موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


89. الموقف التاسع والثمانون

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 21 /107].

اعلم أنه: ليس المراد من إرساله رحمة للعالمين، هو إرساله من حيث ظهور جسمه الشريف الطبيعي فقط، وإن قال به جمهور المفسرين وعامتهم، فإنه من هذه الحيثية غير عام الرحمة لجميع العالمين، فإن العالم اسم لما سوى الحق تعالى ، بل المراد إرساله من حيث حقيقته التي هي حقيقة الحقائق، ومن حيث روحه الذي هو روح الأرواح. فإن حقيقته (صلى الله عليه وسلم) هي الرحمة التي وسعت كلّ شيء، وعمّت هذه الرحمة حتى أسماء الحق تعالى ، من حيث ظهور آثارها ومقتضياتها بوجود هذه الرحمة، وهذه الرحمة هي أوّل شيء فتق ظلمة العدم، وأوّل صادر عن الحق تعالى بلا واسطة، وهي الوجود المفاض على أعيان المكونات، وقد ورد في الخبر: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر.».

ولهذه الحقيقة المحمّدية أسماء كثيرة باعتبار كثرة وجوهها واعتباراتها، وأذكر طرفًا منها، ليكون نموذجًا لما لم أذكره، فإنَّ كثيرًا من الناس الذين يطالعون كتب القوم رضوان الله عليهم حين يرون هذه الأسماء الكثيرة يظنون أنه لمسمّيات متعدّدة، وليس الأمر كذلك؛ وإنَّما هي مثل: السيف، وا لصارم، والقضيب، والهندواني، والأبيض، والصقيل، والمحدّد... ونحو ذلك لمسمّى واحد: التعين الأول للحق تعالى . ولذا قيل في حد الحقيقة المحمدية: أنها الذات مع التعين الأول، ومنها: القلم الأعلى، ومنها: أمر الله، ومنها: العقل الأول، ومنها: سدرة المنتهى، ومنها: الحد الفاصل، ومنها: مرتبة صورة الحق، والإنسان الكامل بلا تعديد، ومنها: القلب، ومنها: أم الكتاب، ومنها الكتاب المسطور، ومنها: روح القدس، ومنها: الروح الأعظم، ومنها: التجلي الثاني، ومنها: حقيقة الحقائق، ومنها: العماء، ومنها: الروح الكلي، ومنها: الإنسان الكامل، ومنها: الإمام المبين، ومنها: العرش الذي استوى عليه الرحمن، ومنها: مرآة الحق، ومنها المادة الأولى، ومنها: المعلم الأول، ومنها: نَفَس الرحمن، بفتح الفاء، ومنها: الفيض الأول، ومنها: الدرة البيضا، ومنها مرآة الحضرتين، ومنها: البرزخ الجامع، ومنها: واسطة الفيض و المدد، ومنها: حضرة الجمع، ومنها: الوصل، ومنها: مجمع البحرين، ومنها: مرآة الكون، ومنها: مركز الدائرة، ومنها: الوجود الساري، ومنها: نور الأنوار، ومنها: الظل الأول، ومنها: الحياة السارية في كل موجود، ومنها: حضرة الأسماء والصفات، ومنها: الحق المخلوق به كل شيء... إلى غير ذلك، مما يطول ذكره.

فأمَّا وجه تسميته بمرتبة الحق، والإنسان الكامل بلا تعديد فلأن صورة الحق هي صورة علمه بذاته، وصورة العلم صورة نسب علمه، وصورة نسب علمه عبارة عن تعينات وجوده التي هي أحواله من حيث تعددها وعينه من حيث توحّدها.

وأمَّا وجه تسميته بالحد الفاصل فلأنه فاصل بين ما تعيّن من الحق ومالم يتعيّن. وهو مجلّى لما تعيّن منه. ولابدَّ من هذا الحدّ الفاصل ليبقى الاسم الظاهر وأحكامه على الدوام. إذ لولاه لطلب التفصيل الرجوع إلى الغيب، والإجمال. إذ الأشياء تحن إلى أصولها.

