موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


366. الموقف السادس والستون بعد الثلاثمائة

قال سيدنا - بل سيد العارفين قاطبة -: الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه. يقول العبد: الكلام في «الحمد لله» كثير شهير، غير أني أقول حمد العامة بنفوسهم لغيرهم، وهوالله تعالى أي لا محمود إلا الله ، وهي الحامدة، فنفت المحمودين من الخلق. وحمد الخاصة بالله، فإن الباء تعطي بقاء الرسم، فتميزوا عن العامة بكون حمدهم بالله لله لا بنفوسهم. وحمد خاصة الخاصة لله، واللام تعطى فناء الرسم. ولهذا تقول السادة: اللاميون أعلى من البائيين، حتى في قول: لا حول ول قوّة إلاّ بالله، فلا قوة إلاّ أعلى من قول إلاّ بالله. فالحمد لله بالمعنى الذي سنقوله أعلى من الحمد بالله. فإذا قال العالم بالله تعالى : الحمد لله فمعناه: لا حامد لله إلا هو. فأحرى أن لا يكون ثم محمود سواه، فأفنى الحامدين والمحمودين من المخلوقين، وهذا معنى ما ورد من كونه تعالى له عواقب الثناء، أي يرجع إليه تعالى كل ثناء، فمنه يصدر وإليه يعود. قال - هوسيدنا ومولانا - في هذا الكتاب، أي في الفتوحات: كل ثناء يثنى به على كون من الأكوان دون الله، فعاقبته ترجع إلى الله من طريقين: الطريق الواحدة الثناء على الكون، إنما هو بما يكون عليه ذلك الكون من الصفات المحمودة، التي توجب الثناء عليه، أو بما يكون منه من الآثار المحمودة التي هي نتائج الصفات المحمودة القائمة به. وعلى أي وجه كان فإن ذلك الثناء راجع إلى الله، إذ كان الله هو الموجود لتلك الصفات والآثار، لا لذلك الكون. فرجعت عاقبة الثناء إلى الله. والطريق الأخرى: أن ينظر العارف فيرى أن وجود الممكنات المستفاد إنّما هو عين ظهورالحق فيها، متعلق الثناء لا الأكوان. ثم إنّه ينظر في موضع اللام من قوله «لله» فيرى أن الحامد عين المحمود لا غيره، فهو الحامد المحمود. وينفى الحمدعن الكون كونه حامداً، وينفى كون الكون محموداً. فالكون من وجه محمود ل حامد، ومن وجه لا حامد ولا محمود. فأماّ كونه غير حامد فقد بيناه، فإن الحمد فعل والأفعال لله. وأما كونه غير محمود فإنّما يحمد المحمود بماهو له لا لغيره. والكون لا شيء له فما هو محمود أصلاً.

تنبيه

أصدق الحمد حمد الحمد، بمعنى أن وجود الكمالات الدالة عليها وجود آثارها في الذات أصدق من حمد الحامدين، فإنه قد يكون الأمر بخلاف قول الحامدين. قال هو سيدنا في هذا الكتاب: أصدق المحامد حمد الصفة عند أهل المعرفة، كل وصف منهم، ولهذا يحتاج إلى دليل حتى يعلم، وصف الصفة هو العلم المحكم، فهذا هو حمد الحال على كل لسان ومقال. وقال في هذا الكتاب أيضاً عند الكلام على لواء الحمد: حمد الحمد وهو أتم المحامد وأسناها وأنماها مرتبة، لما كان لواء الحمد يجتمع إليه الناس، لأنه علامة على مرتبة الملك ووجود الملك. كذلك حمد الحمد تجتمع إليه المحامد كلها، فإنه الحمد الصحيح الذي لا يدخله احتمال ولا يدخل فيه شك ولا ريب. إنه حمدلأنه لذاته يدل، فهو لواء في نفسه. ألا ترى لو قلت في شخص أنه كريم، أو يقول عن نفسه ذلك الشخص أنه كريم يمكن أن يصدق هذا الثناء، ويمكن أن لايصدق. فإذ وجد العطاء من ذلك الشخص بطريق الامتنان والإحسان شهد العطاء بذاته بكرم المعطي، فل يدخل في ذلك احتمال. فهذا معنى حمد الحمد. قول سيدنا:«لله» يقول العبد الكلام على الجلالة كثير شهير، غير أني أقول لفظة الله موضوعة للذات الوجود المطلق، فهي غير مشتقة من شيء، ولا رائحة للوصفية في هذا الاسم.

وعلى هذا يحمل قول القائلين بعلميته وعدم اشتقاقه، وموضوعة أيضاً للدلالة على المرتبة، فهي وصف مشتق من الإلهية، وعليه يحمل قول القائلين بوصفيته واشتقاقه، وإلى الجلالة الثانية الإشارة بقوله تعالى:﴿ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ﴾[فاطر: 35/15].

لأن المفتقر إليه هو المرتبة الإلهية، مرتبةالأسماء، وهي التي تنسب الآثار إليها، فهي تطلب العالم لتظهر آثارها، والعالم يطلبها افتقاراً إليه لتظهره، حتى يتصف بالوجود. فبين مرتبة الألوهية وأعيان العالم نسبة التضايف، فهم متلازمان تلازم المتضايفين، بحيث ينعدم الاتصاف لأحدهما بعدم الآخر. وإلى الجلالة الأولى الإشارة بقوله:﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:35/15].

لأن الغنى عن الناس وعن جميع العالمين إنما هوللذات الوجود المطلق، لأن الذات من حيث هو مجرد عن المرتبة الإلهية اعتباراً لا يطلب العالم ولا يطلبه ل نسبة بين الذات وجميع العالم، بخلاف مرتبة الإلهية. وقد بسطت الكلام على هذه الآية في الموقف. قال القطب علي وفا رضي الله عنه : اسمه الله جلالة غير مشتقة من شيء أصلاً من حيث هوالمحيط، واسمه الله جلالة مشتقة من الإلهية من حيث هو الإله. وقد أشار الحق المبين بلسانه المحمدي بقوله:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 112/1].

هذه جلالة الإحاطة:﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾[الإخلاص:112/2].هذه جلالة الإلهية.وهذه تفرقة يشهد العقل والنقل بعلو شأنها، وما وقفت لسيدنا فيم وقفت عليه من كلامه على هذه التفرقة. وقد ذكر عند الكلام على البسملة جملة صعب عليّ تطبيق أولها على آخرها، قال: فذكر ثلاثة أسماء، الاسم الله لكونه جامعاً غير مشتق ينعت ولا ينعت به، فالله للأسماء كالذات للصفات. فذكره من حيث أنه دليل على الذات كالأسماء الأعلام كلها، وإن لم يقو قوّة الأعلام كلها، وإن لم يقو قوّة الإعلام لأنه وصف للمرتبة كاسم السلطان. فلما لم يدل إلا على الذات المجردة على الإطلاق من حيث ما هي لنفسها من غير نسب لم يتوهم في هذا الاسم اشتقاق أ ه فليتأمل.

والإيجاد اصطلاحاً إعطاء الوجود مطلقاً، سواء كان بعد العدم علماً وخارجاً، أو بعد العدم خارجاً لا علماً. والوجود مصدر وجد الشيء، مبيناً للمجهول، وهو مطاوع الإيجاد. والشيء لغة - كما قال سيبويه - يقع على كل ما أخبر عنه، فيعم الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمستحيل. فهو أعم العام وأنكر النكرات. وتخصيص أهل السنة والجماعة الشيء بالموجود مجرد اصطلاح، والأشياء جمع شيء، والشيئية شيئتان شيئية وجود: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾[مريم: 19/9].

موجوداً، وشيئية ثبوت لا وجود:﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل:16/40].

﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الكهف:18/23- 24].

والعدم ضد الوجود عند أهل السنة والجماعة المتكلمين، وعند القوم سادات الطوائف نقيض الوجود كالثبوت والنفي. والثبوت غير الوجود كما أن النفي غير العدم، فإن الثبوت عند السادة - رضوان الله عليهم - عبارة عن إمكان المعدوم وقابليته للوجود وطلبه له طلباً استعدادياً، وهذا الثبوت أزلي ليس بجعل جاعل وفعل فاعل، لأنه عدم صرف. والعدم لا يكون بفعل فاعل، فإن من فعل العدم وجود، فليس هو مبالغة في العدم.

وتوضيح ما أشار إليه سيدنا ومولانا هو أن الأشياء الإلهية والكونية كانت ولا كون ولا زمان، ولكن ضرورة التفهيم اقتضت هذه العبارة ونحوها في مرتبة الأحدية الصرفة، مستهلكة في الذات الأحدية، لا تمييز لها عن الذات بوجه من الوجوه. فكانت معدومة لا وجود لها في العين ولا في العلم، وإلى هذه المرتبة الإشارة بقوله:﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾[الإنسان:67/1].

أي معلوماً متميزاً، ولذا قال بعضهم في حدالعلم... وكان للأشياء صلاحية التعين في العلم والعين، فلما مالت الذات إلى الظهور بالمظاهر العلمية والعينية بميل هوعين ذاتها تميّزت الأشياء الإلهية والكونية في العلم الذاتي. وهذا أول التعينات، فكان من ذلك صورة علمية ذاتية تسمّى بنفس الرحمن وبالحقيقة الحمدية. وهذا العلم يتعلق بما لا نهاية له لأنه عين الوجود. والوجود لا يوصف بالتناهي أو عدم التناهي ، وإنما يوصف بذلك الموجود. وهذا العلم حقيقة كل فاعل، ولما تميّز عن الذات التميز عن الذات النسبي عماء وهو النفس لا غيره في الحقيقة ولكن لماتميّز عن اللطيف المطلق سمّي عماء، بهذا الاسم. وهذا العماء هو صورة العلم الذي هو من جملة الأشياء الإلهية التي تميزت بالعلم الذاتي المسمى بنفس الرحمن، ولا يتعلق هذ العلم بما لا يتناهى وهو حقيقة كل منفعل. ولما تميزت الأشياء بتعلق العلم الذاتي بالذات، وهوعين الذات فسمى الذات علماً وعالماً ومعلوماً، باعتبارات حصلت حقائق جميع المعلومات مفصلة. فكان من ذلك صورة علمية، فسميت تلك الحقائق بالأعيان الثابتة في العدم. فمن نظر إلى مرتبة الأحدية الصرفة قال أوجد الله تعالى الأشياء من عدم صرف. ومن نظر إلى مرتبة الصورة العلمية قال أوجد الله تعالى الأشياء عن وجود علمي، وهو عدم العدم الذي أشار إليه سيدنا ومولانا. فمن قال الأشياءقديمة مطلقاً أخطأ، ومن قال الأشياء حادثة مطلقاً أخطأ. وقد أشار سيدن نفسه إلى شرح هذه الجملة، قال في هذا الكتاب: ورد في الصحيح أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال: «في عماء ما فوقه هواء وماتحته هواء».

فهو أول ظرف قَبِل كينونة الحق فيه بحسب ما يليق بجلاله من غير تكييف، ففتح الله في ذلك العماء صورة كل ماسواه في العالم. ألا أن ذلك العماء هو الخيال المحقق، وأنشا هذا العماء من نفس الرحمن، فجميع الموجودات ظهرت في العماء بكن أو باليد أو باليدين، إلا العماء فظهوره بالنفس الرحماني خاصة، فظهر في العماء كل شيء مسمى من معدوم ولا يمكن وجود عينه، ومن معدوم يمكن وجو عينه، ثم ظهر في هذا العماء أرواح الملائكة المهيمة، ثم لازال يظهر فيه صور أجناس العالم شيئاً بعد شيء، وطوراً بعد طور، إلى أن كمل من حيث أجناسه. فلما كمل بقيت الأشخاص من هذه الأجناس تتكون دائماً تكوين استحالة من وجود إلى وجود،  لا من عدم إلى وجود. فخلق آدم من تراب، وخلق بني آدم من نطفة، وهي الماء المهين، ثم خلق النطفة علقة. فلهذا قلنا في الأشخاص أنه مخلوقة من وجود لا من عدم، فإن الأصل على هذا كان وهوالعماء وأشخاص العالم مخلوقون في العماء أيضاً. ومن أجناس أجناسه، فما خلق شيء من عدم لا يمكن وجوده، بل ظهر في أعيان ثابتة، وهو قولنا في أول هذا الكتاب: الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم، وعدمه عن عدم، من حيث أنه لم يكن لها عين ظاهرة، وعدم العدم وجود، أي وإن لم تكن لها عين فهذه العين من وجود ظهرت على الحقيقة فاعدمت العدم الأول الذي أثبته بنسبة ما، فهو من حيث تلك النسبة ثابت، ومن هذه النسبة الأخرى منفى. وإذا تحققت هذا فإن شئت قل هو عن عدم، وإن شئت قلت هو عن وجود، بعد علمك بالأمر على ماهو عليه. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب.

﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[الحجر:15/21].

من اسمه الحكيم، فالحكمة سلطانة هذا الانزال الإلهي، وهو إخراج هذه الأشياء من هذه الخزائن إلى وجود أعيانها، وهو قولنا في خطبة هذا الكتاب: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم، وعدمه". وعدم العدم وجود. فهو نسبة كون الأشياء في هذه الخزائن موجودة محفوظة لله ثابتة لأعيانها، غير موجودة لأنفسها. فبالنظر إلى أعيانها هي موجودة عن عدم، وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن، قلت: أوجد الأشياء من وجودها في الخزائن إلى وجودها في أعيانه للنعيم بها أو غير ذلك، وإن شئت قلت أوجد الأشياء عن عدم بعد أن تقف على معنى م ذكرت لك. فقل ما شئت فهو الموجد لها على كل حال في الموطن الذي ظهرت فيه لأعيانه اهـ.

