موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


موعظة سفيان الثوري للمنصور بمكة

حدثن محمد بن إسماعيل التميمي، ثنا عبد الله بن علي بن محمد، ثنا محمد بن أبي منصور، عن المبارك بن عبد الجبّار، ثنا أبو إسحاق البرمكي، عن أحمد بن جعفر بن سالم، ثن أبو بكر بن عبد الخالق، عن يعقوب بن يوسف النسبي، عن أبي نشيط محمد بن هارون الغرباني قال: سمعت سفيان الثوري يقول: دخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت هذه المنزلة، وصرت إلى هذا الموضع، بسيوف المهاجرين و الأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا. حج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فما أنفق إل خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر، فقال لي: إنما أريد أن أكون مثلك،

فقلت: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه، فقال: اخرج. قال الثوري: فقلت له: إني لأعلم مكان رجل واحد لو صلح صلحت الأمة كلها، قال: من هو؟ قلت: أنت يا أمير المؤمنين.

ومن وقائع بعض الفقراء إلى الله تعالى ما حدثنا به عبد الله ابن الأستاذ المروزي قال: قال لي بعض الصالحين: رأيت في واقعتي أبا حامد، وأبا يزيد، وأبا طالب، و أشياخ الصوفية، وأبا مدين، فقال أحدهم للشيخ أبي مدين: قل لنا شيئا في المعرفة، فقال:

المعرفة هي الحجة لبلوغ العافية وثمرتها التوحيد، وإليه النهاية. فالتوحيد هو غاية الأمل، وما افترق في الوجود عنده اشتمل، هو المبدأ، وله البيان وإليه المرجع، و به يحصل الأمان، سره في مخلوقاته خفي وحكمه في مصنوعاته ظاهر جلي، أمره قد انتشر في الورى، وقضاؤه وقدره في كل شيء قد جرى، وهو الأول قبل كل شيء، وهو الآخر، و إليه يرجع الأمر كله، وهو الآمر، فالمحسوسات كلها هباء، وهي حجابه سبحانه وبه خفي، فقلب العارف طاهر مما سواه، فإذا أعين عليه بادره برحمته فقواه بحياته امتدت حياته، وبصفاته امتدت صفاته، فمخلوقاته بأسرها إليه مضطرة، إذ لم يخل شيء من الأشياء من سره حتى الذرة، قد شهدت بأسرها إليه، ونطقت بأنه الواحد، وأنه ليس له شريك في ملكه، ولا ولد، ولا والد، شهادة قد أحكمتها الفطرة، يشهدها العارف في كل خطرة ونظرة، فالعارفون به ظهرت لهم الغيوب، وبذكره اطمأنت منهم القلوب، فلم يعرجوا على شيء مما سواه، وما منهم من قنع بشيء عوضا عن مولاه، فأسرار العارفين عن الخلق محجوبة، وعند من عرفهم ظاهرة بالحسب مطلوبة، وقلوب الغير بالأسباب في شعب هي من المعرفة خالية، ومن الحكمة مسلوبة. لاحظوا أنفسهم فهم منها على غرور، من أسرار العارفين خلوا، وبظواهرهم تشبهوا، والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.

روينا من حديث الخطابي قال: كان سعد ممن اعتزل أيام الفتنة، ولم يكن مع واحد من الفريقين، فراودوه على الخروج فأبى، وضرب لهم مثلا: قال الخطابي: أنا ابن الأعرابي، حدثن محمد بن أحمد بن أبي العوام، حدثنا أبي، ثنا كثير بن مروان الفلسطيني، ثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال سعد: لما دعوه إلى الخروج معهم أتى عليهم وقال: لا، إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان، ولسانا ينطق بالكافر فأقتله، وبالمؤمن فأكف عنه، وضرب لهم مثلا، وقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجّة بيضاء، فبينما هم كذلك إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق، والتبس عليهم، وقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، فقال آخرون: الطريق ذات

الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح فننيخ، فأناخوا وأصبحوا فذهب الريح، فتبين الطريق، فهؤلاء الجماعة قالوا نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن. قال ميمون بن مهران: فصار الجماعة والفئة التي يدعى فيه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله عز وجل الفرقة، وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة، وانقادوا، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وقع في المهالك.

