موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تسمى حجة الوداع

وفيه قال: «خذوا عني مناسككم» ، من حديث الحميدي، قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن عثمان النحوي بالمغرب لبعض أهل بلاد المغرب في التشويق إلى مكة، ولم يسمّ قائلها، و قد كان أنشدنيها ابن هلال، وذكر قائلها:

يحن إلى أرض الحجاز فؤادي ويحدو اشتياقي نحو مكة حادي

ولي أمل ما زال يسمو بهمّتي إلى البلدة الغرّاء خير بلاد

بها كعبة الله التي طاف حولها عباد هم لله خير عباد

لا قضى حقّ الله في حجّ بيته بأصدق إيمان وأطيب زاد

أطوف كما طاف النبيون حولها طواف انقياد لا طواف عناد

وأستلم الركن اليماني تابعا لسنّة مهديّ وطاعة هادي

وأركع تلقاء المقام مصلّيا صلاة أرجّيها ليوم معادي

وأسعى سبوعا بين مروة والصفا أهلل ربي تارة وأنادي

وآتي منى أقضي بها التفث الذي يتم به حجّي وهدي رشادي

فيا ليتني شارفت أجبل مكة وبتّ بواد عند أكرم وادي

ويا ليتني روّيت من ماء زمزم صدى خلد بين الجوانح صادي

ويا ليتني قد زرت قبر محمد فأشفي بتسليم عليه فؤادي

قال ابن هلال: أجبال مكة، وقال: صدى كبدي، والسياق للحميديّ.

ولما فتح الله مكة حج بالناس منه ثمان، عتاب بن السويد، وحج في سنة تسع أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج بالناس سنة عشر على ما ثنا به عبد الحق الأزديّ الإشبيلي كتابة.

وثن أبو الوليد جابر بن أبي أيوب الحضرمي، مشافهة بمسجد الوادي بإشبيلية، قال: ثنا أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح قال:

قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج، أعلم الناس أنه حاج، ثم أمرنا بالخروج معه. فأصاب الناس بالمدينة جدري أو حصبة منعت من شاء الله أن يمنع من الحج، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا إلى مكة عام حجة الوداع التي لم يحج من المدينة منذ هاجر عليه السلام غيرها، فأخذ على طريق الشجرة، و ذلك يوم الخميس لستّ بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارا، بعد أن ترجل، وادّهن بعد أن صلى الظهر بالمدينة، فصلى العصر من ذلك اليوم بذي الحليفة، وبات ليلة الجمعة، و طاف تلك الليلة على نسائه، ثم اغتسل، ثم صلى الصبح بها، ثم طيّبته عائشة رضي الله عنها بيدها بدريرة وبطيب فيه مسك، ثم أحرم ولم يغسل الطيب، ثم لبّد رأسه، و قلّد بدنته نعلين، وأشعرها في جانبها الأيمن، وسالت الدم عنها، وكانت هدي تطوّع، وكان عليه السلام ساق هدي نفسه، ثم ركب راحلته، وأهلّ حين انبعثت به راحلته من عند مسجد ذي الحليفة بالقران، بالعمرة والحج معا، وذلك قبل الظهر بيسير، وقال للناس بذي الحليفة: «من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليهلّ، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليهلّ» .

وكان معه عليه السلام من الناس جموع لا يحصيها إلا خالقها ورازقها عز وجل، ثم لبّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إن الحمد و النعمة لك والملك، لا شريك لك» .

وقد روي أنه عليه السلام زاد على ذلك فقال: «لبيك إله الحمد» ، وأتاه جبريل عليه السلام و أمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية.

وولدت أسماء بنت عميس الخثعمية، زوجة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، محمد بن أبي بكر، و أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتسفر بثوب، وتحرم، وتهلّ، ثم نهض عليه السلام وصلى الظهر بالبيداء، واستهل هلال الحجة ليلة الخميس اليوم الثامن

من يوم الخروج من المدينة، فلما كان بسرف حاضت عائشة رضي الله عنها، وكانت قد أهلّت بعمرة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتنقض رأسها، وتمتشط، وتترك العمرة، وتدعها وترفضها، ويدخل منها، و تدخل على العمرة حجا، وتعمل جميع أعمال الحج، حاشا الطواف بالبيت ما لم تطهر، و قال عليه السلام وهو يشير للناس: «من لم يكن معه هدي فلا يعتمر، فمنهم من جعله عمرة كما أبيح له، ومنهم من تمادى على نية الحج ولم يجعلها عمرة أصلا» .