وقال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه : إن للعالم قبول الوجود العلمي، وهو قبول أول، وقبول الوجود الخارجي وهو قبول ثان. وبالنظر إلى قبوله الأول يصح القول بأن الله أوجد الأشياء بالفيض الأقدس، لا عن شيء، فهو البديع سبحانه. وبالنظر الثاني يصح القول بأن الله أوجد الأشياء عن وجود، وإليه الإشارة بقول الشيخ رضي الله عنه الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم، وعدمه. والفيض الأقدس لا يختص بالممكنات، وذلك لسعة فلك الوجود وإطلاق عمومه، بخلاف الفيض المقدس فإنه مخصوص بالممكنات. ا هـ والفيض الأقدس عند الطائفة العلية عبارة عن التجلّي الحبي الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية ثم العينية كما قال: «كنت كنزاً مخفياً...» الحديث. والفيض المقدس عبارة عن التجلّيات الأسمائية الموجبة لظهور ما تعطيه استعدادات تلك الأعيان في الخارج، فالفيض المقدس مرتب على الفيص الأقدس. فبالأول تحصل الأعيان الثابتة واستعداداتها الأصلية في العلم. وبالثاني تحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها. والأعيان الثابتة عندهم هي حقائق الممكنات في علم الحق، وهي صور حقائق الأسماء الإلهية في الحضرة العلمية، لا تأخر لها عن الحق إلاّ بالذات لا بالزمان، فهي أزلية أبدية. والحاصل أن الأشياء خرجت من الوجود الإضافي إلى الوجود الإضافي. وإن شئت قلت: خرجت من العدم الإضافي إلى الوجود الإضافي. فعلى أنه تعالى أوجد الأشياء عن عدم هو بديع، وعلى أنه أوجدها عن وجود هو مخترع بضرب من التجوز لا من جهة ماتعطيه حقيقة الاختراع. وقد أنكر سيدنا في هذا الكتاب إطلاق الاختراع على الحق تعالى إلاّ بتجوز. وقول الحكماء وجود شيء لا عن شيء محال بل لابد للمعلول من شبح قابل لأن يتطور بأطوار مختلفة باطل. لأنه يقتضي أنه تعالى لا يسمى باسم البديع، وهو تعالى بديع بلا شك. وبثبوت الأعيان الثابتة قال أهل الكشف كافة، والحكماء والمتكلمون من المعتزلة، وهي حقائق الممكنات في العلم. وما لايمكن وجوده، وهو المحال، لا عين له ثابتة وإن كان معلوماً. وخالف في ذلك الأشاعرة وقالوا: لا عين للممكن حالة عدمه وإنما يكون له عين إذا وجد. ولهذا قالوا وجود كل شيء عين ماهيته.

تنبيهات

الأول: العدم والوجود ليسا بشيء زائد على المعدوم والموجود. قال سيدن ومولانا في غير هذا الكتاب: الوهم يتخيل أن الوجودوالعدم صفتان راجعتان إلى الموجود والمعدوم، وبتخيلهما كالبيت، والموجود والمعدوم قد دخلا فيه، ولهذا يقول: قد دخل هذا الشيء في الوجود بعد أن لم يكن. وإنما المراد بذلك على إثبات عين الشيء أو نفيه. ثم إذا أثبت عين الشيء واتنفى فقد يجوز عليه الاتصاف بالوجود والعدم معاً، وذلك بالنسبة والإضافة، فيكون زيد الموجود في عينه موجود كذا في السوق، معدوماً في الدار. فلو كان الوجود والعدم من الأوصاف التي ترجع إلى الموجود، كالسواد والبياض، لاستحال وصفه بهما معاً. فثبت أن الوجود وبالعدم من باب الإضافات والنسب، فليسا بصفة قائمة بموصوف.

الثاني: ليعلم أن سيدنا مولانا لا يقول بقدم فرد من أفراد العالم في الخارج جملة واحدة، ويقول بحدوث العالم بأسره. وقد ذكر ذلك في هذا الكتاب قريباً من ثلثمائة مرة، فمن ذلك قوله: لو كانت العلة مساوية للمعلول في الوجود لاقتضى وجود العالم لذاته ولم يتأخرعنه شيء من محدثاته. وقوله: ما قال بالعلل في الوجود لاقتضى وجود العالم لذاته ولم يتأخر عنه شيء من محدثاته. وقوله: ما قال بالعلل إلاّ القائل بأنّ العالم لم يزل وأنّى للعالم بالقدم وماله في الوجود الوجوبي قدم. لو ثبت للعالم القدم لاستحال عليه العدم، والعدم واقع ومشهود. ومن ذلك قوله: العالم كله موجود عن عدم ووجوده مستفاد من موجد وجده وهو الله تعالى فمحال أن يكون العالم أزلي الوجود، لأن حقيقة الموجود أن يوجد ما لم يكن موصوفاً عند نفسه بالوجود، وهو المعدوم، لا أنه يوجد ما كان موجوداً أزلا فإن ذلك محال، فإذا العالم كله قائم بغيره لا بنفسه. ومنها قوله: الحق تعالى يقال في حقه أنه مقدر الأشياء أزلا ولا يقال في حقه موجدها أزلا، فإنه محال من وجهين:

الأول: هو أن كونه موجدا إنما هو بأن يوجد، ولا يوجد تعالى ماهو موجود، وإنّما يوجد ما لم يكن موصوفاً لنفسه بالوجود، وهوالمعدوم. ومحال بأن يتصف المعدوم بأنه موجود أزلا، إذ هو إنّما صدر عن موجد أو جده فمن المحال أن يكون العالم أزلي الوجود.

الثاني: من المحال، وهوأنه لا يقال في العالم أنه موجود أزلا، وذلك لأن معقول لفظة الأزل نفى الأولية. والحق تعالى هو الموصوف بذلك، فيستحيل وجود العالم في الأزل إلى غير هذا.

الثالث: أن سيدنا ومولانا يخالف جميع الطوائف غير الطائفة العلية في معنى حدوث العالم ونسبة الوجود إليه، فلا يقول كما يقول المتكلمون أنه موجود في الخارج حقيقة بوجود حادث خلقه الله تعالى . ولا كما قالت طائفة من الحكماء القائلين بوحدة الوجود: أن العالم موجود في الخارج حقيقة كما يقول المتكلمون، لكن بالوجود القديم تعالى لا بوجود حادث.و لا كما تقول السوفسطائية أن العالم كله خيال لا حقيقة وراء هذه الأشياء المتخيلات. وإنما وجود العالم بعد عدمه عند سيدن ومولانا وعند أهل الكشف الإلهي كافة هو شعور الأعيان الثابتة بأنفسها وبغيره وأحوالها في علم باريها تعالى على التتالي والتتابع إلى غير نهاية دنيا وآخرة، وقبوله أن تكون مظهراً للوجود الحق تعالى لا أنه استفادت وجوداً، وإنما استفادت المظهرية لا غير. فالظاهر هوالوجود الحق مسمى بأسماء الممكنات، وموصوفاً بصفاتها، ومنعوتاً بنعوتها، فحقائق العالم المسماة بالأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود الخارجي، فهي على حالها ما برحت. فلا وجود للعالم بالمعنى الذي يعتقده العموم من أهل الحجاب. فكل ما يسمى سوى وغير للحق تعالى فلا وجود له إلاّ في المدارك والمشاعر الإنسانية، وأمافي نفس الأمر فلا شيء إلا الوجود الحق تعالى الظاهر بأحوال الممكنات ونعوتها الثابتة في إمكانها وعدمها.

قال، (هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب): التجلي عندنا هو الوجود المستفاد لأنه في الاعتقاد هكذا وقع. وفي نفس الأمر ليس إلاّ وجود الحق. والموصوف باستفادة الوجود هو على حاله ما انتقل من امكانه، فحكمه باق وعينه ثابتة، والحق شاهد ومشهود فإنه لايصح أن يقسم بما ليس هو. وقال في هذا الكتاب: أما العارفون المكملون فليس عندهم غربة أصلاً، فإنهم أعيان ثابتة في أماكنهم لم يبرحوا. ولم كان الحق مرآة لهم ظهرت صورهم فيه ظهور الصورة في المرآة. فما هي تلك الصور أعيانهم، لكونهم يظهرون بحكم المرايا، ولا تلك الصور عين المرآة لأن المرآة ما فيها تفصيل ماظهر، فهم وماهم اغتربوا، وإنما هو أهل شهود في وجود. وقال في هذا الكتاب أيضاً: فلم تزل الممكنات عند أهل الله من حيث أعيانهم موصوفين بالعدم، ومن حيث أحكامهم لم يزالوا موصوفين بالوجود، وهوالحق. كما قال :«كنت سمعه وبصره» في الخبر الصحيح، فأثبت العين للعبد وجعل نفسه عين صفته التي هي عين وجوده، فعين الممكن ثابتة غير موجودة. وهي عين واحدة ولو تكثرت بنسبها ا هـ..

ولو جلبنا كلام سيدنا في هذا المعنى ما وسعته كراريس. وقال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه : أن الحق تعالى كما خاطبكم وأنتم موجودون في علمه بلا واسطة بقوله الأزلي «كن » كذلك تجلى لكم وأنتم موجودون في علمه، فأبصرتموه ببصركم الثبوتي، فظهر لكم بصوركم على اختلافها وتنوعاتها، كما يبصر أحدكم الشيء الأبيض مثلا من مسافة بعيدة، أسود أو أغير وهو في نفسه على خلاف ذلك الكون، ول قام به ولا عرض له ولا تغير ذلك الشيء عما كان عليه. فالحق تعالى لما تجلى لكم وأنتم موجودون في علمه لم تستطع أبصاركم الثبوتية أن تدركه على ما هو عليه لغاية بعده عنكم، فأدركتموه على ما أنتم عليه، فما أدركتم إلاّ نفوسكم، فتجليه كان سبباً لإدراككم لأنفسكم لأنكم قبل هذا التجلي كنتم في ظلمة العدم بالنسبة إلى نفوسكم ل بالنسبة إلى الحق، فلمّا تجلّى لكم الإله الذي هو نور السموات والأرض نفر تلك الظلمة فشهدت نفوسكم على ما هي عليه في حضرة العلم الأزلي، فكان ذلك الشهود تجلّى عين وجودكم الخارجي، ولا معنى للوجود الخارجي إلا هذا. فالممكنات ما برحت من الحضرة العلمية، وإنما ظهرت صورها في مرآة الوجود الحق. فتلك الصور الظاهرة في مرآة الوجود لا وجود لها إلاّ في شعور الأعيان الثابتة، بل هي هي. ألاّّ تراك إذ أبصرت صورتك في المرآة تتخيل أنه قد وجد في المرآة صورة تماثلك، وإذا حققت النظر علمت أن الشعاع لما خرج من الباصرة واتصل بالمرآة الصقيلة انعكس لصلابتها، إلى الناظر فأبصر نفسه في مكانه، لا أنه أبصر نفسه في المرآة، بل المرآة كانت سبب إبصاره لنفسه في مكانه وعلى حالته التي هو عليها، فالناظر الموجود العلمي، والمرآة هو الحق تعالى والشعاع الخارج من الباصرة إلى المرآة المنعكس إليه لكثافتها هو الإدراك الثبوتي الذي صح به توجه الأمر إلى الموجود العلمي الذي كان في ظلمة بالعدم عند نفسه لا عند الحق سبحانه ا هـ.

الرابع: ليس الوجود الحقيقي إلا للحق تعالى وحده سبحانه، وكل م يقال فيه سوى وغير مما يطلق عليه اسم موجود فهو في الوجود الخيالي، لا هو عين الحق ولا غيره، ولا هو عين الموجودات الممكنة ولا غيرها.. مثلا الصورة المتخيلة في المرآة ليست عين المتوجه على المرآة ولا غيرها، ولا هي عين المرآة ولا غيرها. قال، هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: كل عين متصفة بالوجود فهي لا هي، فالعالم كله هو لا هو، والحق الظاهر بالصورة هو لا هو، فهوالمحدود الذي لا يحدد، المرئي الذي ل يرى، وما ظهر هذا الأمر في الحضرة الخيالية.

الخامس: العلة التامة لوجود الأشياء مركبة من الفاعل والقابل، فإيجاد العالم مستند إلى العالم من حيث القبول والتأثر، وإلى الله تعالى من حيث الفاعلية والتأثير، فإن الممكن لولا ما هو قابل لأن يتأثر ما أثر فيه الاقتدار الإلهي، لأنه لا يؤثر في الممتنعات وهي التي لا تقبل التأثر والانفعال. وسمى الممكن ممكناً لتمكينه الفاعل فيه من الفعل.

وسمى المستحيل ممتنعاً لامتناعه من قبول أثر الفاعل وعدم تمكينه من الفعل. فالعلة التامة مجموع التأثير والتأثر.

السادس: سبب إيجاد العالم من الحق تعالى ليس هو سبق العلم كما قال المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة. ولا هو كون الذات المقدسة علة كما قالت طائفة الحكماء من الفلاسفة. وإنما سب وجود الأشياء عند سيدنا وعند أهل التحقيق كافة من المكاشفين لحقايق الأشياء هو ميل الذات المقدسة إلى الظهور بالمظاهر لأن يرى تعالى نفسه وأسماءه في المسمى غيرا وسوى. فسرى هذا الميل والمحبة في الأسماء الإلهية، فطلبت ظهورها بظهور آثارها ليصير تأثيرها بالفعل بعد أن كان بالقوة والصلاحية.

قال سيدنا في هذا الكتاب: إن أكثر العلماء بالله من أهل الكشف والحقائق ليس عندهم علم بسبب بدء العالم إلاّ تعلق العلم القديم بإيجاده، فكون ما علم أنه سيكون، وهنا ينتهي أكثر الناس. وأما نحن ومن أطلعه الله على ما أطلعنا عليه فقد وقفنا على أمور أخرى غير هذا... إلى أن قال: أن الأسماء الحسنى التي تبلغ فوق أسماء الإحصاء عدداً وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة هي المؤثرة في هذا العالم، وهي المفاتح الأول لا يعلمها إلا الله... إلى أن قال: فأمهات الأسماء الحي العالم المريد القادر القائل الجواد المقسط فكان سبب توجّه هؤلاء الأسماء إلى الاسم الله في إيجاد العالم بقية الأسماء مع حقائقها أيضاً ا هـ.

قول سيدنا: (وأوقف وجودها على توجه كَلِمِه) يقول العبد: أن الأشياء الموجودة خارجاً سواء قيل أنها موجودة عن عدم أو عن وجود إضافي علمي فقد أوقف الموجد لها تعالى وجودها في إيجاد خارجاً عن توجهه تعالى عليها بكلمة اسم جنس جمعي مفرده كلمة، والهاء للسكت، ومراعاة السجعة. وكلمته تعالى هي «كن» المسماة عند القوم بكلمة الحضرة. قال تعالى:﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:36/82].