وحدثن يونس بن يحيى الهاشمي، عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطن، عن أبي الفضل أحمد بن خيرون، عن أبي علي الحسن بن إبراهيم بن شادان، عن الحسن أحمد بن إسحاق، عن أبي عبد الله أحمد بن محمد، عن عمّار بن عبد الله المصيصي، عن مخلد بن الحسين، عن واصل، ذكر أنه أسر غلام من بطاركة الروم، وكان غلاما جميلا، فلما صار إلى دار الإسلام، وقع إلى الخليفة، وذلك في خلافة بني أمية، فسمّاه بشيرا، وأمر به إلى الكتّاب، فكتب، وقرأ القرآن، وطلب الأحاديث، وروى الشعر، فلما بلغ أتاه الشيطان فوسوس له، وذكّره النصرانية دين آبائه، فهرب مرتد من دار الإسلام إلى أرض الروم الذي سبق له في أم الكتاب به، فأتى به إلى الطاغية، فسأله عن حاله، وما الذي دعاه إلى الدخول في دين النصرانية؟ فأخبره برغبته فيه، فعظم في عين الملك ورأسه، وصيّره بطريركا من بطاركته، وأقطعه قرى كثيرة، فهي اليوم تعرف به، يقال لها: قرى بشير.

وكان من قضاء الله وقدره أنه أسر ثلاثين أسيرا من المسلمين، فأدخلوا على بشير، فسألهم رجلا رجلا عن دينهم، وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له واصل، فسأله بشير، فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئا، فقال له بشير: ما لك لا تجيبني؟ قال: لست أجيبك اليوم بشيء، فقال بشير للشيخ: إني سائلك غدا، فأعدّ لي جوابا، وأمره بالانصراف. فلم كان الغد بعث إليه بشير، فأدخل عليه الشيخ، فقال بشير: الحمد لله الذي كان قبل أن يكون شيء من خلقه، وخلق سبع سماوات طباقا بلا عون كان معه من خلقه، ودحى سبع أرضين بلا عون كان معه من خلقه، فعجب لكم يا معاشر العرب حين تقولون: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَلله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

فسكت الشيخ، فقال: ما لك لا تجيبني؟ قال: كيف أجيبك وأنا أسير في يديك؟ فإن أجبتك بم تهوى أسخطت عليّ ربي، وأهلكت عليّ ديني، وإن أجبتك بما لا تهوى أهلكت نفسي، فأعطني عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله عز وجل على النبيين، وما أخذ

النبيون على الأمم، أن لا تغدر بي، ولا تمحلني، ولا تبغ لي باغية سوء، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له. قال بشير: فلك عليّ عهد الله وميثاقه، وم أخذ الله على النبيين، وما أخذ النبيون على الأمم، أن لا أغدر بك، ولا أمحل بك، و لا أبغي لك باغية سوء، وأني إذا سمعت الحق أنقاد له.

فقال الشيخ: أما ما وصفت من صفة الله عز وجل، فقد أحسنت الصفة، ولم يبلغ علمك، ولم يستحكم عليه رأيك أكثر من هذا، والله عز وجل أعظم وأكبر مما وصفت، ولا يصف الواصفون صفته، وأما ما ذكرت من هذين الرجلين، فقد أسأت الصفة، ألم يكونا يأكلان الطعام، ويشربان الشراب، ويبوّلان، ويتغوطان، وينامان، ويستيقظان، ويفرحان، و يحزنان؟ قال بشير: بلى. قال: فلم فرّقت بينهما؟ قال بشير: لأن عيسى كان له روحان اثنان: فروح يبرئ بها الأكمه والأبرص، وروح يعلم بها الغيب، ويعلم ما في قعر البحار، وما يتحات من ورق الشجر، قال واصل: روحان اثنان في جسد واحد؟ قال بشير: نعم. قال الشيخ: فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة منها أم لا؟ قال بشير:

قاتلك الله ما ذا تريد أن تقول إن قلت إنها لا تعلم؟ قال الشيخ: إن قلت إنها تعلم، فما لهذه القوية لا تطرد عنه هذه الآفات، وإن قلت إنها لا تعلم قلت كيف تعلم الغيوب؟ ول نعلم روحا في محل واحد في جسد واحد.