وأمَّا وجه تسميته بسدرة المنتهى فلأنه هو البرزخيّة الكبرى، التي ينتهي إليها سير الكمّل وأعمالهم وعلومهم، وهي نهاية المراتب الأسمائية.

وأمَّا وجه تسميته بالقلب، فلمعان كثيرة، منها: أنه لباب العالم وزبدة الموجودات أعاليها وأدانيها. وقلب الشيء خلاصته. ومنها أنه سريع التقلّب، كما قال: كلمح بالبصر،  ومنها: أنه قلب دائرة الوجود ونقطتها. ومنها أنه قلب المحدثات وعكسها، بمعنى أنه نور قديم إلهي، بخلاف الممكنات.

وأمَّا وجه تسميته بالعقل الأول فلأنه أوّل من عقل عن الحق تعالى أمره بقوله: "كن" أوجده تعالى لا في مادة ولا مدة، عالماً بذاته،  علمه ذاته لا صفة له، فهو تفصيل علم الإجمال الإلهي، وقد ورد في الخبر:

«أول ما خلق الله العقل».

وأمَّا وجه تسميته بأمر الله فلأنه الكلمة الإلهيّة الجامعة الشاملة، والكلام صفة المتكلم، وصفته تعالى عين ذاته، وهو أمر واحد قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَ إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾[القمر: 54/ 50].

فأفرد وقال: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾[الشورى: 42/ 53].

فجمع. فهو أمر واحد وأمور كثيرة. وقال: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾[هود: 11/ 123].

فتأكيده "بكل" يقضي بتعدده، لأنه لا يؤكد بها إلاَّ ذو أَجْزاء. ومَّا ذاك إلاَّ باعتبار المعدودات، لا باعتبار ذاته وأمَّا كونه كلمح بالبصر فلأنه، أي أمر الله، لا صورة له. وهو الظاهر بكل صورة حسيّة، أو عقلية، أو خيالية، أو مثالية، والصور لا بقاء لها أكثر من آن و احد، لأنها أعراض. والعرض ل يبقى زمانين. وهذا هو الخلق الجديد دائماً،  الذي بالناس في لبس منه.

وأمَّا وجه تسميته بالقلم الأعلى فمن حيث التسطير و التدوين، إذ هو كاتب الحضرة الإلهية، وقد ورد في خبر: «أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ الْقَلَم».

وأمَّا وجه تسميته بالحق المخلوق به كل شيء فلأنه ليس هو إلاَّ ظهور لحق وتعينه، فهو حق، و الظهور و التعين عدم، فه و خلق. ولما ظهر الحق تعالى به، جعله شرطاً وسبباً لوجود كلّ موجود بعده، على غير نهاية، وفوّض ا لحق إليه أمر المملكة كلّها، فهو يتصرّف فيها بإرادته تعالى ـ.

وأمَّا وجه تسميته بحضرة الأسماء والصفات، فلأنه تعالى لما اقتضى لذاته إيجاد العالم، اقتضى هذا الاقتضاء المذكور انقسام الذات العليّة، إلى طالب ومطلوب، وحاضر ومحضور، ولا شيء إلاَّ الذات وحدها. وكل أ مرين متقابلين لابدَّ أن ي كون بينهما أمر ثالث، ليتميّز كل منهما عن الآخر، فظهرت حضرة الأسماء والصفات من بين هاتين الحضرتين القديمتين، حضرة الطالب والمطلوب، والحاضر والمحضور،  فوصف بها الطالب باعتبار المطلوب، والمطلوب باعتبار الطالب، فظهر المطلوب على صورة الطالب، باعتبار اتصافه بهذه الأوصاف مع تباين الطالب و المطلوب بالنظر إلى ذات كلّ منهما، وإن كانا ذاتاً واحدة في الحقيقة، فحقيقة الاقتضاء الذاتي هو طلب الذات حضورها عندها، بطلب هو عين ذاتها، مثل اقتضائها لأوصافها، وإلاَّ كانت أوصافها حادثة، لأنها مطلوبة لها، وأوصافها قديمة أزلية.

