موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


358. الموقف الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، ( باللام لا بالياء) والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أفضل من كل من جاء من الله تعالى بالإِنْبَاءِ، وعلى آله وأصحابه وتابيعهم الألباء، أما بعد: فإن الأخ العزيز الذي كان أراد مني، إيضاح ألفاظ الفص الإسماعيلي أراد مني أيضاً إيضاح الفص الشعيبي، فإنه استصعبه وحق له أن يستصعب فإنه جمع مسائل متشعبة كثيرة مستصعبة، فأجبته لذلك مستمطراً فيض الآله الرب المالك وقلت: اللهم لا سهل إلا م جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت، هذا مع علمي أن ما أذكره في حل ألفاظ سيدنا الشيخ هو كنسبة القشر إلى اللب. وقد رأيت مبشرة عند شروعي في الكتابة على هذا الفص: رأيت أني وقفت على باب بيت فوجدته مغلقاً عليه قفل من حديد ولا مفتاح عليه، فحركت القفل تحريكات، فانفتح، فلما دخلت البيت وجدت مفتاحه داخله، وأخذته فتعجبت لذلك. فأوّلت البيت بالفص الشعيبي وكونه مغلقاً يدل على أنه ما دخله أحد ممن تكلم على الفص الشعيبي، وكوني وجدت مفتاحه في وسطه وأخذته يدل على أني أعطيت الإذن في الدخول لهذا البيت الذي هو الفص الشعيبي.

قول سيدنا في ( فص حكمة قلبية في كلمة شعبية) : اعلم أن القلب - أعني قلب العارف بالله - هو من رحمة الله، وهو أوسع منها، فإنه وسع الحق جل جلاله ورحمته لا تسعه: هذا لسان عموم من باب الإشارة، فإن الله راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه).

يقول رضي الله عنه أن قلب العارف بالله وإن كان مخلوقاً بالرحمة التي وسعت كل شيء، والقلب شيء من الأشياء، فالشيء أعم العام. وهو كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. فإنه تعالى خلق قلب العارف به وجعله أوسع من رحمته، لأن قلب المؤمن العارف بالله تعالى وسع الحق، كما ورد في الخبر النبوي القدسي : إن الله تعالى يقول:

((ماوسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن الهين الورع )).

وهذا الخبر وإن ضعفه الحفاظ فقد صحّحه أهل الكشف، وقد هذا الوسع بالقلب المؤمن، فهو وسع الخصوص لا وسع العموم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن قلب غير المؤمن لا يكون محلاً للمعرفة بالله تعالى الوسع المخصوص بالعارفين، إذ لا تكون المعرفة به تعالى إلا بتعريفه، لا بحكم النظر العقلي، ولذا قيده سيدن بقوله ( أعني قلب العارف بالله) فرحمته تعالى مع اتساعها يستحيل عقلاً ل شرعاً وكشفاً، إذ الكشف لا يخالف الشرع، أن تسعه تعالى. فرحمته لا تتعلق به ول تسعه، فلا يوصف تعالىى بأنه مرحوم، وإن كانت منه فلا تعود عليه. وليس المراد بالقلب في الحديث الرباني اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، فهذا موجود في البهائم، فلا قدر له. وإنما المراد اللطيفة الربانية والروحانية ولها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان والمخاطب المعاقب، وقد تحير أكثر الخلق في وجه علاقته بالقلب النباتي الجسماني. ثم اعلم أن هذا الوسع أنواع:

الأول وسع العلم والمعرفة بالله، إذ لا شيء في الوجود يعقل آثار الحق ويعرف ما يستحقه كما ينبغي مثل الإنسان، فغير الإنسان إنما يعرف ربّه من وجه دون وجه.

الثاني: وسع الكشف عن محاسن جماله تعالى، فيذوق لذة الأسماء الإلهية. فإذا تعقل علم الله في الموجودات مثلاً ذاق لذتها وعلم مكانة هذه الصفة، وقس على هذا.

الثالث: وسع الخلافة، وهو التحقق بالأسماء الإلهية حتى يرى ذاته ذات الحق تعالى فتكون هوية العبد عين هوية الحق، فيتصرف في الوجود تصرف الخليفة، حيث كان القلب هو النور الإلهي والسر العلي المنزل في عين الإنسان لينظر إليه، وهو روح الله المنفوخ في آدم، هذا لسان خصوصي. وأما لسان خصوص الخصوص فهو أن قلب العبد العارف عين هوية الحق، فما وسعه غيره فإن روحه المنفوخ في آدم هو عين ذاته ما هو غيره، فما وسع الحق إلا الحق. فهو تعالى دار الموجودات، وعين قلب عبده المؤمن العارف دارٌ له.

يقول سيدنا رضي الله عنه :

فمن كان بيت الحق فالحق بيته

 

فعين وجود الحق عين الكوائن

ومما تقدم من كون رحمته تعالى لا تسعه وأنه راحم لا مرحوم، ولا حكم للرحمة فيه، هو إشارة من لسان عموم، يعني بالعموم علماء الرسوم المحجوبين عن الرقائق والدقائق. وأما لسان الخصوص أهل الكشف والوجود الذين آتاهم الله رحمته من عنده وعلمهم من لدنه علما فهو ما أشار إليه سيدنا بقوله: «وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الله وصف نفسه بالنَّفَس وهو من التنفيس: وأن الأسماءالإلهية عين المسمى وليس إلا هو، وأنها طالبة ما تعطيه من الحقائق وليست الحقائق التي تطلبه الأسماء إلا العالم، فالألوهية تطلب المألوه، والربوبية تطلب المربوب، وإلا فل عين لها إلاّ به وجوداً أو تقديراً. والحق من حيث ذاته غني عن العالمين. والربوبية ما لها هذا الحكم. فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم. وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلا عين هذه الذات، فلم تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده. فأول ما نَفَّسَ عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية. فيثبت من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل شيء فوسعت الحق، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة.».

يقول رضي الله عنه من باب الإشارة بلسان الخصوص لا من باب التفسير، للخير الوارد أن الله تعالى وصف نفسه، أي ذاته بالنفس (بفتح الفاء) وهو مأخوذ من التنفيس، أي التوسيع والتسريح ضد الضيق والحرج، ولا يكون التنفيس والسراح إلا بعد ضيق وشدة، أشار بهذا إلى ما واره الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن)). وفي رواية للطبراني: ((إني أجد نفس ربكم قِبَلَ اليمن)).

فنفس الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم بالأنصار رضي الله عنه فآووه وناصروه، فإن أصل الأنصار من اليمن، خرجوا منه وقت خراب سد مأرب، وتفرقت قبائل اليمن في الأقطار. كما نفس الله بالنفس الداخل الخارج عن قلب الإنسان والحيوان، فإنه بالنفس يخرج الهواء الحار ويستنشق الهواء البارد، ولولا ذلك لهلك في حينه. ومعلوم أن الأسماء الإلهية عين المسمى باعتبار، وذلك أن للأسماء الإلهية اعتبارين، اعتبار كونه تعالى ذكر نفسه بهذه الأسماء أزلا من كونه متكلماً، فهي قديمة غيرمكيفة ولا محدودة ولا مشتقة، وهي عين المسمى، إذ الوحدانية هناك من جميع الوجوه فلا تعداد؛ واعتبار هذه الأسماء التي بأيدينا، وهي أسماء لتلك الأسماء، وهي التي تطلب المعاني بحكم الدلالة لأنها ألفاظ وألقاب، وهي غير المسمى، وهي المشتقة؛ هذا لسان صفوة خاصة الخاصة. وأما لسان الخاصة فهو أن الأسماء الإلهية عين المسمى من حيث الدلالة على المسمى، مع قطع النظر عما يفهم من الأسماء، فإن المسمى واحد، والمفهوم من الأسماء ليس بواحد. وأن الأسماء الإلهية ما تعددت جزافاً، فلا بدّ من سبب يعقل لتعددها، وهو موضع حيرة، هل الاسم هو اسم له تعالى؟ أو اسم لما هو المفهوم؟ أو اسم لهما؟ وليس في الوجود الخارجي العيني إلاّ هو تعالى. والأسماء نسب واعتبارات ومراتب للذات لما هو الحق والتحقيق، لا أعيان زائدة كما عليه أكثر المتكلمين. والأسماء وإن كانت عين المسمى الذات الغني عن العالمين، فهي طالبة ما تعطيه من الحقائق المفهومة منها، فطلبت طلب استعداد ظهور آثارها بما تعطيه حقيقة كل اسم، وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء لتظهر بها إلا العالم، وهو كل ما سوىالله تعالى فالألوهية التي هي أعظم مراتب الإله المعبود تطلب المألوه، وهوالعابد. والربوبية التي هي مرتبة الرب أخص من مرتبة الألوهية، تطلب المربوب الذي يحصل التصرف فيه ويظهر به سلطانه. وإلاّ لو لم تكن الأسماء طالبة ولا يعطيها الحق ما تطلبه من الظهور، فلا ظهور لها ولا عين إلا بالعالم وجوداً عند إيجاد العالم بالفعل، وتقديراً قبل إيجاد العالم بالصلاحية. إذ هو تعالى مسمى بهذه الأسماء أزلا، ولا عالم ول موجود سواه، لأن الأعيان الثابتة لم تزل ناظرة إلىربها حال ثبوتها نظر افتقار. فلو زال العالم وجوداً أو تقديراً لزالت الأسماء. حتى الغنى عن العالم، إذ لو لم يتوهم لم يصح عنه غنى عمن. فالحق تعالى من حيث ذاته الأحدية غنى عن العالمين، بل غني عن أسمائه. إذ ليس ثمة من يتعرف إليه أو يتسمى له. وكان الله ولم يكن معه شيء، فالربوبية والألولهية وغيرهما من المراتب الأسمائية والنسب الإضافية ما بها هذا الحكم، وهو الغنى عن العالمين. بل لها طلب العالمين لتظهر آثارها. هذاالطلب هوالذي عبّر عنه سيدنا بالافتقار في قوله:

  الكل مفتقر ما الكل مستغني

وأنكره الجم الغفير إلاّ من رحم ربك . ولا شك أن كل طالب فاقد لما هو طالبه، وكل فاقد مفتقر لما هو فاقده، وإن كان بين من يطلب، يؤثر ويظهر سلطانه وبين من يطلب ليتأثر وينفعل فرقان. فبقي الأمر والقصة المتحدث عنها دائراً بين طالب ومستحق. فالربوبية بذاتها تنفي أن يكون معها غير وسوى، إذ ليس في الذات الأحدية ما يطلب العالم، ولو كان في الأحدية ما يطلب العالم لم يصح كونه غبياً، ولو كان اسم الغنى ما ثبت إلا بتقدير العالم، وم ألطف تعبيره بالطلب في حق الربوبية، وبالاستحقاق في حق الذات الأحدية. وليست الربوبية الطالبة لظهور حقائق الأسماء على الحقيقة والنظر بالإنصاف إلاّ عين هذه الذات الأحدية المستحقة الغنى عن العالم، فإنها بعينها تنزلت من أحديتها إلى مرتبة الألوهية والربوبية، وهي هي فاسمها عينها، إذ الاسم لما كان يدل على المسمى بحكم المطابقة فلا يفهم منه غير مسماه، فهو عينه في صورة أخرى تسمى اسما. فالاسم اسم له ولمسماه. فلما تعارض الأمر بسبب حكم النسب الإلهية واختلافها فإن النسبة الربية حكمها ومطلوبها إيجاد العالم، ونسبة الغنى حكمها ومستحقها عدم إيجاد العالم. ورد في الخبر ماوصف الله به نفسه على ألسنة رسله عليه السلام من الشفقة على عباده والرحمة لهم والرأفة بهم.

وورد أنه يغضب ويرضى. تقول الرسل يوم القيامة: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعد مثله. وإزالة الغضب رحمة لما فيه من التنفيس عن الغضبان، وغير هذا من الصفات والأسماء السمعية التي تدل على تنزله من سماء الأحدية إلى ما تطلبه الأسماء الإلهية. فأول مانفس عن الأسماء الربية بنفسه المنسوب إلى الرحمن الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن نفس الرحمن يأتني من قبل اليمن)).

وتنفيسه عن الأسماء هو بالإذن لكل اسم أن يظهر بحقيقته فيثبت من هذ تنفيسه عن الحضرة الربية أنت رحمته وسعت كل شيء، فوسعت الحق تعالى لا من حيث عموم أنها وسعت كل شيء لأن الحق ليس بشيء فوسعت رحمته أسماءه. أو يقال: وسعت ذاته، فإنها المقتضية لإيجاد العالم في الحقيقة. فإنه تعالى يقول في بعض الكتب الإلهية: ((كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت خلقاً وتعرفت إليهم)).

ومن أحبت نفسه شيئاً وأعطاها إياه فقد رحمها، فإنه تعالى لما ذكر المحبة علمنا من حقيقة الحب ولا زمه ما يجده المحب في نفسه. هذا إذا اعتبرن الرحمة صفة، فأما إذا اعتبرت الرحمة عين الذات فالشيء لا يسع نفسه ولا يضيق عنها. فالرحمة إذا اعتبرت صفة فهي أوسع من القلب لأنها وسعت الحق ونفست عنه والقلب مانفس عن الحق شيئاً، أو مساوية له في السعة، حيث أنها وسعت كل شيء. والقلب وسع الحق تعالى فوسع كل شيء. فالقلب وسع الحق تعالى كما وسعته الرحمة. فإنه تعالى يغار على قلب المؤمن العارف أن يكون فيه غير ربّه فأطلعه أنه صورة كل شيء وعين كل شيء. فوسع كل شيء قلب العيد المؤمن العارف، لأن كل شيء حق، فما وسعه إلاّ الحق. وعلى الحقيقة فما علم العبد ذلك الشيء الذي يزعم أنه علمه، لأنه لو علمه لعلم أنه الحق، فلما لم يعلم أنه الحق قلنا أنه لم يعلمه.

قول سيدنا :( هذا مضى). يقول رضي الله عنه إن الكلام على سعة قلب عبد المؤمن العارف، والتنظير بين سعته وسعة الرحمة الإلهية قد مضى وتم. وذلك يستلزم ويستطرد الكلام على التجلي الإلهي لهذا القلب المؤمن العارف بالله، وكيف بتنوع القلب بتنوع التجلي في الصور وهو قول سيدنا: «ثم لتعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي(1)، وأن الحق إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه. ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكنه أن ينظر معه إلى غيره. فقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي: «لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به». وقال الجنيد في هذا المعنى: أن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر، وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجوداً.وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصورة فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصور التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإنه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي، لأن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزله محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديراً أو من التربيع والتسديس والتثليث والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفص مربعاً أو مسدساً أو مثمناً أو ما كان من الأشكال، فإنه محله من الخاتم يكون مثله لا غير).

يقول رضي الله عنه في هذه الجملة، أنه كما ثبت سعة قلب المؤمن للحق تعالى كذلك ثبت أنه تعالى يتحول في الصور يوم القيامة، ثبت ذلك شرعاً كما جاء في الصحيحين ((وأنه تعالى يتجلى لهذه الأمة، وفيهم منافقوها، فيأتيهم في أدنى صورة فيقول لهم أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيتحول لهم في صورة أدنى من الأولى، فيقول لهم أنا ربكم! فيقولون أنت ربنا))..

الحديث. والذي أنكروه أولاً هو الذي أقروا به آخراً، ومازالت عنه تلك الصورة التي تحول عنها. وكما ثبت تحول في الصور يوم القيامة شرعاً كذلك ثبت تحوله في الصور كشفاً في الدنيا عند العارفين به، ما يختل عليهم شيء من ذلك، لا في البرزخ ولا في القيامة، فيعرفون ربهم في كل صورة من أدنى وأعلى.

ثم اعلم أن للحق تجلين: ذاتي له استأثر الله به، فليس للخلق فيه نصيب، تعالى أن يستتر عن نفسه من تجل، أو يتجلى لنفسه على استتار، هو على ما تقتضيه ذاته من التجلي والاستتار والبطون والظهور، لا يتغير ولا يتحول ولا يلبس شيئاً فيترك غيره، بل حكم ذاته على ماهو عليه أزلاً وأبداً، وله تعالى تجليات فعليه وأسمائية وذاتية، وهوما يتجلى به على قلوب عباده ويظهر لهم في أعين الناظرين، وليس ثم غيره. والتجلي لا يكون إلاّ للاسم الإله والرحمن والرب وما اشتلمت عليه هذه الأصول من الأسماء. لايكون التجلي للاسم الله من حيث أنه عين الذات، ولذا قال السامري: هذا إلهكم وإله موسى، وما قال: هذا الله الذي يدعو موسى إلى عبادته. وكذلك لا يكون التجلي للاسم الأحد. وحيث ثبت سعة قلب المؤمن العارف للحق تعالى في تجليه له، فالضرورة أنه لا يسع معه غيره من المخلوقات، بحيث يكون فيه الحق والخلق مميزاً بينهما، هذ محال. فالقلب مع سعته لا يسع شيئين في الآن الواحد، فلا أوسع منه، فإن وسع الحق تعالى ولا أضيق منه فلا يسع إلا الحق تعالى عند تجليه. فكأنه يملؤه. ومعنى هذه العبارة، هي أن القلب لا يسع الحق والخلق معاً، فإنه إذانظر الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره بأن ينظر الصورة التي حصل التجلي فيها، سواء كان التجلي في صورة المحسوسات أو المخيلات أو المعقولات، كصورة المرآة في الشاهد. فإنك إذا رأيت المنطبع فيها لا تراه واجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراها، هذا هو الحاصل الواقع، مع أن قلب العارف بالله كما قال أبو يزيد العالم مكرراً ومضعفاً مائة ألف ألف مرة في زاوية وركن من زوايا قلب العارف بالله، ما أحسّ العارف بالعرش وما حواه. ولا يريد أبو يزيد الحصر في العدد بقوله ( مائة ألف ألف مرة) إنّما يريد ما لا يتناهى ولا يبلغه العدد. فَعَبَّر عنه بما دخل في الوجود ويدخل أبداً، وذلك أن قلباً وسع القديم كيف يحسّ بالمحدث موجوداً. وهذ من أبي يزيد رضي الله عنه توسع على قدر مجلسه لإفهام الحاضرين. وأما التحقيق في ذلك أن يقول: إن العارف بالله لما وسع الحق قلبه وسع قلبه كل شيء. إذ لا يكون شيء إلاّ عن الحق، فلا تكون صورة إلاّ بقلبه، يعني قلب ذلك العبد الذي وسع الحق. وينظر إلى قول أبي يزيد رضي الله عنه ما قال الجنيد البغدادي سيّد الطائفة وإمام أهل الشريعة والحقيقة رضي الله عنه أن المحدث إذا قرنته بالقديم لم يبق له أثر، وذلك حين عطس إنسان بحضرته فقال العاطس: الحمد لله تعالى! فقال له الجنيد: أتمها ي أخي، فقال العاطس: وأي قدر للعالم المحدث حتى يقرن مع القديم؟ فقال له الجنيد: الآن أتّمها، إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر. إلاّ أن قول الجنيد هن أتم من قول أبي يزيد: فإن المحدث إذا قرنته بالقديم لا للمحدث. فتبين لك بهذه المقارنة ماهو الأمر عليه، وهو ما قلناه. فلا يمكن أن يجهل الأثر، وإنّما كان قبل هذه المقارنة ينسب إلى المحدث، فلما قرنه بالقديم رأى الأثر من القديم ورأى المحدث عين الأثر فقال ما قال. وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجوداً؟ وذلك أن العارف بالله أشهده الحق تعالى آيات نفسه وآيات الآفاق، فتبين له أن ما شهده هو الحق لا غيره فعلمه بكل وجه وفي كل صورة وأنه بكل شيء محيط، فلا يرى العارف شيئاً إل فيه، فهو تعالى ظرف إحاطة لكل شيء فمن رأى شيئاً، فما رآه إلاّ فيه. فالحق بيت الموجودات كلها، لأنه الوجود. وقلب العبد العارف بيت الحق لأنه وسعه. وما صار قلب العارف بهذا الوسع إلا بكونه على صورة العالم وصورة الحق. وكل جزء من العالم ما هو على صورة الحق. فمن هنا وصفه الحق بالسعة، وإنما العالم جميعه على صورة الحق إذ كان الإنسان في جملته.

وإذا ثبت أن الحق يتنوع تجليه وتحوله في الصورة في الآخرة للعموم، وفي الدنيا لقلوب أوليائه، فبالضرورة يتسع القلب من العارف المتجلي له إذا كانت الصورة واسعة متضمنة لأسماء إلهية كثيرة، فإنّ دائرة الرؤية في المرآة تتسع باتساع العلم بالله، ويضيق قلب العارف بالله المتجلي له إذا كانت الصورة غير واسعة كذلك، وبسعة الصور وضيقها يتفاضل العارفون بالله وبتجلياته. انظر قصة المريد الذي قيل له: هل رأيت أبا يزيد؟ فقال: لا حاجة لي في رؤية أبي يزيد، رأيت الله فأغناني عن رؤية أبي يزيد. فقال له: لو رأيت أبا يزيد مرة كان خيراً لك من أن ترى الله ألف مرة!! فمر أبو يزيد وفروته على رأسه، فقيل هذا أبو يزيد فلما وقع بصره على أبي يزيد مات المريد من حينه فأخبر أبو زيد بذلك، فقال: المريد صادق، كان يرى الحق حسب مرآته فلا يتأثر، فلما رأى الحق في غير صورة مرآته لم يتحمل ومات، فإنه تجلى له على قدرنا. ولهذا تقول الطائفة: أكمل المرايا مرآة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكمل الرؤية ما كان في مرآة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها حاوية لجميع مراي الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- فهي أكمل رؤية وأتمها وأصدقها، ودونها في الكمال ما كان في مرآة نبي من الأنبياء، وذلك لأن تجليه تعالى في مرايا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أكمل من تجليه في مرايا غيرهم. وتصور ما قالوا غامض، ولعله يظهر بالمثال، وذلك كرؤية شخص نفسه تجليه في مرايا غيرهم. وتصور ما قالوا غامض، ولعله يظهر بالمثال، وذلك لرؤية شخص نفسه في مرآة فيها صورة مرآة أخرى، وما في تلك المرآة الأخرى، فيرى المرآة الأخرى في صورة مرآة نفسه، ويرى الصور التي في تلك المرآة الأخرى في صورة تلك المرآة الأخرى، فبين الصورة ومرآة الرائي مرآة وسطي بينها وبين الصورة التي فيها. وإنما كان القلب المشاهد لتجلي الحق فضلة وبقية يسع بها غيره، فلا تبقى بقية في القلب عن صورة التجلي، فإن القلب يتسع ويضيق حسب الصورة المتجلي فيها، فإنّه لا يمكن أن يفضل من القلب المشاهد لتجلي الحق فضلة وبقية يسع بها غيره، فلا يبقى بقية في القلب عن صورة التجلي، فإن القلب مطلقاً من العارف أو الإنسان الكامل الذي جمع الحقائق الإلهية والكونية، وظهرت منه آثاره بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم مثلاً، فالفص بمنزلة المتجلي، وقلب العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل الفص. فلا يفضل من المحل شيء زائد عن الفص، بل يكون محل الفص، على قدره لا أزيد ولا أنقص، وعلى شكله وصورته، والصورة هي الكشل وعلى هيئته من الاستدارة إن كان الفص مستديراً، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال فيكون محل الفص مربعاً إن كان الفص مربعاً، أو مسدساً إن كان الفص مسدساً، أو مثمناً إن كان الفص مثمناً، أو ما كان من الأشكال والصور فإنّ محله من الخاتم يكون مثله لا غيره.