وأمر عليه السلام في بعض طريقه ذلك كل من كان معه هدي أن يهل بالقرآن، بالحج والعمرة معا، ثم نهض عليه السلام إلى أن نزل بذي طوى، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من الحجة، و صلى الصبح، ودخل مكة نهارا، من أعلاها، من كداء، من الثنية العليا، صبيحة يوم الأحد المذكور المؤرخ، واستلم الحجر الأسود، وطاف صلى الله عليه وسلم بالكعبة سبعا، ورمل ثلاثا منها، ومشى أربعا يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوافه، ولا يمس الركنين الأخيرين اللذين في الحجر، وقال بينهما: « رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وفِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ اَلنّارِ » .

ثم صلى عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين، يقرأ فيهما مع أم القرآن: قُلْ ي أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ ، والإخلاص، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، و قرأ عليه السلام إذا أتى المقام قبل أن يركع: واِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ، ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم رجع إلى الصف فقرأ: إِنَّ اَلصَّفا واَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَلله ابدأ بما بدأ الله به، فطاف بين الصفا والمروة أيضا، راكبا سبعا على بعيره، يخبّ ثلاثا، ويمشي أربعا، إذا رقا على الصفا استقبل القبلة، ونظر إلى البيت ووحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد و هو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ، ثم يدعو، ثم يفعل على المروة مثل ذلك، فلما كمّل الطواف والسعي عليه السلام أمر كل من لا هدي معه بالإحلال حتما، ولا بد قارنا كان أو مفردا، وأن يحلّوا الحل كله من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقوا على ذلك إلى يوم التروية، وهو يوم منى، فيهلّوا حينئذ بالحج، ويحرموا حين ذلك عند نهوضهم إلى منى، و أمر من معه من الهدي بالبقاء على إحرامه.

وقال لهم عليه السلام: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته، و لجعلتها عمرة، ولأحللت كما حللتم، ولكنني سقت الهدي فلا أحل حتى أنحر الهدي» .

وكان أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم، ورجال من أهل الوفر، ساقوا الهدي، فلم يحلّوا، وبقوا محرمين، كم بقي عليه السلام محرما، لأنه كان ساق الهدي مع نفسه، وكل أمهات المؤمنين لم يسقن هديا، فأحللن، وكنّ قارنات حجا وعمرة، وكذلك السيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أحلّتا، حاشا عائشة رضي الله عنها، فإنها من أجل حيضها لم تحل كما ذكرنا، وشكى علي فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلّت، فصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه هو أمرها بذلك، وحينئذ سأله سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، فقال: يا رسول الله، متّعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ ولنا أم للأمة؟ فشبك عليه السلام بين أصابعه، و قال: «بل للأبد وللأمة، دخلت عمرة في الحج إلى يوم القيامة» ، وأمر عليه السلام من جاء إلى الحج على غير الطريق الذي أتى عليها عليه السلام، ممن أهلّ كاهلا عليه السلام، بأن يثبتوا على أحوالهم، فمن ساق منهم الهدي لم يحلّ، فكان علي في أهل هذه الصفة، ومن كان منهم لم يسق الهدي أن يحل، فكان أبو موسى الأشعري من أهل هذه الصفة، وقام عليه السلام بمكة محرما، من أجل هديه يوم الأحد المذكور، والاثنين، و الثلاثاء، والأربعاء وليلة الخميس.

ثم نهض صلى الله عليه وسلم ضحوة يوم الخميس، وهو يوم منى التروية مع الناس إلى منى، و في ذلك الوقت أحرم بالحج من الأبطح كل من كان من أصحابه رضي الله عنهم، فأحرمو في نهوضهم إلى منى في اليوم المذكور، فصلى صلى الله عليه وسلم بمنى الظهر من يوم الخميس، وبات بها ليلة الجمعة، وصلى بها ليلة الجمعة، وصلى بها الصبح من يوم الجمعة.

ثم نهض عليه السلام بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور إلى عرفة، بعد أن أمر الناس عليه السلام أن تضرب له قبة من شعر بنمرة، فأتى عليه السلام عرفة في قبته التي ذكرنا، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصوى، فرحلت له.

ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس على راحلته خطبة، ذكر فيها تحريم الدماء والأموال و الأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية ودماءها، وأول دم وضع فيها دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعا في بني سعد بن بكر بن هوازن، فقتله هذيل، وذكر النسّابون أنه كان صغيرا يحبو أمام البيوت، وكان اسمه آدم، فأصابه حجر عابر، أو سهم من غرب، من يد رجل من بني هذيل فمات.

قال أبو محمد، ثم نرجع إلى وصف علمه: ووضع أيضا عليه السلام في خطبة ربا الجاهلية، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس، وأوصى بالنساء خيرا، وأباح ضربهن غير مبرّح إن عصين بما لا يحل لهن، وقضى لهن بالرزق والكسوة، بالمعروف على أزواجهن،

وأمر بالاعتصام بعده بكتاب الله عز وجل، وأخبر أنه لا يضل من اعتصم بالله، وأشهد الله عز وجل على الناس، أنه قد بلغهم ما يلزمهم، فاعترف الناس بذلك، وأمر عليه السلام أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب.

وبعثت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية، وهي أم عبد الله بن العباس، لبنا في قدح فشربه وهو أمام الناس، وهو على بعيره، فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائما في يومه ذلك، فلما أتم الخطبة المذكورة أمر بلالا فأذّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئا، لكن صلاّهما عليه السلام بالناس مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد لهما معا، بإقامتين، لكل صلاة منهم إقامة، ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته حتى أتى الموقف، فاستقبل القبلة، وجعل جبل المشاة بين يديه، فلم يزل واقفا للدعاء هنالك حتى سقط رجل من المسلمين على راحلته، وهو محرم في جملة الحجيج، فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكفّن بثوبه، ولا يمسّ بطيب، ولا مخيط، ولا يغطّى رأسه ولا وجهه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة ملبيا، وسأله قوم من أهل نجد هنالك عن الحج، فأعلمهم عليه السلام بوجوب الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بها، وأرسل إلى الناس أن يقفوا على مشاعرهم، فلم يزل واقفا للدعاء حتى غربت الشمس من يوم الجمعة المذكورة، و ذهبت الصفرة.

أردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع عليه السلام، وقد ضم بزمام القصوى حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله، ثم مضى يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، وكلاهما ضرب من السير، والنص أكدهما، والفجوة الفسحة من الناس، كلما أتى ربوة من تلك الروابي أرخى للناقة زمامها قليلا حتى يصعدها، وهو عليه السلام يأمر الناس بالسكينة بالسير، فلما كان في الطريق عن الشعب الأيسر، نزل عليه السلام فيه فبال، وتوضأ وضوءا خفيفا، وقال لأسامة: «المصلى أمامك» ، أو كلاما هذا معناه.

ثم ركب حتى أتى المزدلفة ليلة السبت العاشرة من الحجة، فتوضأ ثم صلى بها المغرب، والعشاء الأخيرة، مجموعتين في وقت العشاء الأخيرة دون خطبة، لكن بآذان واحد لهما معا، و بإقامتين، لكل صلاة منهما إقامة، ولم يصلّ بينهما شيئا. ثم اضطجع عليه السلام به حتى طلع الفجر، وأقام عليه السلام، وصلى الفجر بالناس بالمزدلفة يوم السبت المذكور، وهو يوم النحر، يوم الأضحى، يوم العيد، يوم الحج الأكبر، مغلسا أول انصداع الفجر، وهنالك سأله عروة بن مضرس الطائي، وقد ذكر له عليه السلام، آله حج.

فقال له عليه السلام: «إن من أدرك الصلاة» -يعني صلاة الصبح- «بمزدلفة في ذلك اليوم مع الناس فقد أدرك الحج، وإلا فلم يدرك» ، فاستأذنته سودة وأم حبيبة في أن يدفعا

من مزدلفة ليلا، فأذن لهما ولأم سلمة في ذلك اليوم، وللنساء و الصغار في ذلك اليوم، بعد وقوفهم جميعهم بمزدلفة، وذكرهم الله تعالى بها. إل أنه عليه السلام أذن للنساء في الرمي بليل، ولم يأذن للرجال في ذلك، لا لضعفائهم و لا لغير ضعفائهم، وكان ذلك اليوم يوم كونه عند أم سلمة، فلما صلى الصبح صلى الله عليه وسلم بمزدلفة أتى المشعر الحرام بها، فاستقبل القبلة، فدعا الله عز و جل، وهلّل وكبّر ووحّد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا، وقبل أن تطلع الشمس.

