موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


370. الموقف:السبعون بعد الثلاثمائة

الحمد لله الخبير، هو الذي يعلم الأشياء من حيثها فيعلمها بها على ما  هي عليه. وهذا هو الفرق بين اسمه العليم واسمه الخبير. فإن العليم هو الذي أحاط علمه بالأشياء على ما هي عليه من حيثه لا من حيثها، والخبير هو الذي أدرك علمه الأشياء من حيثها على ماهي عليه فعلمها بم اقتضته ذواتها من غير جهل سابق.

الفصل الأول.

في مظهرية الإنسان للحق ذاتا وصفاتا وأسماء وأفعال

اعلم - عرّفك الله بذاتك ومكنك من آثار صفاتك - أن الله قال على لسان نبيّه الحديث وهو قوله: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فبي عرفوني».

هذا حديث صحيح من طريق الكشف، ضعيف من طريق الإسناد، وقد أجمع المحققون على صحته، وذكره غير واحد في مصنفاته. وإذا قد علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى لما أراد إظهار ذاته بماله من أسمائه وصفاته، ولم يكن معه موجود سواه، تجلّى لنفسه في نفسه بتجلّي الغيرية، فأحدث منه له موجوداً سماه بالعالم، كما يحدث أحدنا في نفسه لنفسه صورة موجودة يحدثها وتحدثه في نفسه، على أنها سواه مجازاً في ذلك الوقت، وفي الحقيقة هو عينها؛ فكذلك الحق تعالى والدليل على ذلك قوله:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾

فالعالم كله من حيث المجاز، ون شئت قلت من حيث اقتضاء المقام، وإن شئت قلت العالم من حيث التقسيم، غير الله. وصفات الله منزهة عن صفات العالم، فلا تشبه العالم ذاته بوجه من الوجوه، ولا بينه وبين العالم نسبة، لأنه القديم الواجب بذاته، والعالم محدث مفتقر إلى غيره، لأنه موجود ما دام الحق ينظر الغيرية. فإذ رفع نظره عنه فنى العالم بأسره، كما إذا رفع أحد منا نظره عن صورة مصورة له في الذهن، كان ناظراً إليها، فإن تلك الصورة تنعدم عند رفع النظر عنها. وكذلك تقول، من حيث الحقيقة، وإن شئت قلت من حيث الذات، وإن شئت قلت من حيث الواحدية وعدم الانقسام، العالم كله هو الله لا غيره.

ويرد علينا في هذا المقال سؤالان:

الأول: إن كان العالم عينه فما هذا التعدد الموجود في العالم، وهو واحد سبحانه وتعالى، وكيف يظهر متعدد وهو واحد؟!

الجواب: أن التعدد ظاهر في الوجود غير مناف للواحدية الإلهية، لأن الوجه الواحد إذا قابلت به مرايا كثيرة فإن الواحد يتعدّد فيها ولا يتعدد في نفسه، فهو واحد من حيث هو متعدد من حيث تلك المرائي فهذا التعدد الواحدي، لواحد غير متعدد.

السؤال الثاني: كيف يكون العالم عين الحق تعالى متغير على الدوام، فالقول بأن العالم عينه يفضي على الحكم بالتغير على الله تعالى.