تنبه

هذا التجلي المذكور الذي القلب تابع له هوالتجلي الذاتي الأزلي الذي هو أول التجليات والتعينات، وبه ومنه حصلت الأعيان الثابتة، أعيان الممكنات واستعداداتها الذاتية الكلية في العلم، وهذا هو الخلق التقديري الذي تكون عليه الممكنات إلى غير نهاية، وعلى طبقه يكون التجلي الأسمائي حذوالنعل بالنعل لا أزيد ولا أنقص في الخلق الإيجادي.

قول سيدنا: (وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد. وهذا ليس كذلك، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق). يقول رضي الله عنه أن التجلي الذي ذكرناه هو التجلي الذاتي الأزلي، وَبَّينَّ أحكامه ونعوته من ضيق القلب وسعته بحسب الصور التي يتجلى الحق فيها، ويتنوع الحق له وظهوره بها فيعين المتجلي له. فيكون القلب تابعاً للتجلي. فإنه بهذا التجلي يظهر العبد المتجلي له في ثبوته وعدمه للحق المتجلي على قدر الصورة التي يتجلى له فيها، وهي صورة العبد الكلية الجامعة لشؤونه وأحواله إلى غير نهاية. وتقديم هذ المتجلي على صورة المتجلى فيها تقديم رتبة لا ترتيب وجود، فلا تقديم ولا تأخير، وهذ عكس ما تشير إليه الطائفة العلية - رضي الله عنها- : الإشارة بقوله ( وهذا عكس الخ) إلى قوله (وإذا كان الحق يتنوع في الصور الخ) لا إلى ما قبله فإنه في بيان التجلي الأسمائي الشهادي، فإنهم أجمعوا على أنه تعالى لا يتجلى لمخلوق إلاّ على قدر استعداده، فيكون التجلي تابعاً لاستعداد القلب، وبحسبه في صورة اعتقاده، وهو تعالى، عري عن التغيير في ذاته. ولكن التجلي في المظاهر الإلهية على قدر العقائد التي تحدث في المخلوقات. ثم اعلم أن الطائفة إنما اعتنت بذكر التجلي الأسمائي دون التجلي الذاتي مع أنهم لا يجهلونه، لكون التجلي الأسمائي تفصيل للتجلي الذاتي، والتجلي الذاتي مضى بما فيه. والتجلي الأسمائي متجدد في كل آن.

قول سيدنا: ( وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين: تجلي غيب وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله بنفسه «هو». فلا يزال «هو» له دائماً أبداً. فإذا حصل له - أعني القلب - هذا الاستعداد، تجلى له التجلّي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له كما ذكرناه. فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله: ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[ طه: 20/50].ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقدة ، فهو عين اعتقاده فلا يشهد القلب ولا العين أبداً إلاّ صورة معتقده في الحق. فالحق الذي في المعتقد هو الذي في المعتقد هوالذي وسع القلب صورته، وهوالذي يتجلى له فيعرف. فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي).

يقول رضي الله عنه أن تحرير هذه المسألة وإيضاحها ورفع الأشكال عنها، وهي مسألة كون التجلي تابعاً في مرتبة حضرةالأسماء، ومتبوعاً في مرتبة حضرةالذات، هو أن تعلم أن لله تجلين أو انكشافين أو تنزلين، كيف شئت قلت: تجلي غيب في حضرة الذات، وتجلي شهادة في حضرة الواحدية، حضرة الأسماء الإلهية. فمن تجلي الغيب الذاتي يعطي الاستعداد الكلي الذاتي الذي يكون عليه القلب إلى مالا يتناهى. وهذ التجلي الذاتي الغيبي مصدره وحقيقته ومبدؤه الذات من غير واسطة اسم من الأسماء ول صفة منالصفات. وهو المعروف عند الطائفة بالفيض الأقدس، به حصلت الأعيان الثابتة واستعداداتها الكلية في العلم الذي هو عين الذات، وهذا الاستعداد هو المؤثر. وأم الاستعداد العرضي فلا حكم له وإنما هو رتبة أظهرها الاستعداد الذاتي. وهذا الغيب الذي صدر منه هذا التجلي الذي أعطى الاستعداد للقلب هو الهوية المرسلة لا الهوية السارية، فإنهاسمع العبد وبصره وجميع قواه، وهي القائمة بأحكام الأسماء الحسنى. والهوية عند الطائفة كناية عن الغيب المغيب، وعندالحكماء والمتكلمين هي الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار، فلا يزال هو له تعالى من حيث أنه الغيب الذي لا يعلم فلا يجهل فلا يصير شهادة من حيث هو، لا من حيث هو ضمير الغيب الذي يطلق علىكل غائب. وقد يصير هذا الغائب المقول عليه هو شهادة. فإذا حصل للقلب هذ الاستعداد الكلي الذاتي في حضرة الثبوت تجلّي له تعالى التجلي الشهادي في عالم الشهادة عندما لبس حلة الوجود، وهو المعروف عند الطائفة بالفيض المقدس الذي تحصل به الاستعدادات الجزئية في الخارج، حضرة الأسماء الإلهية، عالم الشهادة آناً بعد آن، فرآه، أي رأى القلب المتجلى له، الحق المتجلّي، فظهر الضمير المستتر في قوله (فظهر)، عائد على الحق المتجلي لذلك القلب بصورة من صور اعتقاده التي تجلى له به في حضرة الثبوت قبل، كما ذكرناه، فهو تعالى أعطاه الاستعداد الكلي الذاتي بقوله: ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه: 20/50].

بيّن أنه أعطى كل شيء خلقه واستعداده، وهدى لاكتساب الكمال، ثم بعد م أعطاه استعداده رفع الحجاب الذي هو الجهل، إذ لا حجاب إلاّ الجهل، فالعبد حجاب على نفسه، فلما رفع الحجاب بينه وبين عبده في الشهادة فرآه العبد في صورة معتقده في ربه وقت التجلي، فإنه كان أعطاه الاستعداد لرؤية الحق في كل صورة اعتقدها فيه. فهو تعالى المتجلي لعبده في عين اعتقاده، كان ما كان ذلك المعتقد، إذ لا يشهد العبد من الحق إلا علمه واعتقاده. ولكن بين من اعتقد في إلهه الإطلاق وبين من الرائي عند التجلي أبداً إلا صورة معتقده في الحق تعالى وهو الحق المخلوق، فإنه ما عبد عابد إلاّ ما اعتقده، وما اعتقد إلاّ ما أوجده في نفسه. فما عبد إلا مجعولاً مثله، وما هو إلا الحق تعالى فالحق المعتقد من كل ذي عقد من ملك وجن وإنسان مقلد أو صاحب نظر هو الذي وسع القلب صورته الاعتقادية. فالقلب ستر فإنه محل الصور الإلهية التي أنشأتها الاعتقادات.

تنبيه

وسع القلب للحق تعالى متباين، فما كل قلب يسع الحق وسع قلب الإنسان الكامل أو العارف بالله، ولو كانت القلوب متساوية في وسع الحق تعالى لوسعته السموات والأرض. وقد قال تعالى: «ما وسعني أرضي ولا سمائي».

فما وسعته كوسع قلب العبد المؤمن العارف. فإذا كان مشهد العارف الكامل كأبي يزيد والشيخ الأكبر رضي الله عنه أن قلبه وسع الحق يرى أن العالم لا يسعه، فكم أن العالم لا يسع الحق تعالى لا يسع هذا الكامل، فيتجلى تعالى لكل قلب بحسب وسعه واعتقاده، وإن كل قلب بالصلاحية من كل إنسان قابل للتجلي الكمالي، وإنما كان كل مخلوق له اعتقاد يختص به في الحق تعالى لأن الأرواح المدبرة تابعة للأمزجة المدبرة، ولا يجتمع اثنان في مزاج واحد. فما اعتقده الشخص فهو الذي يتجلى له فيعرفه، لأنه عرف صورة إلهه في اعتقاده، فلما تجلى له فيها عرفه فلا ترى العين ول يشهد القلب إلا الحق الاعتقادي، فلم ير المخلوق إلا مخلوقاً، فإنه لا يرى إلا صورة معتقده. والحق وراء ذلك كله من حيث عينه القابلة لهذه الصور في عين الرائي، لا في نفسها. فالصور التي تدركها الأبصار والصور التي تمثلها القوة المتخيّلة كلها حجب، والحق من ورائها. وينسب ما يكون من هذه الصور إلى الله تعالى فيقول العارف الكامل العالم بالله وبتجلياته قال لي الحق تعالى وقلت له وأشهدني كذا وكذا وأمرني بكذا وكذا نهائي عن كذا وكذا دون الجاهل بالتجليات فإنه لا يعرف تجليه تعالى له واستتاره عنه ولا ظهوره له ولا بطونه عنه.

تكميل

إذا زعم العبد المتجلى له أنه رأى الحق تعالى فما رآه، فلا يرى الرائي في التجلي إلا منزلته ورتبته، فما رأى إلا نفسه واستعداده. إذ الحقيقة الإلهية أعطت، إذا شوهدت أنه لا يشهد الشاهد منا إلا نفسه فيها، كما أنها لا تشهد منا إلا نفسها، المؤمن مرآة المؤمن، فالمؤمن الذي هو الله مرآة المؤمن الذي هوالولي، فإنه تعالى يتجلّى لكل عبد بصورة اعتقاده الصورة التي يكون عليها في الحال، فيعرفه ويقربه، أو يكون عليها بعد ذلك فينكره حتى يرى تلك الصورة قد دخل فيها وظهر بها، فيعرفه حينئذ، فإن الله تعالى يعلم ما يؤول إليه ، والعبد م يعلم من أحواله إلا ما هو عليه في الوقت الحاضر.

فالذين ينكرونه بالحاضر، وما تجلى لهم إلاّ في صور اعتقادات يكونون عليها ويصيرون إليها بعد، ويبدو لهم ما لم يكونوا يحتسبون. فإذا تجلى لك على غير صورة اعتقادك ورأيته، فلا تنكره إذا رأيت ما لا تعرفه حين ينكره غيرك. وإنما هي صورتك، ما كان دخل وقت دخولك فيها، وظهورك بها، فإن الصور الاعتقادية تنقلب على المخلوق، وإنما كان يتجلى لعباده فيظهر لهم فيما لا يعرفونه في الدني والآخرة ليظهر لهم في حالة النكرة. ولهذا أنكروه في الدنيا والآخرة إلاّ العارفين فإنهم لا ينكرونه في تجل من تجلياته، فإنهم عرفوه مطلقاً غير محصور في صورة.

قول سيدنا: ( ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير م قيده به، وأقرّ به فيما قيّده به إذا تجلّى. ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ له في كل صورة يتحول فيها ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له فيها إلى ما ل يتناهى، فإن صورالتجلي ما لها نهاية تقف عندها).

يقول رضي الله عنه لما ثبت أن الحق تعالى يتجلى لكل ذي اعتقاد في صورة اعتقاده ويتحول من صورة إلى صورة إلى صورة إلى صورة لزم من ذلك كثرة صور التجلي، فإنه لا خفاء بتنوع والاعتقادات وكثرتها كثرة لا يحصيها إلا ّ اللهئ وإنم تنوعت الاعتقادات وتكثرت لتنوع الأسماء الإلهية وكثرتها، فهي مصدر الاعتقادات ومنشؤها. فكما أن الأسماء الإلهية لا تحصى كذلك الاعتقادات لا تحصى، فكل صاحب عقد في الحق تعالى يتصور في نفسه أمراً ما يقول فيه هو الله فيعبده، وهو الله ل غيره، وما خلقه في ذلك القلب إلاّ الله. ولهذا ورد في العقلية تكثره باختلافه فيه، فاختلفت المقالات فيه تعالى باختلاف نظر النظار، وكلها حق، ومدلولها صدق، والتجلي في الصور يكثر عند العارفين بالتجليات، فإنه ما تجلى في صورتين لواحد، ولا تجلى لاثنين في صورة واحدة، والعين واحدة، هذا في أهل التجلي العارفين بالله. وأم العامة فيتجلى لهم في صور الأمثال، فتجتمع الطائفة في عقد واحد في الله تعالى كما اتفق من الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة وغيرهم من سائر طوائف المسلمين وغير المسلمين. وعلى كل حال لابدّ من فارق بين اعتقاد كل شخص ولو بوجه ما. تقول الطائفة العارفة بالله: لايصح خطأ مطلقاً في الحق تعالى وإنما الخطأ في إثبات الشريك، فهو قول بالعدم، لأن الشريك معدوم. فالعارف الكامل لا يتقيد بمعتقد فينكره في معتقد آخر، فإنه عرف الإله المطلق. ولو لم يكن للحق تعالى هذا السريان في الاعتقادات لكان بمعزل ولصدق القائلون بكثرة الأرباب. وقد قال المحققون من أهل الله، أن المعرفة بالله ثابتة لكل مخلوق. فإن الله ما خلق الخلق إلا ليعرفوه، فلا بد أن يعرفه الخلقة ولوبوجه ما، فما عرفه أحد من كل وجه، ولا جهله أحد من كل وجه، فمعرفته تعالى إما كشفاً أوعقلاً أو تقليداً لصاحب كشف أو صاحب نظر. والمعتقدون في الحق تعالى على نوعين: نوع يقيد إلهه في اعتقاده. والنوع الآخر يعتقد في إلهه الإطلاق. فإن قيده بأن اعتقد أن إلهه لا يكون إلاّ كذا وكذا، سواء كانت الصورة التي قيده فيها حسّية أو عقلية أو خيالية، أنكره إذا تجلى له في غير الصورة التي قيده فيها، وتعوذ منه إذا قال له أنا ربك، كما ورد في الصحيح، أن ناساً من هذه الأمة يتعوذون من الحق تعالى إذا تجلى لهم في غير ما قيدوه به من الاعتقادات في الدنيا. وماينكره إلا الإنسان الحيوان، فإنه ماكل إنسان له الكمال. فمن قيده ل يعرفه إلا مقيداً بما قيده به في الدنيا والآخرة، فإذا تحول ما تجلى له في الصورة التي قيده بها وعرفه وأقر له بأنه ربه، فإنه لا يعرف ربه إلا مقيداً بما قيده به من الصور في اعتقاده، وهي العلامة التي بينه وبين ربه تعالى فإنه ورد في الصحيح: (( أنه تعالى إذا تجلى لهذه الأمة وفيهم منافقوها وقال لهم أنا ربكم يقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. فيقول هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن الساق فيقرون به ويقولون أنت ربنا))(1)... الحديث بمعناه. والذي أنكروه أولاً هو الذي أقروا به آخراً والله واسع عليم، يتجلى لهذه الأمة كلها بصورة اعتقاد كل واحد منها في الآن الواحد، والإقتدار الإلهي أعظم من ذلك. وإنما كان الشأن هكذا لأن الله جعل للإنسان قوة التصوير، فإنه جعله جامعاً لحقائق العالم كله، ففي أي صورة اعتقد ربه فعبده، فما خرج عن صورته التي هو عليه من حيث أنه جامع لحقائق العالم. فلابد أن يتصور في الحق إنسانيته على الكمال، أو من إنسانيته، ولو نزه ما عسى أن ينزه، ولمعموم التجلي الإلهي عبد كثيرون من نار ونور وملائكة وحيوان وشجر وكواكب. فالتجلي الإلهي عام في جميع الموجودات، ولا يكون إلاّ على أمزجة العالم والشارع بَيَّن المعبود بالحق من المعبود بالباطل.

وأماالنوع الآخر من المعتقدين فهو من أطلقه، أي اعتقد أن إلهه مطلق فم حصره في صورة دون صورة، ولا في اعتقاد دون اعتقاد، ولا حجر عليه الظهور بالصور والتجلي فيها، كما حجر عليه المتكلمون الناظرون بالنظر العقلي في معرفة الإله الحق. فهذا النوع الذي أطلق إلهه لم ينكره وأقرّ له بأنّه ربّه في كل صورة يتحول الحق إليها، ويتجلى فيها في الدنيا والبرزخ والآخرة. وكل صورة يتجلى له فيها يقول أنه الله، وإن كانت صور التجلّي كلها حادثة، لأن العارف عرف نفسه تتغير في كل يوم وليلة سبعين ألف مرة، وتتحول من صورة خاطر إلى صورة خاطر آخر، وكل خاطر تتصور بصورته، والخواطر تصدر عن التجليات، فعرف ربه بكثرة صور تجلياته، فإنه مخلوق على الصورة الإلهية، وهو سبحانه كل يوم في شأن. والشؤون هي تجلياته لعباده وإظهار م لهم من الأحوال، فلهذا أعظم ما تكون الحيرة في أهل التجلي لاختلاف الصور في العين الواحدة. والحدود تختلف باختلاف الصور، والعين لا يأخذها حد ولا تشهد، كما أنها ل تعلم علم إحاطة، فمن وقف مع الحدود التابعة للصور حار، ومن علم أن ثم علينا تنقلب في الصور في أعين الناظرين لا في نفسها علم أن ثم ذاتا مجهولة لا تعلم ولا تشهد ولا تحد. ومن هنا فشت الحيرة في المتحيرين، وهي عين الهدى. فمن وقف مع الحيرة حار، ومن وقف مع كون الحيرة هدى وصل. فالذي أطلق الحق ولم يقيده لا ينكره في صورة من الصور، ويقرله في كل صورة، ويعطيه من نفسه المتجلي لهاقدر ما تستحق الصور المتجلى فيها. فإن الحق تعالى متى أقام نفسه في خطابه إيّانا في صورة ما من الصور فإنها تحمل عليه أحكام تلك الصورة، لأنه لذلك تجلى فيها هذا إذا كان التجلي في الصور الممثلة على صورة المحسوس، فيكون لها حكم المحسوسات، وليست بمحسوسات، فينقل إليها ذلك الحكم ليعلم أن للظهور في صورة ما من الوجود المنزه عن التأثير حكم الصورة التي ظهر فيها، فانتقل الحكم إلى الذي كان لا يقبله قبل هذا الظهور في الصورة التي ظهر فيها، فانتقل الحكم إلى الذي كان لا يقبله قبل هذا الظهور في الصورة التي هذا الحكم لها، كما انتقل حكم البشر إلى الروح لما ظهر بصورة البشر، فأعطى الولد الذي هو عيسى، وليس ذلك من شأن الأرواح، ولكن انتقل حكم الصورة إليه بقبوله للصورة. فمن ظهر في صورة كان له حكمها. والتجلي الإلهي يكون في كل صورة من العرش إلى الذر، ففي أي صورة تجلى وتحول تعالى أعطاه المتجلى له حكم تلك الصورة إلى م لا يتناهى من التجليات. فإن صور التجلي لا نهاية لها تقف عندها. وفي كل تجل يعلم العارف بالله علماً لم يعلمه من التجلي الآخر، هكذا دائماً في كل تجل، و لايدوم التجلي لأحد من أهل الله العارفين به إلا للأفراد رضي الله عنه فالضمير مستتر في (يعطيه) في قول سيدنا: ( ويعطيه من نفسه) يعود على العبد المتجلى له، فإنه هوالذي يعطي المتجلي تعالى قدر صورة ما تجلى له فيها، لا كما فهمه بعضهم.

قول سيدنا: ( وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارفين يقف عندها، بل هو العرف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به : «رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، رَبِّ زِدْنِي عِلْماً».فالأمر لا يتناهى من الطرفين).

يقول رضي الله عنه : وكذلك تجليات الحق تعالى لا نهاية لها تقف عندها ولما كان كل تجل يعطي علماً خاصاً كان العلم بالله من طريق تجلياته ماله غاية في العارفين بالتجليات يقف عندها. يقول بعض سادات القوم: السير إلىالله له نهاية، والسير في الله ماله نهاية. فلا غاية إلاّ من حيث التوحيد، أعني توحيد العقل، وهو توحيد الأسماء، لا من حيث الواردات. فالتجلي الإلهي لا يتناهى من حيث أسماؤه، فإن التكوين لا ينقطع، فالمعلومات لاتنقطع، وكل مالم يدخل في الوجود فل يتناهى، وليس إلاّ الممكنات، ولا يعلم من الله إلا ما يكون منه، وهي آثار أسمائه، أمّ كشفاً عن شهود وتجل، أو إلهاماً، فلا علم لأحد إلا بمحدث ممكن. ولا يعلم الله من حيث الذات إلاّ الله. ولا يعلم المحدث إلا محدثاً مثله، يكوّنه الحق تعالى فالذي يتخيل أنه علم الله فلا صحة لتخيله لأنه لايعلم الشيء إلا بصفته النفسية الثبوتية، والعلم بصفة الحق النفسية الثبوتية محال. ثم أعلن أن القائلين أن للعلم بالله نهاية هم القائلون بالرأي، وسبب قولهم هذا أنهم نظروا إلى استعداداتهم، فلم لم يتمكن لهم أن يقبلوا من الحق إلا ما تعطيه استعداداتهم، وحصل الاكتفاء بما قبله استعداد القابل، وضاق عن الزيادة، قالوا بالريّ والنهاية في العلم بالله. وأم الكاملون فلم يقولوا بالرّي ولا قالوا للعلم بالله غاية ونهاية. يقول بعضهم:

شربت الحبّ كأساً بعد كأس

فما نفد الشراب ولا رويت

بل العارف في كل زمان فرد يطلب الزيادة من العلم بالله، فهو كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.