فدفع عليه السلام حينئذ من مزدلفة، وقد أردف الفضل بن العباس، وانطلق أسامة على رجليه في سياق فريس، وهنالك سألت الخثعمية النبي صلى الله عليه وسلم الحج عن أبيه الذي لا يطيق الحج، فأمرها بأن تحج عنه.

وجعل عليه السلام يصرف بيده وجه الفضل بن العباس عن النظر إليها وإلى النساء، وكان الفضل أبيض وسيما. وسأله أيضا رجل عن مثل ما سألته عنه الخثعمية، فأمره عليه السلام بذلك، ونهض عليه السلام يريد منى، فلما أتى بطن محسّرة حرك ما فيه، وسلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى منى، فأتى الجمرة التي عند الشجرة، وهي جمرة العقبة، فرماها عليه السلام من أسفلها بعد طلوع الشمس من اليوم المؤرخ، بحصى التقطها له عبد الله بن عباس عن موقفه الذي رمى فيه، مثل حصى الخزف، و أمره بمثلها، ونهى عن أكبر، وعن الغلوّ في الدين. فرماها عليه السلام وهو على راحلته بسبع حصيات كما ذكرنا، يكبّر مع كل حصاة منها.

وحينئذ قطع عليه السلام التلبية، وبلال وأسامة أحدهما يمسك خطام ناقته عليه السلام، و الآخر يظله بثوبه من الحر.

وخطب الناس عليه السلام في اليوم المذكور، وهو يوم النحر بمنى خطبة، كرر فيها أيض تحريم الدماء والأموال والأعراض والإيثار.

وأعلمهم عليه السلام فيها بحرمة يوم النحر، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع و الطاعة لمن قاد، فلعله لا يحج بعد عامه ذلك. وأعلمهم بتمسكهم بكتاب الله عز و جل، وأمر الناس بأخذ مناسكهم.

وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر أن لا يرجعوا بعده كفارا، وأن لا يرجعوا بعده ضلالا، يضرب بعضهم رقاب بعض. وأمر بالتبليغ عنه، وأخبر أن ربّ مبلّغ أوعى من سامع.

ثم انصرف عليه السلام إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثة وستين بدنة. ثم أمر عليا فنحر ما بقي منها مما كان عليّ أتى به من اليمن معه، وما كان أتى به عليه السلام من المدينة، وكانت تمام المائة.

ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه المقدّس، وقسم شعره، فأعطى من نصفه الناس الشعرة والشعرتين، وأعطى نصفه الثاني كله أبا طلحة الأنصاري، وضحّى عن نسائه بالبقر، وأهدى عن من كان اعتمر منهن بقرة.

وضحّى هو عليه السلام في ذلك اليوم بكبشين أملحين. وحلق بعض أصحابه، وقصّر بعضهم.

فدع عليه السلام للمحلّقين ثلاثا، وللمقصرين مرة. وأمر عليه السلام أن يؤخذ من البدن الذي ذكرنا، من كل بدنة بعضه، فجعلت في قدر، وطبخت.

فأكل عليه السلام هو وعليّ رضي الله عنه من لحمها، وشربا من مرقها، وكان عليه السلام قد أشرك عليّا فيها، فأمر عليّا بقسمة لحمها كلها وجلودها وجلالها، وأن لا يعطى الجازر على جزارتها شيئا منها، وأعطاه عليه السلام الأجرة على ذلك من عند نفسه.

وأخبر الناس أن عرفة كلها موقف، حاشا بطن عرفة، وأن مزدلفة كلها موقف، حاشا بطن محسّر، و أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة كلها منحر، ثم تطيّب عليه السلام قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ولإحلاله قبل أن يحل في يوم النحر، وهو يوم السبت المذكور، فطيّبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك بيدها، ثم نهض عليه السلام راكبا إلى مكة في يوم السبت المذكور بعينه، فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة، وهو طواف الصدر، قبل الظهر، وشرب من ماء زمزم بالدلو، ومن سد بالسقاية، ثم رجع من يومه ذلك إلى منى، فصلى بها الظهر.

وهذ قول ابن عمر رضي الله عنهما. قالت عائشة رضي الله عنها وجابر: صلى ظهر ذلك اليوم بمكة، هذا هو الفصل الذي أشكل علينا، الفصل فيه لصحة الطريق في كل ذلك، ول شك أن في أحد الخبرين وهما، والثاني صحيح، قال أبو محمد: لا يدري أيهما هو، و طافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية، واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن لها، وطافت عائشة رضي الله عنها في ذلك اليوم، و فيه طهرت، وكانت رضي الله عنها حائضة في يوم عرفة، وطافت أيضا صفية في ذلك اليوم، وحاضت بعد ذلك ليلة النفر، ثم رجع عليه السلام إلى منى.

