موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


355. الموقف الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده بي وبه صلى الله على سيدنا محمد خليله وحبه وعلى آله وصحبه وأهل الله تعالى وحزبه. أمّا بعد:

فإن أحد إخواني، بل أعزهم، أخبرني أنه طالع عدة شروح من شراح الفصوص لسيدنا الشيخ الأكبر رضي الله عنه في فص إسماعيل عليه السلام منهم أبرأ عليله وأزال غليله، وأراد منّي حل ألفاظ هذا الفص بما يفتح الله به، فأجبته مستعيناً بالله تعالى ومستمداً ممّا أفاضه علينا سيدنا وشيخنا محي الدين رضي الله عنه في حياته وبعد موته، فإنه رضي الله عنه بضاعتنا التي منها نمير أهلنا، هذا مع قوله رضي الله عنه في مبشرة طويلة أنه لا أحد في شراح الفصوص فهم مراده، ونحن موقنون أنه لا أحد يصل إلى مرماه رضي الله عنه ممن جاء بعده، ولكن كما قيل ما ل يدرك كله لا يترك كله، وإن لم تكن شاة فمعزى، فأقول وبالله القوة والحول:

قول سيدنا: (اعلم أن مسمى الله أحدى "بالذات كل" بالأسماء) يعني أما الذات المسماة بالله من حيث هي في مرتبتها الذاتية وتجردها وغناها عن العالمين أحدية لا اسم ولا صفة لها ولا تركيب فيها ولا نسبة لها من النسب ول اعتبار من الاعتبارات بخلافها في مرتبتها الإلهية فإنها كلّية، أي لها اعتبارات وأسماء ونسب اقتضتها المرتبة الإلهية من حيث يطلبها العالم وتطلبه، فكانت الذات المسماة بالله كلية، فمسمّى الله كل أي كثير بالأحكام، إذ له الأسماء الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء، وكل اسم علامة على حقيقة معقولة ليست عين الأخرى، فمسمّى الله من حيث ذاته له أحدية الأحد، ومن حيث أسماؤه له أحدية الكثرة. كما أن الإنسان واحد في ذاته، وهو يشهد الكثرة من نفسه ووجوده الذي جعله الله الحق دليلاً عليه في قوله: «من عرف نفسه عرف ربه ».

وما عرف الإنسان نفسه إلاّ واحداً في كثير، وكثيراً في واحد، فعرف ربه بصورة علمه بنفسه. فليس في الوجود أحدي من جميع الوجود، فإنه لا يصدر عن الأحد أثر ولا حكم، فالحكم للنسب المنسوب، والمنسوب إليه والنسبة. وبالمجموع يكون الأثر والحكم، فمهما أفراد أحدهما دون الآخر لم يكن له أثر ولا حكم.

قول سيدنا: ( وكل موجود فما له من الله إلاّ ربّه خاصة يستحيل أن يكون له الكل)، يعني: أنه لما كان في قوة الاسم الله بالوضع الأول كل اسم إلهي يطلبه العالم صلاحية وفعلاً، وكان من جملتها الاسم الرب، فإنه اسم للحضرة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات، بيّن رضي الله عنه أن كل موجود في أي مرتبة من مراتب الوجود كان، ليس له إلاّ اسم واحد من الحضرة الربية الإلهية الجامعة، وهوالمعبر عنه عند الطائفة العلية بالوجه الخاص، وبه يصل إلى الله إذا صارت إليه الأمور كلها، فلا يراه إلاّ به ولايسمع كلام إلا به، وذلك هو الحظ الذي لكل موجود من الله ـ تعالى . فمن المحال أن يكون لمخلوق جميع ما اشتملت عليه الحضرة الربية من الأسماء، فلكل مخلوق رب، وهوالذي حصل تدبيره فيه، وهو الذي يعبده ولا يعرف من الله إلاّ هو، وهو العلامة التي يعرف الحق تعالى بها في الآخرة حين تحول الرب في الصور كما ورد في الأحاديث الصحيحة. هذا لغير محمد صلى الله عليه وسلم فن ربه الحضرة الجامعة، وكذلك الأنبياء والرسل والورثة من الأولياء كل على حسب مقامه.