وقال:﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/40].

أمره تعالى قوله للمأمور (كن). وقوله تعالى هو قوله للمكون «كن». عبر تعالى بأداة الحصر في الآيتين إعلاماً بأن إيجاد كل شيء خارجاً موقوف على أمره.وقوله له «كن». قول وأمر يليقان بجلاله وكبريائه، فإنّه قول نفسي وأمر قدسي وتوجه بإرادة، فيحصل السماع للمأمور بما يراد منه، فلا حرف ولا صوت ولا تقديم ول تأخير، وإن كان له تعالى التجلّي في صور تقبل الكلام بالحروف والأصوات. وقوله تعالى. و(أمره) عين ذاته، والمأمور بالكون هو الظاهر بالصورة المخصوصة، والشكل المخصوص، والصورة والشكل اعتبار محض، والظاهر المقوم للصورة والشكل هو الأمر «كُن». فالكون والمكوّن (اسم فاعل) والمكوّن (اسم مفعول) شيء واحد. فالآمر والمأمور والأمر عين واحدة، فهي ثلاثة في التعقل عين واحدة في التحقق. قال سيدن في هذا الكتاب: فهل قال: «كن». إلاّ له، ولا كنى يكون إلا عنه، وقال في هذ الكتاب: جاء الكشف النبوي والإخبار الإلهي يقول عن ذات تسمى إلهاً إذا أراد شيئاً فهذان أمران قال له «كن». فهذا أمر ثالث، فإذا ظهر المكون بالتكوين عن «كن». لم يكن غير تجل إلهي في صورة ممكن بصورة ممكن ناظر بعين إلهي، كما أنه ما سمع «فيكون» إلا بسمع إلهي ولهذا أسرع بالظهور. وقال في هذا الكتاب: فليس الكون بزائد على «كن». بواوها الغيبية وظهر الكون على صورة «كن». وكن أمره وأمره كلامه وكلامه علمه وعلمه ذاته فظهر العالم على صورته ا هـ.

تنبيه

الإيجاد بالقول والأمر الإلهي «بكن» ثبت في القرآن العزيز، والإيجاد بالقدرة ثبت بالنظر العقلي. فتحمل القدرة على أنها قوله لكل شيء يريد إيجاده «كن » قال سيدنا في هذا الكتاب: دلّ الدليل العقلي على أن متعلق الإيجاد القدرة. وقال الحق عن نفسه أن الوجود يقع عن الأمر الإلهي فقال:﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.

فلا بد أن ننظر في متعلق الأمر ما هو وماهو متعلق القدرة حتى أجمع بين السمع والعقل فنقول: الإمتثال قد وقع بقوله «فيكون». «المأمور به إنما هو الوجود فتعلقت الإرادة بتخصيص أحد الممكنين وهو الوجود، وتعلقت القدرة بالممكن فأثرت فيه الوجود وهي حالة معقولة بين الوجود والعدم، فتعلق الخطاب بالأمر لهذه العين المخصصة بأن تكون امتثلت فكانت. والقائل بتهيئ المراد في شرح «كن». غير مصيب.

وقال في هذا الكتاب قال تعالى:﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَ أَرَدْنَاهُ ﴾.

فقولنا هو كونه متكلماً «أن نقول له كن» فكن عين ماتكلم به فظهر عنه الذي قيل له «كن». فأضاف التكوين إلى الذي يكون لا إلى الحق ولا إلى القدرة. والشيء الذي يكون إنما هو الصورة الخاصة كظهور الصورة المنقوشة في الخشب والصورة في الطين. فإن قلت عن وجود صدقت، وإن قلت لم تكن صدقت.

وقال في هذا الكتاب: فمن الله توجهات دائمة وكلمات لا تنفد وهي قوله:﴿ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾[النحل:16/96].

فعند الله لتوجه وهوقوله «إذا أردناه». وكلمة الحضرة وهي قوله لكل شيء يريد «كن » بالمعنى الذي يليق بجلاله و«كن» حرف وجودي فما يكون عنه إلا الوجود فم يكون عن عدم لأن العدم لا يكون لأن الكون وجود. وهذه التوجهات والكلمات في خزائن الجود لكل شيء يقبل الوجود. قال تعالى:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَ خَزَائِنُهُ‌﴾[الحجر:15/21].

فائدة نفيسة

للحق تعالى توجّه واحد غير متعدد وهو إرادته الأحدية، وقول واحد وهوكلامه النفسي الأحدي. بذلك التوجه الواحد والقول الواحد كان ويكون كلّ شيء كائن إلى ما لا يتناهى. فإن الأحوال والصفات التي للممكنات توجد وتنعدم كل آن فرد فل بقاء لها زمانين، وليس في الوجود الممكن غيرها. فإن حقائق الممكنات ما شمت رائحة للوجود الخارجي، والجوهر المقوم لنعوت الممكنات وأحوالها واحد لا ينعدم. والحق تعالى خلاق على الدوام إلى غير نهاية. وربما يتوهم من قوله أن نقول «كُن فيكونُ». أنَّ لكل ممكن موجود أمراً إلهياً بالكون، وليس الأمر كذلك، فإنه ل افتتاح لكلامه وقوله وأمره تعالى، كما لا افتتاح ولا أولية لعلمه ومعلومه. فما حدث إلا ظهور المكون بالصورة المخصوصة فتنبه لهذا. وهذا الوهم ما علمناه من أنفسنا قبل ومن كثيرين، وإنما أعلمنا الحق تعالى بذلك في كتابه لنعلم أن الأشياء موجودة بإرادته وأمره واختياره وقدرته لا لأنفسها كما قالت الطبائعية ولا هي موجودة عن الذات المحض على طريق العلية وعدم الاختيار.

قال هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: الأمر الإلهي يساوق الخلق الإيجادي، فعين قول «كُن» عين قبول الكائن للتكوين «فيكون» فالفاء في قوله «فيكون» جواب أمره «كُن» وهي فاء التعقيب، وليس الجواب في التعقيب إلا في الرتبة، كم نتوهم في الحق أنه لا يقول للشيء «كن» إلا إذا أراده. ورأيت الموجودات يتأخر وجود بعضها عن بعض. وكل موجود منها لابد أن يكون مراداً بالوجود، ولا يتكون إلا بالكون الإلهي على جهة الأمر، فيتوهم الإنسان أو ذو القوة الوهمية أوامر كثيرة، لكل شيء كائن أمر إلهي ولم يقله الحق إلا عند إرادته تكوين ذلك الشيء. فبهذا الوهم عينه يتقدم الأمر الإلهي الإيجاد، أي الوجود، لأن الخطاب الإلهي على لسان الرسول اقتضى ذلك، فلا بد من تصوره وأن كان الدليل العقلي لايتصوره ولا يقول به، ولكن الوهم يحضره ويصوره كما يصور المحال ويتوهمه صورة وجودية، وإن كانت لا تقع في الوجود الحسي أبداً، ولكن لهاوقوع في الوهم. وكذا في مفصلة في الثبوت الإمكاني، فإن قوة الخيال ما عندها محال أصلا ولا تعرفه وما حازها إلا هذا النشئ الإنساني، وبه يرتب الإنسان الأعيان الثبوتية حال عدمها كأنها موجودة، وكذلك هي لأن لها وجوداً متخيلاً في الخيال، ولذلك الوجود الخيال يقول الحق له «كن» في الوجود العيني «فيكون» السامع هذا الأمر الإلهي وجوداً عينياً يدركه الحس، أي يتعلق به في الوجود المحسوس الحس كما تعلق به في الوجود الخيالي.

وقال في هذا الكتاب أيضاً بعد كلام: ولهذا تتحرك وتطيب عند سماع النغمات لأجل «كُن» الصادرة عن فهوانية الصورة الإلهية.

قول سيدنا: (لنتحقق بذلك سر حدوثها وقدمها من قدمه). يقول العبد: هذ بيان حكمة توقف وجود الأشياء في الخارج على توجه أمره وكلمه وإن ذلك التحقق سر حدوثها الذاتي سواء قلنا أوجدها الموجد عن عدم أو عدمه. وسرّ كل شيء هو ماخفي منه لأن كونها ممكنة، وكل ممكن حادث، مع معلوميتها للعلم القديم أزلا خفى، فإذا كانت حقائق الأشياء العلمية كائنة بعد أن لم تكن فأحرى شخصياتها. وسرُّ حدوث الأشياء أنها لا عين لها في مرتبة الأحدية الصرفة، وهي مرتبة: «كان الله ولم يكن معه شيء» كما في رواية البخاري، فليس هنالك شيء يسمى حقائق أو أعياناً ثابتة فلا عين لها في العلم ولا في الخارج. فعلم وتحقق لذلك أنها لو كانت قديمة لذاتها لاستغنت في وجودها الخارجي عن الأمر والتوجه عليها بالكلم من الموجد لها تعالى، ويكون وجوده لذاتها، فلما كان الأمر بخلاف هذا تحققنا حدوثها الذاتي، وإن أطلق عليها القدم فلشيء آخر. قال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه الحدوث اللازم في حكم المخلوق هو افتقاره إلى موجد يوجده، فهذا الأمر هو الذي أوجب اسم الحدث على المخلوق، فهو ولو كان موجوداً في علم الله فهو محدث في ذلك الوجود لأنه فيه يفتقر إلى موجد بوجده، فلا يصح على المخلوق اسم القديم ولو كان موجوداً في العلم الإلهي قبل بروزه لأنه من حكمه أن يكون موجوداً بغيره، فوجوده مرتب على وجود الحق. وهذ معنى الحدوث. فالأعيان الثابتة في العلم الإلهي محدثة لا قديمة بهذا الاعتبار ا ه.

تنبيه

الأعيان الثابتة لم تدخل تحت «كن» إلاّ عند الإيجاد العيني، وأما هي في تعينها العلمي فلا يدخل عليها اسم التكوين، فهي حق لا خلق لأن الخلق عبارة عما دخل تحت كلمة «كُن» وليست الأعيان في العلم بهذا الوصف، لكنها ملحقة بالحدوث إلحاقاً حكمياً لما تقتضيه ذواتها من استناد وجوب الحادث في نفسه إلى قديم. فالأعيان الثابتة ملحقة في العالم العلمي بالعلم الذي هو ملحق بالعالم. قال هو سيدن مولانا: (ونقف عند هذا التحقيق) يقول العبد: أي يلزمنا ويتعين علينا معشر المكاشفين بحقائق الأشياء أن نقف عندهذا التحقيق ولا نميل إلى غيره من أقوال القائلين بالخرص والتخمين، فالتحقيق هوأن وجود الأشياء في الخارج موقوف على توجّه بإرادة وأمر بكلام، وأنّ لها جوداً علمياً، ولذلك صح التوجّه عليها والأمر له بالكون العيني، كما أخبرنا تعالى بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله، ولذا هي قديمة باعتبار أنها معلومة العلم القديم، إذ يستحيل علم ولا معلوم كما يستحيل علم ول ذات. فمعلومات العلم القديم قديمةله محدثة لأنفسها بذواتها، وعلمه تعالى محيط بكلّ شيء حالة عدمه وإمكانه فلا يكون في الوجود العيني إلا ما تعلق به العلم في الوجود العلمي، حذو النعل بالنعل، لا تنقص ذرة ولا تزيد ذرة.

قول سيدنا: (على ما أعلمنا به من صدق قدمه). يقول العبد : (على) هن تعليلية، كما في قوله تعالى :﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾[ البقرة: 2/185 والحج:22/35].

أي نقف عند هذا التحقيق العلمي الإيماني والكشفي لأجل ما أعلمنا به تعالى من صدق قدمه (بفتح القاف) إذ الكشف سوابق علمية غيبية تجري الأشياء عليه وإليها، وإليها نهايتها، ولا نهاية إلا من حيث الحكم، ما صدق ما أعلمنا به تعالى من صدق قدمه، أي قدمه الصادقة، فهو في إضافة الصفة إلى الموصوف يشير إلى قوله تعالى:﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾[يونس:10/2].

والقدم لغة السابقة مطلقاً، وفي اصطلاح السادة - رضوان الله عليهم - م ثبت للعبد في علم الحق تعالى . فكل ما كان في ذلك العالم العلمي الغيبي يكون في العالم الشهادي العيني والبرزخي آناً بعد آن، حسب وجوده هنالك فقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾.

المضاف إليهم المتوجه على تربيتهم وامداهم وتمشيتهم على ما سبق لهم في العلم إلى غير نهاية، وليس ذلك إلا قدم الجمال من الرحمة والعطف والحنان، وفي ضمي الآية: ﴿وأنذر الذين كفروا أنّ لهم قدم صدق عند ربّهم﴾.

المضاف إليهم المتوجه على تربيتهم والمشي بهم إلى قدمهم، وهي ما سبق لهم في العلم، وليس ذلك إلا قدم الجلال من القهر والجبروت والغضب والانتقام، فهو صلى الله عليه وسلم أرسل مبشراً ونذيراً بقدم الصدق التي لكل طائفة عند ربها. وهاتان القدمان هما اللتان تدلتا إلى الكرسي من العرش، لأن الكلمة في العرش واحدة، أي أحدية الجمع، لا تعدد فيها ولا تميز، فلما نزلت إلى الكرسي تميزت وتعددت فكان هناك خيراً وشراً وأمراً ونهياً وغير ذلك من المتقابلات، فلذلك كان من كان زوجين اثنين. قال هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: ( أن النار لا تزال متألمة لما فيه من النقص وعدم الامتلاء حتى يضع الجبار فيها قدمه، وهي أحد تينك القدمين المذكورتين في الكرسي، والقدم الأخرى مستقرها في الجثة، فالاسم الرب مع أهل الجنة، والجبار مع الأخرى لأنها دار جلال وجبروت والجنة دار جمال وأنس.. إلى أن قال: ولم كانت القدمان عبارة عن تقابل الأسماء ظهر عنهما في العالم حكم ذلك في عالم الغيب والشهادة أ هـ).