قال: فسكت بشير، فقال الشيخ: بالله هل عبدتم الصليب مثالا لعيسى ابن مريم أنه صلب؟ قال بشير: نعم. قال الشيخ: فبرضى منه أم بسخط؟ قال بشير: هذه أخت تلك، ما ذا تريد أن تقول إن قلت برضى منه؟ قال الشيخ: إن قلت برضى منه قلت فما أنتم من قوم أعطوا م سألوا وأرادوا، وإن قلت بسخط قلت فلم تعبدون ما لا يمنع عن نفسه؟ قال بشير:

والضارّ و النافع، ما ينبغي لمثلك أن يعيش إلا في النصرانية، أراك رجلا قد تعلمت الكلام، و أنا رجل صاحب سيف، ولكن آتيك غدا بمن يخزيك الله على يديه، ثم أمره بالانصراف.

فلما كان الغد بعث بشير إلى الشيخ، فلما دخل عليه إذا عنده قس عظيم اللحية، فقال له بشير: إن هذا رجل من العرب له حكم وعقل، وأصل في العرب، وقد أحب أن يدخل في ديننا فكلّمه حتى تنصّره، فسجد القس لبشير، وقال: قديما ما أتيت إلا بالخير، وهذا أفضل م أتيت به إليّ. ثم أقبل على الشيخ وقال له: أيها الشيخ، ما أنت بالكبير الذي ذهب عنه عقله وتفرق عنه حكمه، ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه، غدا أغطسك في المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك. قال الشيخ: فما هذه المعمودية؟ قال القس: ماء مقدس. قال الشيخ: من قدّسه؟ قال القس: أنا قدّسته،

والأساقفة من قبلي. قال الشيخ: فهلاّ كانت لك ذنوب وخطايا و للأساقفة من قبلك، أم أنتم مبرءون من النقص؟ قال القس: نعم، إنها لأكثر من ذلك، و لا يسلم من الذنب والعيب إلا الله تعالى، قال الشيخ: هل يقدّس الماء من لم يقدّس نفسه؟ قال: فسكت القس، ثم قال: إني لم أقدسه أنا. قال الشيخ: فكيف كانت القصة إذا؟ قال القس: إنها سنّة من عيسى ابن مريم، قال الشيخ: فكيف كان الأمر إذا؟ قال القس: إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى ابن مريم بالأردن غطسة، ومسح له رأسه، ودعا له بالبركة. قال الشيخ: واحتاج عيسى إلى يحيى بن زكريا أن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟ فاعبدوا يحيى، فيحيى خير لكم من عيسى. فسكت القس، واستلقى بشير على فراشه، وأدخل فاه في كمه وجعل يضحك، وقال للقس: قم أخزاك الله، دعوتك لتنصّره، فإذا أنت قد أسلمت.

ثم إن الشيخ بلغ أمره إلى الملك، فبعث إليه الملك فقال: ما هذا الذي بلغني عنك من تنقيصك لديني، ووقيعتك فيه؟ قال الشيخ: إن لي دينا كنت ساكتا عنه، فلما سئلت عنه لم أجد بدّا من الذبّ عنه. قال الملك: وهل في يدك حجة؟ قال: ادع لي من شئت حتى يحاورني، فإن كان الحق في يدي فلم تلومني على الذبّ عن الحق، وإن كان الحق في يده رجعت إلى الحق. فدعا الملك بعظيم النصرانية، فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون. فقال الشيخ: أيها الملك من هذا؟ قال: رأس النصرانية الذي تأخذ النصرانية عنه دينها. قال الشيخ: فهل له من امرأة؟ أم هل له من ولد؟ أم هل له من عقب؟ فقال له الملك: هذا أزكى وأطهر من أن يدنّس بالنساء، هذا أزكى وأطهر من أن ينسب إليه الولد ويدنّس بالحيض، هذا أزكى وأطهر من هذا كله. قال الشيخ: فأنتم تكرهون الآدمي، يكون منه ما يكون من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر، وتأخذكم غيرة من ذكر نسبة النساء إليه، وتزعمون أن رب العالمين سكن ظلمة البطن، وضيق الرحم، ودنس الحيض. قال القس: هذا شيطان من شياطين البحر، رمى به البحر إليكم فأخرجوه من حيث جاء.