كالحوت ظمآن وفي البحر فمه

وليس غرض القوم إلاّ العلم المتعلق بالله الحاصل من التجليات الإلهية، ل العلم الحاصل من طريق العقل والنظر، فإن ذلك ليس يعلم عند الطائفة العلية لما يطر عليه من الشبه والشكوك، فإن العلم الصحيح لا يحتمل النقيض.

ومما كتبه سيدنا الشيخ الأكبر إلى فخر الدين الرازي - رحمه الله - وقد كان سأل عن مسائل فأجابه عنها: يا أخي، لا تأخذ من العلم إلاّ ما ينتقل معك إلى الدار الآخرة، وليس ذلك إلاّ العلم بالله وبتجلياته. وكيف يصح لأحد أن يقول بالنهاية في العلم بالله وهو يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم وقد أعطاه علم الأولين والآخرين، أعني علمهم بالله:﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾[ طه: 20، 114].وما أمره إلى وقت معين ولاحد محدود، بل أطلق الأمر بطلب الزيادة دنيا وبرزخاً وآخرة، والعلم المأمور صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة منه هو العلم بالله وبتجلياته لا الزيادة من الأحكام الشرعية، فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينهي أصحابه الكرام عن السؤال خوفاً من زيادة الأحكام رحمة بأمته. ويقول: (( ومن أظلم ممن سأل عن شيء فحرم من أجل سؤاله)).

ويقول لهم: ((أتركوني ما تركتكم)) ويقول ((إن الله سكت عن أشياء رحمة بكم فلا تبحثوا عنها)). رواه الطبراني.

وذكر سيدنا الآية الشريفة أنشأ منه طلباً للزيادة لا حكاية وكرره ثلاثاً اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت أنه كان إذ دعا دع ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، لتفهم عنه. فالأمر الذي هو طلب العارف الزيادة من العلم دائماً وإجابة الحق تعالى طلبه بتجليه له لا يتناهى من الطرفين. أما من جانب الحق تعالى فإنه ليس في ذلك الجناب منع إنما هو عطاء واسع يسع جميع المخلوقات لا ينقطع، وفيض دائم لا زال ولا يزال. فلا منع إلاّ من جهة القوابل، فمن لم يقبل العطاء فلا يلومن إلا نفسه. فالقوابل هي الجانية على أنفسها، وأما من جانب العارف فإن الاستعداد الذي يكون عليه يطلب علماً يحصله، فإذ حصله أعطاه ذلك العلم استعداداً عرضياً لعلم آخر، فإذا علم بما حصل له أن ثمّ أمراً يطلبه استعداده الذي حدث له بالعلم الحاصل من الاستعداد الأول يعطش إلى تحصيل ذلك. فالعارف عطشان دائماً، والتجلي دائم إلى ما لايتناهى من العارف، ومن الحق تعالى.

قول سيدنا: (هذا إذا قلت حق وخلق، فإذا نظرت في قوله:« كنت رجله التي يسعى بها ويده التي يبطش به لسانه الذي يتكلم به»، إلى غير ذلك من القوى ومحاله التي هي الأعضاء، لم تفرق قلت الأمر حق كله أوخلق كله. فهو خلق بنسبة وهو حق بنسبة والعين واحدة. فعين صورة ماتجلى عني صورة من قبل ذلك التجلي فهو المتجلي والمتجلى له. فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى).

يقول: رضي الله عنه أن ما ذكرناه من الاثنينية والتفرقة بين المتجلي تعالى والعارف المتجلي له من حيث التفرقة بين الحق والخلق، وأن أمره الوجود حق وخلق مغاير له، وهو قول من توهم أن الله ليس عين العالم، وفرق بين الدليل والمدلول ولم يتحقق بالنظر أنه إذا كان الدليل علىالشيء نفسه، فلا يضاد نفسه. وكل من فرق بين الدليل والمدلول الحق والخلق لزمه القول بالجهة، شاء أم أبى. فإذا نظرت في قوله تعالى كما ثبت في الصحيح في الحديث الرباني: (( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحبه كنت رجله التي يسعى بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي يتكلم به )). إلى غير ذلك من القوى الباطنة الروحانية ومحالها التي هي الأعضاء الظاهرة. فعند نظرك في هذا الخبر الإلهي الصدق لم تفرق بين الحق والخلق، ول قلت باثنينية، وقلت الأمر الوجودي حق كله، فإنّه تعالى أثبت التقرب إلى عبده بم نسبه إليه من الفعل. وأخبر أنه تعالى قربه القرب الذي عبر عنه الحق أنه جميع قواه وأعضاؤه، فإنه أثبت تعالى عين العبد بإعادة الضمير إليه من قوله ( رجله ويده ولسانه). وأثبت أنه ما هوالعبد، فإن العبد ليس هو هو بقواه فإنها من حده الذاتي كما قال:﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[ الأنفال: 8/17].

مفهوم الآية من طريق الإشارة: ما أنت محمد إذ تدعى محمد! وكن أنت الله. أو تقول: ما رميت من حيث ظاهرك إذ رميت من حيث باطنك، ولكن الله رمى. يعنى باطنك حق وظاهرك خلق. كذلك هنا، ما هو العبد إذ يدعي العبد، ولكنه الحق تعالى ـ. فالصورة والمعنى من العبد له تعالى، إذ الإشارة بلغت عين الكل، فما كان العبد عبداً إلاّ به تعالى، كما لم يكن الحق قواه إلاّ به، لأن اسم العبد ما انطلق إلاّ على المجموع. وقد أعلمنا الحق من هو المجموع بقوله: كنت رجله... إلى آخر القوى الباطنة ومحالها الظاهرة، فكان العبد حقاً كله. وليس المراد من قوله: «كنت» أنه لم يكن ثم كان، وإنما المراد الكشف عن ذلك بسبب التقرب بالنوافل. وكذلك العالم كله إنسان كبير كامل فحكمه حكم الإنسان، وهوية الحق باطن الإنسان، وقواه التي كان به عبداً، فهوية الحق قوى العالم التي كان بها إنساناً كبيراً، فالعالم كله حق. والصور وإن كانت عين الحق فهي أحكام الممكنات في عين الحق، والحق أن الحق عين الصور، فإنه لا يحويه ظرف ولا تغيبه صورة. إنما غيبة الجهل به من الجاهل، فهو يراه ولا يعلم أنه مطلوبه. فقل: إله، وقل: عالم، وقل: أنا، وقل: أنت، وقل: هو، والكل في حضرة الضمائر ما برح وما زال:

أنظر إلى وجهه في كل حادثة

 

من الكيان ولا تخبر به أحد

هذا بنسبة، أو قلت: الوجود خلق كله بنسبة أخرى، فإنه تعالى ظهر بهذه المرتبة وسمىنفسه بالخلق، فليس إلاّ الله وحده. ويسمى خلقاً لحكم الممكن في تلك العين، وهذا الحكم عن عين معدومة، فالمتكلم والمكلم عين واحدة في صورتين بإضافتين، فإنه العين الواحدة الجامعة لوجهي الحق والخلق. فللخلق منها ما يستحقه الخلق، وللحق منها ما يستحقه الحق، مع بقاء كل وجه في مرتبته، ما تعطيه ذاته من غير حلول ول اتحاد ولا امتزاج. فهو خلق بنسبة، وذلك من حيث العين القابلة للصور الأسمائية عليها، فله الوجوب والأمكان، فهو الواجب الممكن والمكان والمتمكن المنعوت بالحدوث والقدم.

كما نعت تعالى كلامه القديم بالحدوث مع اتصافه بالقدم فقال:﴿ مَ يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم﴾[ الأنبياء: 21/2].

الضمير من (يأتيهم) يعود على صور الأسماء محدث، فنعته بالحدوث فهو حادث عند صورة الرحمن. ثم اعلم أنه إذا أثر المحدث في المحدث، ولا يؤثر إلا الله تعالى ، كيف كان ظهر المؤثر في الظاهر بصورة الحق فانفعل المنفعل وتأثر لصورة الحق لا للخلق، فقد تلبس في الفعل الخلق بالحق في الإيجاد، وتلبس الحق بالخلق في الصورة التي ظهر وصدر عنها الأثر في الشاهد، كما ظهر عن الحق فهذا حق خلق، والعين واحدة جامعة بين الحق والخلق. وعلى ما تقرر، فعين صورة ما تجلي في أي صورة كان التجلي عين صورة من قبل ذلك التجلي، فهو عين واحدة في صورتين. فهوعين واحدة في صورتين. فهو التجلي والمتجلى له، كما أنه الشاهد والمشهود، المتكلم السانع. لا بل هوالعابد المعبود، فله التجلي له، وله الستر عنه. فتختلف عليه الصور فينكر حاله، مع علمه أنه هو، وهو ما تسمعه من قول الإنسان عن نفسه، أني في هذا الزمان أنكر نفسي، لأنه تغيرت عليّ، وما كنت أعرف نفسي هكذا، وهو هو ليس غيره. فانظر ما أعجب أمر الله - جل جلاله وعز سلطانه - من حيث هويته السارية في كل شيء كان الأمر حقاً كله. ومن حيث نسبته إلى العالم وظهوره في حقائق أسمائه الحسنى وتشكل الأسماء الحسنى بالصور كان الأمر خلقاً كله.

قول سيدنا:

فَمَنْ ثَمَّ وَ مَنْ ثَمَةَ

يقول رضي الله عنه مستفهما استفهام إنكار فلن (ثم) ظرفاً بمعنى (هناك). وقد يجيء هناك بمجرد الاستبعاد، أنكر إشارة من يشير إلى خلق بلا حق ويجعل الحق بعيداً من الخلق منعزلاً عنهم (وَ مَنْ ثَمَةَ): كذلك استفهام استبعاد وإنكار الإشارة من يشير إلى حق بلا خلق، والحق هاء السكت بثم، وهي لغة . وفي بعض شراح مسلم (ثم) بلا هاء، يدل على المكان البعيد. وبهاء يدل على المكان القريب، قول سيدنا:

وعين ثم عين ثمة

يقول رضي الله عنه : المشار إليه بالخلقة هو عين الحق، فلا يشار إلى الحق وحده وإلى الخلق وحده. وذلك كما يقال في الجوهر أنه قائم بنفسه، ظاهر بشخصه من أعيان غير ظاهرة، هي مجموعة، وليست عينة وليس لها وجود إلا عينه. فمن الجوهر ومن الصفات النفسية ؟! هكذا هذه الحضرة فهو حق في عين ما هو حق، إذ ظهر كان خلقاً، وكيف يخلى الكون عنه تعالى والكون لا يقوم إلا به.

يقول سيدنا رضي الله عنه :

دنى فتدلى رب عبد وعبده

فلما التقينا لم يكن غير واحد

يرىالرائي صور الممكنات وهي أحكام الأعيان الثابتة في الوجود الحق فيقول ثم ما ليس ثم لأنه لا يقدر أن ينكر ما شهد، كما أنه لا يقدر أن يجهل ما علم والمعلوم في هذه المسأةل خلاف المشهود المرئي بالعين.

تنبيه

اعلم أن الإنسان لا يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة بالنظر إلى حكم الشرع: إما أن يكون ظاهرياً محضاً متغلغلاً بحيث يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه، فهذ مذموم ومذهب باطل. وإما أن يكون جارياً مع حكم الشريعة على فهم اللسان الذي جاءت الشريعة به، حيث ما مشى الشارع مشى، وحيث ما وقف وقف، قدما بقدم، فهذا هو الحق المحمود الوسط. وإما أن يكون باطنياً محضاً معتقداً مشرب الباطنية من غير نظر إلى الشرع، وهو القائل بتجريد التوحيد حالاً وفعلاً، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرائع وقلب أعيانها، وإبطال الديانات، وإلغاء المعاملات الدنيوية الجارية بين المسلمين بحكم الشرع الحق، كما هو مذهب الزنادقة الملحدين الإباحيين الاتحاديين، فإنهم يقولون بالتوحيد المحض الذي هو مقام الجمع، فينفون اشريعة التي هي مقام الفرق، فهم أكفر من اليهود والنصارى، وأضر على المسلمين من الشياطين المردة، بإنكارهم احكام الله، وما كفاهم حتى ادعوا مقام الربوبية والتجسيم بقولهم أنهم الله، ويقولون سقط عنا التكليف، لأننا وصلنا إلى أن صارت ذواتنا هي الله، وقولهم كل شيء نراه هوالله، وليس والله هذا مذهب أهل الله، وإنما أهل الله إذا انزلهم الله فيمقام التوحيد المحض كملهم بالأعمال الصالحة، وأوقفهم عند حدود الشريعة. وإذا أنزلهم في مقام الفرق حفظهم من الشرك وأشهدهم قيام العالم بوجود الحق. الله الله الله يا أخواني، ل يظهر أحد منكم بالتوحيد المحض يوماً ما، ولا في حال ما، فالتوحيد المحض يكون عليه باطن الإنسان وعقده، وأما ظاهره فلابدّ فيه من الفرق، رب وعبد، آمر ومأمور، فإنّ إظهار التوحيد المحض للعوام فتنة وأي فتنة، وضلال وأي ضلال. وبعض الملاحدو يقول الحركة والسكون بيد الله، فما جعل في نفسي أداء ما أمرني به يقول، وعلى الحقيقة، فهو الآمر المأمور السامع المخاطب، فَهَذَا على بصيرة تشقيه وتتحول بينه وبين سعادته.

تذييل

وهذا لا يصدر عن من أخذ علمه بالله عن دليل ونظر، او من كتب القوم رضي الله عنه كما ضل هؤلاء الزنادقة الذين هم في زماننا بكتب الإمام العارف بالله عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه فنظروا في الكتب بلا تقييد بالتقوى ومراعاة أحكام الشريعة، فضلوا وأضلوا. ولهذه العلة منع أهل الله بعض تلامذته عن مطالعة كتب الحقائق لإشرافه على قصور ذلك المريد عن فهم ما وضع في كتب  الحقائق لإشرافه على قصور ذلك المريد عن فهم م وضع في كتب لحقائق، كهؤلاء الزنادقة الذين انتسبوا إلى الشاذلية - رضي الله عنهم -. فإن قاصر الفهم لا يخلوا إما أن يتأول كلامهم على خلاف ما أرادوه فيهلك في الهالكين، أو يضيع العمر في النظر في الكتب من غير فائدة. فَنَهْيُ مثل هذا عن مطالعة كتب الحقائق واجب.

قول سيدنا:

فمن عمّه فقد خصه

 

ومن خصه فقد عمّه

يقول رضي الله عنه : ان من قال واعتقد إطلاق الحق تعالى وعدم تقييده فقد خصه وقيده حيث لا يشعر، فإن الإطلاق تقييد بعدم التقييد، لأن عدم العلامة علامة بين أصحاب العلامات. ومن خصه وقال بتقييده واعتقد عدم إطلاقه فقدعمه وما خصه من حيث لا يشعر، فإنه أدخله بذلك التخصيص في عموم الممكنات وحدده، كالمنزه الصرف الحاكم على الحق تعالى بعدم تنزله وتجليه فيما شاء من الصور. لأن غاية التنزيه التحديد، ومن حد إلهه فقد جعله كنفسه في الحد، والتحقيق أنه تعالى لا مقيد ولا مطلق، وما حكمنا بإطلاقه إلا من تقييدنا.

يقول سيدنا رضي الله عنه :

فتقييده وإطلاقه من وثاقن

فما ثم إطلاق يكون بلا قيد

يعني: أن إطلاقه تعالى من وثائق تقييدنا هو إطلاق وتقييد له، لا أنه في نفس الأمر كذلك، والأمر الحق أنه تعالى غير منعوت بإطلاق ولا تقييد، فمن أطلقه فم عرفه، ومن قيده فقدجهله. فهو عين الأشياء، وما الأشياء عينه. قال أبو يزيد رضي الله عنه : الحق عين ما ظهر وليس ما ظهر عينه. فهو تعالى عين الأشياء في رتبة التقييد وليست الأشياء عينه فيها، فلا ظهور لشيء لا تكون هويته عين ذلك الشيء، فمن كان وجوده بهذه المثابة كيف يقبل الإطلاق أو التقييد. فالعالم مرتبط بالحق ارتباطاً لا يمكن الانفكاك عنه، لأنه وصف ذاتي له من حيث أسماؤه. هكذا علافه العارفون به تعالى:

قول سيدنا:

فما عين سوى عين

يقول رضي الله عنه فما عين مما يقال فيه أعيان من محسوس ومتخيل من كل ما يدرك سوى عين واحدة، هي المحسوسة المتخيلة والمعقولة، وما عداها فإنما هي أعراض مجتمعة، والمقوم لها هذه العين الواحدة. فالعين وما تقع عليه والأذن وما تسمعه، واللسان وما صوت به، والجوارح وما تلمسه، والعقل وما يتعقله، والخيال والتخيل والمتخيل، والمتصور والمتصّور والصورة، والحافظ والحفظ والمحفوظ، فما هي إلاّ أعراض ونسب وإضافات في عين واحدة، هي الواحدة والكثيرة، وعليها تطلق الأسماء كلها.

فنور عينه ظلمه

يقول رضي الله عنه هذه العين الواحدة هي عين النور وعين الظلمة وعين كل متنافيين من أنوع المنافات، فقوله : ظلمة، معطوف على نور، بحذف العاطف، أن فنور وظلمة عينه، أي عين العين الواحدة التي قال فيها:

فما عين سوى عين

قيل لأبي سعيد الخراز رضي الله عنه : بم عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الضدين ثم تلا: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾[الحديد:57/3].

وهو أبو سعيد الخراز. قال بعض سادات القوم: إن أبا سعيد الخراز لم يعظ المقام حقه، فإن كلامه يوهم أن هنا عيناً تجمع الضدين، ويس مراده هذا وإنّم مراده: هي عين الضدين. فإذا ظهرت العين الواحدة بالحق وصفات الحق فهي عين النور، وإذ ظهرت بالخلق وصفات الخلق فهي عين الظلمة، والعين واحدة، والظلمة ظلمة الطبيعة. فإن العالم كله موجود بين النور الحق والظلمة الطبيعية، فما هو نور خالص و لا ظلمة الطبيعة. فإن العالم كله موجود بين النور الحق والظلمة الطبيعية، فما هو نور خالص ولا ظلمة خالصة، فهو كالظل، لأن الظلمة الحقيقية هي ظلمة المحال. وفي هذا المعنى قلت من أبيات مترجماً عن هذه العين الواحدة:

أنا حق أنا خلق

 

أنا رب أنا عبد

أن عرش أنا فرش

وجحيم أنا خلد

أنا ماء أنا نار

 

وهواء أنا صلد

أنا كم أنا كيف

أنا وجد أنا فقد

أنا ذات أنا وصف

 

أنا قرب أنا بعد

كل كون ذاك كوني

أنا وحدي أنا فرد

ولا ينبغي أن يحمل قول سيدنا:

فنور عينه ظلمه

على ما فهمه بعضهم قال: فنور عينه، أي عين ذلك النور، يعني ما يعاين منه، لأن عينه هي الصورة الممكنة العدمية الكثيرة في الحس والعقل، وفي الوهم وفي الخيال، في الدنيا والآخرة، كيف وسيدنا رضي الله عنه نفى الأعيان كلها بقوله: فم عين سوى عين مما يقال فيه أعيان وذوات وجواهر.

قول سيدنا:

فمن يغفل عن هذ

 

يجد في نفسه غمه

يقول رضي الله عنه : إن الذي يغفل عن هذه المعارف التي ذكرناها والأسرار التي أبديناها بأن أعرض عنها فلم يتعمل في اكتسابها يجد في نفسه غمة. وكل ما يستر شيئاً فهو غمه، ومنه الغمام، فإنه يستر السماء عن عين الرائي. فمن يغفل عن العلوم الإلهية يجد في نفسه الناطقة، وهي الروح الجزئي، عنة وستراً عن الحقائق الإلهية. وإنما يكون ذلك إذا رجمة الله بالانتباه وحصلت له حالة اليقظة، فيتحسر على ما فاته وفرط فيه، يقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ويغتم. ولهذا تجد فحول علماء الظاهر وسادتهم يتتحسرون ويتأسفون عندما يحصل لهم اليأس من الحصول على مطلوبهم.

يقول زعيم المتكلمين من أثل النظر فخر الدين الرازي رحمه الله:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعى العالمين ضلال

فأرواحنا في وحشة من جسومن

 

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرن

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالو

ويقول إمام الحرمين أبوالمعالي: قرأت ماية ألف في ماية ألف، هذا هرباً من التقليد والآن قد رجعت إلى التقليد، اللهم إيمان كإيمان العجائز، والويل لابن الجويني إن لم يتداركه الله برحمته. ومثل هذه المقالات لا تصدر من أدنى عارف بالله. يمقت الغافل عن هذه العلوم نفسه، ومقت الله له أكبر من مقته نفسه. وليس المراد بالغفلة هنا غفلة الإنسان أحياناً عما يعلمه من هذا العلم الشريف المقدار العلي الدرجات على سائل العلوم، إذ العلم يشرف بشرف معلومه، ولا أشرف من الله تعالى فإن هذا العلم له الثبوت فلا تؤثر فيه الغفلات، فلا يلزم العلم الحضور مع علمه في كل نفس، لأنه وَالي مشغول بتدبير ما ولاه الله، فيغفل عن كونه عالماً بالله ولا يخرجه ذلك من حكم معته بأنه عالم بالله، مع وجود الغفلة في المحل من نوم أو غفلة، ولا جهل بعد علم أبداً، إذ الإنسان محل الغفلات، حتى الأنبياء صلى الله عليه وسلم فلا يخلون عنها. ولا علم عند القوم إلاّ ما حصل عن تجل، فإذا كان العلم حاصلاً عن نظر في دليل عقلي فليس بعلم عند الطائفة، فلا ينبغي أن تفسر الغفلة هن بغفلة العالم بهذا العلم عن علمه أحياناً، كما فهمه بعضهم، فإنه إذا رجع من غفلته رجع إلى علم صحيح.