قول سيدنا: فالاسم الرب مع أهل الجنة، والجبار مع الأخرى، بيان لما يخص أهل النار مما اشتمل عليه الاسم الرب من الأسماء، وإلا فاسم الرب شامل لأهل الإيمان والكفر، أهل الجنة وأهل النار، من حيث جمعيته وشموله. وقال سيدنا في غير هذا الكتاب: قال تعالى:﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ [الرحمن: 55/41].

لأنهم إنما يمشون على الصراط بالقدم وهوعلى الصراط ونواصيهم بيده، وذلك عين ردّه إليهم قدم الصدق التي هي لهم عنده، فإنها صدق بالنسبة إليهم، فإن كانو يعرفونها فهي قدم صدق بالنسبة إليهم وإن كانوايجهلون فهي قدم صدق بالنسبة إليه فهو أقرب من حبل الوريد إلى كل شقي وسعيد.

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾.

قربوا أو بانوا.

قول سيدنا ومولانا: (فظهر سبحانه وظهر ومابطن) يقول العبد: الظهور الأول هو ظهوره تعالى لنفسه بنفسه في نفسه، حيث لا شيء ولا غير ولا سوى ولا تعين ولا مظهر: «كان الله ولا شيء معه».

والظهور الثاني: هو ظهوره تعالى لنفسه بنفسه في مظاهره وتعيناته الأسمائية الإلهية الكونية. وهذان الظهوران هما المعبر بهما عند السادة بكمال الجلاء والاجتلاء. والظهور الثاني هو بذاته عند أهل الكشف والوجود، لا بأسمائه فقط كما يقول المتكلمون وعامة المفسرين. فإن ظهور الأسماء هو ظهورالذات، فإن الأسماء أمور معنوية اعتبارية لا قيام لها ولا ظهور بدون الذات المسمى بها. ولهذا زاد سيدنا كلمة «وما بطن» لأن الظاهر، والظاهر لا يكون باطناً، تأكيداً معنوياً لم يقول أنه ظاهر من وجه، باطن من وجه. قال سيدنا في هذا الكتاب:

نحي المظاهر والمعبود ظاهرن

 

ومظهر الكون عين الكون فاعتبرو

ولست أعبده إلا بصورته

فهو الإله .....إلى آخره

وقال:

و لاتعرف ولا تركن إلى أحد

 

فكل شيء تراه ذلك الله

وقال:

فما ترى عين ذي عين سوى عدم

فصح أن الوجود المدرك الله

فمن أسمائه تعالى: الظاهر والباطن، والظاهر هو العماء، والباطن هو النفس الرحماني. والعماء عن النفس، فإن النفس لا صورة له كما هو في الشاهد ول يدرك إذا تصور بصورة العماء، فهو عينه لا غيره، وإنما غايره بالصورة التي هي اعتبار محض والعماء عين العالم. فالباطن عين الظاهر، والظاهر عين الباطن. قال هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: الأنوار شهادة، والحق نور. ولهذا يُشهد ويرى من حيث في الصور. وقال في هذا الكتاب: إنما أخبرنا تعالى بأنه: والأول والآخر والظاهر والباطن، ليرشدنا إلى ترك التعب في طريق معرفته الذتية، كأنه تعالى يقول، الذي تطلبوه من الباطن مثلا هو عين ما تطلبونه من الظاهر. ومع ذلك فلم تصغ النفوس إلى هذا الإرشاد، بل بحثت في الأدلة وصارت كل شيء ظهر لها من صفات الحق تعالى تطلب خلافه، ولو أنها كانت وقفت مع ماظهر لها من وجود المعارف لعرفت الأمر على ما هو عليه، فكان طلبه لما غاب عنها هو حجابها. وقال في هذا الكتاب: فما عبد يعني، عابد، إلا مشهود ولا غائباً، فإن أعلمه بتجليه في الصور للبصر حتى يميزه عبده أيضاً على الشهود البصري، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يراه بعين بصيرته. فمن جمع بين البصيرة والبصر فقد كملت عبادته ظاهراً وباطناً، ومن قال بحلوله في الصور فهو جاهل بالأمرين جميعاً. بل الحق أن الحق عين الصور فلا يحويه ظرف ولا تغيبه صورة، وإنم غيبه الجهل به من الجاهل، فهو يراه ولا يعرفه أنه مطلوبه... إلى أن قال: وإنما لم يحدّه ولم يقدره العارف به لأنه يراه جميع الصور، فمهما حدّه بصورة عارضته صورة أخرى، فانخرم عليه الحد فلم ينحصر له الأمر لعدم إحاطته بالصور الكائنة وغير الكائنة، فلم يحط به علما.... إلى أن قال: فإن قلت: فأنت من الصور قلنا وكذلك نقول إلاّ أن الصور وإن كانت عين المطلوب فإنها أحكام الممكنات في عين المطلوب، فل يبالي بما ينسب إليها من الجهل والعلم وكل لوصف.

وقال في هذا الكتاب: للأبصار إدراك وللبصائر إدراك وكلاهما محدث. فإن صحّ أن يدرك العقل وهو محدث صح أو جاز أن يدرك بالبصر لأنه لا فضل لمحدث على محدث في الحدوث، وإذا اختلفت الاستعدادات فجائز على كل قابل للاستعدادات أن يقبل استعداد الذي قيل فيه انه أدرك الحق بنظره الفكري. فإما أن ينفوا ذلك جملة واحدة وإما أن يجوزوه جملة واحدة.... إلى أن قال: وأما الذي يزعم أنه يدرك عقلاً ول يدركه بصراً فمتلاعب لا علم له بالعقل ولا بالبصر ولا بالحقائق على ماهي عليه في أنفسها، كالمعتزلي، فإن هذه رتبة من لا يفرق بين الأمور العادية والطبيعية، ل ينبغي أن يتكلم معه في شيء من العلوم ولا سيما علوم الأذواق. وما شوق الله عباده إلى رؤيته بكلامه سدى، ولولا أن موسى عليه السلام فهم من الأمر إذ كلّمه الله بارتفاع الوسائط ما جرأه على طلب الرؤية ما فعل.

وقال في هذاالكتاب: إن الله هو الظاهر الذي تشهده العقول، فكما أنه م ثم في المعلومات غيب عنه جملة واحدة، بل كل شيء له مشهود لهم ينعت الظهور والبطون للبصائر والأبصار، غير أنه لا يلزم من الشهود العلم بأنه هو ذلك المطلوب إل بأعلام الله وجعله العلم الضروري في نفس العبد أنه هو...إلى أن قال: وذلك الوجدان حق في نفسه مطابق لما هو الأمر عليه فيما ياره. وقال في هذا الكتاب: لكاما جاز وقوعه في المنام والدار الآخرة جاز وقوعه وتعجيله لم شاء في اليقظة والحياة.

قول سيدنا ومولانا: (ولكنه بطن). يقول العبد أن الحق تعالى ظاهر بذاته من غير إحاطة لمن أراد أن يظهر إليه ويعرفه به، وهم الذين اختصهم برحمته العارفون به، باطن بذاته عمن أراد أن يبطن عنهم، وهم الذين حجبهم بما ظهر به لغيرهم.لأن الرؤية والحجاب والظهور والبطون راجعات إلى إرادته واختصاصه من شاء بمن شاء، فإذا ظهر لمرحوم عارف فهو ظاهر لنفسه، لأن ذلك العارف وجه من وجهه. وإذا بطن عن أحد من الجاهلين المحرومين فهو باطن عن نفسه، لأن ذلك الجاهل مظهر من مظاهر الحجابية. فظهور الحق لأحد عين بطونه عن الآخر، وبطونه عن الآخر عين ظهوره للآخر، وهن حارت القلوب وزلت العقول، فإنّ العقل يحيل الجمع بين الضدين في وجه واحد في عين واحد. قال العارف الكبير أبو سعيد الخراز: عرفت الله بجمعه بين الضدين، ثم تلا: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد:57/3].

يريد من وجه واحد. وقال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه : إن ظهور الأسماء هو في الحقيقة ظهور الذات لأنها أمور عدمية، والظهور وجودي، وبطون الذات هو عين ظهور الأسماء. فظهور الحق عين بطونه، وبطونه عين ظهوره من حيثية واحدة من جميع الوجود، فلا تقل أين الله؟ وأين العالم؟ فما ثمّ إلاّ الله المسمى بالعالم، وإياك ثم إياك أيها الناظر أن تتخيل حلولاً أو اتحاد أو امتزاجاً أو غير ذلك من الموبقات، فما ثم إلاّ وجود واحد واعتبارات محضة وصور وهمية ظاهرة بالوجود حاكمة عليه محددة له مقدرة.

وجه آخر: ظهور الحق تعالى هو بتعيناته المعينة له ومظاهرها المظهرة له، فإنها ما سميت تعينات إلاّ لتعينها إياه وإظهارها له وبطونه من حيث هويته المجردة عن كل تعين ومظهر إلهي أو كوني، أو من حيث كونه إحدى العين في كل شيء من المتضادات والمتماثلات والمتخالفات، ولا يتميز مع أحديته في كل شيء.

قال هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: الحق تعالى معلوم لنا أنه في كل شيء، ومجهول التمييز لما نشهده من اختلاف الصور، فما تقول في صورة هو هذا إلاّ وتحجبك صورة هو عينها، تقول فيها هو هذا، وتغيب عنك هويته بمغيب الصورة الذاهبة فلا تدري على ما تعتمد ا ه.

وجه آخر: قال سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: حضرة الظهور له تعالى لأنه الظاهر لنفسه لا لخلقه، فلا يدركه سواه أصلا، والذي تعطينا هذه الحضرة ظهور أسمائه الحسنى وظهور أحكام أعياننا في وجود الحق وهو من وارء ماظهر، فلا أعياننا تدرك رؤية، ولا عين الحق تدرك رؤية، ولا أعيان أسمائه تدرك رؤية. ونحن لا نشك أنا قد رأينا أمراً ما رؤية، وهو الذي تشهده الأبصار. فما ذلك إلا الأحكام التي لأعيانن ظهرت لنا في وجود الحق، فكان مظهراً لها، فظهرت أعياننا فيه ظهور الصور في المرائي، ماهي عين الرائي لما فيها من حكم المجلى، ولا عين المجلى لما فيهامم يخالف حكم المجلى، وما ثم أمر ثالث من خارج يقع فيه الإدراك وقد وقع. فما هو هذ المدرك؟ ومن هو المدرك؟ فمن العالم ومن الحق ومن الظاهر ومن المظهر؟ وقال هو سيدن ومولانا في هذا الكتاب: إن البطون مختص بنا كما يختص به الظهور، وإن كان له البطون، فليس هو باطن لنفسه ولا عن نفسه، كما أنه ليس ظاهراً لنا. فالبطون الذي وصف نفسه به إنما هو في حقنا، فلا يزال باطناً عن إدراكنا إياه حساً ومعنى، فإنه:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

لأن محبته أَنْ يعرف أنه لا يعرف. فهذا حد معرفتنا به، إذ لو عرف لم يبطن هوالباطن الذي لا يظهر ا ه... يريد من حيث الهو، والحقيقة المجردة، فإنه قال في هذا الكتاب: الأسرار غيب ولها الهو، فلا يظهر الهو أبداً. فالحق من حيث الهو ل يشهد وهويته حقيقته.

قول سيدنا: (وأبطن). يقول العبد: يعني أنه تعالى مع ظهوره الذاتي الأحدي الجمعي وكونه عين كل شيء ومع كل شيء ومقومه ومظهره فقد أبطن بعض الموجودات وأخفاها عن بعض مع أحديتها واتحادها في الوجود الواحد الحق الواحد العين الذي ل يتجزأ ولا يتبعض. وهذا من أعجب ما يسمع وأغرب ما يقال، الشيء يجهل عينه، وسبب ذلك الامتيازات الاعتبارية والتعينات العدمية. فإن غلبة حكم ما به الامتياز موجب للجهل والبعد، كما أن غلبة حكم ما به الاتحاد موجب للعلم والقرب.

قول سيدنا: (وأثبت له الاسم الأول وجود عين العبد، وقد كان أثبت. وأثبت له الاسم الآخر تقدير الفناء والفقد، وقد كان قبل ذلك ثبت). يقول العبد: هذ الاسمان وأمثالهما يسميها المتكلمون أسماء الإضافات والنسب، فأولية الحق عندهم وآخريته بالنسبة لكذا وبالإضافة إلى كذا، فهما من وجهين مختلفين كما قالوا في الظاهر والباطن. فالأولية والآخرية ليست عندهم إلا بالزمان، وذلك محال في حق الحق تعالى فإنه لا يجخل تحت الزمان. وأما سادات هذه الأمة - رضوان الله عليهم - فهو تعالى عندهم اول وآخر من جهة واحدة وحيثية متحدة. فالنبأ العظيم والشأن الخطر الجسيم في الأولية التي تجامع الآخرية، وآخريته التي تجامع أوليّته، لا بالنسبة والإضافة ومن وجه دون وجه، فإن أسماءه تعالى كلها ما علمت إلا بالثناء عليه بها، ول ثناء فيما يقوله غير الطائفة العلية في هذين الاسمين وأمثالهما - فليست أوليته الحق وآخريته بالنسبة والإضافة كأولية المحدثات وآخريها، إذ لو كانت أوليته بالنسبة والإضافة إلى الممكنات لكانت الممكنات ثانية له تعالى عن ذلك، فإن نسبة الحق تعالى إلى الموجودات العلية والعينية نسبة واحدة ليس لشيء تقدم و لاتأخر بالنسبة إليه تعالى، فإنّه عين وجود كل شيء.، فأوليته عين آخريته وآخريته عين أوليته، أو لا أولية ولا آخرية، فكل أول هو، وكل آخر هو، ولا آخر، فإن المقدورات لا نهاية لها. قال هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: ليس معقولية الاسم الله بالأول والآخر كالعالم، فإن العالم يتعدد والحق واحد لا يتعدد. ولا يصح أن يكون أولاً لنا، فإن رتبته لا تتناسب رتبتنا، ولو قبلت رتبتنا أوليته لاستحال عليها اسم الأولية، بل كان ينطلق عليها اسم الثاني لأوليته، ولسنا بثاني له تعالى عن ذلك، فليس بأول لنا، فلهذا كان عين أوليته عين آخريه. وهذا المدرك عزيز المنال يتعذر تصوره على من لا أنسة له بالعلوم الإلهية التي يعطيها التجلي والنظر الصحيح. فكما أن الممكن انتفت عنه الآخرية شرعاً من حيث الجملة إذ الجنة والإقامة فيها إلى غير نهاية، كذلك الأولية بالنسبة على ترتيب الموجودات الزمانية معقولة موجودة. فالعالم بذلك الاعتبار الإلهي لا يقال فيه أول ولا آخر، وبالاعتبار الثاني هو أول وآخر بنسبتين مختلفتين بخلاف ذلك في إطلاقها على الحق. وقال سيدنا في غير هذا على محل النسب والإضافات، وإنما ينبغي أن يحمل على أنه أمر ذاتي يوصف به على الوجه الذي يليق به ويعلمه سبحانه.

