الله أمرك، ويهتك سترك، فافعل أو دع.

فكتب إليه ملك الروم:

للأمير مسلمة بن عبد الملك.

من أليون عبده الذليل: أما بعد، فقد فهم كتابك، ولك السمع والطاعة، إني لا أعبر الجزيرة و لا أخرج حتى تخرج من بلاد الروم.

وأم المسجد، فو ربّ المسيح ورب الصليب، لا يهدم منه حجر ما كان لي سلطان، ولا يكسر منه عود، ولا يدخله أحد من الروم أبدا ما عمرت في الدنيا، وقد وجّهت إليك ألف رمكة، وألف أوقية من ذهب، وألف ثوب بداكوني هدية لك، فاقبلها أيها الأمير.

فلم أتاه الكتاب والهدية قبلها، ثم وزعها بين المسلمين، فما تفضّل بدينار ولا درهم، ثم أمر البطّال أن يحمل المسلمين في السفن، ويعبرهم الجزيرة، فلم يزل ذلك دأبه، و إنه لمقيم في المدينة حتى عبر الناس كلهم، وبقي في مائة فارس، فمضى بنفسه القسطنطينية فقال:

ي أليون، إني ماض فهل لك في حاجة؟ فخرج إليه أليون، فسلّم عليه، فلم يصافحه مسلمة، فقبّل أليون رجله، ثم قال أليون:

أيها الأمير الموفق الكبير، ائذن لي حتى أسير معك، فأبى، وأمره أن يرجع إلى المدينة، فرجع. وإن مسلمة لواقف على باب المدينة حتى دخلوا كلهم إليها، ثم أقبل فعبر الجزيرة هو والمائة فارس، ولم يتخلف بالمدينة من المسلمين، ولم يترك بها متاعا ولا مالا ولا زادا إلا حملناه معنا. فلما عبر مسلمة كبّر وكبّر المسلمون، فأقمنا على شاطئ البحر سبعة أيام. وجاء أليون حتى دخل مدينة القهر فأقام بها، فلما ارحلنا خرّبها كلها عن آخرها ما خلا المسجد. وأقبلنا حتى دخلن المسيحية، وأمر مسلمة أصحاب المسائح أن يلحقوا به، فلم يخلف مسلمة أحدا، وعبر الفرات، وأقمنا بالمسيحية، ووقع الموت والطاعون بالمسلمين، فمات من المسلمين خمسة عشر ألف رجل، فاغتمّ مسلمة لذلك غما شديدا وهاله، وكان الخراج يحمل إليه فيقسمه بيننا، ولم يحدث أليون ولا أصحابه حدثا. وأخرب مسلمة مدينة المسيحية، تحوّل عنها إلى التقفورية، لأن أهل المسيحية كانوا همّوا أن يغدروا بالمسلمين. فخرّبها، وقتل رجالها، وسبى نساءهم. وأقام بالتقفورية ستة أشهر. ثم عرض الناس، فكانوا يومئذ خمسة وعشرين ألفا، فاغتمّ لذلك مسلمة غما شديدا. وأتاه كتاب رجاء بن حيوة يخبره أن سليمان بن عبد الملك توفي، وأمر أن يستخلف عمر بن عبد العزيز، فإني قد بايعت له، وبايع له الناس، وهو عدل مرضي في الرعية، ويقسم بينهم بالسويّة، ورضيت به بنو أمية وقريش كلها، ورضي به أهل الآفاق والأمصار، و دخلوا في بيعته. وقد كتب إليك كتابا يأمرك بالقدوم إليه، ويعزلك عن بلاد الروم، و يأمرك فيه بالبيعة له والطاعة. فاقبل كتابه، وانقد لأمره، وأطعه ترشد إن شاء الله تعالى. فإياك أن تخالف فتفسد ما أصلحت، وتنقض ما أبرمت. مع ما أتخوّف عليك من العقاب والعذاب الشديد، في شقّك العصا، وخلافك على الأمة. فاقبل وصيتي فقد علمت نصيحتي لك، والسلام. فأتاه كتاب عمر بن عبد العزيز وإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى مسلمة بن عبد الملك:

أما بعد، فإن الله خلق الخلق على ما شاء من تقديره، ودبّرهم بمشيئته وإرادته، فله الحمد و الشكر كثيرا. وكان مما قضى الله وقدّر أن ولأنّي أمر المسلمين، وجعلني خليفة في الأرض، فأسأل الله أن يخرجني مما أدخلني فيه سويا سليما خميصا، لا تبعة عليّ في ذلك ولا عقاب، فقد طال حزني بذلك، ومرض قلبي، وتفتّت كبدي، وقد بايع لي بنو أمية كلهم، وجميع الأمصار، فادخل مع الجماعة، واقدم بمن معك جميعا، ول تخلفنّ أحدا، فقد عظمت المصيبة بالمسلمين.

فلما أتى مسلمة الكتاب تغيّر وجهه، وتغيّر لونه، ثم دعا محمد بن الأحنف، و عبد الرحمن بن صعصعة، وعبد الله بن جرير، ورؤساء أهل الأمصار ممن معه، فأدخلهم إلى رحله، ثم قال: هذا كتاب عمر بن عبد العزيز، فما ترون؟ فقال محمد بن الأحنف: أرى أن تدخل فيما دخل فيه المسلمون، وتكون مع الجماعة، فإن الرشد و التوفيق مع الجماعة.

ثم قال لعبد الله بن جرير: وأنت ما ترى؟ فقال: مثل مقالة صاحبه.

ثم قال لعبد الرحمن بن صعصعة: وأنت ما تقول؟ فقال: أيها الأمير، أقم في موضعك ولا تخرج إليه، فإن طلب البيعة فبايعه، وإن أبى خالفته وبايعك الناس، فأنت أولى بذلك منه.

فقال له محمد بن الأحنف: اتق الله أيها الأمير، فقد علمت مكانتك من العدو منذ سبع سنين، فإياك أن يكون آخر أمرك إلى الدمار، فهذا لأوّل الدمار أن تخالف السنّة، وتشقّ العصا، ولكن سر بنا فأنت موضع الفضل والشرف. ومع هذا أيها الأمير تلمّ بأهلك و قرابتك، مع أنك بحمد الله ممن يحتاج إليه ويطلب ما عنده لثلاث خصال:

أم الواحدة فالفهم والعلم، والثانية الشجاعة والبأس، والثالثة الشرف في أهل بيتك. فلا تفسد هذه الخصال في الخلاف والشقاق.

قال مسلمة: فقد تكلمتم وقد علمت ما جاء من رجل منكم. فكلكم أراد النصيحة، وكلكم أراد الشفقة. لا خير في عيش الدنيا مع الخلاف والخوف والرعب.

وقد ولّي هذا الرجل فأهل ذلك في ورعه ودينه، وقد كتب إليّ رجاء بن حيوة بكتاب سرّني ما ذكر فيه من عدله وإنصافه، ولا مثله يفسد مثلي، ولا مثله يخلي مثلي. إنه أنظر لي من جميع إخواني، وأقوم بحقي، وأعرف بفضلي. لأنه أبرّ بي من إخواني، وأكرم عليّ مع مصاهرته وقرابته. وقد عزمت على الشخوص إليه، فإن أكرم وقرّب فأهل ذلك، و إن أبعد وتنحّى فبما سلف من ذنوبي.

فقلت له: وفّقك الله. فنعم ما رأيت إن بايعته. فصيّر على مقدمته محمد بن الأحنف، وعلى الميمنة عبد الرحمن بن صعصعة، وعلى الميسرة محمد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان ابنه، وصار هو في القلب. وصيّر على السّاقة عبد الله بن سعيد، وأخرب مدينة التقفورية. ثم خرجنا منها، فلم نزل نسير حتى دخلنا عمورية. فأقمنا بها ثلاثة أيام.