الجواب: قد بيّنا أن مثال العالم بالنسبة إلى الحق تعالى مثال الصورة المتخيلة في ذهنك المفروضة أنها غيرك بالنسبة إليك، فهل ترى التغيير الواقع بتلك الصورة راجعاً إليك من حيث حقيقتك، أم راجعاً إلى ذلك المتخيل المفروض، وأنت على ما أنت عليه قبل ظهوره في مخيلتك، لأن وجود المفروض نفسه وجود مجازي غير حقيقي. إذ لا استقلال له إلاّ من حيث الفرض، فصفاته أيضاً كذلك. فتغييره تغيير مجازي، فلا يلحق ذلك التغيير إلا تلك الصورة، لأنه صفتها. ولا يلحق بالشخص المتصور - اسم فاعل - وإذ قد عرفت هذا علمت أن العالم متخيل الوجود ليس له حقيقة وجود. فجميع أوصاف العالم كذلك مجاز ليس له حقيقة وجود. لأنها موهومة متخيلة، والله تعالى حقيقتها. فكل ما ينسب إلى العالم فإنما هو مجازي، والله تعالى منزّه عن ذلك التغيير، على أنه نفس العالم هذا المحسوس والمعلوم الظاهر والباطن، فسبحانه ما أوسعه. ثم إنه تعالى لما توجه لخلق العالم منه - كما ذكرنا - خلق روحاً كلياً سماه حضرة الجمع والوجود لكونه جامعاً لحقائق الوجود، وسماه بالقلم الأعلى، ل نبعاث صور الموجودات منه كما تنبعث صور الكلمات من القلم الكياني، وسماه بالعقل الأول، لأنه أول شيء عقل، أي ربط وقيد باسم الغيرية، ومنه عقل البعير أي ربطه وقيّده، وسمّاه بالحقيقة المحمدية، لكونه أكمل مظاهر حضرة الجمع والوجود وهو الهيكل المحمدي. فهي وإن كانت لها مظاهر كثيرة فإنها بعينها بهذا الاسم، لكون محمد صلى الله عليه وسلم أكمل مظاهرها، على أنه ما في الجنس الإنساني أحد إلاّ وهو مظهر هذه الحقيقة، كل إنسان يكون فيه ظهورها وبطونها على قدر كماله ونقصانه، ولابدّ من ظهورها في كل إنسان كامل. واختص محمداً صلى الله عليه وسلم بالأكملية الكبرى التي ليس لأحد إليها سبيل، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم : ((أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ))

لأنه الأولى بها من كل أحد. ثم إن الله تعالى لما خلق هذا البرزخ المحمدي المسمى بحضرة الجمع والوجود أوقفها موقفاً عرشياً. أعني على صورة سمّاه عرشاً، فذلك العرش خلق منها، ثم جمعها إلى صورتها الأولى، وكلما أقامها في صورة وقبضها بقيت الصورة موجودة في العالم. ولم يزل كذلك يقبضها على صورتها الأول، ثم يبسطها بصورة من صور الموجودات، والموجودات تنبعث من ذلك التصوير حتى خلق جميع الوجود منها أعلاه وأسفله، جبروتية وملكوتية، وملكية وصورية ومعنوية لطيفة وكثيفة، حتى انتهت المرتبة إلى خلق الإنسان البشري، وهو آخر المراتب الوجودية، فخلقه منه ولم يقبضها. فكان الإنسان هو حضرة الجمع والوجود، فليس لحضرة الجمع والوجود صورة إلا الصورة الإنسانية، لأنها بسطت فيها ولم تنقبض عنه. إذ لا مرتبة أنزل من هذه المرتبة، فهو غاية تنزّله، والحق غاية عروجها. فكان الإنسان صورة حضرة الجمع والوجود فرجعت إليه حقائق الموجودات بأسرها، رجوع الفرع إلى الأصل، ومعها بذاتته جمع الكل للجزء، فناسب كل شيء منها بكماله على ما هو عليه ذلك الشيء، ولذلك صار مظهراً لجيمع الحقائق، لأن حضرة الجمع والوجود متصور بصورة كلّ حقيقة من حقائق الموجودات، وهي الإنسان. ومن ثم كان الإنسان وجوداً مطلقً لسريان حكمه في أقسام الوجود ظاهراً بظاهر، باطناً بباطن، علوياً بعلوي، وسفلياً بسفلي. ومن ثم استحق الخلافة ووجب أن يسجد له من استخلف عليهم. ولما كان الإنسان حضرة الجمع والوجود المحدثة من ذات الحق المخلوقة على الصورة الإلهية، كما ورد في نص الحديث، كان موصوفاً بالأسماء والصفات الإلهية، لأنه عينه. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله أنه عين العبد المتقرّب، فهو سمعه الذي يسمع به، إلى غير ذلك من أعضائه وقواه. وقال في حديث آخر: حتى أكون هو، كل ذلك، إشارة إلى حقيقة ما هو عليه الإنسان من الصفات الإلهية. وذكرت لك هذا لتستدل بك عليك، وتعرف أنك العين المقصودة من الوجود كله، أعلاه وأسفله، أنك أنت الموصوف بصفات الحق، وأن الله اسم لذاتك، وأن الألوهية عبارة عن صفاتك. ثم إذا عرفت هذه النكتة استرسلت فيها بكليتك ولا عرجت بعدها على شيء سواك من الوجود جميعه، تجعل ذلك دأبك ليلك ونهارك، غدوك ورواحك، تارة شهوداً علمياً، وتارة شهوداً عينياً، وتارة تحققا وجودياً حكمياً، وآونه وجودياً حقيقياً تفصيلاً، طوراً تصرفاً ملكياً فوقتا مع الذات، ووقتا مع الصفات، ووقت معهما، حتى تتمكن من ذاتك، فتكون في ذاتك، على ماهي عليه ذاتك. وإذا صحّ لك هذ المشهد فاعلم أن شاهده لك من حيث ظاهره أنك إذا قلت للجبال الراسيات زولي لم تلبث نفساً، فإذا لم تجد ذلك من الظاهر فاعلم أنك لم تحصل في المشهد الذاتي. وما ذكرت لك هذه النكتة الغربية إلا ليحصل لك التنبه عليها فتتحقق بدرجة الكمال، فتظهر على ما أنت عليه من الجلال والجمال.