وقول سيدنا: وأثبت له الاسم الأول ...الخ، وأثبت له الاسم الآخر...الخ. لا يناقض ما قدمناه، وهو أن أوليته تعالى عين آخريته وأخريته عين أوليته أو أنه أول وآخر من حيثية واحدة، إن ظاهر كلام سيدنا هنا يعطي انه أول وآخر نسبتين من حيثيتين، بل ما ذكر هذا إلاّ تأنيساً للعقول المعقولة بعقول الظواهر، وهو حق وإن كان غيره أحق منه.كما أول الحق تعالى كلامه لعبده حيث لم يفهم مراده لما قال له: «مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني».

فقال سيدنا: إن وجود عين العبد في العدم لأن الأعيان أزلية قديمة هوالمصحح المثبت لاسمه تعالى الأول، فضمير كان راجع إلىوجود عين العبد. فالمنسوب والمنسوب إليه قديماً، كما أن تقدير الفناء اللاحق للعبد صحّح وأثبت له تعالى اسم الآخر. وقد كان الفناء والفقد ثبت للعبد في العلم الإلهي قبل كونه وحلوله، فضمير «كان». عائد على الفناء والفقد. فالعالم منسوب ومضاف إلى حضرة الأسماء أزلا وأبد حال ثبوته وحال وجوده وحال عدمه وفقده أ ه. وسيدناأمدنا الله تعالى بمدده ينحو هذا المنحى كثيرا في هذا الكتاب وغيره، بل يذكر المذهب الباطل عنده فيظن الناظر أنه ذكره مذهباً له، وهو إنما ذكره ليتوصل به إلى ما هو حق أو أحق منه. وقد نبّه على هذا في غير هذا الكتاب قال: (مهما ذكرت شيئاً مما تأباه الحقائق فإنما أسوقه للتوصيل التفهيم الجاري في العادة، وصاحب الحقيقة يعرف مرتبة الموضوعات، ومعه أتكلم بالحقائق وإياه أخاطب. ومن نزل عن هذه الحقائق فغنه يجعل الكلام على م استقر في عرف العادةالذي يتخيل فيه أنه حقيقة فيقبل كل واحد منهما المسألة ، ول يرمي بها، لكن من وجهين مختلفين وبينهما ما بين مفهوميهما) فهذا ضابط عظيم الجدوى فلا تظن أن في كلام سيدنا تناقضاً او تدافعاً أبداً في كل ماتكلم به. قول سيدنا: (فلولا العصر والمعاصر والجاهل والخابر ما حقق أحد معنى اسمه الأول والآخر والباطن والظاهر). يقول العبد: العصر الزمان، وهو الامتداد المتوهم المنقسم إلى ماض وحال وآت، فالأول ما كان في الزمان المتقدم، والآخر ما كان بعده، والمعاصر هو الموافق في الدخول تحت حيطة العصر، وهو الزمانيات ولي س ذلك إلا الأجسام العنصرية. وأما غيرها كالأرواح وكل موجود ممكن قائم بنفسه غير متحيّز فلا يدخ تحت حيطة الزمان ولا يحويه المكان. فلولا الزمان الذي توهم الخلق فيه انه كالظرف للموجودات ماعرف أحد معنى الأول والآخر، وما كان من هذا النمط من الأسماء كالظاهر والباطن. قال: الباطن راجع إلى الاسم الأول، والظاهر راجع إلى الاسم الآخر، كذلك لول الجاهل والخابر، وهوالعالم، ماعرف أحد معنى الجهل ونقصه، حتى نزّهنا الحق تعالى ـ عنه، ولا معنى العلم وكماله حتى وصفنا الحق تعالى به. قال، هو سيدنا ومولان في غير هذا الكتاب: الأول والآخر أمر إضافي يوصل إلى العقل حقيقة ما، وذلك لو زال العالم لم يطلق على واجب الوجود الأول والآخر، فإذا زلت أنت لم يقل أول ولا آخر، إذ الوسط العاقد للأولية والآخرية ليس ثم، فلا أول ولا آخر، وهكذا الظاهر والباطن هـ.

فإضافته العالم إلى الحق تعالى ومنسوبيته إليه ثابتة أزلا حالة عدم العالم وفقدانه. قال هو سيدنا في هذاالكتاب ما معناه: إن الأسماء الإلهية لم تزل ناظرة إلى العالم حال عدم وثبوته.

قول سيدنا :(وإن كانت أسماؤه الحسنى على هذا الطريق الأسنى). يقول العبد: أن جميع ما يسمّى الله تعالى به ذاته من الأسماء ما حقق أحد معنى اسم منها إلا باعتبار العالم سواء في ذلك الأسماء التي يقال فيها أسماء إضافة كالأول والآخر، أو غيرها فجميع أسماء الله الحسنى فيها رائحة اعتبار الغير لأنها لا تخلو من معنى زائدعلى دلالتهاعلى المسمى بها، وإلا فلمن يسمى نفسه فيتميز عنه. فما عرف أحد معاني ما سمّى به الحق تعالى نفسه إلاّ من وجود أمثال تلك المعاني في العالم، وإن كانت نسبتها إلى الحق تعالى مغايرة لنسبتها إلى العالم، فإن النسبة تتبع المنسوب إليه، بل كل أحد إنما عرف ما نسب الحق إلى نفسه من ذاته، فمن علمه عرف كيف يعلم الحق ومن إرادته عرف كيف يريد الحق، ومن كلامه عرف كيف يقوم الكلام بنفس الحق، وهكذا سائر الأسماء. قال، هو سيدنا ومولانا في هذا الكتاب: وهل وصفته بصفة كمال إلا منك، وسلبت النقائص التي يجوز عليه عنه وإن كانت لم تقم به قط . وقال في هذا الكتاب: كل حقيقة تعقل لحق لا تعقل مجردة عن الخلق، فهي تطلب الخلق بذاته، فلا بد من معقولية حق وخلق لأن تلك الحقيقة الإلهية من المحال أن يكون له تعلق أثري في ذات الحق، ومن المحال أن تبقى معطلة الحكم، لأن الحكم لها ذاتي فل بدّ من معقولية الخلق سواء اتصف بالوجود أو العدم اه.

قول سيدنا: ( ولكن بينها تباين في المنازل). يقول العبد: أن الأسماء الحسنى وإن اتحدت في الدلالة على العين الواحدة واشتركت في الإطلاق على الذات الأحدية فهي متمايزة المعاني والدلالات بما تضمنته جواهر ألفاظها، فكل اسم من الأسماء الإلهية له اعتبارات، اعتبار من حيث الدلالة على الذات فقط، فهو بهذ الاعتبار عين الذات وعين جميع الأسماء من حيث الاشتراك في الدلالة على الذات. واعتبار من حيث المعنى الذي دلّ عليه جوهر لفظه، فهو بهذا الاعتبار غير الذات وغير ماعداه من الأسماء. فالجاني هو عبد الحليم الذي يعاجل بالعقوبة، فحال الجاني ولسانه يقول يا حليم، وليس هو عبد الكريم، وإنما عبد الكريم هو المحتاج إلى ما يسد حاجته التي هو محتاج إليها كانت ما كانت، فال المحتاج ولسانه يقول يا كريم. وهكذ جميع الأسماء الإلهية، فإن معانيها تتبيّن عند حلول النوازل بالعباد فيلجأ كل فقير إلى ما افتقر إليه من الأسماء، فيسأله فيما افتقر إليه فيعطيه حاجته، كان ما كان ذلك الاسم، كانت ما كانت تلك الحاجة النازلة بالعبد.

قول سيدنا: (وكل عبد له اسمه و ربه). يقول العبد: رب كل عبد هو مدبره، وهو الاسم الخاص بالعبد الطالب من الله إيجاد ذلك العبد. وقد يكون هذا الاسم المتوجه على إيجاد العبد من أسماء الذات الكلية وقد يكون من جزئياتها وقد يكون من أسماء الصفات الكلية وقد يكون من جزئياتها، وقد يكون من أسماء الأفعال الكلية، وقد يكون من جزئياتها، ومحال أن يكون جميع الأسماء الداخلة تحت الاسم الرب للعبد. فكل عبد له اسم خاص به وهو ربه. ولا يعرفه العبد إلهه إلاّ بواسطة ذلك الاسم، ولا يكون إمداده من الحضرة الجامعة إلا بواسطة، ولا يعبد العبد إلهه إلا من حيث هذا الاسم. فهذا الاسم في الحقيقة هو حقيقة وقلبه، وذلك العبد هو مظهر ذلك الاسم وجسمه قال العارف الجندي (1) - تلميذ العارف القونوي ربيب سيدنا ووارثه: العالم كله أعلاه وأسفله على وجوده حكم ببعض الأسماء على سائرها، فذلك البعض سيده، وإليه مستنده. والحق من حيث ذلك الاسم ربه ومعبوده، ومن حضرته قاض عليه وجوده، وهو عند التجلي مشهوده. وقال العارف الشعرانيّ: لك مخلوق رب، وهوالجزء المدبّر فيه لا غير. فلذلك قررنا غير ما مرة أن الحق تعالى قد تعرف إلى كل مخلوق بوجه لا يشاركه فيه أحد غيره، فما أحاط به أحد من كل وجه ولا جهله أحد من كل وجه.

قول سيدنا: ( فهو سبحانه العليم الذي علم وعلم). يقول العبد : العليم صيغة مبالغة لعموم تعلقه وشموله وحيطته، علم كل شيء من علمه بذاته، لأن كل الأشياء شؤن ذاته المستهلكة فيها، فجيمع معلوماته إنما يأخذها من ذاته، وليس العلم الحقيقي إلا لمن علم الأشياء بذاته من ذاته، وليس ذلك إلا الحق تعالى فلا علم إلاّ علمه، ولا عالم إلا هو، وكل من ينسب إليه العلم سواه تعالى فإنما معلمه الحق تعالى إنه الذي علم وعلم كل قال:﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾[الكهف:18/65].

وقال:﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾[البقرة: 2/282].

بل ما علم عالم إلاّ به تعالى فإنه وجود كل عالم ولا أخذ عالم معلوماً إلاّ من علمه، فإن المعلومات كلها ثابتة في علمه، وهو تعالى يأخذ معلوماته من ذاته، وإن شئت قلت يأخذها من العدم فإنها مستجنة في الذات، لا عين لها في العلم ولا في العين في مرتبة الأحدية، ولكون كل من ينسب إليه العلم من المخلوقات إنما هي نسبة مجازية. نفى تعالى العلم عما عداه جملة واحدة في غير ما آية قال:﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:2/216، البقرة :2/232، آل عمران:3/66، النحل:16/74، النور: 24/19].

أي لا علم لكم من ذواتكم ولا بذواتكم مما ينسب إليكم.

قول سيدنا : (والحكيم الذي حكم وحكم) يقول العبد: الحكيم هوالذي حكمته الحكمة فصرفته بمقتضاها، لا من علم الحكمة فقط. فالحكيم هوالذي يفعل بمقتضى الحكمة فيعطي كل شيء ما يستحقّه وما هو مستعدله، وينزله منزلته فلا يرفعه عما يستحق ول يضعه. واسم الحكيم قريب من المدبر، فإن المدبر ينظر في الأشياء قبل أن يبرزها إلى عالم الشهادة، فله التصرف في عالم الغيب. ولا يكون هذا على الكمال إلا للعالم بالأحوال والأشخاص والأزمان وما تقتضيه، وليس إلا الحق تعالى فإنه: ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.

قال هو سيدنا ومولانا في هذاالكتاب: الحكيم من قامت به الحكمة، فكان الحكم لها به، كما كان الحكم له بها، فهوعينها وهي عينه، فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه. فالحكمة علم خاص وإن عمت، الفرق بينها وبين العلم أن الحكمة لها الجعل والعلم ليس كذلك، لأن العلم يتبع المعلوم، والحكمة تحكم في الأمر ان يكون هكذا فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم، لأنه ما من ممكن يضاف إلى ممكن إلا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه، لكن الحكمة اقتضت بحكمها أن ترتبه كما هو بزمانه وحاله في حال ثبوته. وهذا العلم الذي انفرد به الحق ـ تعالى وجهل منه وظهر به الحكم في ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها، فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه. فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه خلافه، والترتيب أعطى العالم العلم بأن الأمر كذا هو...إلى أن قال: فالعارف عنده الحكيم يتقدم العليم، والعامي يقدم العليم ثم الحكيم، وقد ورد الأمران معاً. فالحكيم خصوص والعليم عموم، ولذلك ما كل عليم حكيم وكل حكيم عليم، ومن إفضاله وإحسانه على بعض خواص عبيده إعطاؤه الحكمة لهم فسموا حكماء علماء. وهو قول لسيدنا: وحكم، أي جعل من اختصه حكيماً تحكم عليه الحكمة ويحكم بها. قال تعالى امتناناً على داود عليه السلام :﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾[ص:38/20].

وفصل الخطاب من الحكمة فإن الإيجاز في موطنه وزمانه ومع أهله من الحكمة، كما أن الإسهاب في زمانه وموطنه ومع أهله من الحكمة، فما اقتضت الحكمة أن يبديه مفصلاً أبداه مفصلاً، وما اقتضت الحكمة أن يبديه مجملاً أبداه مجملاً، وم اقتضت الحكمة ان يبديه محكماً أبداه محكماً، أو متشابهاً فمتشابها. قال تعالى: ﴿ {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾[البقرة:2/269].