قول سيدنا:( وأما الأحدية الإلهية فما لأحد فيها قدم، لأنه لا يقال لواحد منها شيء ولآخر منها شيء، لأنها لا تقبل التبعيض. فأحديته مجموع كلّه بالقوة). يعني: أن الأحدية التي هي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية، فهي مجلى ذاتي ليس للأسماء ولا للصفات ولا لشيء من مؤثراتها فيها ظهور ولا قدم لأحد فيها، أي لا سبق لمخلوق، فإن القدم السبق في الأمر شراً كان أو خيراً، وحيث كان السبق لا يحصل إلا بالقدم سمى المسبب باسم السبب، ولما كانت الأحدية بهذا الاعتبار الذي ذكرناه كان لا يقال لواحد من المخلوقات منها شي، أي اسم خاص بذلك الواحد، ولآخر منها اسم آخر خاص بذلك الآخر، لأن أحدية الحق تعالى ـ مجموع كلّه بالقوة، فإنها عين واحدة. والكثرة المتنوعة الحقية والخلقية الجميع موجود فيها بحكم البطون لا بحكم الظهور فهي في المثل تقريباً - وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - كجدار بني من طين وآجر وجص وخشب، فمن ينظر إلى الجدار يرى أحدية ذلك الجدار، وهومجموع ما بنى به، لا أن الجدار اسم لما بنى به واجتمع فيه من الطين وغيره، بل على أنه اسم لتلك الهيئة الخاصة، بخلاف الاسم الرب فإنه اسم جامع الأسماء التي تطلب الموجودات، كالعليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك ونحوها، فإن كل واحد من هذه الأسماء يطلب ما يقع عليه، العليم يطلب معلوماً، والخالق يطلب مخلوقاً، والقادر يطلب مقدوراً، والمريد يطلب مراداً، وما أشبه هذا. فيصحّ أن يقال لِوَاحِدِ من المخلوقات اسم من حضرة الأسماء الربية، ولمخلوق آخر اسم آخر من الأسماء الربية، فإن الاسم الرب له معان الملك والمصلح والسيد المعبود، وكل معنى من هذه المعاني تحته أسماء لا تحصى.

قول سيدنا:«والسعيد من كان عند ربه مرضياً، وماثمّ إلاّ من هو مرضي عند ربه لأنه الذي يبقى عليه ربوبيته، فهو عنده مرضي وسعيد. ولهذا قال سهل: أن للربوبية سرّاً - وهو أنت: يخاطب كلّ عين - لو ظهر لبطلت الربوبية. فأدخل عليه (لو) وهو حرف امتناع لامتناع، وهو لا يظهر فلا تبطل الربوبية لأنه لا وجود لعين إلاّ بربّه. فالعين موجودة دائماً فالربوبية لا تبطل دائماً)، يعني: أن السعيد السعادة الخاصة، سواء تقدمها شقاء أم لا، كان الشقاء قصيراً أو طويلاً، أوالسعادة المطلقة من كان عند ربه الخاص به المتوجه على تربيته من الحضرة الجامعة مرضياً، سواء كان هذا الاسم الخاص بهذا المخلوق من أسماء الجلال والقهر، أو من أسماء الجمال واللطف، فالربّ الخاص يدّبر مربوبه حسب مزاج المربوب، لأن الأرواح المدبرة التي هي صور الأسماء الربية إنّما ظهرت بصورة مزاج القوابل لا تتعدى في تدبيرها ما تقتضيه القوابل، وهي الصور المدبّرة (اسم مفعول). وماثمّ في حضرة الإمكان المربوبة إلاّ من هو مرضي عند ربه الذي يربه، فإنه ما صار رباً بالفعل إلاّ عند ظهور المربوب. فالرب والمربوب منتسبان، أو قل متضايفان، لا ظهور لأحدهما بدون الآخر، كسائر الأمور النسبية والإضافية. وإنما كان كل مربوب مرضياً عند ربه الخاص به لأن المربوب هو الذي يبقي على الربّ ربوبيته. فلو انعدم المربوب وجوداً أو تقديراً انعدم الاسم الذي يربّه، ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري إمام هذه الطائفة وعالمها رضي الله عنه : إن للربوبية سراً، السرّ هو مايكتم ويطلب على لبّ كل شيء وهو (أي السرّ) أنت يخاطب كل عين من الأعيان، والذوات المربوبة، لو ظهر وزال هذ السر الذي هو العين المربوبة لبطلت الربوبية، فإنه بزوال أحد المتضايقين أو المنتسبين يزول الآخر ضرورة. فأدخل سهل رضي الله عنه على هذه القضية الشرطية «لو» وهو حرف امتناع لامتناع، فإنه إذا دخل على ثبوتين كانا منفيين فهو لانتفاء الثاني لانتقاء الأول، وهو أي المربوب لا يظهر ولا يزول، فظهر هنا بمعنى زال فلا تبطل الربوبية لأنه لا وجود لعين من الأعيان المخلوقة إلا بربها الخاص بها الذي تعين لها من الحضرة الربية الإلهية الجامعة للأسماء والعين المربوبة موجودة دائماً فإنها بعد خروجها من الدنيا تنتقل إلى البرزخ ثم إلى الدار الأخرى الدائمة، فالربوبية لا تبطل دائماً.