واعلم أن الحقيقة الإنسانية هي الذات الإلهية، ولها من صفات الكمال م تعرف الله به على عباده، وما استأثر به مما لم يتعرف به إلى خلقه. فجميع ذلك لهذه الحقيقة الإنسانية، فاطلبها منك فيك بالاسم الله حتى تجد المسمى، فتسقط الاسم فتعرف ذاتك، ثم تجد ما عرفت، ثم تتصرف بما وجدت، وإذا صحت معرفة ذاتك ثم وجدت م عرفت ثم تصرفت بما وجدت فيما أردت فاعلم أنك أنت الإنسان الكامل، وقطب الأوائل والأواخر. وإذا لم يصح لك ذلك فاعلم أنك إنسان مطلق منحطا عن رتبة الكمال بقدر م فاتك من ذلك. واعلم أن كل فرد من أفراد النوع الإنساني عنده قابلية الكمال الإلهي، لكن ما كل أحد مستعد لذلك، فالقابلية أصلية في كلّ شخص لأنه مخلوق من الذات الإلهية، ومن كان كذلك فهو ذو قابلية للكمالات الإلهية. ولمن الاستعداد هو الذي يبلغك مرتبة الكمال، فمثل القابلية والاستعداد في الإنسان كمثل الصقالة والمقابلة في المرآة، لأن كل مرآة مصقولة لابدّ أن تكون قابلة لتجلّي وجه الملك فيها، ولكن لا يحصل ذلك إلا للمرآة المستعدة لذلك، واستعدادها على قسمين: ضروري وغير ضروري. فأما غير الضروري فهو تزيّنها بأنواع الحلي حتى يرتضيها الملك لنفسه، لأن الملوك لا ترتضي أن تتخذ مرآة غير مزينة في الغالب، ولا يجب في النادر وقوع ذلك، فمثل هذ الغير الضروري مثل القيام بالشرائع للطالب. وأما الضروري للمرآة فهو مقابلته لوجهه مقابلة مسامتة، فإذا حصل ذلك تجلّى وجه الملك فيها. فتزينك أيها الأخ ليصطفيك الملك لنفسه، إنما هو تجردك عما سواه ظاهراً وباطناً، وتفرغك له شهوداً ووجوداً، مع القيام بالشرائع، ومقابلتك له مقابلتك لأسمائه، ثم صفاته، ثم ذاته، حتى يظهر منك فيك، فإنه عينك ولك جميع ما له بحكم الاستغراق والشمول جملة وتفصيلاً، فتكون أنت عينه، أو هو عينك. وعلى كل حال فما يكون إلا أحدكما ويسقط الثاني، وإن شئت قلت تكونان كلاكما توجدان لا بحكم الغيرية والتعدد، فتكون ذاتكما واحدة وصورتكما تارة متوحدة وتارة متعددة. فاستعد أيها الإنسان لهذا الأمر العظيم الشأن.