ومن منع الحكمة فقد منع خيراً كثيراً.

قول سيدنا: (والقاهر الذي قهر وأقهر). يقول العبد: القاهر من أسمائه تعالى، قال: هو القاهر والقاهر الغالب، وهوتعالى القاهر القهار بالذات. وقد يتجلّى في بعض مخلوقاته بهذا الاسم فيصير ذلك المظهر قاهراً لظهور القهر في صورته. وهو معنى قول سيدنا: (وأقهر) أي صيرّ بعض مظاهره قاهراً، يقال أقهر هو صار إلى حال يقهر فيها. والظهور بهذا الاسم خطر جداً إلا لمعصوم أو محفوظ، فإن المعصوم من يقهر بالله من نازع أمر الله لا بنفسه، وكذلك المحفوظ. قال سيدنا في هذا الكتاب: أكبر العلماء من لا يكون له هذا الاسم، يعني عبد القاهر ولا بعبد القهار. وهو العارف المكمل المعتنى به، بل هو المعصوم وما تجلّى لي لحق بحمد الله من نفسي في هذ الاسم وإنما رأيته من مرآة غيري لأن الله عصمني منه في حال الاختيار والاضطرار فلم أنازع أحداً قط ا ه.

قول سيدنا: (والقادر الذي قدر وكسب ولم يقدر). يقول العبد: من أسمائه تعالى القادر والقدير ولمقتدر، فهو القادر المطلق الذي لا يعجز عما يريد ول يستحيل عليه فعل ما يريده، مما يقول النظار هذا مستحيل عقلاً أو عادة، كالجمع بين الضدين والنقيضين كما قال تعالى:﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران:3/169].

وسؤال وفاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة. قال سيدنا في هذه المقدمة : فنقول في الأمر الذي يستحيل عقلا قد لا يستحيل نسبة إليهية، فهو تعالى القادر على الإطلاق ولا قادر سواه، ومع هذه القدرة المطلقة كسب العبد أي جعله كاسباً طالباً لما يريده فيوجده له الإقتدار الإلهي قال:﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَ اكْتَسَبَتْ﴾[البقرة:2/286].

وليس مراد سيدنا بالكسب هنا كسب الأشاعرة فإنه لا يقول به بل يذمه، وإنم هو رفع الجبر ظاهراً عن العبد فقط، ولم يقدر ويضيق تعالى على العبد بأن يجعله مضطراً مجبوراً في أفعاله دائماً في الظاهر، بل جعله ظاهراً كاسياً طالباً مختاراً لا مجبوراًًًًًًً. إذا المجبور هو الذي يفعل ما يفعل كارهاً به، وليس العبد في جميع أفعاله كذلك، فهذا الكسب رحمة من الله بعبده. فإن العبد إذا علم أنه مجبور ملجأ في فعل واحد من أفعاله ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فكيف لو علم أنه مجبور مقهور دائماً كالمرتعش، فستر الجبر الباطن بالكسب الظاهر رحمة عظمى. والفعل الصادر من العبد له ثلاثة اعتبارات: اعتباره في الحس، فهو كاسب مريد مختار، واعتباره باطناً فهو لا كسب له ولا اختيار، واعتباره من حيث عينه الثابتة فلا يقال مجبور ولا مختار كاسب، فإن كل ما يصدر عنه من الأفعال هو استعداده واستعداده هو ذاته، فل يظهر الموجد تعالى عليه إلا استعداده.

قول سيدنا: (الباقي الذي لم تقم به صفة البقاء). يقول العبد: معنى البقاء هو استمرار الوجود إلى غير نهاية، أو سلب العدم اللاحق للوجود. وعند بعض الأشاعر: هو صفة ثبوتية كسائر صفات المعاني عندهم. وعند بعضهم، هو صفة نفسية. ولذ ردّ عليهما سيدنا بقوله: لم تقم به صفة البقاء. وسيأتي في المسائل زيادة ايضاح.

قول سيدنا: (المقدس عند المشاهدة عن المواجهة والتلقاء). يقول العبد: معنى البقاء هو استمرارالوجود إلى غير نهاية، أو سلب العدم اللاحق للوجود. وعند بعض الأشاعرة: هو صفة ثبوتية كسائر صفات المعاني عندهم. وعند بعضهم، هو صفة نفسية. ولذا ردّ عليهم سيدنا بقوله: لم تقم به صفة البقاء. وسيأتي في المسائل زيادة ايضاح.

قول سيدنا: (المقدس عند المشاهدة عن المواجهة والتلقاء). يقول العبد: المشاهدة لغة، رؤية. وقد فرق بينهما سيدنا في هذا الكتاب اصطلاحاً له. والمواجهة مقابلة الوجه بالوجه، وهو هنا كناية عن تحقيق المشاهدة والرؤية. والتلقاء اسم من لقيه كرضيه، والمشاهدة لا تستلزم العلم بالمشهود، فقد يشاهده ولا يعرفه. فإن جميع المخلوقات تشهد الحق تعالى في تجليه في الصور، ولا يعرفه إلاّ الخاصة منهم، كم أن العلم لا يستلزم المشاهدة. وتتفاضل المشاهدة بتفاضل الاستعدادات. والمشاهدة في اصطلاح الفرقة العلية - قال بعضهم - : هي شهود العين بلا أين. وقال بعضهم: هي ظهور معبود ووجود بلا حدود. وقال بعضهم: هي ثلاثة مشاهدة بالحق، وهي رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، ومشاهدة للحق، وهي رؤية الحق في الأشياء، ومشاهدة الحق وهي حقيقة اليقين بلا شك ولا ارتياب. وقال سيدنا في هذا الكتاب. قالت الطائفة: هي المشاهدة تطلق بإزاء ثلاثة معان منها: مشاهدة الحق، وهي رؤية الأشياء بدلائل التوحيد. ومنها: مشاهدة الخلق في الحق، وهي رؤية الحق في الأشياء وتمنها: مشاهدة الحق بل خلق، وهي حقيقية اليقين بلاشك ولا ارتياب. وهذا المعنى الأخير هو الذي عناه سيدن فلا يحس بغيره ولا بنفسه، فإذا رجع إلى عالم الحس وجد أثر المشاهدة، وهوالمسمى بالشاهد عند الطائفة العلية، فإذا لم تترك فيه الغيبة أثراً ولا وجد علماً فتلك النومة لا المشاهدة، فإن المشاهدة والنومة يشتركان في الغيبة وعدم الإحساس.

قول سيدنا: (العبد ذلك الموطن الأنزه لا حق بالتنزيه لا أنه سبحانه في ذلك المقام الأنوه يلحقه التشبيه. فتزول من العبد في تلك الحضرة الجهات وينعدم عند قيام النظرة به من الالتفات). يقول: الحق تعالى إذا اختص عبداً من عبيده برحمته ومنّ عليه بمشاهدته، لا يلحقه تعالى في ذلك نقص ولا يطرأ عليه شيء من سمات الحدوث، فهو مقدس عن تأثير شيء فيه تعالى حال مشاهدة عبده إياه، كماهو مقدس أزل وأبداً. وإنما التأثير يحصل في العبد المشاهد فيتقدس ويتطهر ويتنزه ويتجوهر، يحلقه الحق تعالى بمشهوده في التسمية بالأسماء الحسنى في ذلك الموقف الأسنى. بل يكون عين الاسم حيث ينعدم منه الرسم، بل هو الأسمى. فإذا قال المشاهد عند رجوعه إلى فرقه قيل لي وقلت أونحو ذلك فإنّما هو كحديث النفس مع ذاتها فهي المتكلمة والسامعة والمجيبة. وليس الحق تعالى في ذلك المقام الأنوه الأشرف بالذي يلحقه التشبيه فتتحصره الجهات وتحده الأمكنة وتقيده البصائر أو الأبصار، وإنما العبد يكتسب نعوت الربّ فتزول من العبد المشاهد الجهات الست وتنطمس منه الحواس وينعدم في حقه الزمان والمكان فلا يدخل تحت كمّ ولا كيف، فينعدم منه الالتفات إلى غيره عند قيام النظرة والمشاهدة به، إذ لا غير هنالك، فهو تعالى الناظر والمنظور إليه والشاهد والمشهود والمتجلي والمتجلى له من حيث التقييد العبدي، فلا يرى الحق إلا الحق، إذ لا يراه منا إلا الوجه الذي له فينا، وهوالباقي إذا هلك كل شيء، فأين العبد وأين الرب. لأن حال المشاهدة حال فناء، فإذا ذهب العبد ذهب الرب، أعني الاسم الرب، فذهاب المروب ذهاب الرب، فإنهما متضايفَانِ لا يبقى أحدهما بدون الآخر. قال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي: إذا أراد الحق تعالى أن يتجلى على عبده فإنه يفنى العبد فناء يعدمه عن نفسه ويسلبه وجوده، فإذا طمس النور العبدي وفنى الروح الخلقي أقام الحق تعالى في الهيكل العبدي من غير حلول من ذاته لطيفة غير منفصلة منه ولا متصلة بالعبد عوضاً عما سلبه منه. لأن تجليه على عباده من باب الفضل والجود، فلو أفناهم ولم يجعل لهم عوضاً عنهم لكان ذلك من باب النقمة، وحاشاه من ذلك. وتلك اللطيفة هي المسماة بروح القدس، فإذا أقام الحق لطيفة ذاته عوضاً عن البعد كان التجلّي على تلك اللطيفة، فما تحلّى غلا على نفسه. لكنا نسمي تلك اللطيفة الإلهية عبداً باعتبار أنها عوضاً عن العبد. وإلا فلا عبد ولا رب، إذ بانتفاء المربوب ينتفي اسم الرب، فما ثم إلا الله الواحد الأحد. يريد أن مقام الشاهدة يفني كل شيء مخلوق من العبد ولا يبقى إلا الاسم الذي هو روح روحه، وهوالمسمى بالوجه الخاص، فتمتد إليه رقيقة ذاتية، وهي التي سماها باللطيفة الذاتية، وهي بمثابة الصورة في المرآة الناشئة عن المتوجه على المرآة «ولله المثل الأعلى». فيكون التجلّي على تلك الصورةالمثالية التي هي المتوجه المتجلّي على المرآة بالحقيقة.

قول سيدنا: (أحمد حمد من علم أنه سبحانه علا في صفاته وعلا).

يقول العبد: الحمد، وإن كان حقيقة واحدة، فإنه يختلف في الكيف باختلاف المصادر، فليس حمد الله نفسه بنفسه كحمد خاصّة الخاصّة من الرسل والأنبياء له، ولاحمد خاصة الخاصة، كحمد الخاصة من الأولياء له، ولا حمد الخاصة كحمد العامة. فإن الحمد يتبع العلم بالمحمود، والمحمود عليه. ولما كان عين العلم بالله عين الجهل به كان أعلا المحامد حمد السيد الكامل أعلم العلماء بالله صلى الله عليه وسلم : «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وقوله: (لا أحصي ثناء عليك)، لا أبلغ كل مافيك. وإنما عبر سيدنا بالعلو في الصفات لأن العلو من النسب والإضافات، فهو يقبل التنزل، فتتنزل الحق تعالى من علوه في صفاته على عقول مخلوقاته تمثيلاً وتشبيهاً. فعرف كل واحد منها على حسب استعداده واستطاعته وقبوله، كما تختلف الإدراكات للشيء البعيد مسافة. ولولا أنه تعالى وصف لنا نفسه بما نعلمه من صفاتنا ما عرفنا ذلك ول تعقلناه. ومع ذلك فلا اشتراك بين صفات الحق وصفات الخلق إلا في الاسم فقط، فإنّ صفاته تعالى أعلا من أن تتوهم، وأجل مما تتخيل وتتوسم، وعلا سبحانه بعض عبيده ممن اصطنعه لنفسه واختصه برحمته، فجعل صفاته عالية بالفعل لا بالقوة، لأن جميع صفات العباد عالية من حيث أنها صفات الحق، ولكنها لما ظهرت في مراتب التقييد تقيدت فلحقها النقص. فإن الله خلق آدم على صورته وكل أولاده على هذه الصورة بالقوة، فمن رحمه الله جعله على هذه الصورة بالفعل، فيجلّى بكل وصف إلهي رحماني، لأن الإنسان الكامل له الاتصاف بصفات الإله اتصافاً أصلياً حكمياً قطعياً، فيجمع المتضادات ويعم البياض والسواد. قال سيدنا في هذا الكتاب: لابد في الخيفة بجيمع الأسماء والصفات الإلهية التي يطلبها العالم.

قول سيدنا: (جل في ذاته وجلا). يقول العبد: جلّ من الجلال، وهو حضرة القهر والهيبة، وهوالذي منع جميع المخلوقات من معرفة الذات، وهومعنى يرجع منه إليه تعالى، كما أن الجمال معنى يرجع من إلينا، وكل من تكلم في الجلال من العارفين إنم ذلك في جلال الجمال، وأما الجلال المطلق فلا كلام لأحد فيه أصلا. قال سيدنا في هذ الكتاب: إن القرآن يحوى على جلال الجمال وعلى الجمال، وأما الجلال المطلق فليس لمخلوق في معرفته مدخل ولا شهود، انفرد الحق به، وهوالحضرة التي يرى الحق فيه نفسه بما هو عليه ، فلو كان لنا مدخل فيه لأحطنا علما بالله وبما عنده، وهذا محال ا هـ.

وجلا تعالى من اصطفاه من عباده فجعله جليلاً، أي كساه حلة الجلال، فجهل ولم يعرف. لأن الكامل ليست له هوية منفردة عن الهوية المطلقة لخلعه التقييد ولبسه الإطلاق، أو يكون المعنى بذلك الحقيقة الإنسانية من حيث هي. قال الإنسان لا يعلم من حيث صورته الحقيقية، لأنها صورة الحق، والحق لا يعلم، فحقيقة الإنسان لا تعلم.