قول سيدنا:

ولا يعرف ما قلناه

 

إلا عبد له همه

يقول رضي الله عنه : ولا يعرف ما قلناه في هذه ( الحكمة القلبية في الكلمة الشعبية) من المعارف الإلهية، وكشفناه من الأسرار الربانية والعلوم التي يُشَنّ بها على غير أهلها إلاّ عبد له همه عالية، تعلقت بالنفيس وأعرضت عن الخسيس. وكل عبد له همة، ولكن ما كل عبد علق همته باكتساب هذه العلوم وبذل جهده في الوصول إليها وصرف وجهته عن غيرها.

﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾[ البقرة: 2/ 16].

والهمة لغة نوع من القصد، وإصطلاحاً الباعث الطلبي المنبعث من النفوس والأرواح لمطالب كمالية ومقاصد غائية. وتتنوع بحسب تنوع أهلها واختلاف مداركهم، فمنهم من يهتم بامور الدنيا المذكورة أصولها في قوله تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ﴾[ آل عمران: 2/ 14].الآية.

ومنهم من يهتم بأمور الآخرة، ومنهم من تتعلق همته بمحبة الله وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون.

من ذاق طعم شراب القوم يدريه

ومن دراه غدا بالنفس يشربه

لايعرف الشوق إلاّ من يكابده

 

ولا الصبابة إلاّ من يعانيه

وقول سيدنا:﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾[ ق:50/37].لتقلبه في أنواع الصور والصفات، ولم يقل لمن كان له عقل، فإن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر. فما هو ذكرى لمن كان له عقل، وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً فما لهم من ناصرين. فإن الإله المعتقد ما له حكم في الإله المعتقد الآخر، فصاحب الاعتقاد يذّب عنه أي عن الأمر الذي اعتقد في إلهه وينصره، ولذلك الذي في اعتقاده لا ينصره، فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له. وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده، وما لهم من ناصرين، فنفى الحق النّصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته، والمنصور المجموع، والناصر المجموع).

يقول رضي الله عنه مستدلاً بالآية الكريمة (إنّ في ذلك لذكرى) الإشارة في الآية تفسير على ما ذكر في سورة ق - من الوعد والوعيد وخبر الجنة والنار وخبر أهلهما وغير ذلك مما تضمنته السورة. وأما الإشارة في ذكر الآية الكريمة في كلام سيدنا فهي على ماذكره من أحوال القلب وأحوال التجليات ونعوتها وتعدّدها، وأنها ل نهاية لها. وتقييد الحق عند من قيده وإطلاقه عند من أطلقه وكون الموجودات حقاً كلها أو خلقاً كلها، وكون المتجلّي والتجلى له واحداً إلى غير ذلك مما تقدم ذكره (لذكرى) تذكره لمن كن له قلب خاص، واع للتجليات الآلهية، باق على صفائه وتقديسه عن الأوضار الطبيعية، أو صقلته الرياضات والمجاهدات، واتباع الكتاب والسنة، فصفا بعد الكدورة وتطهر بعد النجاسة، فإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها ذكر الله كما ورد. ثم اعلم ان كل إنسانله قلب، فإن القلب اسم للروح الجزئي، وسمي جزئياً لتدبيره الجسم الجزئي، إذ الروح، الكلي لما تنزل من مرتبة كليته إلى تدبير جسم الإنسان صار جزئياً، وهو هو، سيمي قلباً لتقلبه في أنواع الصورالتي يتجلى له الحق فيها، فهو دائم التقلب مع الأنفاس، لأنه مخلوق على صورة الحق تعالى وصورة الحق لا تعطى الضيق، ولا مجال لها إلاّ في التقليب. فالحق يتقلب في أحكام الممكنات، وأحكام أعيان الممكنات لا نهاية لها، فالتقليب الإلهي لا يتناهى. ولو فتش الإنسان دقائق تغيراته ف يكل نفس، لعلم أن الحق عين حاله، وهو تعالى من حيث هويته وراء ذلك كله، كم هوعين ذلك كله. فإن الأحوال في العالم ماهي بأمر زائد عن الشأن الذي الحق فيه، بل هو عين الشأن. وقال تعالى:﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾.

ولم يقل لمن كان له عقل. فإن العقل فيه مأخوذ من عقال البعير، وهو الحبل الذي يمنعه من النهوض والنفور، فيحصر العقل الأمر الإلهي في نعت واحد واعتقاد مفرد، ويحجر علىالحق تعالى أن يكون على اعتقاد مخالف لمعتقده. والحقيقة تأبى وتمنع المحال في نفس الأمر، وهو مجموع الأمور والأحكام المختلفة الواقعة في جميع الإدراكات العقلية المعنوية والمشهودة الحسية، فما هو ما تقدم ذكره في هذه الحكمة القلبية ذكرى لمن كان له عقل، فإن من لازم شهود أهل العقول أنفسهم معه تعالى التميز والتحديد والحصر، إذ من اعتقد في إلهه أنه مباين له منفصل عنه يلزمه تحديد إله ولا بدّ. فمعرفته تعالى موقوفة على شهود صفاته، وهذا لا يدرك بالعقل وإنما القلب السليم يدرك ذلك ثم يفيض على العقل بقدر ما يقبله. وحظ صاحب العقل العلم بوجود الله ووحدانيته فقط، فأهل العقول المتكلمون في الإلهيات خطأهم أكثر من أصابتهم، سواء كان فيلسوفياً او معتزلياً او أشعرياً أو من كان من أصناف أهل النظر العقلي. فالعقلاء وهم أصحاب الاعتقادات المقيدة للحق تعالى من حكيم ومتكلم الذين كل واحد منهم حصرالحق في معتقده وحجر عليه أن يكون على خلاف معتقده، وهم الذين كفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً من جميع الفرق الإسلامية وغيرها من سائر أهل الملل والنحل. وما من مذهب إلاّ والاختلاف واقع بين أهله، فأحرى بينهم وبين غير أهل مذهبهم. فدليل الأشعري المرحومة أهل الله، فإنهم علموا أن الحق تعالى قابل لكل معتقد من حيث الوجود، والشارع بينّ المقبول من المردود، وذلك لاطلاع أهل الله على المرآة الكبرى الجامعة لسائر الصور المتفرع منها كل معرفة في العالم، فكانو يرمون عن قوس واحدة لا اختلاف بينهم ولا تباين، يصدق آخرهم أولهم:

مذاهب الناس على اختلاف

ومذهب القوم على ائتلاف

ومن زعم أنهم يختلفون في عقائدهم فذلك لعدم فهم كلامهم وعدم الوصول إلى مرامهم.

وكم من غائب قولا صحيح

 

وآفته من الفهم السقيم

وكم من غائب ليلى ولم ير وجهه

فقال له الحرمان حسبك يا فتى

فأهل الاعتقادات المقيدة للحق تخونهم اعتقاداتهم عند الحاجة إليه ومالهم من ناصرين حيث كانت آلهتهم التي اعتقدوها وجوها جزئية من الحضرة الجامعة الكلية الإلهية. وإن كان كل معتقد من أصحاب الاعتقادات إنما اعتقد الوجه الذي تعرف لاحق به إليه فإنه ما جهله أحد من كل وجه. فأوجه المعارف على عدد الخلائق، ولكن لما كن المعتقد إنّما اعتقد وجهاً خاصاً وقيد إلهه به دون الوجوه التي لم يتعرف الحق له بها وتعرف بها على غيره، لم ينفعه إلههه ولم ينصره. فإن الإله المعتقد فيه المقيد المحصور المحجور عليه ما له حكم ولا أثر في الإله المعتقد فيه الآخر، فإن كلاً من الإلهين المعتقدين مقيد ومحصور مخلوق، أعني الصورة المقيدة التي هي مظهر ذلك الوجه الخاص الإلهي. فصاحب الاعتقاد المقيد يذب ويدفع عنه، أي عن الأمر والوصف الذي اعتقده في إلهه، وينزهه بما هوتنزيه عنده، وينصره، وذلك الإله المقيد عنده الذي تخيّله لا أثر في اعتقاد المنازع له، فإنه إله مقيد محصور، وكذلك صاحب الإله الآخر ماله نصرة من إلهه الذي اعتقده، فإنه إله مقيد محصور مثل الإله الآخر. فم لآلهة الاعتقادات ناصرين قال تعالى:﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ﴾[ هود: 11/ 101].

الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول له، فما أغنت عنهم ولا نفعت ول دفعت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله، وهي الصور التي اتخذوها آلهة واعتقدوه نافعة، وإن كانت تلك الصور مظاهر لأسماء إلهية جزئية، لما جاء أمر ربك ورب محمد صلى الله عليه وسلم وهي الحضرة الربية لكلية الجامعة للأرباب كلها. فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات المقيدة الجزئية كلها، يعنى على انفراد كل إله مقيد معتقد على حدته وانفراده، فإن المنصور من المعتقدين هو المجموع، وهم الذين اعتقدو إطلاق إلههم ولم يقيدوه بمعتقد دون معتقد، فما حصروه في اعتقادهم خاصة. كما أن الناصر المجموع، وهي الحضرة الإلهية الجامعة، فلهذا كل من كان صحيح التصور لإلهه وتوجه إليه في أمر تسرع إليه الإجابة والحصول على المراد من نبيّ وولي غالباً، بخلاف غيرهم من أصحاب الاعتقادات المقيدة من أهل النظر العقلي. وانظر قصة فخر الدين الرازي رحمه الله.

مطلب

قال الشيخ الأكبر: أخبرني الرشيد الفرغاني - رحمه الله - عن فخر الدين شيخه بن خطيب الرازي، عالم زمانه، ان السلطان حبسه وعزم على قتله، وماله شافع عنده مقبول، قال: فطمعت أن أجمع همّى على الله في أمري أن يخلصني من يد السلطان، لم انقطعت بي الأسباب وحصل اليأس من كل ما سوى الله، فما تخلص لي ذلك، لما يرد عليّ من الشُبه النظرية في إثبات الله، الذي ربطت معتقدي به، إلى أن جمعت همتي وكليتي على الإله الذي تعتقده العامة، ورميت من نفسي نظري وأدلتي، ولم أجد في نفسي شبهة تقدح عندي فيه، وأخلصت إليه التوجه بكلي، فدعوته في التخلص. فما أصبحت إلاّ وقد أفرج الله عني وأخرجني من السجن. ومراده بالإله الذي تعتقده العامة، هو الإله الذي جاء وصفه في الكتاب والسنة، وهوغير مقيد ولا محصور، كما هو عقيدة عامة المؤمنين بأنه تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾

مع قبولهم الصفات السمعية التي لم تقبلها العقول، مع عدم التأويل لها، ل إله الذي يعتقده أخل النظر، وفخر الدين منهم، وما نفعه إلهه. فالحق تعالى وتقدّس هوالمعروف الذي لا ينكر في أي صورة تجلى من صور العالم أعلى وأدنى من العرش إلى الذر عند العارفين به تعالى، فإنها لا توجد صورة لا تكون هوية الحق تعالى باطنها سارية فيها. فالعارف لا يرى صورة إلاّ الله قبلها، أو بعدها أو معها أو فيها، على اختلاف المشاهد، فإن لله - عز وجل - في كل شيء وجها ًخاصاً، هوتعالى حق ذلك الشيء، وذلك الشيء حق بذلك الوجه. فأهل الحق تعالى المعروف لهم في الدنيا، المشهود عندهم في كل شيء، من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج، هم أهل الحق تعالى ـ في الآخرة، المعروف لهم، فلا ينكرونه في شيء من تجلياته في الآخرة حين ينكره ويتعوذ منه من لم يعرفه في الدنيا بالإطلاق وعموم التجلي والظهور، أشار سيدن بقوله: فأهل المعروف في الدنيا إلى آخره... إلى معنى الحديث الذي خرّجه الطبراني على طريق أهل الإشارة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة)).

والأهل لغة الأقارب، وأهل الله هنا المقربون منه القرب لمعنوي لمعرفته وطاعته، كما ورد: (( الأقربون أولى بالمعروف)).

أي الأقربون إلى الله أولى به، وهو المعروف الذي لا ينكر.

تنبيه

إن العارفين لا يمنعون اهل النظر والفكر عن نظرهم، لأن ذلك هو مرتبتهم، وإنما يمنعون العمل بما ينتجه الفكر من التلبيس، فإنه ما من علم من العلوم الظنية إلاّ ويجوز أن ينال العلم اليقيني به من طريق الكشف، ولهذا جعل المحققون من الوصفية أفلاطون الحكيم من العلماء بالله، لأنه خرج بنظره مخرج الكشف. فما كرهه من كرهه من أهل الإسلام إلاّ لنسبته إلى الفلسفة لجهلهم بمدلول هذه اللفظة.

قول سيدنا: (فلهذا قال:﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾. يعلم تقليب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال، فمن نفسه عرف نفسه، وليست نفسه بغير لهوية الحق، ول شيء من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق، بل هو عين الهوية. فهو العارف والعالم والمقرّ في هذه الصورة، وهوالذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى. فهذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع، فهو قوله:﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾. يتنوع في تقليبه).

يقول رضي الله عنه : فلهذا، أي لكون العقل قيداً فيحصر الأمر الإلهي في نعت واحد. والحقيقة تأبى الحصر، قال تعالى على طريق الإشارة:﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾.

وما قال تعالى، لمن كان له عقل. لأن علم صاحب القلب السليم العارف بالله وتجلياته فوق علم صاحب العقل، فإنه جاهل بالتجليات، بل يمنع تقليب الحق في الصور، وهي الشؤون التي هو تعالى فيها كل يوم. علم صاحب القلب تقليب الحق في الصور بتقليبه هو في الأشكال والأحوال، حيث عرف العارف أنه مخلوق عاجز لا حركة له من ذاته، وأن هذا التقليب حصل له من غيره، وليس إلاّ الحق تعالى فتقليب الحق في الصور سبب في تقليب العبد في الأشكال. فما عرف العبد العارف الحق تعالى إلاّ من معرفته نفسه. ولذا ورد: «من عرف نفسه عرف ربهُ».

فمعرفته النفس سلم إلى معرفة الحق. لأن نفس العارف الإنسانية المقيدة هي النفس الإلهية المطلقة، فمن معرفته نفسه المقيدة عرف نفسه المطلقة. وليست نفسه المقيدة بغير هوية الحق السارية في النفس الإنسانية ولا سريان، وليس سريان الهوية خاصاً بالنفس الإنسانية، بل لا شيء من الكون، وهو الداخل تحت قوله تعالى « كن» مم هو كائن في الماضي والحال من الممكنات، أو يكون في المستقبل، فإنها لا نهاية لتكوينها، بغير هوية الحق السارية، فلا شيء بغير هوية الحق السارية، بل هو عينه لا غيرها. ولما كانت هوية الحق عين صورة الإنسان كان الحق هو العارف والعالم من كل صورة ينسب إليها المعرفة والعلم به تعالى، وهو المقر بالربوبية، في هذه الصورة التي حصل الإقرار منها، لأن المتجلّي والمتجلى له عين واحدة في صورتين مختلفتين، وهوالذي لا عارف ولا عالم، وهوالمنكر في هذه الصورة الأخرى. وكذلك إذا ظهر لعارف فهو ظاهر لنفسه، لأنّ ذلك العارف وجه من وجوهه، وإذا بطن عمن بطن من الجاهلين فهو باكن عن نفسه، لأن ذلك الجاهل مظهر من مظاهره. وحيث كانت الصورة هي أحكام الأعيان الثابتة فل تبالي بما تنسب إليها، العلم والجهل وغير ذلك. ثم اعلم أن سيدنا رضي الله عنه غاير بين العالم والعارف، إذ العطف يقتضي المغايرة، لأن العالم عند سيدنا أعلى مرتبة من العارف، وإن كان العلم والمعرفة في الحد والحقيقة على السواء في كشف الشيء على م هو عليه، حيث أنه تعالى أثنى بالعلم على من اختصه من عباده أكثر مما اثنى على العارفين. فالعارف لا يرى إلا حقاً وخلقاً. والعالم يرى حقاً وخلقاً في خلق فيرى ثلاثة. وهذا المذكور عن الأسرار الربانية والمشاهد الإلهية حظ من عرف الحق جل جلاله - من طريق التجلي والشهود في عين الجمع بين الظاهر والباطن، فهو معنى قوله ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾. ثم اعلم أنّ العلماء بالله أربعة أصناف: صنف ما لهم علم بالله إلاّ من طريق النظر الفكري، وهم القائلون بالسلوب المانعون لتجلي الحق تعالى في الصور، القائلون بالتنزيه المحض. وصنف مالهم علم بالله إلاّ من طريق التجلي، وهم القائلون بالثبوت والحدود التابعة للصور، وهم أهل وحدة الشهود. وصنف يحدث لهم علم بالله بين الشهود والنظر فلا يبقون مع الصور في التجلّي، ولا يصلون إلى معرفة هذه الثلاثة، ولا يخرج عن جميعهم وهو الذي يعلم أن الله  ـ تعالى قابل لكل معتقد في العالم من حيث عين الوجود، فإنه قضى وحكم ألاّ يعبد إلاّ إيّاه، وهذا الصنف ينقسم إلى صنفين: صنف يقول عين الحق هو المتجلي في صور الممكنات، وصنف يقول أحكام الممكنات هم الصور الظاهرة في عين الوجود الحق. وكل قال ما هو الحق، والكامل من جمع بين الشهودين. والعارفون بالله من طريق التجلي والشهود متقاضلون متقاوتون، فأكملهم وأعلاهم الذي لا يوجد عارف غيره إلاّ مجازا ًمن كل يشهد الحق في مقام الجمع، وهوالذي يشاهد ربه علماً وحالاً، ويشاهد الخلق حالاً لا علماً، لأن المعلوم معدوم. هذا شرب فازداد صحوا وغاب فازداد حضوراً فلا فرقه يحجبه عن جمعه ولا جمعه يحجبه عن فرقه.

قول سيدنا: ( وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار الوارد يحملها على أدلتهم العقلية، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - هم المرادون بقوله: « أو ألقى السمع». شهيد ينبه على حضرة الخيال واستعمالها، وهو قوله عليه السلام في الإحسان: « أن تعبد الله كأنك تراه». والله في قبله المصلي، فلذلك هو شهيد. ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به فليس هوالذي «ألقى السمع» فإن هذا الذي « ألقى السمع» لابد أن يكون شهيداً لما ذكرناه. ومتى لم يكن شهيداً لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية. فهؤلائك هم الذين قال الله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾[ البقرة: 2/ 166].والرسل لا يتبرءون من أتباعهم الذين اتبعوهم).

يقول رضي الله عنه أنه لما كانت المعرفة بالله الحاصلة للعباد منحصرة في أربعة وجوه، فهي إما من طريق التجلي الإلهي، وإما من التقليد لذي تجل إلهي، وإم من طريق النظر العقلي، وإمّا من التقليد لذي نظر عقلي: وقد ذكرناه المعرفة الحاصلة من طريق التجلّي الإلهي، وأما المعرفة الحاصلة من التقليد لذي تجل إلهي فهم أهل الإيمان الذي كانت معرفتهم بالله إيماناً بالغيب، لا عن تجل إلهي و لاعن نظر عقلي ولا عن تقليد لنظر عقلي، وإن كانت كل معرفة بالله في العالم إنما هي عن تجل إلهي. فليس التجلي الخاص بأهل الله كالتجلي لغيرهم، فأهل الإيمان الذين قلدوا الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - فيما أخبروا به عن الحق تعالى مما لاتصل إليه العقول بأنظارها وأفكارها، فإن للعقل حدا يقف عنده لا يتجاوزه، وذلك كالصفات السمعية التي أخبرت به الأنبياء والرسل عن ربهم تعالى وأحالتها العقول ونزّهت الحق عنها، إذ الإله الذي جاء بأوصافه ونعوته الشارع ما هو الإله الذي أثبتته العقول. فإن الإله الذي دعا الشارع إلى عبادته لا يعقل إلاّ متمثلاً متخيلاً، ول يدركه أحد على ما هو عليه في ذاته. فإله الشارع الموصوف بالاستواء على العرش ومنعوت بالنزول إلى السماء الدنيا، وبالمعية مع كل مخلوق، وبالمجيء والإتيان في ظلل من الغمام والمشي والهرولة والتردد التبشبش والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك مما ورد في الكتب الإلهية والسنّة المحمدية. وهذه الأمور إنما تنزل الحق تعالى ووصف نفسه بها رحمة لعباده، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل والأنبياء والأولياء الداعين الخلق إلى معرفة الله تعالى هم المؤمنون حقاً وهم لاحقون بمن قلدوهم ومنخرطون في سلكهم. لامن قلد من عامة المؤمنين أصحاب النظر الفكري في معرفة الله تعالى المتوهمين أن الكون دليل على الله وهو وهم باطل. فإن الشيء لا يدرك إلاّ بنفسه، فمن طلب معرفة الذات من طريق الفكر والنظر كان مآله الخيبة والحيرة من غير طائل، ومقلد أصحاب الأفكار، لا حق بهم ومنخرط في سلكهم.

ثم اعلم أن طرق العلم ثلاثة: الأولى أن يكون الحق هو المعلم، والثانية أن يكون النظر الفكري هو المعلم، الثالثة أن يكون المعلم مخلوقاً مثل المتعلم. فصاحب الإلقاء الإلهي ملحق بمعلمه، ومقلده ملحق به. وصاحب النظر العقلي ملحق بمعلمه، ومقلده لا حق به.

وقد أجمع أهل الله أن كل ما ينتجه النظر والفكر فهو مدخنول يقبل إيراد الشبه عليه، كما يدل على ذلك اختلاف المقالات في الله تعالى من الناظرين بعقولهم، واتفاق أصحاب التجلّي الذين معلمهم الله من نبي وورسول وولي. فلا تشمل الآية أصحاب النظر ولا من قلد أصحاب النظر المتأولين للأخبار، بصرفها عن ظواهره وحملها على أدلتهم. فإنّ التأويل لغة من الأول، وهو الانصراف. وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاء بلسان عربي مبين، لا رمز فيهما ولا لغز ولا إيماء إلى شيء مما يخالف الشرع المحمدي، وأما ما يقوله بعض المحققين من الصوفية أن نصوص الكتاب والسنة على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف على أرباب السلوك أصحاب القلوب، فهي من كمال الإيمان ومحض العرفان. وما هو من التفسير بالرأي المتوعد عليه في الحديث النبوي.