فأقبل الشيخ على القس وقال: عبدتم عيسى ابن مريم لأنه لا أب له، فضمّوا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان، وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى، فهذا حزقيل مرّ بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه، فدعا الله عز وجل فأحياه له حتى كلّمه، فضمّو حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات، فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس، فقال لها: ارجعي بإذن الله

فرجعت اثني عشر برجا، فضمّوا يوشع أيضا إلى عيسى يكون رابع أربعة، وإن كنتم إنم عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء، فمن ملائكة الله عز وجل مع كل نفس، اثنان بالليل، واثنان بالنهار، يعرجون إلى السماء، ما لو ذهبنا نعدّهم لالتبس علين عقولنا، واختلط علينا ديننا، وما زاد في ديننا إلا تحيرا. ثم قال: أيها القس، أخبرني عن رجل يحل به الموت، الموت أهون عليه أم القتل؟ قال القس: بل القتل. قال: فلم لم يقتل عيسى ابن مريم أمه، بل عذبها بنزع الروح؟ إن قلت إنه قتلها فما برّ أمه في قتلها، وإن قلت إنه لم يقتلها فما برّ أمه في تعذيبها بنزع النفس. فقال القس: اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصّر. قال الملك: اذهبو به إلى الكنيسة. قال الشيخ: لما ذا يذهب بي إلى الكنيسة ولا حجة عليّ دحضت حجتي؟ قال الملك: لا يضرّك شيء إنما هو بيت من بيوت الله تعالى تذكر فيه ربك. قال الشيخ: أما إذا كان هكذا فلا بأس.

فذهبو به إلى الكنيسة، فلما دخل إلى الكنيسة وضع إصبعيه في أذنيه ورفع صوته بالآذان، فجزعوا لذلك جزعا شديدا، وصرخوا لذلك، وكتفوه، وجاءوا به إلى الملك، فقالوا: أيها الملك، أحل بنفسه القتل. قال الشيخ: أيها الملك، أين ذهبوا بي؟ قال:

ذهبوا بك موضعا تذكر ربك فيه. قال: فقد دخلته وذكرت ربي فيه بلساني، وعظمته بقلبي، فإن كان كلما ذكر الله في كنائسكم صغر إليكم دينكم فزادكم الله صغارا. قال الملك: صدق، وما لكم عليه سبيل. قالوا: أيها الملك، لا نرضى حتى نقتله. قال الشيخ: إنكم متى قتلتموني فبلغ ذلك ملكنا وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة، ويخرّب الكنائس، وكسر الصلبان، ومنع النواقيس. قالوا: وإنه ليفعل؟ قال: فلا تشكّوا في ذلك. قال: فتفكروا في ذلك فتركوه. قال الشيخ: أيها الملك، بم علا أهل الكتاب على أهل الأوثان؟ قال: لأنهم عبدوا ما عملوا بأيديهم. قال: فهذا أنتم عبدتم ما عملتم بأيديكم هذه الأصنام التي في كنائسكم، فإن كان في الإنجيل فلا كلام لنا فيه، وإن لم يكن في الإنجيل فما أشبه دينكم بدين الأوثان. قال: صدق، هل تجدونه في الإنجيل؟ قال القس: لا. قال: فلم تشبهوا ديني بدين أهل الأوثان؟ قال: فأمرهم بتبييض الكنائس، فجعلوا يبيضونها ويبكون. قال القس: هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم، فأخرجوه من حيث جاء، ولا يقطر من دمه قطرة في بلادكم فيفسد عليكم دينكم، فوكلوا به رجالا، فأخرجوه من حيث جاء من بلاد دمشق. ووضع الملك يده في قتل القسيسين والبطاركة والأساقفة، حتى هربوا إلى الشام، لما لم يجد واحدا يحاجّه. انتهى.