قول سيدنا: (وإن حجاب العزة دون سُبُحَاتِهِ مسدل). يقول العبد: حجاب العزة هو التعيين الأول المسمى بالحقيقة المحمدية وبالعماء والروح الكل والإنسان الكامل والثوب والرداء وغير ذلك من الأسماء الكثيرة، تعددت أسماؤه لتعدد وجوهه واعتباراته، وسبحات الوجه الأنوار الذاتية التي لو كشفها سبحانه لأحرقت كل م أدركه بصره من خلقه. فحجاب العزة مسدل مرسل دون الذات لا يرتفع دنيا ولا آخرى، ولايتجاوزه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فهو كالصورة الظاهرة في المرآة . فالصورة دائماً حجاب تحجب النظر إلى المرآة. قال سيدنا في غير هذا الكتاب: كل الخلق واقف دون حجاب العزة الأحمى، فعند هذا الحجاب تنتهي علوم العالمين ومعرفة العارفين، ولا يصح لأحد أن يتعدى هذا الحجاب ولو كان من أكابر الأحباب.

قول سيدنا: (وباب الوقوف على معرفة ذاته مقفل). يقول العبد: للحق تعالى مرتبتان: مرتبة ذات، وهي مرتبة الإطلاق، ومرتبة صفات، وهي مرتبة التقييد. فالذات هي الهوية الغيب المطلق الذي لا يصح ان يعلم ولا أن يجهل، لأن ما لا يرد عليه العلم لا يرد عليه الجهل، فالذات لا كلام لأحد فيها بعبارة ولا إشارة. وجميع من تكلم في الإلهيات من صوفي وعارف ومحقق إنما كلامه في مرتبة الصفات، وهي مرتبة الألوهية، وإن جهل المتكلمون وتوهموا أنهم يتكلمون في الذات فذلك لجهلهم بالفرق بين الذات والمرتبة. فإن مرتبة الألوهية هي مرتبة التقييد، ومنها تنزله الشرائع وأرسلت الرسل، وهي المأمور بطلب العلم بها. وأما الذات المطلقة فقد نهينا عن التفكير فيها. قال سيدنا في هذا الكتاب: الذات مجهولة فما هي علّة ولا معلولة، ول هي للدليل مدلولة، فإنّ من شأن وجه الدليل أن يربط الدليل بالمدلول، والذات ل ترتبط، كما لا تختلط. وقال في هذا الكتاب: المراد بتوحيد الله الذي أمرنا بالعلم به أنه توحيد الألوهية له، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّ اللَّهُ﴾[محمد:48/19].

ولم يقل فاعلم أنه لا تنقسم ذاته ولا أنه ليس بمركب ولا أنه مركب ول أنه مركب من شيء ولا أنه جسم ولا أنه ليس بجسم بل قال في صفته أنه :﴿ ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

لما لم يتعرض الحق سبحانه إلى تعريف عباده بما خاضوا فيه بعقولهم ول أمرهم الله في كتابه بالنظر الفكري إلاّ ليستدلوا بذلك على أنه إله واحد... إلى أن قال: فزادوا في النظر وخرجوا عن المقصود الذي كلفوه فأثبتوا له صفات لم يثبته لنفسه. ونفت عنه طائفة أخرى تلك الصفات ولم ينفها عن نفسه. ثم أخذوا يتكلمون في ذاته، وقد نهاهم الشرع عن التفكير في ذاته، فانضاف إلى فضولهم عصيان الشرع بالخوض فيما نهوا عنه، فمن قائل هو جسم، ومن قائل ليس بجسم، ومن قائل هوجوهر، ومن قائل ليس بجوهر، ومن قائل هو في جهة، واحدة، لا النافي ولا المثبت. ولو سئلوا عن تحقيق ذات واحدة من العالم ما عرفوها. ولو قيل لهذا الخائض: كيف تدبر نفسك بدنك؟ وهل هي داخلة فيه أو خارجة عنه أو لا داخلة ولا خارجة؟ وانظر بعقلك في ذلك، وهل هذ الزائد الذي يتحرك به هذا الجسم الحيواني ويبصر ويسمع ويتخيل ويتفكر لما يرجع؟ هل لواحد أو لكثيرين، وهل يرجع إلى عرض أو إلى جوهر أو إلى جسم؟ وتطلبه بالأدلة العقلية على ذلك دو الشرعية ما وجد لذلك دليلاً عقلياً أبداً. وقال في هذا الكتاب: قد نهانا الشارع أن نتفكر في ذات الله ومامنعنا من الكلام في توحيدالله، بل أمر بذلك فقال:﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾[محمد:47/19].

وهو هنا ما يخطر لمن نظر في توحيد الإله من طلب ماهيته وحقيقته، وهو معرفة ذاته التي لا تعرفه وحجر التفكر فيها لعظيم قدرها وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلاً عليها فلا يتصورها وهمٌ ولا يقيدها عقلٌ بل لها الجلال والتعظيم، بل لا يجوز أن تطلب ب«ما» كما طلب فرعون. وقال في هذا الكتاب: إن المراد بمعرفتنا له بالآثار، وأما الذات فلا تعلم أبداً بعلم سابق، وإنما تعلم من طريق الكشف لبعض المختصين علماً لا يصح التعبير عنه أبداً. وقال في هذا الكتاب: العلم بالذات عندهم ممنوع لا يعلم بدليل ولا برهان ولا يأخذه حدٌ. ومعرفتنا به إنما هي علمنا بأنه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾.

وأما الماهية فلا يمكن لنا علمها قطعاً ا ه. ولهذا حذر تعالى عباده من طلب معرفة نفسه وذاته فقال:﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾[آل عمران: 3/28-30].

رحمة بخلقه، فإنه طلب ما لا يمكن حصوله.

قول سيدنا: (إن خاطب عبيده فهو المسمع السميع) . يقول العبد: لما كنت حقائق الممكنات المسماة بالأعيان الثابتة ما برحت معلومة، ما شمت رائحة من الوجود، الذي يقال فيه وجود خارجي، كان كل ما يقع عليه إدراك بأي مدرك كان إنما هوالوجود الحق ظاهراً بأحوال الممكنات ونعوتها وصفاتها، وهي كلها أمور اعتبارية، كالنسب والاضافات عند المتكلمين. ولذا قال السادة بوحدة الوجود، كشفاً وعقلاً. وهو حقيقة واحدة لا تتعدد ولا تتجزأ ولا تتبعض. وما لا وجود له لا شيء له من توابع الوجود من كلام وسمع وبصر وقدرة وعلم وغير ذلك. فلا جرم كان الحق تعالى إذا خاطب من مرتبة إطلاقه عبده في مرتبة تقييده بالأحوال والتعينات العبدية الإمكانية، كان تعالى المسمع المخاطب المتكلّم (اسم فاعل)، وكان السميع المخاطب المكلّم (اسم المفعول)، لظهوره بالمرتبتين الربية والعبدية. قال سيدنا في هذا الكتاب: جيمع م ينسب إلى هذه الآلات، يعني اللسان والسمع والبصر واليد والرجل، من القوى ما هي سوى هوية الحق، وهو لها كالروح للصورة التي لا يمسك عليها ذلك النظام إلا هو، ولا تدرك تلك الصورة شيئاً إلاّ به. وقال في ذاته اعتراض في فعل من الأفعال إلاّ بلسان حق لإقامة أدب، فالمتكلم والمكلم عين واحدة في صورتين بإضافتين.

قول سيدنا: (وإن فعل ما أمر بفعله فهو المطاع المطيع). يقول العبد: لم كان الوجود واحد، وهو الوجود الحق، كان الفعل ليس إلا منه، فهو الآمر في مرتبة الإله الرب، وهو المأمور في مرتبة المألوه العبد، من غير حلول ولا اتحاد ول امتزاج ولا غير ذلك. قال سيدنا في هذا الكتاب: أوقفني الحق بكشف بصري على خلقه المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مخلوق، إذ لم يكن إلا الله. وقال لي: هل هنا أمر يورث التلبيس والحيرة؟ قلت:لا.قال لي : هكذا جميع ما تراه من المحدثات ما لأحد فيه أثر ولا شيء من الخلق، فأنا الذي أخلق الأشياء عند الأسباب، لا بالأسباب، فتتكون عن أمري، خلقت النفخ في عيسى، وخلقت التكوين الطائر، فقلت له : فنفسك إذا خاطبت في قولك: افعل ولا تفعل. قال لي: إذا طالعتكم لأمر فالزم الأدب، فإنّ الحضرة لا تحتمل المحاققة. فقلت له: وهذا عين ما كنا فيه، ومن يحاقق ومن يتأدب، وأنت خالق الأدب والمحاققة. فإن خلقت المحاققة فلا بد من حكمها، وإن خلقت الأدب فلا بدّ من حكمه. قال: هو ذلك فاستمع إذا قرئ القرآن وانصت. قلت: ذلك لك، اخلق السمع حتى اسمع واخلق الانصات حتى أنصت وما يخاطبك الآن إلاّ ما خلقت. فقال لي: ما أخلق إلا ما علمت وم علمت إلا ماهو المعلوم عليه فالله الحجة البالغة.

قول سيدنا: (ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على حكم الطريقة للخليقة). يقول العبد: هذه الحيرة حيرة علم ما هي جهل كحيرة المتكلمين الذين يتقلبون دائماً بين الدليل والشبهة، بينما يكون الأمر عندهم دليلاً يصير شبهة. وحق العارفين أن يحتاروا فإن الأمر حيرة في أصله دنيا وآخره. والعبد مأمور قطعاً، وهو لا فعل له قطعاً عند أهل الكشف والوجود، وعند أهل السنة والجماعة. والأمر الحق لا يأمر نفسه قطعاً، والتكليف بالفعل والكف وارد من حكيم عليم، فلابدّ من تأثير معقول ونسبته للعبد في الفعل، وإن كان الفعل لله. قال العارف صدر الدين ربيب سيدنا: (التكليف ل يكون إلا على من له الاقتدار على ماكلف به. لأنه أمر بافعال وإمساك النفس عن ارتكاب ما نهى عنه والأفعال منتفية عن المخلوق بقوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 37/96].

والشيء لا يكلف نفسه. ثم لا يخفى أن الحق خاطب عباده وأمرهم ونهاهم، فل بدّ من محل يقبل الخطاب، فأثبت الأفعال للمخلوق من هذا الوجه بما يقتضي قابليته. فنفى من وجه وأثبت من وجه . والنفي والإثبات متقابلان، فرماه في الحيرة. فدرجات علوم العلماء بالله تدور على مركز الحيرة). اه. والحقيقة في هذا المحل حقيقة الآمر والمأمور والرب والعبد والقادر والعاجز فإنه قد اشتبه هذا بهذا.

قول سيدنا:

الرب حق والعبد حق

 

ياليت شعري من المكلف

إن قيل عبد فذاك ميت

أو قيل ربٌ أنّى يكلف

يقول العبد: الربُّ حقٌ ثابت مطلق في ألوهيته وقدمه واجب الوجود لذاته. والعبد حقٌ ثابت مقيد في عبوديته وحدوثه واجب الوجود بغيره. وقد اتصف هذا العبد الحادث بالوجود، والوجود واحد قديم لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتعدد. إذ لا يخلو هذ الوجود الذي استفاده الحادث ووصف به من أن يكون معدوماً ووجد، أو معدوماً لا يصح أن يكون معدوماً ووجد، لأن الوجود لا يكون عدماً ولا موجوداً، وإن كان عدماً فل فرق بينه وبين العين الموصوفة به. فإن الوجود من حيث ما هو معدوم محتاج إلى وجوده فيتسلسل وهو محال. وعليه فالوجود واحد قديم في الرب، حادث الظهور عند العبد، ول يقدح في قدمه، فإن حدوث الشيء عندنا لا يدل على أنه لم يكن له وجود قبل حدوثه عندنا فهو كقوله: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾[الشعراء:26/5].

والذكر كلامه تعالى القديم، وحدوثه بالنسبة إلى المنزل عليهم لا عينه. يا ليت شعري، أي ليتني أشعر، والشعور علم إجمالي من المكلف، فإنه لما ثبت أنه تعالى الظاهر وأن الوجود له وأن كل ما يقع عليه إدراك من الصور والأشكال والأعراض إنما هي أحوال ونعوت واستعدادات الأعيان الثابتة في العدم، والصور والأحوال أمور عدمية لا قيام لها إلا بالوجود، فالمسمى بالعبد إذا عبارة عن ظهور الوجود الحق بأحوال الممكنات العدمية . وهذا التركيب المعنوي أصل كل تركيب في العالم فهل المخاطب المأمور بالتكاليف المأمور المكلف عبد فهوميت عاجز لا قدرة له على فعل ول ترك، وإن قيل المأمور المكلف ربٌ فهو تناقض فإن كونه رباً يقتضي أن يكون آمراً لعبده مكلّفاً (اسم فاعل) فأَنَّى يكلّف نفسه فلا يصح أن يكلف نفسه من حيث هو هو لما يلزم عليه من اجتماع النقيضين. والمخلص من هذا أن الحق تعالى له مرتبتان إطلاق وغيب، وهي مرتبة اللاتعين واللا ظهور. ومرتبة تقييد وتعين بالمظاهر الأسمائية والروحانية والصور الخيالية والجسمية من غير حلول ولا شيء غير ذلك، كم لم تحل المعاني في الألفاظ وإن دلت عليها. وهو هو في المرتبتين، فإن المطلق عين المقيد، والتعيين والتقيد والظهور أمور اعتبارية لا وجود لها في أعيانها، فانحجب المقيد من حيث تقيده عن نفسه من حيث إطلاقه. فأراد المطلق رفع الحجاب عن المقيد، فرتب هذه التكاليف الشرعية أدوية وأسباباً لرفع الحجاب فهو المكلّف (اسم فاعل) من حيثية وجهة، وهي حيثية إطلاقه وربوبيته، وهو المكلّف (اسم المفعول) من حيثيّة وجهة وهي حيثيّة تقيده وظهوره باسم العبد وتقيده بأحواله ونعوته ومع هذا فالربُّ ربٌ سيد آمر قاهر مكلف. والعبد عبد مربوب مأمور مكلف. قال سيدنا في هذا الكتاب: (ليس ثمّ قدرة حادثة أصلاً يكون عنها فعل شيء، وإنما وقع التكليف والخطاب من اسم إلهي على اسم إلهي في محل عبد كياني. فيسمى ذلك العبد مكلفاً، وذلك الخطاب تكليفاً). وقال في هذا الكتاب: (فاعلم من تقع عليه العين وما هي عليه العين، وما تسمعه الأذن وم هي الأذن، وما يصوت به اللسان وما هو الصوت، وماتلمسه الجوارح وما هي الجارحة، وم يذوق طعمه الحنك وما هو الحنك، وما يشمه الأنف وما هو الأنف، وما يدركه العقل وم هو العقل، وما هو السمع والبصر والشم والطعم واللمس والحس، وما هو المتخيل والخيال المتخيل، وما هو المتفكر والفكر والمتفكر فيه، وما هو المصوّر والصورة والذاكر والمذكور والواهم والتوهّم والمتوهّم، والحافظ والحفظ والمحفوظ، وماهو المعقول، فم يحصل لك إلاّ علم بأعراض ونسب وإضافات في عين واحدة، هي الواحدة والكثيرة، وعليه تنطلق الأسماء كلها بحسب ما أحدث الله فيها بما ذكرناه. وفيها يظهر الجوهر الصوري والعرض والزمان والمكان. وهذه أمهات الوجود ليس غيرها) ا ه. وقال العارف الكبير عبد الكريم الجيلي: الحق سبحانه لما نزل من أوج إطلاقه إلى حضيض التقيد متعين بحقائق السلسلة لابسا لصورها صورة فوق صورة حتى بلغ إلى غاية التنزيل، التي هي حقيقة الإنسان، انحجب عن نفسه من حيث التقيد عن نفسه من حيث الإطلاق، فاشتاق إلى نفسه وأراد رفع الحجب عن حضرة قدسه حتى يتحد المطلق بالمقيد، كما كان أول مرة، فأوحى إلى نفسه من حيث تقيد بكيفية رفع الحجب. فأول ما أمر نفسه بالتوحيد الصرف، لأنه البداية في التنزيل فينبغي أن يكون هو البداية في الترقي، ثم أمر نفسه بأنواع من الأعمال والأقوال الواقعة على طبق تنزلاته ونشأته في كل مرتبة، وأمر نفسه بالترقي فيها. فكل عمل أو قول إذا ارتقى إليه فقد ارتقى إلى ما يطابقه من نشأته. وهكذا حتى يصل إلى آخرها في الترقي وأولها في التنزل وهوالعقل الأول.