فما ضلّ من ضلّ إلا بالتأويل وحمل الأخبار والآيات على خلاف ظواهرها، ففاتهم كمال الإيمان بما أخبرت به الأنبياء والرسل عن ربهم - عز وجل- فأساؤوا الأدب مع الله وجعلوا عقولهم أعلم بربهم منرسله، بل يكذبون ربهم، فتراهم يكذبون بكل حال جعل الحق تعالى نفسه فيها مع عباده، وينزهونه عن كل ما أضافه إلى نفسه وقد جاء في بعض الهواتف الإلهية:

« إذا جاء التأويل فقد جاء حجابي الذي لا أنظر إليه ومقتي الذي لا أعطف عليه، وإذا جاءك العلم الصادر عن المشاهدة فهو أعرف العلوم والعلماء، واعلم أنه ما آمن بي من حكم عقله على آياتي وصفاتي وما أضفته إلى نفسي على ألسنة رسلي، وأن ما قلت إلا ليؤمنوا بي لا بعقولهم ومن أول فما آمن حقيقة إلا بعقله فغن قال أنه م قصد بالتأويل إلا تنزيهي فذلك من حيل النفوس وحبها لمنازعة ربوبيتي».

تنبيه

إن المتأولين أصناف: صنف منهم قالوا أن الرسل أعلم الناس بالله، فتنزلو في الخطاب على قدر أفهام الناس لا على ما هو الأمر عليه، فإنه محال. فهؤلاء كذبو الله ورسله فيما نسبه إلى نفسه بحسن عبارة، كما يقول الإنسان إذا تأدب مع شخص حدثه بحديث يرى في نظره أنه ليس كما قال، فلا يقول له كذبت، وإنما يقول له صدق سيدي، ولكن ما هو الأمر على هذا، فهو يكذبه ويجهله بحسن عبارة. وصنف منهم يقول ليس المراد بهذا الخطاب إلاّ كذا وكذا، ما المراد منه ما تفهمه العامة، وهذا موجود في اللسان العربي الذي جاء به الرسول، فهؤلاء متحكمون على الله بقولهم هو المفهوم من اللسان، فهؤلاء ما عبدوا إلا الإله الذي ربطت عليه عقولهم وقيدته وحصرته. وصنف منهم يقول نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى، حتى نكون في هذا في حكم من لم يسمع به، ونبقى على الله بحسن عبارة. وصنف منهم قال نؤمن بها اللفظ على حدّ علم الله فيه وعلم رسوله. فهؤلاء قالوا أن الله خاطبنا عبثاً، لأنّه خاطبنا بما ل نفهم وهؤلاء كلهم مسلمون. ولقد كذب من نسب هذا الأخيرإلى السلف الصالح.وإنّم السلف الصالح قالوا: ما خاطبنا الحق إلا بما نعرف ونفهم، ولكن لما جهلنا الذات جهلنا نسبة هذه الأشياء إليها. لا يقال أن الطائفة العلية كذلك أوّلت كما قالوا في قوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، المراد باليدين أسماء الجلال والجمال ونحو هذ مما ورد عنهم، لأناّ نقول: الطائفة العلية معلمهم الله كما قال:﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾[ البقرة: 2/ 282].

وقال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾[ الكهف: 18/65].

فما قالوا ذلك نظراً وتفكراً، وإنما القائل تعالى هو المفسر والمبين لهم مراده بما قال.

فما قالوا ذلك نظراً وتفكراً، وإنما القائل تعالى هو المفسر والمبين لهم مراده بما قال.

تنبيهان

الأول: ليس من علم الفكر المذموم النظر فيما يتعلق بتوحيد الله ودقائقه، إنما المذموم هوالكلام في ماهية الذات، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾[ محمد: 47/19].

الذنب هنا ما يخطر من معرفة الذات والحقيقة التي هي مجهولة في الدارين، فلا يلتبس عليك الأمر فتنهي عن قراءة عقائد الصوفية وغيرهم من أهل السنة. بل انظر في عقائد سائر الخلق وابحث عن منزع كل اعتقاد لتعرف مستنده من الأسماء الإلهية، وتعرف الحجاب الذي أعمى صاحبه عن الطريقة المثلى، طريقة النجاة. قال الإمام الجيلي رضي الله عنه : بلغني عن شيخي إبراهيم الجبرتي أنه قال لبعض تلامذته: عليك بمطالعة كتب ابن العربين فقال له التلميذ: يا سيدي، إن رأيت أن أصبر حتى يفتح الله به عليّ من حيث الفيض! فقال له الشيخ: إن الذي تريد أن تصبر له هو عين ما ذكره الشيخ في هذه الكتب. قال لأن المريد قد ينال بمسألة من مسائل علمنا هذا ما لا يناله بمجاهدة في هذه الكتب. قال لأن المريد قد ينال بمسألة من مسائل علمنا هذا ما لا يناله بمجاهدة خمسين سنة، وذلك أن السالك إنما ينال ثمرة سلوكه، والعلوم التي وضعها الكمّل من أهل الله تعالى في كتبهم هي ثمرة سلوكهم وأعمالهم الخالصة. وكم بين ثمرة عمل معلول وثمرة عمل مخلص، بل علومهم من وراء ثمرات الأعمال، لأنها بالفيض الإلهي الوارد عليهم على قد قوابلهم. وكم بين قابلية الكامل وقابلية المريد، فإذا فهم المريد ما قصدوه من تلك المسألة استوى هو والمصنف في تلك المسألة. فالآخذ لها من الكتب إذا فهمها وميزها يصير كالآخذ من المعدن الذي أخذ منه مصنفها إذا كان ذا قلب ذكي وإيمان قوي. فإنه يأخذ من مطالعة كتب الحقائق كل مأخذ. قال: وقد رأينا في زماننا طوائف من العرب والعجم بلغوا بمطالعة كتب الحقائق مبلغ الرجال، فمن أضاف بعد ذلك إلى علمه فضلة سلوك كان من الكمل، ومن وقف مع علمه كان من العارفين.

التنبيه الثاني: ما ورد عن السلف وأئمة الهدى ومحققي الصوفية من كراهة التأويل والنهي عنه إنَّمَا هو في حق م نكمل إيمانهم بما أخبرت به الرسل من العلماء العقلاء. وأما من ليس بعالم ولا عاقل فيجب ستر السر الإلهي عنه بالتأويل، لأن كشف ذلك السر ربما يؤدي إلى عدم احترام الجناب الإلهي الأعز الأحمى. فإنه تعالى أوّل لعبده لما استنكر قوله: « جعت فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني» . الحديث بطوله

تتميم

كل ما ورد في الكتاب والسنة م نذكر العين واليد والجنب والأصابع والهرولة والضحك ونحوها، لا يقتضي شيء منها تشبيها، إنما التشبيه يكون بلفظة (مثل) أو (كاف) الصفة، وما عدا هذين الأمرين فإنما هي ألفاظ اشتراك، فتنسب إلى كل ذات م تقتضيه حقيقة تلك الذات، ولكمال إيمان الصحابة - رضوان الله عليهم - ولكمال معرفتهم ما نقل عنهم أنهم استشكلوا هذه الأشياء التي أنكرها أهل النظر من المتكلمين، ولا سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم علموا أن الله خاطبنا بلسان عربي مبين، فما خاطبنا إلاّ لنعرف ونفهم. ولكن لما جهلنا الذات العلية جهلنا نسبة هذه الأشياء إليها. فهؤلاء المؤمنون الكاملون الذين قلدوا الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من غير توقف ولا تردد علموا أنه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[ الشورى: 42/11].

وعلموا أنه السميع البصير، فنزهوا الله بتنزيهه وشبهوه بتشبيهه، فإيمانهم أعصم وأوثق. فمن أخذ إيمانه من الأدلة العقلية لما يتطرق إليها فلا يثبت له ساق ولا قدم يعتمد عليه، وهؤلاء المؤمنون هم المرادون بقوله: « أو ألقى السمع » لم وردت به الإخبارات الإلهية على السنة الرسل، وهو يعني هذا الذي (ألقى السمع) بعد قوله:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾[ ق: 50/37].

بمعنى مشاهد، فما هو من أهل التجلّي الخاص أصحاب القلوب أخل الرؤية. ولهذا قال موسى عليه السلام : ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾[ الأعراف:7/ 143] .

فإنه تعالى كان مشهوداً له لايغيب عنه. فالشهود أعم من الرؤية، فإن الشهود ما يمسكه الإنسان من شاهد الحق الذي اعتقده وربط قلبه عليه، فالشهود لا بد أن يتقدمه علم أو اعتقاد بالمشهود، إذ لا يشهد الإنسان إلاّ ماعلم أو اعتقد. فلهذ يكون في الشهود الإقرار والإنكار ولا يكون في الرؤية إلا الإقرار. فإنه المشاهد إذا رأى مشهوده على غير الصورة التي علمها أو اعتقدها، وقيده بها أنكره. فقوله «وهو شهيد» ينبه تعالى على حضرة الخيال المطلق والمقيد، وهي الحضرة التي بين المعاني والمحسوسات إذا تنزلت إليها المعاني جسدتها، وإذا صعدت إليه الأجسام لطفتها، فهي تلطف الكثيف المطلق والمقيد، وتكثف اللطيف المطلق والمقيد، فحضرة الخيال أوسع الحضرات. وكما ينبّه تعالى بقوله: «شهيد» على حضرة الخيال وعلمها كذلك ينبه على طلب استعمالها والترغيب فيها كما قال تعالى:﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾[ يونس:10/26].

ودليل التنبيه على حضرة الخيال وطلب استعمالها في العبادات لمن لم يكن من أهل القلوب المكاشفين بالغيوب، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح جواباً لسؤال جبريل عليه السلام حين سأله: ما الإحسان؟ قال له: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».

فالمحسن هوالذي يعبد الله ويطيعه في ما أمر ونهي، مشاهداً له ومصوراً حسب اعتقاده في الله وعلمه. فإنه تعالى إنّما نهى عباده أن يتخذوا له صورة محسوسة، كما يفعل عبدة الأصنام والأوثان. وأما الصورة المتخيلة فقد أذن فيها، بل رغب وأمر بالحضور مع المعبود في العبادة. فحضرة الخيال يظهر فيها وجود المحال. فإن الله ل يقبل الصور، وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة كما قبلها في تجليه يوم القيامة في صور المعتقدات. فقد قبل المحال عقلاً الوجود. فالشهود، وهو ما يمسكه المشاهد في نفسه من شاهد الحق، هو المشار إليه بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه» وفي ذلك إدخال الحق في حكم الخيال. فقوله « كأنك تراه» هوالشهود بالقلب، وماهو برؤية. وهذه درجة التعليم، ثم يرتقي من هذه الدرجة إلى درجة الخصوص، وهي كون الحق يراك ولا تراه، وذلك أنك إذا ضبطت شهوده في قلبك فقد أخليت شهودك عن بقية الوجود المحيط بك، وإذا تحققت ذلك عرفت عجزك عن رؤيته بتقييدك أو إطلاقه وضيقك وسعته. وحينئذ تبقى مع نظره المحقق إليك، لأن نظرك يقيده ويحدده، فلولا الأمر بتخييل الحق للأصاغر في عبادتهم ما تأدبوا معه. وأما الأكابر فلا يحتاجون إلى التخيل، وإن كان من الأكابر من يقول: أنا على ما أنا عليه من التخيل، حيث جعل الله لي قوة التخيل. ودليل آخر من السنة على التنبيه على حضرة الخيال قوله صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح: ((أن الله في قبلة المصلى)) وفي رواية البخاري ((إن ربّه بينه وبين القبلة)).

فدل على أن بذلك الصورة التي يتخيل إلهه عليها، فهو يشاهدها في قبلته، وهي الله تعالى لا غيره. فإنه الظاهر بتلك الصورةالتي يعتقد المصلي أن إلهه عليها. ولا يلزم من هذا الشهود أن يكون الحق محصوراً عند مشاهد دون غيره من المشاهدين لصور اعتقاداتهم، بل هو تعالى عند كل مشاهد للصورة التي تخيل إلهه عليها. فلذلك كان المتخيل للصورة التي اعتقدها في صلاته وسائر عباداته هو شهيد، فعيل بمعنى فاعل. وأما من قلد من المقلدة صاحب نظر فكري ودليل عقلي وتقيد بتقليده من جميع الناظرين بعقولهم، وهم المنزهة القائلون بالتنزيه المحض، فليس هو الذي « ألقى السمع» وأصغى لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنّ الناظرين بعقولهم لا يقبلون ما أخبرت به الأنبياء إلا إذا وافق عقولهم، فإذا لم يوافق عقولهم أوّلوه، فإذا لم يجدوا له تأويلاً ردوه وكذبوه. ومن جملة ذلك تخيل الحق في صورة متخيلة، فإنهم يكفرون من يقول بهذا ويعتقده ويزندقونه ويستحلون دمه، وهو يعاين ربه، لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن المست، واجتماعه ظاهراً وباطناً على الاعتناء بتميمها على أحسن الوجوه. ويقول في حديث: « إن الله في قبلة المصلى» تأويله أنه يجب على المصلى إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم لوجهه. ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن يتنخم في توجهه إلى رب الأرباب، وقد أعلمه بإقباله على من توجه إليه، فليس المتأول ومن قلده ممن « ألقى السمع». ولهذا الحق بأصحاب القلوب. فلا بد من أن يكون من «ألقى السمع». شهيداً مشاهداً لما ذكرناه من تخيل العابد معبوده. ومتى لم يكن شهيداً لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية، وهي قوله:﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.

فهؤلائك النظار بأفكارهم ومن قلدهم من المؤمنين فيما أنتجته أفكارهم هم الذين قال الله في حقهم من طريق الإشارة.

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا﴾[ البقرة: 2/166- 167].

فالآية وإن كانت واردة في الكفار فهي تجر ذيلها على ناقص الإيمان من ناظر ومقلّد له وإنما قال: «فهؤلائك». بالإشارة إلى البعيد، لأن النظار في الذات والمتأولين للأخبار الآلهية ومقلديهم فإنهم ينادون من مكان بعيد، بخلاف أهل التجلّي الإلهي من رسول ونبي وولي ومقلديهم فإنهم ينادون من مكان بعيد، بخلاف أهل الرسل فلا يتبرءون من أتباعهم الذين اتبعوهم وقلدوهم، ولا أتباعهم يقولون ما قالو أتباع غيرهم، بل أتباع الرسل وورثتهم يزيدون محبة وغبطة فيهم لما ينكشف الغطاء، فإنهم جاؤوهم بالعلم اليقين في الدنيا، وهو الذي انكشف لهم في الآخرة فصار عين اليقين.

قول سيدنا: ( فحقّق يا ولي ما ذكرته لك في الحكمة القلبية).

يقول رضي الله عنه آمراً وليه بالتحقيق بهذه الحكمة القلبية. والتحقق هو رجوع الشيء إلى الحقيقة بحيث لا يشوبه شبهة، وهو المبالغة في إثبات حقيقة الشيء بالوقوف عليه. والولي القريب، والولي الناصر، والولي ضد العدو، وكل من يغار لك فهو ولي. وما قصد ولياً مخصوصاً بالأمر بالتحقق، بل كل من كانت فيه صفة من هذه الصفات فهو وليه. وإنّما نسبت هذه الحكمة إلى القلب لأن جميع مسائلها متعلقة بالقلب من سعته والتنظير بين وبين رحمة الله تعالى وتجلّي الحق تعالى له حسب استعداده الأزلي والعرضي وسعته وضيقه حسب صورة التجلي وتنوع الاعتقادات. وكله راجعة إلى القلب، فإنه محل هذه الأشياء كلها.

قول سيدنا: (وأما اختصاصها بشعيب فلما فيها من الشعب أي شعبها ل تنحصر، لأن كل اعتقاد شعبة فهي شعب كلها، أعني الاعتقادات فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم، وهو قوله:﴿ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾[الزمر: 39/47].

فأكثرها في الحكم، فالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذ مات علىغير توبة. فإذا مات وكان مرحوماً عند الله قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب وجد الله غفوراً رحيماً، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب.

يقول رضي الله عنه أن الحكمة في اختصاصها في هذه الحكمة « القلبية بالكلمة الشعيبية» دون سائر الأنبياء - على جميعهم الصلاة والسلام - والكل لهم قلوب كاملة، فلما في هذه الحكمة القلبية من الشعب، جمع شعبة ( بالكسر) وهي الطرق في الجبل، وكان اختصاصها بشعيب لمناسبة الاشتقاق فالحضرة الجامعة بمثابة الجبل العظيم الشامخ، والأسماء الإلهية التي هي منشأ تكثر الاعتقادات، بمثابة الشعب التي لا تنحصر، فكما أن الأسماء الإلهية لا تنحصر، كذلك الاعتقادات لا تنحصر، لأن كل اعتقاد من كل مخلوق أثر اسم من الأسماء الإلهية يتجلّى به الحق على ذلك المخلوق، فهو شعبة في الحضرة الجامعة للاعتقادات، فالاعتقادات هي شعب كلها. فإذا انكشف وزال الغطاء الحاجب للأمور المغيبة انكشف الحق تعالى لكل أحد من أصحاب الاعتقادات المقيدة والمطلقة حسب معتقده. وقد ينكشف الغطاء لبعض المعتقدين بخلاف معتقده في الحكم والهوية بأن يحكم على الذات الهوية بأنه كذا جوهراً وعرضاً، أو لا جوهر ول عرض أو نحو هذا. وانكشاف الغطاء بخلاف المعتقد في الحكم والهوية هو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾[ الزمر:39/47].

يظنون ويعتقدون، فإن الحكم على الله بشيء لم يحكن به على نفسه بإثبات أو نفي ظن وتخمين، والظن أكذب الحديث كما ورد؛ وإن كان هذا المعتقد بظن أنه ظنه علم فما هو بعلم، وإنما هو جهل مركب، وهو أشد من الجهل البسيط. وانكشاف الغطاء بخلاف المعتقدات أكثره في الحكم على الله بإثبات شيء له أو نفي شيء عنه. إذ الحكم إثبات شيء لشيء أو نفي شيء عن شيء، كالمعتزلي منسوب إلى طائفة المعتزلة. وأول من تسمى بهذا الاسم واصل بن عطاء الغزال، كان يجلس في مجلس الحسن البصري رضي الله عنه ثم اعتزله، فهو يعتقد ويحكم على الله تعالى انه لايرى يوم القيامة. فهذا حكم على الله بنفي الرؤية له تعالى. وكذلك يعتقد المعتزلي في الله تعالى ويحكم عليه بنفوذ الوعيد بالعذاب والانتقام من المؤمن العاصي بارتكاب الكبائر، إذا مات على غير توبة. فإذا مات المؤمن العاصي بارتكاب الكبائر على غير توبة وكان مرحوماً عند الله غير مؤاخذ بما ارتكب قد سبقت له عناية. والعناية هي العلم الأزلي بأن علمه تعالى أزلا بأنه لا يعاقب ولو مات على غير توبة. فإنه ورد في الحديث النبوي أنه تعالى قبض قبضة من يمينه وقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، يعني بما عملوه من شرّ، وقبض قبضة من شماله وقال هؤلاء إلى النار ولا أبالي، يعني بما عملوه من خير. ولهذا كانت عقيدة أهل السنة أن المؤمن العاصي بارتكاب الكبائر إذا مات على غير توبة أنه في المشيئة. فإذا مات المعتزلي وكان يوم القيامة وانكشف الغطاء عن المعتزلي وجد الله غفوراً رحيماً ببعض مرتكبي الكبائر، ولو مات على غير توبة. فبد له من الله خلاف معتقده وانكشف عنه الغطاء بما لم يكن يحتسبه ويظنه. هذا مثال من انكشف عنه الغطاء، بخلاف المعتقد في الحكم بالإثبات في نفوذ الوعيد في المؤمن العاصي إذا مات من غير توبة.

قول سيدنا: (وأمّا الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده بأن الله كذ وكذا، فإذا انكشف عنه الغطاء رأى صورة معتقدة وهي حق فاعتقدها. وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علماً بالمشاهدة. وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلّي في الصور عند الرؤية لأنه لا يتكرر، فيصدق عليه بالهوية: «وبدا لهم من الله» في هويته «ما لم يكونوا يحتسبون» فيها قبل كشف الغطاء).

يقول رضي الله عنه قد ذكرنا أن كشف الغطاء يكون كشفه لكل أحد حسب اعتقاده، وقد ينكشف بخلاف المعتقد، وأكثره في الحكم في أفعاله تعالى، وقدتقدم مثاله. وأما انكشاف الغطاء بخلاف المعتقد في الحكم في الهوية الذات الغيب المغيب المطلق الذي لا يعلم لمخلوق في الدنيا ولا في الآخرة، لا لملك مقرب ولا لرسول مرسل، فكل عارف محجوب عن شهود الهوية، فلا يزال الحق غير معلوم من حيث الهوية، ل شهوداً ولا ذوقاً، وما بقي إلاّ التجلّي في المظاهر. وتلك إنماهي جسور يعبر عليها، أي يعلم أن وراء هذه الصور أمراً لا يصحُّ أن يشهد، ولا أن يعلم. وليس وراء هذ المعلوم الذي لا يشهد، ولا أن يعلم. وليس وراء هذا المعلوم الذي لا يشهد ولا يعلم حقيقة ما يعلم أصلاً.

يقول سيدنا:

فالعلم بالله عين الجهل فيه به

 

والجهل بالله عين العلم فاعتبرو

ويقول أيضاً:

فما العلم إلاّ الجهل فاعتصم

بقولي فإني عن قريب أسافر

ومالي مال غير علمي ووارث

 

سوى عين أولادي فذا المال حاضر

« تفكروا في آلاء الله ول تتفكروا في ذاته» ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن الله احتجب عن العقول كم احتجب عن الأبصار)) .