قول سيدنا:( وكل مرضي محبوب، وكل مايفعل المحبوب محبوب، فكلّه مرضي، لأنه لا فعل للعين، بل الفعل لربها فيها فاطمأنت العين أن يضاف إليها فعل، فكانت راضية بما يظهر فيها وعنها من أفعال ربّها، مرضية تلك الأفعال لأن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته، فإنه وفّى فعله وصنعته حقّ ماهي عليه) :﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[ طه:20/50].

أي بيّن أنه أعطى كل شيء خلقه، فلا يقبل النقص ولا الزيادة.

يعني: حيث كان السعيد السعادة الخاصة من كان عند ربه مرضياً، وما ثم إلاّ من هو مرضي عند ربّه الآخذ بناصيته الماشي به على ما علمه الله منه وأراده به، وبالضرورة أن كل مرضي عنه محبوب، كان كل ما يفعل المحبوب المربوب من حيث نسبة الفعل إلى المربوب شرعاً محبوباً، فكانت العين المربوبة كلّها في جميع تصرفاته وتوجهاتها وتقّلباتها وجميع ما ينسب إليها مرضية عند ربها المتصرف فيها الماشي به على السبيل الذي يريده الله منها، فإنه في نفس الأمر لا فعل للعين المربوبة بل الفعل لربها فيها. فإنما هي كالهيولي لما تقبله من إيجاد الصور فيها، أو كالظرف لما يوجده ربّها فيها، فاطمأنت العين وسكنت بعد الاضطراب عندما كشف لها أنه لا فعل لها، وأن الأفعال الظاهرة منها في بادئ الرأي أفعال ربها المدّبر لها، وهو الاسم الخاص بها، الآخذ بناصيتها، فلا يضاف إليها فعل من الأفعال المحمودة أو المذمومة شرعاً. فكانت العين لذلك راضية بما يظهر فيها، فإن الفعل لابدّ له من محل يظهر فيه، وراضية بما يظهر عنها من حيث صورتها من أفعال ربّها مرضية تلك الأفعال عند ربها، محمودة أو مذمومة شرعاً لأنها أفعاله لا أفعال العين، وذلك حين كشف لها بأن الفاعل هو الله. وأفعال الله كلها كاملة الحسن، وقبحها ماهو عينها، وإنما هو حكم الله فيها. ويختلف زمان الكشف لهذا السرّ، فمنهم من يكشف له في دار الدنيا، ومنهم من يكشف له عند الموت، ومنهم من يكشف له يوم القيامة قبل نفوذ الوعيد، ومنهم من يكشف له بعد نفوذ الوعيد، إذا الإنسان في ترقّ دائم شقيه وسعيده، فأما السعيد فمعلوم، وأما الشقي فلا يعلم أنه في ترق في أسباب شقائه حتى تناله الرحمة ويقع له الفتح، فيعرف عند ذلك ما ترقى فيه في العلم بالله في تلك المخالفات التي شقي بها. ومن البديهيات أن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته، إذا الأفعال من حيث نسبته إلى ربها لا قبح فيها، فإن الرب وفّى فعله وصنعته حق ما هي عليه من الاستعداد الذاتي حال عدمها وثبوتها، فإن الله أخبر وهو الصادق:﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾[ النساء:4/122]أنه أعطى كل شيء خلقه واستعداده حالة إيجاده العيني، فلا يقبل شيء كان ما كان النقص في خلقه واستعداده، ولا الزيادة عليه. فالرب يفعل في كل عين حالة إيجادها ماعلمه عليه حالة ثبوتها وعدمها، بل هي لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وبهذا كانت الحجة البالغة لله على عبيده من كون العلم تابعاً للمعلوم ما هو حاكم على المعلوم؛ فإن قال المعلوم شيئاً يقول له الحق ما علمت هذا منك إلا من كونك عليه في حالة عدمك، وما أبرزتك في الوجود إلاّ على قدر ما أعطيتني من ذاتك. فيعرف العبد أنه الحق. لوّح سيدنا رضي الله عنه بما ذكر من أن كل عبد مرضي عند ربه، وكل مرضي عند ربه سعيد إلى شمول السعادة وعموم الرحمة في آخر الأمرة والمآل إلى النعيم بعد نفوذ الوعيد، وعمارة الدارين مع دوام بقائهم ودوام بقاء أهلهما فيهما. ولا يفهم من كلام سيدنا الرضا بكل مقضي، وإنما الرض بقضاء الله لا بكل مقضي. وإن رأيت وجه الحق فيه فإنك إذا كنت صحيح الرؤية ترى الحق غير راض عنك فيه ولا يرضى لعباده، الكفر فإنه زهوق ومزلة أقدام.