قول سيدنا: (فهو سبحانه يطبع نفسه إذا شاء بخلقه وينصف نفسه فيما تعين عليه من واجب حقه). يقول العبد: حيث ثبت أنه لا وجود إلا الله، ولا فاعل سواه، وإن الصور الحادثة إنما هي صور أسمائه، والأسماء نسب لا تقوم بنفسها، وأن التكليف من اسم الإلهي على اسم إلهي في صورة حادثة، فهو تعالى يطبع نفسه إذا شاء بصورة خلقية عبدية، أو يعصي إذا شاء كذلك. والحذر الحذر من توهم حلول أو اتحاد أو امتزاج، أو أن العبد يصير ربا، أو الرب يصير عبداً، فالطائفة العلية برية من هذا كله. قال سيدنا في هذا الكتاب: وكما تعلم عقلاً أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها، وإنما كان لهامجلى، وأن الصفة لا تفارق موصوفها، والاسم مسماه، كذلك العبد ليس فيه شيء من خالقه ولا حل فيه، وإنما هو مجلى له خاصة ومظهر له. وكما ينسب نور الشمس إلى البدر كذلك بنسب الاقتدار للخلق حساً والحال الحال. وإذا كان الأمر بين الشمس والبدر بهذه المثابة مع الخفاء، وأنه لا يعلم ذلك كل أحد فما ظنك بالأمرالإلهي؟!

قول سيدنا:( فليس إلاّ أشباح خالية على عروش خاوية). يقول العبد: حيث صحّ شرعاً وكشفاً أن هوية الحق تعالى هي قوى العبد جميعها الظاهرة والباطنة الحسية الروحانية، وليس العبد في الحقيقة إلا مجموع هذه القوى. وأما الصورة والشكل فليست إلاّ أشباح خالية وأمور خيالية، كسراب بقيعة تقرقرت يحسبه الجاهل ماء متدفقاً. فما هذه التماثيل الصورية إلا مباني واهية على عروش خاوية. قال سيدنا في هذا الكتاب: رأيت رسوماً ظاهرة وربوعاً داثرة كانت قبل ذلك عامرة وناهية وآمرة، فسألناه ما وراءك ياعصام؟ فقالت: ما يكون به الاعتصام. فقلت: ما ثم إلا الله وحبله وما ل يسع أحد جهله. فقالت: لولا الكثايف ما علمت اللطائف، ولولا آثارها ما ظهر منارها، فمن خبت ناره انهد مناره.

قول سيدنا: (وفي ترجيع الصدى سر ما أشرنا إليه لمن اهتدى). يقول العبد: الصدى ما يرده الجبل على المصوت فيه، فهو اثنان في حس السمع وواحد في الحقيقة، فكذلك الحق والخلق يظهر في بادئ الرأي اثنان وهما شيء واحد في الحقيقة. فليس الخلق بغير للحق إلا باعتبار لا بالحقيقة. لأن الغيرين أمران وجوديان عند المتكلمين، وليس هناك إلا وجوداً واحد ظهر في مرتبة حق، وظهر في الأخرى خلق، وهو هو. فليس العالم إلا ذات الحق الوجود المطلق المتعين بأحوال الممكنات وصفاته التي هي نفس تعيناته وأفعاله الصادرة عن صفاته، فالكل هو إذا. قال سيدنا في هذا الكتاب: هو عين ما بطن وظهر أبدر واستتر، فهو القمر والشمس والعالم كله كالجسد للنفس، فما ثمّ إلاّ جمع، م في الكون صدع، إن لم يكن الأمر كذلك فما ثمّ شيء هنالك فإن قلت:﴿ َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

زال الظل والفئ، والظل محدود بالنص فعليك بالبحث والفحص.

قول سيدنا: (وأشكره شكر من تحقق أن بالتكليف ظهر الاسم المعبود).

يقول العبد: الكلام في الشكر للناس كثير مشهور، ولما كانت أسماء الحق تعالى المتعلقة بالعالم الطالبة للآثار يتوقف ظهورها على ظهور آثارها، حيث أنه نسب، والنسبة لا تظهر إلا بين اثنين، كان ظهور الاسم المعبود متوقفاً على ظهور العابد، وتكليف المعبود إياه بالعبادة. وليست التكاليف بالأمر والنهي إلا للثقلين خاصة، وما عداهم فتكليفهم بالأمر خاصة دون النهي، وللعابدين عبادة ذاتية غير تكليفية، لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة. والعبادة الذاتية لا كلفة فيها، فهي لهم كالنفس لنا، لا كلفة في دخوله وخروجه. وتكليف ما عدا الثقلين إنما هو بما يلقيه الحق إليهم في نفوسهم، لا برسول كرسل الإنس كما توهمه بعضهم. قا لسيدنا في هذ الكتاب: (فكل جنس من خلق الله تعالى امة من الأمم فطرهم الله على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم ف ينفوسهم، فرسولهم من ذواتهم إعلام من الله بإلهام خاص جبلهم عليه) أه. وإنما قرن سيدنا الشكر بالعبادة إشارة إلى أن التكاليف نعم لأنّ له ثمرة وتلك الثمرة عائدة على المكلّف (اسم مفعول) وإشارة إلى أن أداء التكاليف على طريق شكر المنعم أولى ما تقع له العبادة. كما قال تعالى:﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾[سبأ: 43/13].

أي لتكن أعمالكم على وجه الشكر فتكون جميع أعمالكم على طريق الوجوب، وهو أتم من النفل. وشكر النعم واجب عقلاً وشرعاً. وكما أنه تعالى الآمر الفاعل ما أمر به، كذلك هو الشاكر المشكور، فمنه صدر وإليه يعود وإليه يرجع الأمر كله. وقد روى النسائي في سنته: «أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام :أشكرني حق الشكر، قال: يا ربّ ومن يطيق ذلك؟ قال: إذا عرفت النعمة منّي فقد شكرتني حق الشكر».

وفي الحديث إشارة، وهي أنه معلوم أن خلق الشكر نعمة، فمن عرف الشكر صادراً من الله فهوالذي شكر الله حق الشكر.

قول سيدنا: (وبوجود حقيقة: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ظهرت حقيقة الجود). يقول العبد: الحق تعالى هوالجواد المطلق، ولذا لما كلف عبده جاد عليه قبل أن يسأله العون فقال لهم استعينوا بي. وما أمرهم حتى أراد إعانتهم. ولو كلفهم ووكلهم إلى أنفسهم ما استطاعوا شيئاً. جاد على مخلوقاته أولاً بإعطاء الوجود والإخراج من العدم، وجاد عليهم ثانياً بالعون، فله الحمد في الآخرة والأولى.

قول سيدنا: ( وإلا فإذا جعلت الجنة جزاء لما علمت فأين الجود الإلهي الذي عقلت). يقول العبد: دخول الجنة حسيّة أو معنوية لا يكون بالأعمال، ولذا ورد في الصحيح: ((لا يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أن إلا أن تغمدني الله برحمته)).

فليس دخول الجنتين إلا بالجود والرحمة وإن كانت المنازل والدرجات فيهم بالأعمال والمجاهدات وارتكاب المشاق. والعاملون قسمان: قسم يعمل للجنة ويرى أنه العامل، فهذا القسم أقرب إلى العقوبة منه من الجنة لولا الجود الإلهي والرحمة. وقسم يعمل لرب الجنة به، فهذا القسم ماعمل للجنة ولا طلب الجزاء، وكيف يطلب الجزاء على ما لم يكن له عاملاً؟ فدخول الجنة بالجود لا غير.

قول سيدنا: (فأنت عن اعلم بأنك لذاتك موهوب، وعن العلم بأصل نفسك محجوب). يقول العبد: الإنسان محجوب إلاّ من رحمة الله عن العلم بأنه موهوب من حيث وجوده لذاته من حيث عينه، لأن وجود الذي به وجداته وتحققه التحقق الذاتي ليس لذاته، وإنما هو وجود مستفاد من الحق تعالى وهبه له، فاتصفت ذاته، وهي عينه الثابتة بالوجود حال عدمها، فإنها ما برحت غير موجودة.كما أن الإنسان محجوب عن العلم بأصل نفسه، ومن أين صدرت ولو علم أصل نفسه لعلم ربه، فإن أعلم العلماء بالله تعالى يقول: «من عرف نفسه عرف ربه».

ولا يعرف ربه معرفة إحاطة قطعاً أبداً فلا يعرف أصل نفسه معرفة إحاطة أبداً. وإذا كان الإنسان محجوباً عن العلم بأصل نفسه فهو عن العلم بخالقها أولى، فإنه إذا كان أصله العدم أزلاً، وعينه الثابتة باقية في العدم أبداً، والعدم لا عين له ولا صورة علمية، فتعلق العلم به هو أنه عدم لا غير. فمن أين هذا الوجود الذي وصفته به النفس، وما هو وما كيفيته؟ فالإنسان محجوب عن العلم بأصل نفسه إلاّ من رحم ربي.

قول سيدنا: (فإذا كان ما تطلب به الجزاء ليس لك فكيف ترى عملك). يقول العبد: إذا كان الإنسان لا أثر له في الفعل وليس له فيه إلا الحكم، كما إذا كان الحق تعالى بحكمته جعل وجود شيء متوقفاً عن أسباب وشروط، فالأسباب والشروط له حكم في وجود ذلك الشيء لا الآثر والفعل. قال ابن عطاء الله: كيف تطلب عوضاً على م لست فاعلاً؟ وقال سيدنا في هذا الكتاب: والذي يؤول إليه الأمر في هذه المسألة أن الأجور تتردّد ما بين الحق والحق، ليس للخلق في ذلك دخول، إلا أنهم طريق لظهور هذه الأجور، ولولا الخلق في ذلك لم يظهر للإجارة حكم ولا للأجر عين. ولذلك كان الأجر جزاء وفاقاً، لأن المؤجر حق والمؤجر حق، إذ لا عامل إلا خالق العمل، وهوالحق، والخلق عمل وفيه ظهور العمل، ولذلك زاحم وأدخل نفسه في ذلك، وأقره الحق على هذه المزاحمة وقبلها، فمن الخلق من علم ذلك ومنهم من جهله.

قول سيدنا: (فاترك الأشياء وخالقها والمرزوقات ورازقها). يقول العبد: هذا أمر وتعليم من سيدنا، أترك وباعد الدعاوى الباطلة والأطماع العاطلة، فإن كل مدع ممحص، وكل ممحّص مفتضح إذا ظهر الحق وحصحص فما للتراب وربّ الأرباب.

قول سيدنا: (فهو سبحانه الواهب الذي لا يملّ والملك الذي عز سلطانه وجل اللطيف بعباده الخبير الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). يقول العبد: هذا ظاهر.

قول سيدنا: (والصلاة على سرّ العالم ونكتته ومطلب العالم وبغيته). يقول العبد: السرُّ لغة ما يكتم ولبُّ الشيء المقصود منه، وكلا المعنيين مرادان هنا، فإن حقيقته صلى الله عليه وسلم مكتومة عن العالم جميعه، إذ هي الذات مع التعين الأول الذي ما أطلع عليه نبيّ مرسل غيره صلى الله عليه وسلم ولا ملك مقرب. وقد ورد في بعض الآثار: «لا يعلم حقيقتي غير ربي».

قال القطب عبد السلام بن مشيش في حقه صلى الله عليه وسلم : وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم الخ هو صلى الله عليه وسلم الروح الكل الأعظم. قال سيدنا في هذا الكتاب: قال الحق تعالى للروح: «أعطيتك أسمائي وصفاتي فمن رآك رآني ومن أطاعك أطاعني ومن علمك علمني ومن جهلك جهلني. فغاية من دونك أن يتوصلوا إلى معرفة نفوسهم منك وغاية معرفتهم بك العلم بوجودك لا بكيفيتك».

وكذا هو صلى الله عليه وسلم لبّ العالم، والعالم كالقشر والصوان له ، فإنه المقصود بالإيجاد، والعالم كله أملاكه وأفلاكه وسائل مسخرات له.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!