ومع هذا فما سلم أحد من التفكر في ذات الله تعالى إلا الرسل - عليهم الصلاة والسلام-. فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله بفكره. فمنهم يقول أنه جوهر، ومنهم من يقول أنه ليس بجوهر، ومنهم من يقول أنه ليس في جهة، والكل المخطئون، لا المثبت ولا النافي. قال الشيخ الأكبر - ليس عندنا للغزالي زلة أكبرمن هذه الزلة، فإنه تكلم في ذات الله تعالى من حيث النظر الفكري في كتابه "المضنون به على غير أهله" وفي غير المضمون، فأخطأ بكل ما قاله وم أصاب. فجاء هو وأمثاله من المتصوفة بأقصى غاية الجهل، فإذا انكشف الغطاء بالموت او القيامة عن بعض من يعتقد من العباد أن الله كذا وكذا، وليس كذا ولا كذا، ويحكم على الله بذلك من حيث الهوية، ورأى صورة معتقده الذي كان يعتقده في الله في الحياة الدنيا، وهي صورة حق، فماهي بغي رللحق تعالى ، فإنه سبحانه وسع اعتقاده كل مخلوق في صورة أنها الله فاعتقدها، ونسب الألوهية إليها، فإنه تعالى هوالذي تجلىلذلك المخلوق باسم إلهي في تلك الصور، فما كان الخطأ إلا في حصر الإله وتقييده بتلك الصورة، ويخطئ كل معتقد غيره في اعتقاده، فإذا كان هذا البعض من العباد الذين يجزمون في اعتقادهم أن الله كذا وكذا، ولايكون كذا وكذا ممن سبقت له العناية الإلهية، وانكشف عنه الغطاء في ثاني حال بخلاف معتقده، وانحلت العقدة التي كانت تحكم على الله بالتقييد والحصر في صورة معتقده لا غيره، فزال الاعتقاد والجزم بأن الله يكون كذا وكذا لاغير. إذ حقيقية الاعتقاد في المشهود هو الحكم الجازم المقابل للتشكيك. وقيل: هوالتصور مع الحكم، فلما انحلت العقدة وزال الاعتقاد الأول الذي كان يحصر الحق ويقيده، وخالفته المشاهدة بالأمر على ما هو عليه من إطلاق الحق تعالى وعدم تقييده، عاد الاعتقاد يحصر الحق علماً بإطلاقه وعدم تقييده بسبب المشاهدة التي انكشف الأمر بها على ما هو عليه. فالمعتزلي جزم في اعتقاده أن الله لا يعرف ولا يرى في الآخرة، فهو إن جُزي باعتقاده هذا لا يعرف الله ولا يراه، وإن لم يجازه باعتقاده وانكشف له الغطاء، بخلاف ما يعتقده في ثاني حال، فإنه يراه ويعلم أنه هو ضرورة. وبعد احتداد البصر ونفوذه في المدركات البصرية في الدنيا لمن شاء الله وفي الآخرة لزوال المانع للأبصار لا يرجع محتد البصر كليل النظر متباعداً عن المقصود، يقال كلّ بصري كلا، إذا أعياه النظر إلى المقصود، فإذا انكشف الغطاء بخلاف المعتقد لبعض العباد المعتنى بهم فلا بد أن يبدو له ما لم يكن يحتسب بسبب اختلاف التجلي في الصور المتعددة المختلفة عند الرؤية بعين البصر ولا يتكرر التجلي في الصور أبداً، لا في الدنيا وفي الآخرة، فإنّ كل صورة من صورة التجلي هو مظهر لاسم خاص بها. والأسماء الإلهية لا تكرار فيها، بل كل اسم يختص بمعنى وإن تقاربت الأسماء وتشابهت فالعارف يعرف التجلّي ويدرك الفرق بين صور التجلّي، فهو يعرف من تتجلّى ولما تجلّى ، ويختص الحق بكيف تتجلّى، لا يعلم ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، لأن الهوية مجهولة، فكيفية تتجليها في المظاهر الصورية غير حاصل لأحد. فهذا الذي سبقت له العناية وانكشف عنه الغطاء، بخلاف معتقده، عاد بصره حديداً نافذاً في صور التجلي غير كليل النظر، فيصدق عليه في الهوية عند رؤية تجليها في الصور، وبدا لهم من إطلاق الهوية وتجليها بكل صورة مالم يكونوا يحتسبون فيها من الإطرق وعدم التقييد والحصر بصورة اعتقاد دون غيرها قبل كشف الغطاء بخلاف المعتقد.

قول سيدنا: (وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لناعندت ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في لاكشف وما افدناهم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم).

يقول رضي الله عنه : قد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية، حيث كان العلم لا يتقيد بوقت ولا بمكان ولا بنشأة ولا بحالة ولا مقام، في كتاب التجليات لنا وهو كتاب لو كتب بماء العيون كان قليلاً في حقه، وهو أحق بقول القائل:

هذا كتاب لو يباع بوزنه

ذهبا لكان البائع المغبون

ذكر فيه سبعة وتسعين تجلياً، اودع فيها من الحقائق والعلوم الإلهية م لا يصدر إلاّ منه، ولا أقول لا يصدر إلاّ من مثله، فافهم.وذكر فيه من اجتمع به من الطائفة العلية أهل الله المشهورون بالمعارف الإلهية في أزمنتهم، اجتمع بهم في الكشف لأن أرواح الكمّل في البرزخ غير مقيدة كأرواح غيرهم، فإذا توجه الكامل إلى روح من أرواح الكمل أو غيرهم اجتمع به اجتماعاً روحانياً محققاً أحق من اجتماع الأجسام وقد عنّ لي أن أذكر بعض من اجتمع به سيدنا من الكمّل بعد الموت، وما جرى بينه وبينهم، وما أفادهم، تتميماً للفائدة، ولتعلم منزلة سيدنا عندالله ومرتبته وتقدمه بين أولياء الله، وأنّ نفوس الطالبين لهذا العلم تتشوق إلى الإطلاع على ذلك. وقد أعرب رضي الله عنه وتقدمه على الأولياء - رضي الله عنهم - تحدُّثاً بنعمة الله بقوله:

ليس من لوّح بالوصل له

 

كالذي سير به حتى وصل

لا ولا الوصل عندي مثل من

قرع الباب وللدار دخل

لا ولا الداخل عندي كالذي

 

سارروه وهو للسر محل

لا ولا من سارروه كالذي

صار إياهم فدع عنك العلل

فأما اجتماعه بالشبلي رضي الله عنه وكان الشبلي توفي .....، فقد قال رضي الله عنه في تجل ثقل التوحيد: الموحد من جميع الوجوه لا يصح أن يكون خليفة مأمور بحمل أثقال المملكة كلها، والتوحيد يفرده إليه ولا يترك فيها متسعاً لغيره. وقلت للشبليّ في هذا التجلي: يا شبلي التوحيد يجمع والخلافة تفرق. فالموحد لا يكون خليفة مع حضوره في توحيده. فقال لي: هل لذلك علامة؟ قلت: نعم. قال لي: ماهي؟ قلت: قل فقد قلت. فقال لي: ألاّيعلم شيئاً ولا يريد شيئاً ولا يقدر على شيء، حتى لو سئل عن التفرقة بين يده ورجله لم يدر، ولو سئل عن أكله وهو يأكل لم يدر أنه أكل، وحتى لو أراد أنيرفع لقمة لم يستطع ذلك لوهنه وعدم قدرته. فقبلته وانصرفت. قال الشيخ نفسه في شرحه لهذا التجلي كمانقله عنه تلميذ إسماعيل بن سودكين قال تعالى:﴿إِنَّ سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾[ المزمل:73/5].

ومن وجوه معاني ذلك أن يؤمر بالتوحيد مع كونه لا ينال حقيقته، فلايبق الطلب إلا للتوحيد الذي يدرك وينال، وهو توحيد الألوهية، وفيه تتنوع الأشياء، وإذ تنوعت عليه المطالب تكثرت وثقلت عليه لكونها تخالف مقصوده الذي هوالتوحيد. والموحد من جميع الوجوه لا يصح أن يكون خليفة، لأن المستخلفين يطلبونه بوجوه كثيرة وأحكام متعددة. قال جامع هذا الشرح الشيخ إسماعيل: وأما سكوت شيخنا على الشبلّي عند سؤاله إياه فما هي ؟! وقول الشيخ له قل لفقد قلت. أراد شيخنا به قول الحقائق، وهو لسان السكوت في مواطن السكوت، فيكون السكوت في موطنه عين الجواب، أي ما يقابل التوحيد إلا العدم الذي توجهت الإشارة إليه بالسكوت. فأخذ الشبلي يعبّر عن إشارة الشيخ بسكتة عندما تحقق بلسان الإشارة، فرضي الشيخ له بالتحقيق في ذلك المقام وقبّله في فيه.

وأما اجتماعه بمنصور الحلاج - رضي الله عنهما - وقد صلب الحلاج سنة 309هـ فقال رضي الله عنه في تجلي العِلّة: رأيت الحلاج في هذا التجلي فقلت له: ي حلاج، هل تصح عندك علّية له؟ وأشرت فتبسم. فقال: تريد قول القائل: ياعلّم العلل، ي قديماً لم يزل. فقلت: نعم. فقال: هذه قولة جاهل، اعلم أن الله خلق العلل وليس بعلة، كيف يقبل العلية من كانولا شيء، وأوجد من لا شيء، وهو الآن كما كان ولا شيء، - جل وتعالى - لو كان علة لاربتط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال، تعالى الله عم يقول الظالمون علواً كبيراً. قلت: هكذا أعرفه، قال: هكذا ينبغي أن يُعرف، فاثبت، قلت: لِمَ تركت بيتك يخرب؟ فتبسم وقال: لما استطالت عليه أيدي الأكوان حين أخليته فأفنيت ثم أفنيت ثم أفنيت، فأخلفت هارون في قومي فاستضعفوه لغيبتي فأجمعوا على تخريبه، فلما هدوا من قواعده ما هدوا وأرددت إليه بعد الفناء فأشرفت عليه وقد حلت به المثلات، فأنفت نفسي أن أعمر بيتاً تحكمت به أيدي الأكوان، فقبضت فيضي عنه، فقيل مات الحلاج، والحلاج ما مات، ولكن البيت خرب والساكن ارتحل. فقلت له: عندي ما تكون به مدحوض الحجة. فأطرق، وقال:﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[يوسف: 12/76].

لا تعرض، فالحق بيدك، وذلك غاية وسعى، فتركه وانصرفت. قال الشيخ في شرحه لهذا التجلي: لما اجتمعتُ بالحلاج - رحمه الله - وسألته عن العِلِّيَةِ هل تصحّ عنده أم لا؟ فقال: هي قَوْلَةُ جاهِلٍ، يعنى أرسطو؟ ثمّ نزّه تنزيهاً حسناً فقلت عندت سماعي بتنزيهه: هكذا أعرفه! فقال هكذا ينبغي أن تعرف، فاثبت. فينبغي للمتناظِرَيْنِ إذا ادّعى أحدهما القوة في أمر ما أن يُدْخِلَ عليه الآخر، في ذلك المقام، شُبهة لا يعلمها فيفضحه في دعواه من نفسه ويربح حينئذ مؤنة التعب؟ ولمّ قال الحلاج للشيخ:اثبت ولم يكن مقام يقتضي له هذا القول للشيخ، قال له: لِمَ تركت بيتك يخرب؟ فتبسم عند سماعه إشارة الشيخ وأجاب بما لا يطابق مقصود الشيخ وإشارته. فقال له الشيخ حينئذ، لمّا كفاه مؤنة نفسه بجوابه: عندي ما تكون به مدحوض الحجة فعرف حينئذ الإشارة وعرف ما كان حَصَلَ منه، فأطرق.

وأما اجتماعه بأبي قاسم الجنيد - رضي الله عنهما - وقد توفي الجنيد سنة إحدى وتسعين ومائتين. فقال في تجلي بحر التوحيد: للتوحيد لجة وساحل، فالساحل ينقال واللجة لا تنقال. والساحل يعلم واللجة تذاق. وفقت على ساحل هذه اللجة ورميت ثوبي وتوسطتها فاختلفت عليّ الأمواج بالتقابل ومنعتني من السباحة فبقيت واقفاً بها ل بنفسي، فرأيت الجنيد فعاقته وقبّلته، فرحب بي وسهّل، فقلت: متى عهدك بك؟ فقال لي: مذ توسطت هذه اللجة نسيتني فنسيت الأمد. فعانقني وعانقته وغرقنا، فمتنا موتة الأبد، فلا نرجو حياة و لا نشوراً. قال الشيخ في شرحه لهذا التجلي: ساحل التوحيد هو توحيد الدليل، وهوالذي ينقال. وتوحيد الذات هو اللجة، هوالذي لا ينقال. قوله: (ورميت ثوبي) أي تجردي عن هيكلي وبقيت مع اللطيفة، فتوسطت اللجة، أي طلبت الذات، وهو توحيد العين. وقوله: (لقيت الجنيد) أي له مشاركة في هذا المقام، وإذا كان فيه فقد تجرد عن هيكله كما تجردت. فقلت له: متى عهدك بك؟ أي متى تجردت عن هيكلك، قال: مذ توسطت هذه اللجة نسيتني فنسيت الأمد. وذلك أن الأمد إنما يجري على الهيكل الذي هو ميزان الأزمان، فلا يعرف الأمد الآن. وقول الشيخ: (فعانقني وعانقته وغرقنا فمتن موتة الأبد). الموت ها هنا حياة الأبد، أي متنا على توحيد الدليل، فلا يجيء من خلف لأحدية أعياننا فمحال أن نرجع إلى توحد الدليل، فلهذا قلنا لا نرجو حياة ول نشوراً.

وقال رضي الله عنه في تجلي المناظرة: لله عبيداً أحضرهم الحق تعالى فيه ثم أزالهم بما أحضرهم، فكان الحضور عين الغيبة، والغيبة عين الحضور، والبعد عين القرب، والقرب عين البعد. وهذا مقام اتحاد الأحوال. واجتمعت بالجنيد في هذ المقام، وقال لي: المعنى واحد. فقلت له: لا ترسله، بل ذلك من وجه، فإن الإطلاق فيه يناقض الحقائق. فقال: غيبته شهوده وشهوده غيبته. فقلت له: الشاهد شاهد أبداً، وغيبته إضافة، فانصرف وهو يقول: الغيب غائب في الغيب. وكنت وقت اجتماعي به في هذا المقام قريب عهد بسقيط الرفرف بن ساقط العرش، في بيت من بيوت الله تعالى وفي هذ المشهد يجتمع الضدان لأنه أزالهم بما به أحضرهم من الوجه الذي أحضرهم. وإذا تحقق العبد بذوق هذا التجلّي حكم على الحق -تعالى - في كونه ظاهراً، وهو باطن من ذلك الوجه الذي هو به ظاهر، وكذلك حكم كونه أول من الوجه الذي هو آخر، لا من وجهين مختلفين ولا بنسبتين، وليس للعقل في هذا المشهد مجال. وكذلك يعلم المحقق بعد هذ المشهد كيف تضاف النسب إلى الله تعالى من عين واحدة، لا في الوجوه المختلفة التي يحكم بها العقل في طوره. وهذا المشهد من مشاهد الطور الذي وراء الطور العقلي. وهذا المشهد هو مقام اتحاد الأحوال. واجتمعت فيه بالجنيد - رحمه الله تعالى - قال لي: المعنى واحد. فقلت له: في هذا المقام خاصة، لا في كل مقام، فلا ترسله مطلقاً يا جنيد، فالظاهر والباطن من حيث الحق واحد. وأمامن حيث الخلق فلا، فإن نسبة الظاهر من الحق إلى الخلق غير نسبة الباطن فلهذا دليلان مختلفان بالنظر إلى الخلق. فلا يقال فيهما أنهما أحد في كل مرتبة، فلهذا قلنا لا ترسله. فقال الجنيد: غيبته شهوده. فقلت له: الشاهد شاهد أبداً، وغيبته إضافة، والغيب غيب لا شهود فيه فشهود الحق تعالى إنما هو من غيبته الإضافي، وأما الغيب المحقق فلا شهود فيه أبداً فهوالغيب المطلق، ولو غاب عن الله تعالى لغابت نفسه. ولكن لا يصح أن يغيب عنه شيء، فهو سبحانه يشهد نفسه لا كشهودنا، فإنّ الشهود والحجاب وجميع الأحكام في حقن نسب وإضافات وأحكام مختلفة. وهوسبحانه إحدى الذات ليس فيه سواه ولا في سواه شيء منه، وإنما هذه ألسنة التعريف يطلبها العارفون للتوصيل والتقريب والتأنيس والتشويق وقوله: (لاتدركه الإدراك عن الأبصار التي هي إمام العقل، لأنّ العقل تلميذ بين يدي الحس عند المحققين. فلما انتفى الإدراك عن البصر الذي هو الوصف الأخص كان العقل أبعد إدراكاً وأبعد إلى آخر ما قال. فقد طال في شرحه لهذا التجلي.

وقال في تجلي توحد الربوبية: رأيت الجنيد في هذا التجلي فقلت له: ي أبا القاسم، كيف تقول في التوحيد: يتميز العبد من الرب، وأين تكون أنت عند هذ التمييز؟ لا يصح أن تكون عبداً ولا أن تكون رباً، فلا بد أن تكون في بينونة تقتضي الاستشراف و العلم بالمقامين مع تجردك عنهما. فخجل وأطرق، فقلت له: لا تطرق، نعم السّلف كنتم لنا، ونعم الخلف كنا لكم، الحظ الألوهية من هنالك تعرف ما أقول، للألوهية توحد وللربوبية توحيد يا أبا القاسم، قيد توحيدك و لا تطلق، إن لكل اسم توحيداً وجمعاً، فقال: كيف بالتلافي وقد خرج عنا ما خرج، ونقل عنا ما نقل! فقلت له: ل تخف، من ترك مثلي بعده فما فقد، أنا النائب، وأنت أخي. فقبلته، فعلم ما لم يكن يعلم وانصرفت.

واجتماعه بذي النون المصري - رحمه الله - وقد توفي ذو النون سنة خمسة وأربعين ومائتين، وعاش تسعين سنة. فقال في تجلي سريان التوحيد: رأيت ذا النون المصري في هذا التجلي، وكان من أظرف الناس، فقلت له: يا ذا النون، عجيب من قولك وقول من قال بقولك: وأنّ الحق بخلاف ما يتصور ويتمثل ويتخيل، ثم غشى عليّ، ثم أفقت وأنا أرعد، ثم زفرت وقلت: كيف يكون عين الكون وقد كان ولا كون يا حبيبي يا ذ النون. وقلت له: أنا الشفيق عليك، لا تجعل معبودك عين ما تصورته، ولا تخفى م تصورته عنه و لاتحجبك الحيرة عن الحيرة. وقل ما قال فنفى وأثبت: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[ الشورى:42/11].

ليس هو عين ماتصور ولا يخلو ماتصور عنه. قال ذوالنون: هذا علم فاتني، وأن حبيس الآن، وقد برح عني، فمن لي به وقد قبضبت على ماقبضت!! فقلت: يا ذا النون م أريدك هكذا، مولانا وسيدنا يقول: ﴿ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾[الزمر:39/47].

والعلم لا يتقيد بوقت ولا بمكان ولا بنشأة ولا بحالة ولا بمقام. فقال: جزاك الله خيراً، فقد أبنت لي ما لم يكن عندي، وتحلت به ذاتي، وفتح لي باب الترقي بعد الموت، وما كان عندي منه خير، فجزاك الله خير!!.

قال الشيخ في شرحه لهذا التجلي: أما سريان التوحيد فهو قوله تعالى:﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[الإسراء:17/23].

وذلك أنه ماعبد حيث ماعبد في كل معبود إلا الإلهية. ورتب الله تكوين الأسباب عندها غيرة أن يكون جناب الإلهية مهتضماً، وكذلك دل الشريك لكونه واسطة إلى الله، فعبد عن نسبةالإلهية، فصاحب الشريك أكثف حجاباً وأكثر عذاباً لأنه أخطأ الطريقة المخصوصة بنسبة الإلهية إلى ما لم يؤمر بنسبته إليه، وأخطأ بإضافة الشريك الذي يقربه إلى الله زلفى. وقوله:«رأيت ذا النون في هذا التجلي» هو لقول ذي النون وغيره مهما تصور في قلبك وتخيل في ذهنك، فالله بخلاف ذلك. قال: وهذا الكلام مقبول من وجه، مردود من وجه، فرده من كونك أنت الذي تصوره في وهمك وتصنعه في تركيبك. وأم وجه قبوله فإنه إذا قام عندك ابتداء من غير تعمل له ولا تفكر فيه، فذلك تجل صحيح في عالم المثال، لا يصح أن ينكر ولا يرد. فاعلم أن جميع الأكوان على علم صحيح بالله تعالى فلا ينطق إلاّ من حقيقة، ولا يقع منها غلط أصلاً، ما عدا الإنسان فإنه كثير الغلط في الألوهية. فالصور مظاهر من مظاهر الحق تعالى فلا يصح أن يخلو منه كونه أصلاً، فإنه متى أخليت عنه الكون فقد حددته. ولا يصح أن يكون عين الكون فإنه تعالى قبل الكون كان ولا كون، وإذا عرفته من هذين الوجهين فهي معرفة الإطلاق التي لاحد فيها، فلا تحجبك الحيرة بحيث تقول قد حرت فيه فلا أعرفه، بل من شرط معرفته الحيرة فيه، فقل ما قال لما نفى وأثبت تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.

ثم ذهب ذو النون إلى أن الترقي منقطع، وذلك إنماهو الترقي في درجات الجنة خاصة. وأما الترقي في المعاني فدائم أبداً، فتعظيم جناب الحق دائم أبداً، فهي عبادة ذاتية عن تجل لا ينقطع ولا ينقطع مزيدها. وأما العبادة التكليفية فهي التي تنقطع بسقوط التكليف.

وأما اجتماعه بيوسف بن الحسين رضي الله عنه وقد مات يوسف بن الحسين، (بياض في الأصل) فقال رضي الله عنه في تجل ري التوحيد: لما غرقنا مع الجنيد في بحر التوحيد ومتنا لما شربنا فوق الطاقة، وجدنا عنده شخصاً كريماً فسلمنا عليه وسألن عنه، فقيل لنا هو يوسف بن الحسين. وكنت قد سمعت به فبادرت إليه وقبلته، وكان عطشاناً للتوحيد فروي فقلت له: تعال أُقَبِّلُك أخرى، فقال: رويت. فقلت له: وأين قولك: لا يروى طالب التوحيد إلا بالحق. وقد يروى الدون بما يسقيه من هو أعلا منه، ول ري لأحد، فاعلم. فتنبه يوسف وهفا إليّ، فاحتضنته ونصبت له معراج الترقي فيه الذي لا يعرفه كل عارف. والمعراج إليه ومنه حظهم لاغير. وأما نحن ومن شاهد ما شهدن فمعارجنا ثلاثة إليه ومنه وفيه، ثم ترجع فينا واحداً وهو فيه. فإن إليه فيه، ومنه فيه، فعين إليه ومنه فيه، فما ثم إلاّ فيه، وما يعرج فيه إلا به، فهو لا أنت. فتحقق هذا التجلي يا سامع الخطاب.