قول سيدنا: ( فكان اسماعيل عليه السلام بعثوره على ما ذكرناه عند ربه مرضياً. وكذا كل موجود عند ربه مرضي. ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضياً على ما بيّناه أن يكون مرضياً عند رب عبد آخر لأنه ما أخذ الربوبية إلاّ من كلّ ل من واحد. فما تعين له من الكل إلا ما يناسبه، فهو ربه. ولا يأخذه أحد من حيث أحديته). يقول رضي الله عنه : إنما وصف الله ئ في القرآن إسماعيل عليه السلام بأنه كان عند ربه مرضياً، وخصه بهذا الوصف مع أن كل مخلوق بهذه الصفة شقيه وسعيده بسبب عثوره وإطلاعه عليه السلام من طريق كشفه في طور ولايته على ما بيناه من أنَّ كل موجود ليس له إلاّ ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل. وأن السعيد من كان عند ربه مرضياً وما ثم إلاّ ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل. وأن السعيد من كان عند ربه مرضياً وما ثم إلاّ من هو مرضي عند ربه، وأنه لو زال المربوب زال الرب، والمربوب لا يزول . وأن فعل العين المربوبة هو فعل ربّها فيها، وأن كل فاعل يحب فعله. وأنه تعالى أعطى كل شيء خلقه. ثم نبه سيدنا رضي الله عنه دفعاً لما عساه يتوهّم أنه لايلزم من كون كل موجود مرضياً عند ربه أن يكون ذلك العبد المرضي عند ربه مرضياً عند ربّ عبد آخر، فإن عبد المضل مثلاً لا يكون مرضياً عند الاسم الهادي، وأن عبد العاصي لا يكون مرضياً عند رب المطيع، وعبد الاسم المانع لا يكون مرضياً عند الاسم المعطى، وعلى هذا فقس. وإنما كان هذا الأمر هكذا لأن كل موجود ما أخذ ربه المتعين لتربيته وتدبيره إلاّ من كل، وهي الحضرة الكلية الكثيرة الأسماء المتضادة لا أنه أخذ الربوبية التي هو بها مربوب من واحد وحدة حقيقية، فما تعين لكل عبد من الحضرة الكلية الربية إلاّ ما يناسبه من الأسماء، إذ الأعيان الثابتة هي صور الأسماء الربية في العلم الذاتي. فكل عين لبست حلة والوجود تعين لها اسمها الذي هي صورته. ولا يأخذ أحد من المخلوقات الرب تعالى من حيث أحديته، فإن الأحدية لا تقبله، إذ لا اسم ولا رسم ولا حق ولا خلق هناك، فإنه لا نسبة بين المخلوق والأحدية الذاتية وإنما النسبة بين الرب والمربوب فكل منهما يطلب الآخر.