وسئل عليه السلام حينئذ عما تقدم بعضه على بعض في الرمي والحلق و النحر والإفاضة، فقال في كل ذلك: «لا حرج» ، وكذلك أيضا فقال: «في تقدم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالكعبة» ، وأخبر عليه السلام بأن الله تعالى أنزل الداء والدواء إلا الهرم، وعظم إثم من افترض عرض مسلم ظلما، فأقام هنالك باقي يوم السبت، وليلة الأحد، ويوم الأحد، وليلة الاثنين ويومه، وليلة الثلاثاء ويومه، وهذه هي أيام منى، وهي أيام التشريق، برمي الجمار الثلاثة كل يوم من هذه الأيام الثلاثة بعد الزوال، بسبع حصيات كل يوم لكل جمرة، يبدأ بالكبرى، و هي تلي مسجد منى، ويقف عندها للدعاء طويلا، ثم التي تليها، وهي الوسطى، ويقف عندها للدعاء كذلك، ثم جمرة العقبة، ولا يقف عندها، وكبّر عليه السلام مع كل حصاة، وخطب الناس أيضا يوم الأحد الثاني من النحر، وهو يوم الروس.

وقد روي أنه عليه السلام خطبهم أيضا يوم الاثنين، فأوصى بالأرحام خيرا. وأخبر عليه السلام أنه لا تجني نفس على أخرى. فاستأذنه عمه العباس في المبيت بمكة ليالي منى المذكورة من أجل سقايته، وأذن له عليه السلام وأذن للدعاء أيضا في مثل ذلك.

ثم نهض عليه السلام بعد زوال الشمس من يوم الثلاث المؤرخ، وهو آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة، وهو يوم النفر إلى المحصّب، وهو الأبطح، فضرب بها قبّة، ضربها أبو رافع مولاه، وكان على ثقله عليه الصلاة والسلام، وقد كان عليه الصلاة و السلام قال لأسامة إنه ينزل غدا بالمحصّب خيف بني كنانة، وهو المكان الذي ضرب فيه أبو رافع القبّة، وفاقا من الله عز وجل، دون أن يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بذلك، وحاضت صفية ليلة النحر بعد أن أفاضت، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عليّ، فسأل: «أفاضت يوم النحر؟» ، فقيل له: نعم. فأمرها أن تنفر، وحكم فيمن كانت حالته كذلك أن تنفر أيضا، وصلى عليه الصلاة والسلام بالمحصب بالظهر و العصر والمغرب والعشاء الأخيرة من ليلة الأربعاء المذكورة، ورقد رقدة.

ولم كان يوم النحر والنفر رغبت إليه عائشة رضي الله عنها بعد أن طهرت أن يعمرها عمرة مفردة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها قد حلّت من عمرتها وحجتها، فإن طوافه يكفيها، ويجزئها لحجتها وعمرتها، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة، فقال لها: «أ لم تكوني طفت ليالي قدمت؟» ، قالت: لا. فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بأن يردفها ويعمرها من التنعيم، ففعلا ذلك.

وتطهر النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة حتى انصرفت من عمرتها تلك، فقال لها: «هذ مكان

عمرتك» ، وأمر الناس أن لا ينصرفوا حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت، ورخص في ترك ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضتها، ثم إنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة في ليلة الأربعاء المذكورة، فطاف بالبيت طواف الوداع لم يرمل في شيء منه سحرا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكورة، ثم خرج من كدا أسفل مكة من الثنية السفلى، والتقى صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي ناهضة إلى الطواف المذكور، وهي راجعة من تلك العمرة التي ذكرنا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام وأمر بالرحيل، ومضى عليه الصلاة والسلام من فوره ذلك راجعا إلى المدينة، وخرج من مكة من الثنية السفلى، فكانت مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بمكة منذ دخلها إلى أن خرج إلى منى، إلى عرفات، إلى مزدلفة، إلى منى، إلى المحصّب، إلى أن وجّه راجعا، عشرة أيام، فلما أتى ذا الحليفة، بات بها، ثم لما رأى المدينة كبّر ثلاثا، وقال: «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. أنيبوا تائبون عابدون ساجدون لربنا، حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دخل عليه الصلاة و السلام المدينة نهارا من طريق المعرس. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. (انتهى حديث محمد) .