واعلم - وفقك الله لمعرفة نفسك وأخرجك من ضيق رمسك - أن باطنك لما كان مغيباً عنك وكانت فيه أمور غريبة ونكت عجيبة تعزب عنك لجلاله قدرها فلا تكاد تفهمها للطافة أمرها لأنها بالكلية منافية لأمر ظاهرك جارية على أسلوب بخلاف م تعلمه من نفسك أقاموا لك اسمهما في مسمى، ثم وصفوه لك بما عرفوه من أوصافك فيها، حتى تثبت أولاً أن مثل هذه الأوصاف توجد في موجود من الموجودات. فإذا دلوك عليك عرفته من نفسك، ثم دلوك على باطنك فقالوا أنك نسخة من فلان المذكور بتلك الأوصاف أو أن فلاناً نسخة منك فإنك وإن أنكرت ذلك منك، أي من نفسك لعدم معرفتك بك، فإن تلك الأوصاف ليست إلا لك. أفتراك إذا غفلت عن مثل تلك الأشياء الموجودة فيك ورحلت من هذه الدار ولم تعرفها حق المعرفة كنت إلاّ خاسراً. ولو أعطيت من الوجود ما عسى أن تعطاه فإن الجمال المنفصل عنك كالأموال والأولاد وأمثالهم ليس كالجمال المتصل بك من حسن خلقه وشرف النفس وجمال الهيئة وجمال مكارم الأخلاق، لأن الجمال الذي هو عبارة عن وجودك هو الباقي لك، وما سواه فلادّ من مفارقته. فمن لا يحصل فيه من الكمالات فهو أنقص الناقصين. فافهم هذه الإشارة واعرف هذه العبارة وتأمل في فلان تعرف ما أردنا به إن وفقك الله، فالله الله في معرفة أوصاف فلان في طلبها منك بطرحك وجعلك عبارةعنه، فإنك المراد بذكره.

واعلم أن العالم صورة والإنسان روح تلك الصورة، وتحقق بفهم ما أشار إليه محي الدين بن العربي في قوله مشيراً إلى أبي سعيد الخراز: وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته، فتعلم أن ذلك عبارةعنك، وأنك عين المسمى بذلك الاسم بالوجود والحقيقة، لا بالمجاز والتبعية الحكمية، ولا على سبيل الالتحاق والنسبة، بل لم كانت فيك حقائق لا تصل إلى معرفتها وضع لك ذلك الاسم، وليس له مسمى سواك. فأول م ينبغي لك أن تعتقد بقلبك على أنك مسمى ذلك الاسم الأعظم (1). وتشهد تلك الصفات الكمالية لك بكمالها على سبيل الملك والمرتبة، لا سبيل الحكم والمجاز، فإذا استدام قلبك على هذا العقد وأمنت من ظنك الريب الخناس، وزال الشك والالتباس، فإنك سوف تجد تلك الأوصاف فيك شهودياً وجودياً عيانياً.

واعلم أن الحقيقة المحمدية عبارةعن الهوية الإلهية بما هي عليه من الشؤون والأسماء والصفات والظهور والبطون والشهادة والغيبة، إلى غير ذلك من النسب والإضافات المندرجة تحت هذا الاسم، فمحمد صلى الله عليه وسلم هوالمشار إليه بهذ الاسم. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الهوية المتعينة بالعين المهملة، والهوية عبارة عن الذات الإلهية بتعيينها بجميع الأسماء والصفات لها على سبيل غيبوبة ذلك عمن سواه. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الهوية المتعينة على سبيل ظهور ذلك البطون، وشهادة تلك الغيبوبة في هيكل مخصوص منفرد بالكمالات المنطوية تحت الهوية الإلهية، فهو صورة ذلك المعنى وشهادة ذلك الغيب وتفصيل ذلك الإجمال، وتنزل ذلك التعالي وتشبيه ذلك التنزيه على سبيل الواحدية، لا على سبيل الغيرية، فافهم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حقيقة ذاتية ترجع إليها الكمالات الإلهية رجوع الصفة إلى موصوفها. وأنه صلى الله عليه وسلم كان معبراً عن أوصاف نفسه التي كان هو متحققا صبها في جميع ما كان يصف عن الله تعالى ولهذا عبرت الطائفة عن الحقيقة المحمدية بالذات، وبحضرة الجمع ولوجود. وذلك هو الله وأسماؤه وصفاته.

مقام قاب قوسين، عبارة عن البرزخية الكبرى، وهي صرافة الذات المعبر عنها بحقيقة الحقائق.