وأمّا وجه تسميته بأم الكتاب، فلأن الوجود مندرج فيها اندراج الحروف في الدواة، ولا تسمَّى الدواة باسم شيء في أسماء الحروف، وكذلك أم الكتاب، لا يطلق عليها اسم الوجود ولا العدم، فلا يقال: إنها حق ولا خلق، ولا عين ولا غير، لأنه غير محصورة حتى يحكم عليها بحكم، ولكنها ماهية لا تنحصر بعبارة إلاَّ ولها ضد تلك العبارة من كل وجه. وهي محل الأشياء، ومصدر الوجود، فا لكتاب هو الوجود المطلق، وهذه الحقيقة، كالذي تولد الكتاب منه، فليس الكتاب إلاَّ أحد وجهي هذه الحقيقة، إذ الوجود أحد وجهيها، والعدم هو الوجه الثاني، فلهذا ما قبلت العبارة بشيء، لأنها م فيها وجه إلاَّ وهي ضدَّه.

وأمَّا وجه تسميته بالكتاب المسطور فلأنه الوجود المطلق على تفاريعه وأقسامه، واعتباراته الحقيّة والخلقية، وهو مسطور، أي موجود مشهود.

وأمَّا وجه تسميته بروح القدس، فلأنه الروح المقدّس عن النقائص الكونيّة، فهو روح لا كالأرواح، لأنه روح الله كما قال: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[الحجر: 15/ 29].

وروح الله ذاته، فالوجود كلّه قائم بروح الله الذي هو ذاته. فروح الله قديم، وما سواه تعالى محدث. فا لإنسان مثلاً له روح مخلوق به قامت صورته. ولذلك الروح المخلوق روح إلهي، قام به ذلك الروح، وهو المعبّر عنه بروح القدس.

وأمَّا وجه تسميته بالروح الأعظم فلأنه روح الأرواح، إذ الأرواح الجزئية لكلّ صورة جسميّة، أو روحية، أو عقلية، أو خيالية، أو مثالية، إنما هي فائضة منه. وتسميتها أرواحاً جزئية مجاز إذ لا جزء، ولا كل، ولا بعض، ولا معدود، إلاَّ بحسب الصور لا غير، كما عددت الأماكن والأزمان والأبواب والطاقات والخروق للشمس وهي حقيقة واحدة.

وأمّا وجه تسميته بالتجلي الثاني، فبالنسبة إلى التجلي الأحدي الأول، إذ هذا التجلّي الثاني به وفيه ظهرت أعيان الممكنات الثابتة، التي هي شؤون الذات لذاته تعالى وهو التعين الأوّل بصفة العالمية والقابلية. لأن الأعيان الثابتة معلوماته الأولى الذاتية القابلة للتجلّي الشهودي، وللحق بهذا التجلّي تنزل من الحضرة الأحدية إلى الحضرة الواحدية، بالنسب الأسمائية.

وأمّا وجه تسميته بحقيقة الحقائق فلأن كلّ حقيقة إلهية أو كونية إنم تحققت به، إذ هذه الحقيقة لا تتصف بالحقيّة، ولا بالخلقيّة، فهي ذات محض، لا تضاف إلى مرتبة. فلا تقتضي لعدم الإضافة وصفا، ولا أسماء، ولذا قال إمامنا محيي الدين: "المعلومات ثلاثة: الحق، تعالى، والعالم، ومعلوم ثالث، لا يوصف بالوجود، ول بالعدم، ولا بالحق، و لا بالخلق، ولا بالحدوث، ولا بالقدم، ولا بالوجوب، ول بالإمكان، فإذا وصف به الحق فهو حق، وإذا وصف به القديم فهو قديم، وإذا وصف به الحادث فهو حادث"، وهكذا..