وروين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الحجة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بحلقة باب الكعبة، ثم أقبل بوجهه على الناس، فقال: «يا معشر المسلمين، إن من أشراط القيامة إماتة الصلاة، واتباع الشهوات، وتكون أمراء خونة، ووزراء فسقة» ، فوثب سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن هذ ليكون؟ قال: «نعم يا سلمان، وعندها يكون المنكر معروفا، والمعروف منكرا» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، وعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء، مما يرى ولا يستطيع أن يغيّره» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم ي سلمان، ويؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين، ويصدّق الكاذب، ويكذّب الصادق» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، إن أولي الناس قوم المؤمن بينهم يمشي بالمخافة، إن تكلم أكلوه، وإن سكت مات بغيظه.

ي سلمان، ما قدّست أمة لا تنتقم من قويّها لضعيفها» . قال: أفيكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، وعندها يكون المطر قيظا، والولد غيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيظ الكرام غيظا» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، عندها يعظم رب المال، و يباع الدين بالدنيا، وتلتمس الدنيا بعمل الآخرة، ويكتفي الرجال بالرجال، و النساء بالنساء، وتركب ذوات الفروج السروج، فعليهم من أمتي لعنة الله. يا سلمان، عندها يلي أمتي قوم جثتهم جثة الناس، وقلوبهم قلوب الشياطين، إن تكلموا قتلوهم، و إن سكتوا استباحوهم، لا

يرحمون صغيرا، ولا يوقّرون كبيرا، لساء ما يزرون، و توطأ حرمتهم، ويحار في حكمهم، عند ذلك تكون إمارة النساء، ومشاورة الإماء، و نفوذ الصبيان على الناس، وتكثر الشرط، وتتحلى ذكور أمتي بالذهب، ويتهاون بالزنا، وتظهر القينات، ويتغنى بكتاب الله، وتتكلم الرويبضة» . قلت: بأبي أنت يا رسول الله وأمي، وما الرويبضة؟ قال: «يتكلم في أمر العامة من لم يتكلم قبل» . قال: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: «نعم يا سلمان، عندها تزخرف المساجد كم تزخرف الكنائس والبيع، وتحلّى المصاحف بالذهب، وتطوّل المنابر، وتكثر الصفوف، و القلوب متباغضة، والألسن مختلفة، ونوالهم لعفة من أعطي على لسان من أعطى شكر، و من منع كفر» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، عند ذلك يأتي سبايا من المشرق والمغرب، تكون من أمتي، فويل للضعفاء منهم، وويل لهم من الله، إن تكلمو قتلوا، وإن سكتوا قتلوا، موت على طاعة الله خير من حياة على معصية الله» . قال:

أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، عندها تشارك المرأة زوجها في أمره، ويعق الرجل والده، و يبر صديقه، يلبّسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، علماؤهم شر من الجيفة» .

قال: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: «نعم يا سلمان، عندها تكون عبادتهم فيها فيما بينهم، التلاوة لها فيها، ولا بد يسمّون في ملكوت السموات والأرض الأنجاس والأرجاس» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان، عند ذلك يتخذ كتاب الله مزامير، وينبذ كتاب الله وراء ظهورهم، يعطلون الحدود، ويميتون سنّتي، ويحبّون البدعة، ول يقام يومئذ بنصر الله، لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، عندها يغار على الغلام كما يغار على الجارية، ويخطب كما تخطب النساء، ويهيّئ كما تهيّئ المرأة، عندها تقارب الأسواق» . قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وما تقارب الأسواق؟ قال: «كل يقول لا أبيع ولا أشتري، ولا رازق غير الله. يا سلمان، عندها تليهم الجبابرة، ويمنعون حقوقهم، ويملئون قلوبهم رعبا، فلا ترى إلا خائفا مرعوبا، عند ذلك يرفع الحج، فلا حج، يحج كبار الناس للهوى، وأوساط الناس للتجارة، وفقراء الناس للرياء والسمعة» . قال: أو يكون ذلك؟ قال: «نعم يا سلمان» (الحديث) ، و سيأتي معناه في هذا الكتاب مستوفى من حديث الكنانيّ، وقد انتهى المجلس من محاضرة الأبرار.

"بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم"


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!