قول سيدنا: (ولهذا منع أهل الله التجلّي في الأحدية، فإنك إذا نظرته به فهو الناظر نفسه فما زال ناظراً نفسه بنفسه، وإن نظرته بك فزالت الأحدية بك، وإن نظرته به وبك فزالت الأحدية أيضاً، لأنّ ضمير التاء في (نظرته) ما هي عين المنظور، فلا بدّ من وجود نسبة ما اقتضت أمرين ناظراً ومنظوراً، فزالت الأحدية وإن كان لم ير إلاّ نفسه بنفسه. ومعلوم أنه في هذا الوصف ناظر منظور). يعني: أنه لكون كل موجود إنما أخذ ربه الخاص به من الكلّ فتعينّ له واحد من كثير ما أخذه من واحد منع أهل الله التجلي في الأحدية لأحد من المخلوقات، إذ الأحدية ذات محض لا ظهور لاسم فيها، فضلاً عن أن يظهر فيها مخلوق، فهي لذاتها تنفي الغير لمنافاته للأحدية. ولم كانت الأحدية ذاتاً محضاً والذات لا تقييد لها منع أهل الله التجلي الذاتي في غير مظهر. وجميع التجليات الواقعة للعباد في الدنيا والآخرة لا تخرج عن التقييد. فإنه تعالى من حين خلق الخلق ما تجلى إلاّ في رُتْبَة التقييد، فلهذا لا يكون التجّلي للاسم الله ولا للأحد، وإنما يكون للإله الرب والرحمن الأحدية، وهوقوله: (فإن نظرته به) بأن كان هو تعالى عينه بصرك كماورد في الصحيح: (كنت بصره) فهو الناظر نفسه في صورة غيره. فالبصر من الناظر هوية الحق تعالى إذ عينه حينئذ عين بصرك، فما زال أزلاً ناظر نفسه بنفسه كنت معدوماً أو موجوداً. وهل تصدق أنك رأيته إذ كان الحق بصرك إذا رأيت، أو الحال واحدة في بصره إذا كان في مادة عينك أو بصرك. هذا مشهد من مشاهد الحيرة عند أهل الله تعالى وإن (نظرته بك) فقد زالت الأحدية بك، فإن حقيقة الأحد هو الذي لا غير معه، وإن (نظرته به وبك) فقد زالت الأحدية أيضاً. فإن التاء التي هي ضمير ما هي عين المنظور إليه، بل هوغير، ولا غير مع الأحدية. فلا بد في (نظرته به وبك) من نسبة مامن نسب، اقتضت تلك النسبة الجمع بين أمرين ناظراً ومنظوراً إليه، فهو ناظر بالنسبة إلى صورة الناظر، ومنظور إليه بالنسبة إلى الصورة التي وقعت بها الرؤية بتجليه فيها. فزالت الأحدية بتعدد الصور وإن كان هذا راجعاً إلى أنه لم ير نفسه إلاّ بنفسه في الصورتين ومعلوم أن تعالى في هذا الوصف ناظر ومنظور.

تنبيه نبيه

إن أهل هذا اللسان الواقفين في ميادين البيان قسموا التجليات إلى تجلّ فعليّ وتجلّ أسمائي وتجل صفاتي وتجلّ ذاتي، فأما التجلي الفعلي فمعلوم، وكذ التجلي الأسمائي والتجلي الصفاتي. وأما التجلي الذاتي فإنما يعنون به تجلي الحق تعالى للعبد من حيث أنه لا يظهر لذلك التجلي نسبة إلى اسم ولا صفة و لا نعت ول إضافة، فالتجلي الذاتي عند الطائفة العلية هو تجلي الذات من حيث الذات الإلهية ل من حيث الذات الأحدية، فإنه مِنْ أمحل المحال، ولا يقول به أحد من الناقصين فضلاً عن أهل الكمال. إذ الذات الأحدية هي الوجود المطلق عن الإطلاق والتقييد لا ظهور لشيء معها مما ينافي أحديتها. هذا المراد بالتجلي الذاتي عندهم وإن كان لفظ التجلي الذاتي ربما يوهم شيئاً خلاف المراد.

قول سيدنا رضي الله عنه : (فالمرضي لا يصح أن يكون مرضياً مطلقاً إل إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه. ففضل إسماعيل غيره من الأعيان بم نعته الحق به من كونه عند ربه مرضياً، وكذلك كل نفس مطمئنة قل لها:﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾.