وأمّا وجه تسميته بالعماء فلأن العماء في اللغة السحاب الرقيق، ورد في الخبر:

«كان ربّنا في عماء، مافوقه هواء، وما تحته هواء».

يعني لا صفة حق، ولا صفة خلق، على أن "ما" نافية، ويصح أن تكون "ما" موصولة، أي الذي تحته هواء، والذي فوقه هواء، بمعنى أنه يصلح أن يكون حقاً، وأن يكون خلقاً، فالعماء مقابل للأحدية. ولا يصحّ أن يكون العماء هو الأحدية، لأن الأحدية حكم الذات في الذات، بمقتضى التعالي، وهو البطون الذاتي الأحدي. والعماء حكم الذات بمقتضى الإطلاق، فلا يفهم منه تعال ولا تدان. فالأحدية صرافة الذات بحكم التجلي، والعماء صرافة الذات بحكم الاستتار. فالعماء هو الممكنات والظاهر فيها هو الحق. والعماء هو الحق، وسمي الحق لأنه عين نفس الرحمن،  والنفس مبطون في المتنفس، بمعنى أنه باطن المتنفس؛ فظهر، فالعماء هو الاسم الظاهر.

وأما وجه تسميته بالنور فلأنه ورد: «أول ما خلق الله نور نبيك ي جابر».

والنور نوران، نور الحق، وهو الغيب المطلق القديم، ونور العالم المحدث، وهو نور محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي خلقه الله من نوره، وخلق كل شيء منه، فهو كل شيء من حيث الماهيّة، وكل شيء غيره من حيث الصورة، وورد في بعض الأخبار.

«أنا من ربّي والمؤمنون مني»

وإنَّما خصَّ المؤمنون للتشريف وإلاَّ فكل الخلق منه، مؤمنهم وكافرهم، ولهذ كان الكمّل يشهدونه في كل شيء على الدوام، حتى قال المرسي(رضي الله عنه): لو أحتجب عنّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين. فالمراد بعدم الاحتجاب دوام شهود سريان حقيقته في العالم كلّه، لا شخصه الشريف، وإني أيام مجاورتي بالمدينة المشرفة، كنت ليلة في صلاة الوتر، قرب الحجرة الشريفة، فطرأ ع ليَّ حال، فسالت دموعي، واشتعلت نار محبّة رؤيته (صلى الله عليه وسلم) في قلبي، فقال لي في الحين: ألست تراني في كل شيء؟! فحمدت الله. لا يفهم ممّا ذكرناه حلول ولا تجزئة، ولا جزئية، فإن معنى إيقاد السراج من نور سرا ج آخر، أنَّ الأوّل أثّر في الثاني، فظهر الثاني على صورة الأوّل. بل الثاني عين الأوّل، ظهر في فتيلة ثانية، من غير انتقال عن الأوّل، وهذا غاية ما قدر عليه أهل الوجدان في التفهيم، فافهم السر واحذر الغ لط، وإذ عرفت فاحمد الله، وإلاَّ آمن به على مراد أهله وذوقهم، فإنهم الفرقة الناجية.

وأما وجه تسميته بمرآة الحق، لأنَّ الحقّ تعالى ، رأى نفسه فيها، إذ الحق شاء أن يرى ذاته في صورة كون جامع، فظهر بذاته في الحقيقة المحمدّية، وقدّر الصور كلّها فيها، ما هي في علمه . فقامت له نفسه في صورة المغايرة مقام المرآة، من غير انفصال ولا تعداد، لأنَّ الصورة في المرآة ليست إلاَّ صورة الناظر فيها، المتوجه عليها، وليست هي صورة الناظر بعينها. فلما نظر الحق إليها، ظهر كلّ ما في الصورة الإلهية في تلك المرآة، التي هي نفس الحقّ في الحقيقة، والحقيقة المحمدّية في الخلق الأول، وحقائق العالم في حضرة التفصيل، فنظر الحق فيها، فرآى نفسه طاهراً فيها بجميع معلوماته، من غير حلول ولا اتحاد، فخاطب معلوماته التي كساها حلّة وجوده "بكن" فكانت لأنفسها. وفي الحقيقة ما خاطب إلاَّ نفسه بنفسه.