الباقي تعالى (2) هو الذي لا يتغير تجليه في الوجود. لأن الوجود تعالى بذاته يجب أن تكون أسماؤه وصفاته كلها واجبة بوجوب ذاته، وإذا كانت كذلك فتجلياته واجبة فهي لا تتغير ولا تتبدل لأن التجليات إنما هي لأسمائه وصفاته. وهذا التجلي البقائي العام هو الشامل للتجليات الجامع لها فنسبة باقي التجليات إليه نسبة أمواج البحر إلى البحر، فالبحر لا يتغير أبداً، والأمواج يقع فيها التغيير بهيجان وسكون، وظهور وبطون، وكل ذلك من شؤون البحر. وإذا وجدت شؤون صح أنه لا يتغير، لأن كل شيء يكون التلوين من شأنه، فبقاء التلوين عليه هو عدم تلوينه عما كان عليه.

التجليات الإلهية على قلوب العباد لها من حيث المرتبة حكم، ومن حيث الظهور حكم، فحكمها من حيث المرتبة عدم الجهة والممازحة والحلول وعدم الاتصال والتشبيه والصورة والتقييد. وحكمها من حيث الظهور ما وقع به التعريف حالة التجلّي، فلا يستحيل ظهورها بالجهة والممازحة والحلول والاتحاد والاتصال والتشبيه والصورة والتقيد. لأن اله تعالى يظهر فيما يشاء كما يشاء، ويحتجب كيف يشاء وبلا كيفية، فله التنزيه والتشبيه. فقد ظهر تعالى في الكوكب لإبراهيم، وفي النار لموسى، وفي صور المعتقدات لأهل المحشر، وقد نسب إليه اليد والقدم وما أشبه ذلك من صفات المحدثات. فهذه هي التي يعني بها التشبيه. على أنه في ظهوره بما نسب إليه من التشبيه منزه تعالى، فيتعالى عن التجسيم والحلول وشبه ذلك على الإطلاق. وهذ التنزيه هوالذي أشرنا إليه بحكم المرتبة، فمن تقيد بحكم المرتبة وحجب عن حكم ظهوره جنح إلى مطلق التنزيه، وأول جميع ما ورد على وفق ما يقتضي التنزيه، لا على ما هو الأمر عليه، ومن حجب عن حُكم المرتبة بالظهور جنح إلى التشبيه المطلق، فقال بالتجسيم والحلول :﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[الصافات:37/180].

وكلا الطائفتين محقٌ من وجه، مبطل من وجه. وإياك أن تعتقد تنزيها بل تشبيه، أو تشبيهاً بلا تنزيه. بل كن منزها إن ظهر فيما تعرف به من التشبيه، ول تسلب عنه ما نسبه إلى نفسه من التشبيه إن عرفته بالتنزيه، وأين المنزه من المشبه من معرفة كمالاته التي لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره.

وجه آخر: إن الطريق التي سلكت للممكنات هي من العدم الإضافي إلى الوجود الإضافي، وهذا الطريق يوصل إلى العلم القديم، إلى حقيقة العقل الأول، إلى آخر سلسلة الوسائط. فالبداية التي يفارقونها هي الحق وليس إلاّ نفس امتيازهم عنه في الخارج فلو خرجوا على خط مستقيم لم تكن لهم غاية يقصدونها، وكانوا إذا صدروا عن الحركة، والحركة لا تكون إلا لحصول كمال، ولا يتصور التوجه بالحركة إلى العدم المطلق، ولا إلى الوجود المطلق، ولا إلى العدم الإضافي، بل إلى الوجود الإضافي. فغاية طريق الممكنات عين بدايتها من وجه، فما فارقت الممكنات إلا حضرة من حضرات الوجود، وما توجهت إلا لحضرة من حضراته، ومنه صدرت وإليه رجعت، وإذا ثتب هذا صحّ أن الطريق دوري.