أخبرني عبد الوحد بن إسماعيل العسقلاني قال: سمعت جدّي لأميّ عمر بن عبد

الحميد يقول: اعلم أن الناس في الدنيا على أبواب ملوكهم طبقات، فمنهم الخواص المقرّبون، و الخدم المنتخبون، والأمناء الثقات، والكبراء السادات، والتجار الطالبون للأرباح، والفقراء أصحاب الصدقات.

فأحسن أحوالك أن تنزل نفسك منزلة الفقراء والسؤال لا مقام ذي الصلة والنوال، كم يدعون فلا يجيبون، ويرغبون فلا يرغبون؟ فما لكم لا تكونون كما قال الله تعالى:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وأشرف الذكر ذكر القلب، لأنه موضع نظر الله عز وجل من العبد.

وقال بعضهم يوبخ نفسه: أما تستحي من الله، كم يكون منك الخطا ومنه العطا، كم يكون منك الجفا ومنه الوفا؟ هلاّ كان منك التوبة فيكون منه القبول؟ يا نفس، كم تعصيه و يستر عليك وتتمادى في الذنب ويمهلك؟ أما تخشي عقابه؟ أما تستحي من عتابه؟ أخاف عليك إن لم تنته عن قبيح فعلك ليصبنّ عليك سخطه، وليحرقنك بنار غضبه، هذا قلبك في فلوات المعاصي ضائع، وسرك في الأعمال القبيحة رائع، فبادري بالتوبة والإقلاع، و الندم والاسترجاع، فكأنك وقد كشف القناع، ولا تغترّي بالحياة الدنيا فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع.

وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم:

أنت سترى كيف أهتكه ذا طريق لست أسلكه

أملك الدنيا بأجمعها وفؤادي لست أملكه

قال بعض العارفين: للعارفين أربع علامات: ذكر المنة، وصدق الهمة، وعرفان الحرمة، و خوف الفرقة. وقال بعض الصالحين: من علامات العارف أن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار، وإلى الآخرة بعين الانتظار، وإلى النفس بعين الاحتقار، وإلى الطاعة بعين الاعتذار لا بعين الاستكبار، وإلى المغفرة بعين الاستبشار، وإلى المعروف سبحانه وتعالى بعين الافتخار.

حدثن يونس بن يحيى، ثنا ابن البطيء، عن ابن شادان، عن أحمد بن إسحاق، عن أحمد بن محمود، عن الحسن بن عبد العزيز المخزومي، انا أبو حفص القيسي، عن أبي معبد، قال: سمعت بلال بن سعيد يقول: كان أخوان في بني إسرائيل خرجا يتعبدان، فلما أرادت الطريق تفرق بينهما قال أحدهما لصاحبه: خذ أنت في هذه الطريق، وأنا في هذه الطريق، فإذ كان رأس السنة اجتمعنا في ذلك الموضع، فلما اجتمعا قال أحدهما لصاحبه: أي ذنب فيم عملت أعظم؟ قال: بينما أنا أمشي على الطريق إذا بسنبلة فأخذتها

فألقيته في إحدى الأرضين، أرض عن يميني، وأرض عن شمالي، ولا أدري أهي للأرض التي ألقيتها فيها أم للأخرى؟ ثم قال المسئول للسائل: أي ذنب فيما عملت أعظم؟ قال: ل أعلم غير إني كنت أقوم إلى الصلاة، فأميل مرة على هذه الرّجل، ومرة على هذه الرّجل، فلا أدري أكنت أعدل فيما بينهما أم لا؟ فسمعهما أبوهما من داخل الباب، فقال: اللهمّ إن كان صادقين فأمتهما، فخرج فإذا بهما قد ماتا.

وروين من حديث ابن ودعان، عن الحسن بن شهاب، عن أبي الهادي، عن محمد بن منصور، عن موسى بن إسماعيل، عن حمّاد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء يباعدكم من النار إلا وقد ذكرته لكم، ولا شيء يقرّبكم من الجنة إلا وقد دللتكم عليه، إن روح القدس نفث في روعي أنه لن يموت عبد حتى يستكمل رزقه، فاجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبو شيئا من فضل الله بمعصيته، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته، ألا وإن لكل امرئ رزقا هو آتيه لا محالة، فمن رضي به بورك له فيه فوسعه، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه، إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله» .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!