وأما وجه تسميته بمرآة الكون، فلأن الأكوان وأحكامها وأوصافها لم تظهر إلاَّ فيه، وهو مختف بظهورها كما تختفي المرآة بظهور الصور فيها.

وأمَّا وجه تسميته بالظلّ الأول، فلأنه هو الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها، التي هي معدومات ظهرت بما نسب إليها من الوجود، فستر ظلمة عدمها، النور الظاهر بصورها، وصار ظلاً لظهور الظل بالنور وعدميته في نفسه. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾[الفرقان: 25/ 45].

أي بسط الوجود على الممكنات.

وأمَّا وجه تسميته بمجمع البحرين؛ فلأنه مجمع بحري الوجوب والإمكان، أو باعتبار اجتماع الأسماء الإلهية والحقائق الكونيّة فيه.

وأمَّا وجه تسميته بالمادة الأولى، أي هيولي الكل، فلأنه أوّل مخلوق تعيّن في الحضرة الغيبيّة، وتفصل منه جميع ما في العالم الكبير و الصغير، من جليل وحقير. فهو هيولي العالم، أي المادة المتقدمة على الموجودات، التي هي موجودة في كلّ الموجودات، ولا تخلو عنها صورة في العالم، كما تقول الفلاسفة في الهيولى، وه ي الجوهر الذي تتركب منه الأجسام عندهم، لأن الله خلق الأشياء منها، خلقه من غير سبب متقدم عليه في الإيجاد، وليس إلاَ المادة الأولى التي ظهرت عن حضرة اللاتعين، وجعله سبباً لجميع المخلوقات.

وأمَّا وجه تسميته بظاهر الوجود، فلأن الوجود منقسم بالاعتبار إلى ظاهر و باطن. فباطن الوجود هو الغيب المطلق الذي لا يسمَّى ولا يوصف. وأما ظاهر الوجود فهو ظهور الوجود الحق بأعيان الممكنات. أعني أحكامها وصفاتها، وهو الوجود الإضافي، أي المضاف إلى الممكنات.

وأمَّا وجه تسميته بالعرش الذي استوى عليه الرحمن، فلأنه مظهر لجميع الأسماء من جلال وجمال، فاستوى عليه كما يعلم، لا كما نعلم نحن، ولأن العرش محيط بالعالم في قولٍ، أو هو جملة العالم، في قول. والمخلوق الأوّل، وهو الحقيقة المحمدية يشبه العرش في وجه الإحاطة. وقد ورد في خبر: «أول ما خلق الله العرش».

وأمَّا وجه تسميته بمركز الدائرة، فالمراد بالدائرة الأكوان كلها،  والمركز هو القطب الذي تدور عليه، كقطب الرحى الذي هو ماسك لها، ولولا استقامته ما استقامت على وزن واحد. فلأنهم نظروا إلى كلّ خط يخرج من النقطة إلى المحيط. فالنقطة هي محط فخذ البيكار الأول، والمحيط هو محط فخذ البيكار الثاني، وله شعبتان لحمل المداد الذي تكوّن عنه صورة الدائرة. لكنه ل يدور إلاَّ على الفخذ الأول،  الراكز على أمر واحد من غير استدارة ولا مداد فيه، لكنه يمدُّ ما فيه المداد، بالاستقامة على حركته الدورية، فلهذا يخرج كل خط مساوياً لصا حبه الذي قبله والذي بعده، لأن الدائرة كلّها نقط وخطوط متصل بعضها ببعض. فنقطة المركز تقابل كلّ نقطة من نقط الدائرة بكلها. وكل نقطة من نقط الدائرة هي عين نقطة المركز، باعتبار انفراده ومقابلتها إياها، فهي محيطة بكلّ نقطة من هذا الوجه، وليست هي نقطة من نقط الدائرة، باعتبار استدارتها واتصالها بما قبلها وبما بعدها، فهي في هذا الوجه مغايرة لكل نقطة،  فاعتبر ذلك في الحق تعالى فالدائرة دائرة الأكوان واتصال بعضها ببعض، والمركز إشارة إلى سكون الأمر، وهو الحقيقة المحمّدية، تحت القضاء والقدر، وتنفيذ ما أراد الله بعباده.