فما أمرها أن ترجع إلى ربها الذي دعاها فعرفته من الكل:﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾. من حيث ما لهم هذا المقام. فالعباد المذكورون هنا كل عبد عرف ربه تعالى واقتصر عليه ولم ينظر إلى ربّ غيره مع أحدية العين: لابدّ من ذلك).

أشار سيدنا رضي الله عنه بهذه الجملة إلى المرضي مطلقاً، وهوالسعيد مطلقاً، الذي لا يسبق سعادته شقاء، إذ من كان مرضياً عند ربه الخاص فقد لا يكون سعيداً مطلقاً، بخلاف من كان عند ربّه الحضرة الجامعة للأرباب مرضياً. فأخبر رضي الله عنه أنه لا يصح أن يكون العبد المرضي مرضياً به هذا العبد من الأفعال من حيث صورته الظاهرة هو من فعل الراضي بتلك الأفعال في العبد المرضي. فإن الحضرة الربية تتوارد أسماؤها المختلفة الآثار على كل عبد شقي أو سعيد، فتختلف أحوال العبد لاختلاف تأثير الأسماء، وإن كان كل عبد له اسم خاص به إليه مرجعه في شؤونه كلها. فالأسماء الربانية المختلفة الآثار تتوارد على هذا الاسم الخاص، فإن التصريف الرباني الإلهي يرد من اسم رباني على اسم رباني متعلق بمظهر كياني، فيحرك الاسم الرباني الخاص عبده إلى الأمر الوارد عليه من الحضرة الجامعة، فهو الذي ينفذ ما تطلبه الأسماء مع وحدة العين الذت، فالمرضي مطلقاً هو من كان مرضياً عند الرب الكل الجامع للأرباب، والأرباب مختلفة كاختلاف المربوبين. وكما لا يوجد عبد يشبه عبداً ويماثله من كل وجه، كذلك لا يوجد رب يشبه رباً من كل وجه، فإما أن يكون من أرباب الجمال والرحمة، وأما أن يكون من أرباب الجلال والقبض والقهر لما اقتضته القبضتان. فالمرضي مطلقاً السعيد مطلقاً من كان يشاهد هذا الشهود المذكور. ثم اعلم أنه لم كانت الحضرة الربية مختلفة الآثار جامعة للأضداد أثنى تعالى على من خافها ووعده بالجنات وأمر بخوفها واتقائها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[ النساء: 4/1].

وقال:﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾[ النازعات: 79/40- 41].

وقال:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾[الحج: 22/1].

فلا يدري العبد أي اسم يتلقاه من الحضرة الجامعة من أسماء الرحمة أو من أسماء القهر، فهي تخاف وترجى لذلك ولا أمان لها. والحضرة الجامعة، وإن كانت هي غاية كل طريق والوصول إنما هو إليها فالشأن هو بأيّ اسم يصل إليها فينفذ في الواصل إليها أثر ذلك الاسم من سعادة ونعيم أو شقاوة وعذاب. فإن الطريقين مبدؤهما واحد ونهايتهما واحدة ومختلفان في الوسط. فقول هود عليه السلام:﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[ هود: 11/56].

يعني فيما شرع مع كونه آخذا بنواصي عباده إلى ما أراد بهم، فالكل تحت قبضة الأسماء، فمن خالف وافق الإرادة. ففضل إسماعيل عليه السلام بهذا الشهود والعلم من طور ولايته غيره من الأعيان التي ليس لها هذا الشهود والعلم وبما نعته الحق من كونه عند ربه مرضياً، وكذلك كل نفس مطمئنة لها هذا المقام في العلم والشهود فإنها مرضية عند ربها مطلقاً. وبهذا العلم والشهود صارت مطمئنة، وقد كانت مضطربة في نسبة الفعل الظاهر منها، هل هو لله وحده، أو للعبد وحده، أو لله من حيث الخلق وللعبد من حيث الكسب، أو هو مشرك بين قادرين لكل واحد منهما نسبة في الفعل ولَمَّا اطمأنت قيل لها:﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾.