وأما اجتماعه بابن عطا الله - رضي الله عنهما - وقد توفي ابن عطاء الله سنة تسع وثلاثمائة، فقال في تجل من تجليات المعرفة: رأيت ابن عطاء الله في هذ التجلي، فقلت له: إن الجمل أعرف بالله منك، فإنه أجله من إجلالك، كما يطلبه الرأس من فوق تطلبه الرجل في التحت، فما تعدى الرجل ما تطلبه حقيقته، يا ابن عطاء، ماهذ منك بجميل. يقول إمامنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو دليتم بحبل لوقع على الله)).

فكان الجمل أعرف منك بالله، هلا سلمت لكل طالب ربه صورة طلبه، كما سلم لك؟! تب إلى الله يا ابن عطاء، فإنّ الجمل أستاذك. فقال الإقالة الإقالة. فقلت له: ارفع الهمة! فقال: مضى زمان رفع الهمة. فقلت له: للهمم رفع بالزمان وبغير الزمان زال الزمان فلا زمان، ارفع الهمة في الأزمان، فلا تنال ما نبهتك عله إلا بالترقي، فالترقي دائم أبداً. فتنبه ابن عطاء، وقال: بورك فيك من أستاذ. ثم فتح هذا الباب وترقي، فشاهد فحصل في ميزاني فأقر لي وانصرفت. قال الشيخ في شرح هذا التجلي: كل أحد يطلب الحق من حيث حقيقته، فالرأس يطلب الفوقية، والرجل تطلب التحتية، لأنها في حقها أفقها، وليس في العالم حركة إلا وهي طالبة للحق. فلما ساخت رجل جمل بن عطاء قال ابن عطاء: جل الله لكونه، لمح القاهر فوق عباده، ونزه الحق أن يطلب من السفل. فقال الجمل: جل الله، أي جل عن إجلالك، لأني طلبت الحق من حيث حقيقتي، وأفق رجلي هوالتحت، وأنت عارف فينبغي لك أن توف مراتب الطلب ولا تنكر ولا تحد من لايقبل مارتب الحج، وسلم لك طالب طلبه من سائر الطالبين، فتخرج بذلك عن الحد. فسلم يا ابن عطاء لكل طالب صورة طلبه، كما سلم أرواح العارفين بالفطرة، وهم أرواح النبات وأرواح الحيوان وأرواح المحققة. وأما أهل الفكر فلا، فإنهم يدعون إلى وجه خاص حيث قيدوا علمهم بعلامة مخصوصة، فإنهم لا يدعون إلا منها، وهم لا يسلمون إلا لمن وافقهم.

وأما اجتماعه يسهل التستري - رضي الله عنهما - وقد توفي سهل سنة ثلاث وثمانين ومائتين، فقال في تجلي نور الغيب: رأينا سهل بن عبد الله التستري، فقلت له: كم أنوار المعرفة يا سهل؟ فقال: نوران، نور عقل و نور إيمان. فقلت: فما متدرك نور العقل، وما مدرك نور الإيمان! فقال: مدرك نور العقل.

﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

ومدرك نور الإيمان الذات بلا حدّ. قلت: أراك تقول بالحجاب! قال:نعم. قلت: يا سهل، حددته من حيث لا تشعر، لهذا سجد قلبك، من أول قدم وقع الغلط. قال: قل. قلت: حتى تتنزل بين يدي. فجثا، فقلت له: يا سهل، ففنى ثم رجع فوجد الأمر على ما أخبرناه. فقلت: يا سهل، أين أنا منك؟ فقال: أنت الإمام في علم التوحيد، فقد علمت ما لم أكن أعلم في هذا المقام. فأنزلته فأجلسته إلى جنب النوري في علم التوحيد، وقد آخيت بينه وبين ذي النون المصري وانصرفت.

وأمّا اجتماعه بالمرتعش - رضي الله عنهما - وقد توفي المرتعش سنة.... فقال في تجل من تجليات التوحيد: نصبت كرسياً في بيت من بيوت المعرفة بالتوحيد، فظهرت الألوهية مستوية على ذلك الكرسي، وأنا واقف وعلى يميني رجل عليه ثلاثة أثواب، ثوب لا يرى وهوالذي يلي بدنه، وثوب ذاتي له، وثوب معار عليه. فسألته: ياهذا الرجل، من أنت؟ فقال: سل منصوراً، وإذا منصور خلفه، فقلت له: ياابن، عبدالله من هذا؟ فقال: المرتعش فقلت له: أراه من اسمه مضطراًً لا مختاراً، فقال المرتعش: بقيت على الأصل ولامختار مدع، ولا اختاير.فقلت له: علام بنيت توحيدك؟ قال: على ثلاث قواعد. فقل: توحيد على ثلاث قواعد ليس بتوحيد. فخجل، فقلت له: لا تخجل ما هي، قال: قصمت ظهري. فقلت: أين أنت من سهل والجنيد وغيرهما، وقد شهدوا بكمالي. فقال مجيباً بقواعد توحيده:

رب فرد ونفي ضد

 

قلت: ليس ذاك عندي

فقال: ما عندكم؟ فقلن

وجود فقدي وفقد وجدي

توحيد حقي بترك حقي

 

وليس حقي سواي وحدي

فقال: ألقني بمن تقدم ؟ قلت: نعم، وانصرف. وهو يقول:

يا قلب سمعا له وطوع

قد جاء بالعيان بعدي

فالتفت إليه وقلت:

ظهرت في برزخ غريب

 

فالرب ربي والعبدي عبدي

قال الشيخ في شرح هذا التجلي: قوله ( نصبت كرسياً في بيت من بيوت المعرفة بالتوحيد فظهرت الألوهية مستوية على ذلك الكرسي). أراد بالبيت مقاماً أو حالاً، وأما الكرسي فالحال للمتجلي، وهو الحضرة التي ظهرت فيها الألوهية. والبيت أيضاً هوالذي ظهر فيه العبد. قوله:( فظهرت الألوهية) أي ظهرت جميع الأسماء، لأن الألوهية إنما هي المرتبة الجامعة. وقوله: ( عليه ثلاث أثواب). فالثوب الذاتي هو ثوب العبودية، والثوب الذي لا يرى هو كل ثوب لا ينقال، والثوب المعار هو كل علم تقع فيه الدعوى، فيقال به: فلان عالم. والعارف يعلم أن العالم غيره لا هو، فإنه م يعلم الأشياء إلا الحق تعالى فهذا هو معنى العارف. وقول المرتعش لما سأله: (سل المنصور) فأحال على غيره، فكان ذلك دعوى منه بكونه لو أجاب عن نفسه لما زاد على اسمه ولما أحال على غيره. على ما أنّ ذلك الغير يبين مرتبته السائل عنه ليراه بعين كبيرة، فكانت هذه الحركة عن دعوى باطنة، فلذلك لما قال له غيره عن اسمه المرتعش أجابه عنه بما أجابه عنه ليعلم أن حركة العرفين إنما تتبنى على أصول محققة. ولم سأله عن توحيده على ماذا بناه قال: على ثلاث قواعد، لذلك كان لباسه ثلاثة أثواب. وأيضاً فإن هذا شرط علم الدليل، وهو علم العقلاء وليس علم المحققين. كذللك فإن توحيدهم توحيد النسب. وقوله: (قصمت ظهري، قلت له سل سهلا وغيره عن هذه الصفة، فإنهم يشهدون بكمالها لا بكمالي). وقوله:

(رب فرد ونفي ضد)

فالرب ها هنا هوالثوب المعار، والفرد هو الثوب الذاتي، ونفى ضد هوالثوب الذي لا يرى. وقوله:

(قلت ليس ذاك عندي)

أي لم يكن توحيدي على ذلك الأمر، بل كله عندنا واحد، لكونك أنت أثبتّ على التحقيق فلم يبق إلاّ ثوب العبودية وتبقى في قباله ربوبية محضة. وقوله في البيت الثاني:

(...فقلنا       وجود فقدي وفقد وجدي)

أي تارة أنظره من حيث هو، وتارة من حيث أنا، وتارة أكون موجوداً عند مخاطبتي بالتكليف، وتارة أكون معدوماً وتارة بما شاهدته فيوجدني بالتكليف ويفقدني بالشهود.

وقوله في البيت الثالث:

(توحيد حقي بترك حقي)

أي أنه لما أثبت حقي كان حقي لكونه تعالى إنما أثبته امتناناً لما ل تعطيه حقيقتي، وحقيقتي تعطي أن لا حق لي، فتوحيد حقي صحيح أن أكون وحدي على م تعطي حقيقتي الأصلية ببقائها ووجدها معراة عن أوصاف الربوبية التي هي أثواب معارة على العبد. وها هنا ترك المحققون الأكابر التصرف في الوجود لما أعطوه عندما رأوه عندهم عارية.

وقوله في البيت الأخير الذي ختم به:

ظهرت في برزخ غريب

فالرب ربي والعبد عبدي

أي بين حضرة الرب والعبد، تارة ينظر الربوبية، وتارة ينظر العبودية، وتارة أنظر حقه الذي منّ به عليّ، فأعامله بما تقتضيه الربوبية، وتارة أنظر إلى عبوديتي فأعامله بما تقتضيه العبودية. وهذا البرزخ لا يقام فيه إلاّ الأكابر من الرجال، فيأخذ من الربوبية علوماً فيلقيها على العبودية ثم يبرزها أعمالاً.

وقوله: (الرب ربي). أي الرب الذي لي خاصة لانفرادي به خاصة وعدم الوسائط بيني وبينه.

وقوله: (العبد عبدي). أي خالص من الأكوان كلها على اختلافها، وصرت مهم أخذته من ربي خلعته على الأكوان وعينت مراتبها بما ألقيها عليها من حضرة الربوبية، وأنا أعرج تارة إلى هذا المقام الرفيع، وتارة أنزل إلى الأكوان عند وجود التكاليف، أنزل إلى الكون وأقوم بوظائف التكاليف، ثم أعود. والدليل على ذلك حديث القبضة التي ذكرها أبو داود السجستاني في سنته. فقد تعين في ذلك الحديث ما ينبه على مقام البرزخ الذي كان آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فيه، وتعين فيه أيضاً تدليه على عالم التكليف ليعمرها ثم يرقيه إلى مقامه فانظر من مناسبتها في الحديث تجدها إن شاء الله. ولنرجع إلى مانحن بصدده.

قال سيدنا: ( ومن أعجب الأمر أنه في الترقي دائماً و يشعر بذلك للطافة الحجاب ودقته وتشابه الصور مثل قوله: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾[البقرة: 2/25].

وليس هوالواحد عين الآخر فإن الشبيهين عند العارف من حيث أنهما شبيهان غيران. وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد، كمايعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، وإن اختلفت حقائقها وكثرت، أنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين. فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحد، كما أن الهيولي تؤخذ في حدّ كل صورة، وهي مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد وهو هيولاها) يقول رضي الله عنه : ومن أعجب نفس الأمر الذي هو مجموع الأمور والأحكام المختلفة الواقعة في الإدراكات، كما تقدم بيانه، أنه أي الإنسان، وكذا الجان دون سائر المخلوقات في الترقي في معرفة الله دائماً شقيه وسعيده في الدنيا وفي البرزخ. إذ الجميع تحت قبضة الأسماء الإلهية، فهي تمشي بهم السعيد فيما يسعده والشقي فيما يشقيه. ولا يشعر المحجوب بذلك الترقي الذي هو فيه دائماً إلاّ بعد كشف الغطاء. فيعرف السعيد ما ترقى فيه مما أسعده، والشقي ما ترقى فيه مما أشقاه. فالتجلي بالترقي دائم لا حجاب عليه، ولكنه لا يعرف في الظاهر. وينكشف الترقي للسعيد والشقي عند رفع الحجاب. ورفع لاحجاب مختلفة أوقاته، فمن الناس من يرفع عنه الحجاب في الدنيا، ومنهم عند الموت، ومنهم بعد الموت، ومنهم عند الحساب، ومنهم بعد نفوذ الوعيد. وإنما كان الإنسان لا يشعر بالترقي الذي له دائماً للطاقة الحجاب ورقته، وهو سرعة إقامة المبدل منه بلا تخل فترة فلا يهتدي إليه، وما يشعر به إلاّّ أهل الكشف، فإن العالم في الوجود الخيالي، وحقيقة الخيال التحول من صورة إلى صورة إلى صورة في كل نفس. وسبب عدم التمييز بين لطيف رقيق. المحجوب يظن أن المتجدد من الصور عين الزائل بحجاب لامثلية بظهور وتجدلياته، وأمره ف يكل زمان فرد وحال مختص بذلك الزمان والحال وأهلهما، فموجب الحكم باستمرار والدوام في الصور والأحوال ما هو إلاّ حجاب المثلية. وتشابه الصور ومثل الشيء ما هو عينه. وهذا مما يظن عامة الناس أنه ظاهر واضح لاشك فيه لاستئناسهم بتجدد الأمثال المتشابهة، وليس الأمر كما ظنوا، بل هو خفي ليس بواضح. وهذه المشابهة هي مثل قوله تعالى في صفة ثمرة أهل الجنة: كلّما رُزقوا أي أهل الجنة: منها أي من الجنة: ثمرة رزقاً من ثمرات الجنة: قالوا من حيث الرؤية:﴿ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ في الدار الدنيا أو في الجنة « وَأُتُواْ بِهِ». أي بذلك النوع:« مُتَشَابِهاً».

يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلاً منه في الدنيا أو في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً في اللون. وقد ورد في الحديث الصحيح: أنه يؤتي أحد أهل الجنة بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أوتينا به من قبل. فيقول له الملك: كُلْ اللون واحد والطعم مختلف. وليس هو الواحد المتجدد من المتشابهين المتماثلين عين الآخر الزائل، فإن الشبيهين عند العارف بالفرق بين المتجدد والزائل من حيث أنهما شبيهان غيران، ولو لم يكن المتشابهان غيرين ما قيل شبيهان، ولقيل أنهما عين واحدة. فإن المتشابهين هما المشتركان في أمر دون أمر آخر، فلا بد من فارق بينهما عند العراف، فلا يكون الواحد عين الآخر، فإن الله ما خلق في الدني ولا يخلق في الآخرة صورتين متماثلين من كل وجه لا تتميز إحداهما عن الأخرى، هذ محال لا في الخلق المحسوس ولا في صور التجلي لأهل الكشف. فإن الله تعالى ميّز كل شيء في العالم بأمر وذلك الأمر هو الذي ميّزه عن غيره وهو أحدية كل شيء. ولكن الأمثال توهم الرائي والسامع التشابه الذي يعسر فصله إلاّ على الخواص من عباد الله، للطافة الحجاب. ومن علم الاتساع الإلهي علم أن لا يتكرر شيء في الوجود. ويدل على ذلك اختلاف الأحكام على الأعيان أعيان الصور في كل حال. فلا بد أن تكون هذه العين التي لها هذا الحال الخاص ليست تلك العين التي كان لها ذلك الحال الذي شوهد مضيه وزواله. وانظر هل ترى فيما ترى من المخلوقات من إنسان وحيوان ونبات صورتين متماثلتين من كل وجه؟ لا ترى ذلك أبداً. فالجاهل يقول الشيء إما واحد أو كثير، وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد، فهو يرى العين الواحدة التي هي جوهر العالم. وسيأتي بيان تجدد الصور عليها في كل نفس، وكل صورة غير الأخرى، فإن التجلي الإلهي لا يشرك بين صورتين، ولا تكون صورة إلا عن تجل خاص لها، سواء في ذلك الصور الحسية والعقلية والخيالية، يقظة ومناماً. فإن فعل الحق تعالى دائم. فهذه رؤية صاحب التحقيق لجميع صور العالم، كما يعلم صاحب التحقيق أن مدلول الأسماء الإلهية التي لا تحصى كثرته مع اختلاف معانيها ومدلولاتها، وإن اختلفت حقائقها ومدلولاتها ترجع إلى عين واحدة. فهذه الكثرة الحاصلة في الأسماء الإلهية كثرة معقولة، فإنها نسب وإضافات واعتبارات. فتكون الكثرة في التجلّي الإلهي في الصور من كل ما يطلق عليه صورة كثرة مشهودة في عين واحدة مرئية بعين الحس والخيال والعقل، والحق من وراء ذلك كله، من حيث الذات. و لايعتاص عليك أيها العاقل المحجوب كون صاحب التحقيق يرى الكثرة الحاصلة من صور التجلّي في العين الواحدة، فهذا كما تقول أنت في الهيولي أنّه تؤخذ في حدّ كل صورة من الصور التي تحت مرتبتها إذا حددت الصورة بذاتياتها وصفاته النفسية، وهي مع كثرتها ترجع في الحقيقة ونفس الأمر إلى جوهر واحد، هو هيولاها، إذ الهيولي عندكم جوهر معقول بسيط، لا تخلو منه صورة ولا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه من الصور. وهو موجود بلا كم ولا كيفية، ولم يقترن به زمان ولا شيء من سمات الحدوث. فالهيولي محل للجوهر، والموضوع محل للغرض.

تتميم

أهل الله المكاشفون بحقائق الأشياء يسمون الجواهر الحاصل لصور العالم بأسره بالهباء، وأول من سماه بها الاسم علي بن أبي طالب عليه السلام لكونه رأى هذ الجوهر مبثوثاً في كل صورة من صورالعالم كله، أعلاه وأسفله، لا تكون صورة بدونه مع وحدته وعدم انقسامه وتجزئته. والشيخ الأكبر يسميه بالعنقاء، لكونه يسمع بذكره ويعقل، ولا وجود له في العين، دون ما حل فيه من الصور. وهو الحقيقة الكلية عند بعضهم، وحقيقة الحقائق عند بعضهم، والحق المخلوق به كل شيء عند بعضهم، وبالعماء. ويسمى العماء بالحق المخلوق به، لأنه عين النفس الرحماني، والنفس مبطون في المتنفس، وهو الحق تعالى . ولكل تسمية وجه باعتبار.فكما رايت أيها العاقل صور العالم كلها في جوهر العالم مع وحدته، كذلك رأى صاحب التحقيق من أهل الله الكثرة في الواحد العين.

قول سيدنا: (فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته وحقيقته).

يقول رضي الله عنه : إن المدعين معرفة النفس الناطقة، وهم الذين تكلموافي حقيقة النفس وماهيتها كثيرون، فمن عرف نفسه منهم بهذه المعرفة، وهي أنه عين واحدة تظهر فيها الأحوال والنعوت والتبديل في كل زمان فرد، وتتجدد عليه الأحكام لا تبقي على حالة واحدة، فهي تتصور بمايرد عليها من صورالتجلي، وهي باقية في عينها وحقيقتها لا تتغير ولا تتبدل. عرف ربه المتجلّي عليه بهذه الأحوال والتبدلات والانتقالات والتغيرات، فشأنه تعالى التجلي، وشأن الموجودات التغير والانتقال. فالتجلي إحدى العين في أعيان مختلفة . ثم اعلم أن المراد معرفة النفس الإنسانية المعرفة اللائقة بالمخلوق، لا المعرفة على وجه الإحاطة، فإن ذلك محال، ولو عرف الإنسان على طريق الإحاطة لعرف الحق - عز وجل - على طريق الإحاطة، وذلك محال. فالإنسان لا يعرف، والحق لا يعرف. فلا يعر ف النفس الإنسانية إلا الله تعالى وإنما كانت معرفة النفس الإنسانية ومعرفة الرب تعالى متلازمين، لأنه تعالى على صورته خلقه، كما أن الله خلق آدم على صورته. بإرجاع الضمير على الله، يؤيده الرواية الأخرى. وقد صححها بعض الحفاظ: على صورة الرحمن. ولهذا كانت النفس الناطقة التي هي روح الإنسان المسماة زيدا مثلا، لا يستحيل عليها أن تدبر جسمين فصاعداً إلىآلاف من الصور الجسمية. وكل صورة هي زيد عينه، ليست غير زيد، ولو اختلفت الصور أو تشابهت لكان المرئي المشهود عين زيد.

 

 

 

 

 

 

تنبيهان

لا خصوصية لآدم عليه السلام بالخلق على الصورة الإلهية، بل كل إنسان كامل من أولاده إلى يوم القيامة، مخلوق علىالصورة، ومن كان إنساناً حيواناً فليس مخلوقاً على الصورة الإلهية، وإن كان له قابلية واستعداد لذلك إذا حفته العناية، فل يكون مخلوقاً على الصورة الإلهية إلا إذا كان إنساناً كاملاً بالفعل لا بالقوة والصلاحية.

الثاني: ليس المراد بالصورة الذات، فإن الذات العلية المقدسة لا صورة لها إلا من حيث التجلي بالمثال. وإنما المراد بالصورة مشاركة الإنسان الكامل للحق تعالى في الأسماء الإلهية كلها، ومشاركته للحق في التقلب في الأحوال بتقلب الحق تعالى في الأحوال، والإنسان تنقلب عليه الأحوال، والإنسان تنقلب عليه الأحوال - بسبب التجلي عليه بها. وما قاله بعضهم في الصورة التي خلق آدم عليه السلام عليه كونه ذاتا وله سبع صفات فقط، ليس بشيء. لأن الحيوان كذلك له ذات وهو حي عالم مريد قادر متكلم سميع بصير. ولو كان المراد ذلك لكان يبطل وجه الخصوصية للإنسان، لأن هذه الصفة إنما جاءت له على جهة التشريف له. بل إذا كشفنا الغطاء وهتكنا الحجاب نقول: هو تعالى عين هوية الإنسان الكامل، كآدم التي بها هو هو، وحقيقته التي هو حق بها. فظاهر الإنسان صورة خلقية كونية، وباطنه هوية الحق غير محدودة للصورة. فهو من حيث الصور من جملة العالم، ومن حيث باطنه كما ذكرنا.

قول سيدنا: (ولهذا ما عثر أحد من علماء المتكلمين والحكماء المتقدمين على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية. وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين، وفي كلامهم في النفس وماهيتها، فم منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظر الفكري أبداً. فمن طلب العلم بهامن طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم. ولا جرم أنهم من :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾[ الكهف:18/104].