وأمَّا وجه تسميته بالوصل، فلأنه يصل الأشياء الكثيرة بعضها ببعض حتى تتحد، ولأنه الواصل بين البطون و الظهور.

وأمَّا وجه تسميته بواسطة الفيض والمدد، فلأنه هو الرابط بين الحق و الخلق، بمناسبته للطرفين، فله وجهان، وهو في أحدهما حق، وفي الآخر خلق.

وأمَّا وجه تسميته بنفس الرحمن، فلكونه شبيهاً بالنفس الخارج من الجوف، المختلف بصورة الحروف،  مع كونه هواءً ساذجاً في ذاته، ونظراً إلى الغاية التي هي ترويح الأسماء الداخلة تحت الاسم الرحمن عن كربها، وهو كمون الأشياء، وكونها بالقوة، كترويح الإنسان بالنفس، وكذ الحقائق الكونية لانعدام أعيانها واستهلال الجميع، أعني النسب والشؤون الإلهية والكونية في الوحدة الذاتية.

وأما وجه تسميته بالفيض الأول، فلأن الحقّ تعالى أبرزه من حضرته قبل كلّ شيء وأفاضه على عين كلّ شيء، فظهر كلّ شيء ممتداً منه بسبب فيضانه عليه. وحملهم على هذه التسمية أنهم رأوا الأجسام بيوتاً مظلمة، فإذا غشيها نور الحقيقة المحمدّية أشرقت وأضاءت بالأنوار المفاضة من الخضرة، التي هي من حضرات الحق تعالى.

وأمَّا وجه تسميته بالدرة البيضاء، فلأنه محل تجلّي الحقيقة الإلهية، والتجلي في الشيء الصافي الذي ما خالطه شيء من الأدناس أقوى وأرقى ما يكون. وقد ورد في خبر:

«أول ما خلق الله؛ درة بيضاء»، الحديث بطوله.

وأمَّا وجه تسميته بمرآة الحضرتين، فلأنه محلُّ ظهور حضرة الوجوب بظهور الأسماء، والصفات جميعاً فيه، ومحل ظهور حضرة الإمكان بظهور الممكنات كلها صوره وأوصافها وأحكامها فيه. فهو مرآة لعين الذات ولما تعيّن فيها وبها. ونسبة ما تعيّن لما لم يتعين نسبة ما يتناهى إلى ما لا يتناهى.

وأمَّا وجه تسميته بالمعلم الأوّل، فباعتبار أنه أوّل موجود ظهر في الغيب،  باعتبار نشأته الباطنة، وهو الروح الكل، وأوّل معلم ظهر في الإنشاء، باعتبار نشأته الظاهرة، فعلّم الملائكة الأسماء كلّها وما علم الأسماء إلاَّ من نفسه، بأن كشف الحق له عن ذاته فوجدها مجموع الأسماء، فالحقيقة المحمدية مجموعة صورة آدم الظاهرة والباطنة.

وإني وإن كنت ابن آدم صورة          فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

وأمَّا وجه تسميته بالإمام المبين، فلأنه فصّل الموجودات، وبيّن أعيانه بظهوره فيها، كما بيّن الحِبر الحروف والكلمات.