ثم خرجن منها، وهدم مسلمة صورها، وعزل جميع عماله من بلاد الروم. فقدمنا دمشق

في ثلاثين ألفا، فدخلناها. وقد مات رجاء بن حيوة قبل ذلك بعشرة أيام، فبلغ ذلك مسلمة فغمّه غما شديدا. وأقام بباب دمشق، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له في الدخول إلى المدينة ثلاثة أيام، حتى طلب إليه جميع بني أمية. فأذن له، فدخل، فمضى ومضينا معه إلى منزل عمر بن عبد العزيز بالخيل والناس و هبة السفر. فلم يأذن له، فرجع إلى منزله، فلما كان من الغد، وركبنا معه ألف رجل من القواد، فلم يأذن له فرجع، وركب إليه من الغد في أهل بيته ومواليه، فلم يأذن له. وركب إليه من الغد في إخوانه وبني عمه، فلم يأذن له. فرجع ومضى إليه من الغد وحده راكبا، فلم يأذن له. فرجع ومضى إليه من الغد راجلا، فأذن له، وعنده وجوه قريش، ورؤساء أهل الشام. فسلّم عليه بالخلافة فرد عليه ردا ضعيفا، ولم يأذن له بالقعود ساعة. فبكى مسلمة وقال: ما أراني عاصيا، فإن كنت عاصيا فقد عصى من هو خير مني، وإن كنت مداهنا فقد داهن من هو خير مني. فما جرمي إلا أن أنكيت في المشركين، وأبكيت، وقمت بحق الله تعالى، وقتلت عدوّه، ولم تأخذني فيه لومة لائم. فإنما فعلت بما أمرت، وأوصيت بالدخول إلى المدينة العظمى، فدخلت. هذا كلامي و هذا عذري، فاقبل مني أو دع. فقال عمر بن عبد العزيز: يا مسلمة، سرت بالمسلمين إلى أقصى بلاد الروم، فقتلت الضعيف، وأتعبت القوي، تطلب الشرف، وأردت الرئاسة.

ما كان يكفيك من القسطنطينية بلاد عمورية والقيام بها؟ ولكنك أردت أن يقال:

هذ مسلمة بن عبد الملك شديد العزم. فالويل لك إن آخذك الله بقتل رجل من المسلمين.

ويحك ي مسلمة، لقد بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«الويل لمن أهلك نفسا مؤمنة» . فقد عفونا عنك ما كان من جهلك. اقعد، فقعد.

فقال: هات يا مسلمة حدثني عن بلاد الروم. فقال مقاتل مولى عمر بن عبد العزيز:

سمعت مسلمة وهو يقول لعمر: ما رأيت بلادا تشبه القسطنطينية. قال عمر: صفها لي.

قال: هي مدينة برية بحرية، الخير فيها كثير، من الفاكهة والطعام، واللباس فيها ظاهر، و الدواب فيها فرهة. قال عمر: صف لي سورها، وأبوابها، وكنيستها العظمى، وقصره الكبير. قال: أما سورها فحجارة، وعرض السور ما يسير عليه مائة فارس عرضا. فأم الأبواب فإنها حديد عرض ما بين كل باب ميل. وأما الكنيسة العظمى فمن رخام مصفف مفصّص بالحجارة المذهبة وبالجوهر. وأما قصرها فمن رخام، ولم أدخله يا أمير المؤمنين. قال عمر: أسألك بالله يا مسلمة هل جبنت حيث دخلتها؟ قال مسلمة: لا و الله يا أمير المؤمنين ما جبنت، ولكني أجري ما كنت حيث دخلتها. قال: كيف رأيت أهل

الروم؟ قال: قوم سوء وقلوبهم خائفة، فإذا صدقوا هربوا. ولقد قتلنا منهم مقتلة عظيمة.

فالحمد لله على ذلك كثيرا. قال عمر: غفر الله لك. ثم وجّه سراقة بن عبد الرحمن أمير على الثغور، وأمره أن يبلغ العمورية، فإذا بلغها لا يجوز إلى غيرها. وأقام مسلمة عند عمر بدمشق.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!