فمن طلب الأمر من غير طريقه فماظفر بحقيقته).

يقول رضي الله عنه : ولهذا لماكانت معرفة الربّ لازمة لمعرفة النفس الناطقة، وهي الروح، فإنها نسخة من الرب تعالى ، بل ومثل لصورته تعالى. والرب غير مقيّد ولا محصور، وإنما هو تعالى كل يوم في شأن. واليوم هنا هو الآن الذي هو حد الزمانين الماضي والمستقبل. فكانت النفس كذلك كل آن في حال. ولما كان الأمر هكذا ماعثر ولا اطلع أحد من العلماء، علماء الرسوم الإسلاميين، ولا عثر أحد من الحكماء الأولين الفلاسفة الإشراقيين والمشائين المتكلمين في ماهية النفس وحقيقته على الأمر كما هو.

فما عثر على معرفة النفس إلاّ العلماء الإلهيون الذي معلمهم الإله - جل جلاله - من الرسل - صلوات الله عليهم وسلم - والأكابر من الصوفية، لا مطلق الصوفية. وأما أصحاب النظر العقلي وأرباب الفكر من الحكماء القدماء العلماء المتكلمين في كلامهم بالنظر العقلي ودليلهم الفكري على معرفة النفس الإنسانية وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها. فإنهم طلبوا الأمر من غير فصه، وأرادو معرفتها من طريق النظر العقلي ونصه. وحيث كانت العقول متباينة متفاوتة، لا جرم أنهم فيها كاختلاف أقوالهم في الرب - سبحانه وتعالى - فقال قوم: النفس الإنسانية جوهر فرد متحيز. وقال آخرون: هي جسم لطيف متشبث بالجسم متخلله. وقال قوم: هي جوهر محدث قائم بنفسه غير متحيز. وقال قوم: النفس الإنسانية عرض إلى غير هذا. وقد انتهت أقوالهم في النفس الإنسانية على نحو ألف قول على ماذكرناه بعض العلماء المطلعين. وما أصاب أحد منهم لأنهم طلبوا معرفتها بالنظر والاستدلال وإقامة البراهين العقلية والأقيسة الفكرية. ومعرفة النفس الناطقة الروح لا يعطيها النظر الفكري أبداً، لأن حقيقتها فوق طور العقل. وإنما يكاشف بذلك القلب السليم، ثم يفيض على العقل. فليس للعقل فيما فوق طوره إلاّ القبول لما كشف له، فمن طلب الوصول إلى العلم به والحصول على حقيقتها من طرف النظر الفكري وأعرض عن طريق التصفية وجلاء مرآة القلب فقد أخطأ الطريق، إذ لا طريق إلى معرفة النفس الإنسانية إلاّ الكشف، فهو كما قيل في المثل السائلك قد استسمن ذا الورم، أي رأى شخصاً أو حيواناً منتفخ الجسم متورمه، فتوهم أنّ الورم سمن. ونفخ في غير ضرم، أي رأى رامادا فتوهم أن في باطنه ناراً فنفخ فيه فتبدد الرماد، وما وجد ناراً، مثل يضرب لمن توهم الأمر على غير حقيقته التي هو عليها. لا جرم لا محالة ولا بد أنه من الذين ضلّ ضاع وبطل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لإعجابهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم مصيبون في سعيهم. والآية وإن وردت في الكفار فلمن ضيع نفائس أوقاته فيما لا يحصل به على مطلوبه ولايظفر ولا يفوز بمرغوبه نصيب منها. فإن الله تعالى خلق العالم بقوله وقدرته ورتب المسببات على أسبابها بحكمته، وبين طرق الوصول إلى كل مطلوب بفضله ورحمته. فمن طلب الأمر المقصود بالحصول عليه من غير طريقه وسببه، الذي وضعه العليم الحكيم، فما فاز بالمرغوب ولا ظفر بحقيقة الأمر المطلوب، سنة الله التي قد خلت في عباده.

﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾[فاطر:35/43].

قول سيدنا: (وماأحسن ماقال الله في حق العالم وتبدله مع الأنفاس «في خلق جديد» في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم:﴿ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[ق:50/15].فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس. لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأغراض، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كله وجهّلهم أهل النظر بأجمعهم. ولكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية فلكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصور، ولا يوجد إلا بها كما لا تعقل إلا به. فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر. وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل في كل زمان إذا العرض لايبقى زمانين)

يقول رضي الله عنه : وما أحسن وأوضح وأبين مما قال الله - جل جلاله - في حقّ العالم وهو كل ما سوى الله تعالى من تبديله وتحوله وتغيره مع الأنفاس في خلق جديد. وقولنا مع الأنفاس تجوز وإلاّ فعين الإعدام عين الإيجاد. فعين كل شخص في العالم تتجدد في كل نفس لابد من ذلك، فلا يزال الحق فاعلاً في الممكنات الوجود. وأما ما ينعدم بذاته، وكل شيء في الوجود الإمكاني لا يثبت أكثر من آن واحد. فل تبقى أفلاك ولا أملاك ولا أرواح ولا عناصر ولا ما تولد منها إلا وبتغير وبتجدد في كل نفس في عين واحدة. وهي جوهر العالم المسمى بالهباء وبحقيقة الحقائق وبالبرزخ وبالخيال الحقيقي وبالعما وغير ذلك، كما تقدم . فالعالم كله واحد بالجوهر، ولو هلكت ذرة من العالم من حيث الجوهر لهلك العالم جميعه. وهذا الجوهر باق مع تبدل م قام به من العالم، إذ هما عين النفس، والنفس باطن المتنفس، فقال تعالى في حق طائفة بل أكثر العالم، وهم المنكرون لتجلي الحق تعالى بكل صورة في العالم في كل نفس بعدم وإيجاد في ذلك النفس: «بل هم في لبس» خلط وشبهة «من خلق» مع إيجاد جديد مستأنف في كل نفس. ولو صح بقاء ممكن ما نفساً واحداً لاستغنى ذلك الممكن عن الحق تعالى في ذلك النفس، وهذا محال. فالمنكرون لتجديد كل صورة في العالم لا يعرفون تجديد الأمر الإلهي الذي كلمح البصر، أو هو أقرب مع الأنفاس. لكن فرقة من متكلمي أهل السنة اهتدت إلى الخلق الجديد في بعض العالم، فهي قد عثرت عليه عقلاً ل كشفاً، وهم الأشاعرة أتباع علي بن إسماعيل الأشعري، من ذرية أبي موسى الأشعري الصحابي المشهور - رضي الله عنهما - فإنهم قالوا بالخلق الجديد في بعض الموجودات، وهي الأعراض، والعرض كل ما لا يقوم بنفسه. قال الأشعري ومتبعوه من محققي الأشاعرة: العرض لا يبقى زمانين فهو يتجدّد في كل آن. واستدلوا على ذلك بوجوه منها لو بقيت الأعراض لكانت باقية ببقاء. والبقاء عرض، فيلزم قيام العرض بالعرض وهو محال عند المتكلمين. ومنها قالوا السبب المحوج إلى المؤثر هو الحدوث، وشرط بقاء الجوهر هوالعرض. ولما كان هو متجدداً دائماً محتاجاً إلى المؤثر كان الجوهر أيضاً حال بقائه محتاجاً إلى ذلك المؤثر بواسطة احتياج شرطه إليه. ووافقهم النظام والكعبي والنجار من المعزلة، وخالفهم سائر المعتزلة وبعض أهل السنة. حتى قال سعد الدين التفتازاني - رحمه الله-: القول بأن العرض لا يبقى زمانين مكابرة في المحسوس. وقد عثرت أيضاً عليه الحسبانية في العالم كله فقالوا بالخلق الجديد ووافقهم على ذلك بعض قدماء المعتزلة، وهذه الطائفة الملقية بالحسبانية، ما رأينا لهذا اللقب ذكر فيما أطلعنا عليه من كتب المتكلمين المصنفين في الملل والنحل، وإنما المعروف السوفسطائية، وذكروا منهم ثلاث فرق: اللا أدريه والعنادية والعندية. فمنهم القادح في الضرورات، والقادح في المعقولات، والقادح في الحسيات، والقادح في البديهيات. ولكن قد قيل أن كل غالط سوفسطائي فيماغلط فيه. والمنقول عن المتكلمين أنّ النظام والكعبي والنجار هم الذين قالوا الأجسام كالأعراض غير باقية فهي تتجدد حالاً فحالاً. وسيدنا الشيخ رضي الله عنه أعلم وأكثر اطلاعاً. ولما قالت الحسبانية ومن وافقهم بالخلق الجديد في العالم كله اطلعوا على ذلك عقلاً لا كشفاً، عثروا عليه استدلالاً، وجهلهم أهل النظر بأجمعهم، وردوا أدلتهم ونسبوهم إلى عدم العقل. ولكن قد أخطأ الفريقان القائلون بتجدد الأعراض وهم الأشاعرة والقائلون بتجدد العالم كله وهم الحسبانية. فأما خطأ الحسبانية ومن وافقهم فبكونهم ما عثروا ولا اطلعوا مع قولهم بالتبدل واعتقادهم ذلك في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول المتقدم ذكره. فإنه الجوهر المنزه عن الكثرة المختلفة في حقيقته، وهوالذي قبل هذه الصورة المكثرة المختلفة من أول صورة خلقها الله إلى آخر صورة، ولا آخر لصور الممكنات. ولا يوجد في الحس ولاعقل إلا بها، فإنه معقول من حيث حقيقته. فلا يوجد في الحس ولا في العقل إلا بصور المحسوسات والمعقولات، ولا في الخيال إل بالمتخيلات. وهو في حد ذاته لا يوصف بوجود ولا عدم ولا حدوث ولا قدم، لأنه معقول. كما أن صور العالم بأجمعه لا تعقل إلاّ به فهو حقيقتها، وهو كالظرف والمحل. فلول هذا الجوهر ما عرف العالم، ولولا صور العالم ما عرف هذا الجوهر. فلو أن الحسبانية ومن وافقهم قالوا بذلك الجوهر الذي قال به أهل الله أهل الكشف والوجود لفازو وظفروا بدرجة التحقيق في هذا الأمر الإلهي، الذي قبل صور العالم بأسره مع وحدته، كم فاز أهل الله بدرجة التحقيق في هذا الأمر. لا يقال الحسبانية من طوائف الفلاسفة، وقد أثبتوا جوهر الهيولي، وقالوا أنه جوهر معقول بسيط بلا كمية ولا كيفية لاتوجد صورة بدونه لاوجودله بدون صورة إلى ماقالوا ف يأوصافه، لأنا نقول جوهر الهيولي الذي أثبته الفلاسفة مرتبة دون الطبيعة، وأول ما ظهر فيه من الصور صورة الجسم الكل. والجوهر الذي قال به أهل الله فوق الكل فيه ظهرت صور الأرواح المهيمة وصورة العقل الأول وصورة النفس الكلية والطبيعة والهيولي التي أثبتها، الحكماء، فهو غير جوهر الهيولي، وإن اتفق الجوهران في بعض الصفات. وأما خطأ الأشاعرة - رضي الله عنهم - فهو أنهم وإن قالوا بأن العرض لا يبقى زمانين فهو يتبدل ويتجدد في كل نفس فم علموا أن العالم كله أعلاه وأسفله من أول مخلوق أعراض مجتمعة. ولو علموا بذلك كشفاً كأهل الله أو استدلالا كالحسبانية ومن وافقهم لقالوا في العالم كله، كم قالوا في العرض عندهم. فالعرض لا يبقى زمانين عند الأشاعرة، بل هي على سبيل التقضي والتجدد وينقضي واحد منهما ويتجدد واحد آخر مثله أو خلافه.

قول سيدنا: (ويظهر ذلك في الحدود للأشياء، فإنهم إذا حددوا الشيء يتبين في حدهم كونه عين الأعراض، وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه. ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه. فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيز في حد الجوهرالقائم بنفسه الذاتي وقبوله وله للأعراض حد له ذاتي. ولا شك ان القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه: وهو ذاتي للجوهر. والتجيز عرض ولا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه. وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويته، فقد صار ما لا يبقى زمانين وأزمنة وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه.ولا يشعرون لما هم عليه، وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد).

يقول رضي الله عنه : ويظهر ويتبين لك الذي أدعيناه كشفا أن العالم بأسره مجموع أعراض من كلام المتكلمين في الحدود الذاتية للأشياء محسوساً، كان الشيء المحدود، أو معقولاً فإنهم إذا حددوا الشيء يتبين وينكشف كون الشيء المحدود عين الأعراض. وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين ذلك الجوهر المحدود، وهي صفاته النفسية الذاتية، إذ الصفات نوعين: صفات نفسية وصفات معنوية. فالصفات النفسية الذاتية هي التي إذا رفعتها عن الموصوف بها ارتفع الموصوف بها، ولم يبق له عين في الوجود الذاتي، ولا العقلي. وأما الصفات المعنوية في الموصوف فهي التي إذا رفعته عن الذات الموصوف بها لم يرتفع الذات التي كانت موصوفة بها. فالمعاني هي أصل الأشياء، وهي إن كانت معقولة غيبية فهي تظهر في حضرة الحس محسوسة، وفي حضرة الخيال متخيلة، وهي هي، إلا أنها تنقلب في كل حضرة بحسبها كالحرباء تنتقل في الألوان التي تكون عليها، كالطبيعة التي هي أصل العالم، فهي مجموع معان حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة. وحد الجوهر وحقيقته التي هي ثبوته في الخارج عند الحكماء والمتكلمين هوالقائم بنفسه، فهو جوهر من حيث اعتباراته قائم بنفسه، هو عرض من حيث اعتبار أنّه عين مجموع أعراض لا يقوم بنفسه. فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه، وهي الأعراض الصفات النفسية للجوهر، من يقوم بنفسه وهوالجوهر الذي هو مجموع تلك الأعراض. إذ من المعلوم أن كل موصوف هو مجموع صفاته الذاتية. والصفات لا تقوم بأنفسها لأنها معان وما لها ظهور إلاّ في عين الموصوف، ومالها ذات تحمله غيرها. وليست الصفات الذاتية بشيء زائد على الموصوف، فهي عين الموصوف لا غيره. فقد صار قائماً بنفسه من حقيقته أنه لا يقوم بنفسه، كالتحيز مثلاً المأخوذ في حد الجوهر، فإنهم إذا حدوده الحد الحقيقي الذي يقصد به تصور ما لم يكن حاصلاً من التصور قالوا هو المتحيز، أي الآخذ قدره من الفراغ، وهو الخلاء المتوهم. وقالوا: القابل للأعراض بحيث لا يمكن وجوده خالياً عن عرض، فهذا التحيز الذاتي للجوهر هو عرض، وهو مأخوذ في حد الجوهرذاتي له. وقبوله للأعراض كذلك هو حد له ذاتي. فإنه قد تكون ذات الموصوف المحدود مركبة من صفتين ذاتيتين فأكثر من ذلك، وهي الحدود الذاتية للأشياء. وما من صفة ذاتية للموصوف إلاّ ولها صفة ذاتية فالتحيز له صفة ذاتية. وكذلك القبول ولا شك أن القبول الذي هو ذاتي للجوهر عرض من الأعراض، إذ لا يكون القبول إلاّ في قابل، وهو موضوع شرط في وجود العرض والقبول هو عرض ذاتي للجوهر. وكذلك التحيز المأخوذ في حد الجوهر هو عرض. ولا يكون التحيز إلا في جوهر متحيز، لأن التحيز عرض لايقوم بنفسه. وليس التحيز والقبول اللذان هما ذاتيان للجوهر مأخوذان في حده بأمر زائد على عين الجوهر المحدود بهما، وهويته المتعلقة الميزة له عن غيره. فقد عاد بما بيناه الموصوف صفة لنفسه، وصار بما قررناه ما لا يبقى زمانين عندهم يبقى زمانين، بل وأزمنة حيث أنه جوهر باق قائم بنفسه إن فهمت وانصفت. ومع هذا فالمتكلمون القائلون أن العالم جواهر باقية قائمة بأنفسها وأعراض لا تبقى زمانين لا يشعرون ولا يفطنون بما هم عليه من التناقض والخلط والخبط، ويحسبون أنهم على شيء وهم في لبس وخلط من خلق جديد مع الأنفاس. فالعالم بأسره أعراض. وليس هناك جوهر إلاّ جواهراً واحداً به قيام العالم كله، فهو مقومه، وهذا الذي ذكرناه مما يزهد الناصح نفسه الذي أراد الله به خيراً في الاشتغال بالعلوم العقلية والانهماك فيها بأكثر من الضروري اللازم. ولهذا يقول محمد الشهرستاني صاحب كتاب نهاية إقدام العقول - رحمه الله- لما تبين له إفلاسه واستوحش مما كان به إيناسه:

لعمري لقد طفت المعاهد كله

 

وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر واضعا كف حائر

على ذقنه أو قارعا سن نادم

وفي كتاب نهاية إقدام العقول هذا يقول فخر الدين الرازي - رحمه الله - وقد أنصف:

نهاية إقدام العقول عقال

 

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشه من جسومن

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرن

 

سوى إن جمعنا فيه قيل وقالو

اللهم وفقنا واهدنا وارشدنا واستعملنا فيما يرضيك وترضى به عنا، متوسلين في الحصول على ذلك بالمحبين فيك والمحبوبين لديك يا أكرم مسؤل وخير مأمول.

قول سيدنا: (وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ول يتكرر التجلي، ويرون أيضاً شهوداً أن كل تجلّي يعطي خلقاً ويذهب بخلق. فذهابه هو عين الفناء عندالتجلي والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر).

يقول رضي الله عنه : ما أسلفناه من المناقشة والكلام مع أهل النظر والفكر من حكيم ومتكلم، وأوضحنا أن العالم بأسره مجموع أعراض، فهو يتجدد في كل نفس، إنّما ذلك لانحجاب أهل النظر والفكر عن ذلك من كونهم قصروا نظرهم على العقل. والعقل خادم الحس، فإنه لا يأخذ معلوماته إلاّ من الحس. وقد ثبت الغلط في إدراك الحس العقل والفكر. وقد بيّن الحكماء والمتكلمون ما يغلط فيه الحس والعقل والفكر، وم لا يغلط فيه، وما يدريهم لعل الغلط في الجميع. وأما أهل الله أهل الكشف والوجود الذين يأخذون عن الله فهو معلمهم - جل جلاله - فإنهم يرون بعيون بصائرهم التي هي أصدق وأوثق من رؤية الأبصار، أنّ الله يتجلّى في كل نفس بصورة من صور أعيان الممكنات، كانت ما كانت تلك العين. و لايتكرر التجلّي بصورة من صور الأعيان بأن يتجلّى بصورة ثم يتجلّى بتلك الصورة نفسها، هذا محال عند الطائفة العلية. ويرون أيضاً شهوداً ومعاينة ببصائرهم أن كل تجلّ من التجليات التي هي في كل نفس لكل عين يعطي خلقاً جديداً مستأنفاً في كل صورة من الصور. والصور المشهودة إنما هي أحوال الأعيان الثابتة ونعوتها، وكما يعطي هذا التجلّي خلقاً جديداً يذهب بخلق أول، وهي الصورة التي كانت لتلك العين نفسها. وذلك لأن الصور التي في العالم كلها نسب وأحوال لا موجودة ولا معدومة، وإن شوهدت من وجه فهي غير مشهودة من وجه آخر، وما في العالم إلاّ صور. فمجموع العالم أعراض، فهو ذاهب في كل آن لذاته لأن من حقيقته أن لا يثبت أكثر من آن. والحق لا يعطي إلاّ الوجود ولا يكرره بصورة واحدة فقول سيدن يذهب بخلق المراد بنسبة الإذهاب إلى التجلي الإرادة الكلية تسامحاً وإلاّ فالأمر كما قلنا وإن الذاهب يذهب لذاته. فأمّا ذهابه، يعني العالم، فهو الفناء له، ول تذهب صورة وتفنى إلا وذهابها وفناؤها عين ظهور صورة أخرى في عين تلك الجواهر، تماثل الذاهبة غالباً أو تخالفها. فعين زمان ذهاب الصورة الذاهبة وفناؤها عين زمان تلك الصورة الجديدة، لا أنه بعد الذهاب والفناء تحدث الأخرى. فهذا التجلّي واحد العين ويعطي النقيضين، وهو معنى قول سيدنا: يعطي خلقاً ويذهب بخلق فهو كنفخة البعث تذهب بالأجساد البرزخية التي الأرواح متعلقة بها في البرزخ، وتوجد الأجسام الطبيعية العنصرية فتعلق بها الأرواح، والنفخة واحدة العين، لا تكرار فيها. وأما البقاء في الثبوت للأعيان الثابتة التي هذه الصور مجموع أحوالها ونعوتها محسوسة في حضرة الحس ومتخيلة في حضرة الخيال، فلما يعطيه التجلي الآخر المبقي، فإن للحق تعالى تجلين: تجل للأشياء وتجل في الأشياء. فأما التجلي في الأشياء فهو التجلي المبقي أعيانها، وهو التجلي الخاص الذي بين الحق تعالى وبين كل مخلوق لا تعرف نسبته ولا يدخل تحت عبارة ولا يعلمه العقل الأول ولا النفس الكلية، فبهذا التجلّي تتغيرالأحكام على الأعيان الثابتة من الثبوت إلى الوجود. وأما التجلّي في الأشياء فهو تجل يفنى أحوالاً ويعطي أحوالاً، ومن هذا التجلي توجد الأحوال والأعراض في كل ما سوى الله تعالى وعليه فلا ينبغي حمل الفناء والبقاء هنا على الفناء والبقاء الخاصين بأهل هذه الطريقة العلية. فإن كلام سيدنا بصدد الإخبار عن العالم بأسره ل عن أقوام مخصوصين.

قول سيدنا «فافهم». أمر رضي الله عنه بالفهم لهذه الحكمة القلبية، والفهم تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع. والمراد أن في هذه الحكمة القلبية دقة، كما يقال، فتأمل أو فتدبر، اللهم افتح لن ولإخواننا فهم كلامك وكلام رسولك صلى الله عليه وسلم وكلام أوليائك إنك المحسان المفضال الكبير المتعال، والحمد لله الذي علمني ما لم نكن نعلم، وكان فضل الله عليّ عظيماً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!