أمّا وجه تسميته بالروح الكلّ، فلأنه مشتق من الريح، وحكمة المناسبة أن الريح ليست له صورة يعرف بها، إلاَّ من حيث مروره على الأشياء فيحرّكها، وكذلك الروح، يهب في مطلع الأحدية إلى مرتبة الأسماء والصفات، فيحمل منها العلوم والأسرار، وينزل إلى عالم العناصر والصور والأعيان المفصّلة فيحرّكها على حسب قوابلها واستعداداتها. وينفذ الروح فيها ذلك على حسب مراد الله تعالى ، إذ هو أ مر الله القائم على جميع الخلق كلمح البصر. و الروح يتردّد دائماً بين شعاعه، أي أثر نوره الصادر عنه، كصدور الشعاع الصادر من قرص الشمس و المراد بالشعاع الصادر عن الروح: العقل والنفس، وسائر القوى الروحانية وبين ضيائه، أي نوره الكلّي الذي هو الأصل كقرص الشمس. و المراد هنا: وجود الحق المحيط بالروح الكلّ، فلذلك نقول: الروح له وجهان، وجه إلى أصله وهو الحق، ووجه إلى فرعه وهو الخلق، فيأخذ الأمر من الحق، ويكتبه بقلم العقل، وفي لوح النفس، فتقرأه الأعضاء أقوالاً وأعمالاً. وإنم قيل فيه "كلّي" لأنه قائم على جميع الصور ومحيط بها، فأهل الله ينظرون بع لمهم، فيجدون العالم كلّه أرواحاً مقدّسة، وأسراراً مستترة.

وأمّا وجه تسميته ببرزخ البرازخ فلأنه لا يغاير حقيقة الواجب، ول الممكن، فهو جامع بين الطرفين، إذ حقيقة البرزخ أنه الحاجز بين الشيئين، لا يكون عين واحد منهما ولا غيرهما، ولا يكون إلاَّ معقولاً؛ فإذا كان محسوساً فليس ببرزخ، وهو الخيال، وهو الوهم، وهو الذي تصير إليه الأرواح بعد الموت.

فالكلم ثلاث: كلمة جامعة لحروف الفعل والتأثير، التي هي حقائق الوجوب. وكلمة جامعة لحروف الانفعال والتأثر، وهي حقيقة العالم. وكلمة جامعة بينهما، فاعلة منفعلة، متأثرة مؤثرة، وهي هذه الحقيقة الكلية.

وأمَّا وجه تسميته بالوجود الساري، فلأنه لولا سريان الوجود الحق في الموجودات، بالصورة التي هي منه وهي الحقيقة المحمدّية، ماكان للعالم ظهور، ول صحَّ وجود لموجود، لبعد المناسبة وعدم الارتباط، فما صحَّ نسبة الوجود للموجودات إلاَّ بواسطة هذه الحقيقة. وأمَّا وجه تسميته بالإنسان الكامل، فلأن كلّ إنسان كامل، من حيث صورته الظاهرة والباطنة مظهر له وللوازمه.

وأمَّا وجه تسميته بالخزانة الجامعة فلأنه كناية عن علم الله تعالى بأسمائه، وبحقائق العالم، فكل ما خرج من الغيب فمحلّه هذه الخزانة الجامعة.

وأمَّا وجه تسميته بالصورة الرحمانية، فلأنها الصورة الظاهرة لذاتها، الحاصلة في الاجتماع الأول الأسمائي، فهي صورة الرحمن، لأن مدلوله من له الرحمة العامة. ولا شيء كذلك إلاَّ هذه الصورة. فالرحمن، اسم لهذه الصورة الوجودية من حيث ظهوره لنفسه،  كما أن الله تعالى ـ، من حيث أنه مشتق، لا من حيث أنه مرتجل، اسم لرتبة الألوهية الجامعة للحقائق.

ويكفي هذا القدر من ذكر أسماء هذه الحقيقة المحمدية لمن فهم، فإنها بحر لا ساحل له. ولهذا ورد في الخبر عنه (صلى الله عليه وسلم): «لا يعلم حقيقتي غير ربي».

وقال العارف الكبير: "أعجز ا لخلائق، فلم يدركه منا سابق، ول لاحق"، يعني العلم بحقيقته.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!