أعيان الأشياء متميزة، وكون الأعيان وجود الحق لا غير، ووجود الشيء ل يمتاز عن عينه نفخ الروح الحيواني في الجسم، ونفخ الناطق في الروح الحيواني فل يتصل بذلك المنفوخ فيه أمر إلا اتصل بالمنفوخ، فلا يحس الجسم محسوساً إن أدركه الروح الحيواني تعقلاً وتخيلاً وتوهماً، وأدركه الروح الناطق عقلاً وخيالاً، واتصل بالرحمن اكتشافاً وتمييزاً فما من جسم إلا وللروح به تعلق بحسبه، وللناطق بالروح تعلق مناسب لذلك، وللرحمن في الناطق ظهور مناسب لذلك..

أهل الله لا يقولون بقدم فرد من أفراد العالم في الخارج، ولكن يقولون بقدم العالم في العلم القديم، لأن للعالم قبولاً للوجود العلمي، وهو قبول أول، وقبولاً للوجود الخارجي، وهو قبول ثاني، بالنظر إلى قبوله الأول. وحينئذ يصح القول بأن الله أوجد الأشياء بالفيض الأقدس، لا عن شيء، فهو البديع تعالى، وبالنظر إلى الثاني يصح القول بأن الله أوجد الأشياء عن وجود، وهو قول سيدنا « الحمد لله الذي أوجد الأشياء».الخ. والفيض الأقدس لا يختص بالممكنات لسعة فلك الوجود وعمومه، بخلاف الفيض المقدس فإنه خاص بالممكنات.

ما كلف الله أحداً من خلقه إلاّ الملائكة والإنس والجن، فالمعرفة للملائكة بالتعريف الإلهي، والمعرفة للجن والإنس بالنظر والاستدلال والمعرفة لأجسامهم ومن دونهم من المخلوقات بالتجلّي الإلهي دائم أبداً مشاهد لكل الموجودات، ما عدا الملائكة والإنس والجن، فإن التجلي الدائم إنما هو في من ليس له نطق وتعبير عما في نفسه، وأما من له نطق وتعبير عما في نفسه، وهم الملائكة والإنس والجن من حيث أرواحهم المدبرة لهم، فإن التجلي لهم من خلف حجاب الغيب.

الحياة في جميع الأشياء حياتان: حياة عن سبب، وهي الحياة التي تنسب إلى الأرواح، وحياة أخرى ذاتية للأجسام كلها كحياة الأرواح. غير أن حياة الأرواح يظهر لها أثر في الأجسام المدبرة بانتشار ضوئها فيها ظهورها قواها، وحياة الأجسام الذاتية لها ليس كذلك. فحياة الأجسام الذاتية لها التي لايجوز زوالها عنها تسبح ربها دائماً، سواء كانت أرواحه فيها أو لم تكن، وبهذه الحياة الذاتية تشهد الجوارح على الروح النفس الناطقة يوم القيامة.

الملائكة أرواح من أنوار وأنها أولو أجنحة ولها قلوب ويفضل بعضهم على بعض في العلم بالله وأقيموا في :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

فلا يرون الحق إلا في الهوية وفي ما غاب عنهم من الحق في عين ما تجلّى، وتلك الهوية هي روح صورة ماتجلّى فنسبوا إليها، أعني إلى الهوية، من ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. العلي عن التقيد والكبير عن الحصر، بل قال الحق عن نفسه وهو العلي الكبير، كما قال لنا:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

فقدم ما أخر في خطاب الملائكة وهوالسميع البصير، فأخر عندنا ما قدم في خطاب الملائكة، فنهاية ما خاطب به الملائكة بدايتنا، وبداية ما خاطبنا به وعرفن من قول الملائكة فيه نهايتنا. فلما شرك الله بيننا وبين ملائكته في العجز عن معرفته زدنا عليهم بالصورة ولحقناهم بما نظهر به من الصورة في النشأة الآخرة في ظواهرنا، كما نظهر به اليوم في بواطننا. وليس للملائكة آخرة فإنهم لا يموتون فيبعثون، ولكن صعق وإفاقة.

والأرضون السبع جميعها ككرة غير منفصل بعضها عن بعض حسّاً، وإن كانت متصلة في الحقيقة. ولكل أرض قبة هي سماؤنا، فأصغر الأرضين التي نحن عليها، والسابعة السفلى مثلها، وأكبر الأرضين الرابعة، وأصغر السموات سماء الأرض التي نحن عليها، وأكبر السموات سماء الأرض السابعة، وهو قبتها لأنها حاوية على الكل، وكل سماء فهي قبة على جوانب أرضها.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!