فما أمرها الحق أن ترجع إلاّ على ربها الخاص الذي دعاها إليه، فعرفته من الكل للمناسبة التي بينه وبينها، وبإيجادها كان رباً، فهو الوجه الخاص لها من الكل، والأسماء الربيّة أشد طلباً لإيجاد المربوبين من المربوبين، لمحبة الظهور والتأثير الساريين في الأسماء وقد كانت العين في الثبوت صورة ربها الخاص فهو يعرفها لذلك دعاها، وعرفته هي لما نظرت صورتها لأن:«من عرف نفسه عرف ربه».

ولما أمرها أن ترجع إلى ربها راضية عنه مرضية عنده أمرها أن تدخل عباده الخصيصين المصطفين المضافين إلى ذاته، إضافة تشريف وتكريم، من حيث ما لهم هذ المقام المذكور، وقوله: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾.

وهم كل عبد عرف ربه الخاص، ولو نظر إلى رب غيره، وكان أعلى من ربه، ربم لا يكون راضياً عن ربه على سبيل الفرض، ولما عرف ربه اقتصر عليه ولم ينظر إلى ربّ غيره. وإن المدد يأتي من باطن الشيء إلى ظاهره، فلا يعقل أحد ربه إلا مدبراً له، ول عرف إلا هو معرفة شهودية. وأما من حيث العلم فإنه قد يعلم بعض العبيد ربّ غيره ومن لازم مقام هؤلاء العبيد المذكورين شهود أحدية العين التي هي الحضرة الربية مرتبته لابد من ذلك.

قول سيدنا في تمام الآية:﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. ( التي هي ستري. وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك. فلا أعرف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي. فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف. فإذا دخلت جنته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها، فتكون صاحب معرفتين: معرفة به من حيث أنت، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت).

أشار رضي الله عنه بهذه الجملة على سبيل الترجمة إلى حقيقة النفس الإنسانية بالأصالة، فإن الله خلقها على صورة الله، أو على صورة الرحمن، وهي واحدة وحدة حقيقية عددتها الصور الإنسانية لتعدد الصور، فحددت لها أسماء وصفات، فقيل فيها: مطمئنة لوامة أمارة... إلى غير هذا. وهي المسماة بالأصالة: بالإنسان الكامل. فإن الله - السلطة التنفيذية تعالى - أول ما تجلّى بالنور الذي فتق العماء، كان هذا النور مرآة للتمايز، فتميزت صورته المسماة بصورة الرحمن على سبيل الانطباع - ولله المثل الأعلى - فكان الناظر نفسه في المرآة هو الحق تعالى والمنظور هي صورة الإنسان الكامل، فاستتر الحق وانحجب بظهور النفس الإنسانية الكمالية، لأنه مثل، والمثلان لا يجتمعان. وهذا من أعجب الأمور. بالنفس الكمالية الإنسانية ظهر الحق بها واستتر، فجمع الإنسان بين الحجاب والظهور، فهو المظهر الساتر، يشهد الحق تعالى منه ذلك لأنه على ذلك خلقه، ويشهد الإنسان من نفسه ذلك. فالنفس الإنسانية هي الإزار والرداء، فلذا كان الحق تعالى لا يعرف إلا بالنفس الإنسانية، فمعرفته فرع عن معرفتنا بالنفس، إذ هي الدليل عليه، وإن كان وجوده تعالى هوالأصل، فإن الأصل تعالى علم العالم من علمه بنفسه، فلا مظهر لنا إلا هو ولا ظهور لنا إلاّ به، فمنه عرفنا أنفسنا، وبنا تحقق ما يطلبه الإله منّا.

قال الحق تعالى للإنسان الكامل النفس الإنسانية: « وكما أني ل أعرف إلاّ بك كذلك أنت لا تكون إلا بي فإنّ وجودك ليس من ذاتك وأنا الوجود الواجب بالذات». فنحن به وله، به موجودون وله عابدون، فمن رأى أو علم النفس الإنسانية الكمالية عرف من هي على صورته، ولا يعرف الإنسان الكامل إلاّ الله الذي استخلفه، ول يعرف الله إلاّ الإنسان الكامل، فإنه من نفسه عرف الحق تعالى وما عرف أحد الإنسان الكامل لا ملك ولا غيره. فلم يدركه من المخلوقات سابق ولا لاحق، ولما كان هذا الارتباط بين الحق تعالى وبين النفس الإنسانية الكمالية، يقول الحق: فمن عرفك عرفني. لأن الصورتين متماثلتان، وأنا لا أعرف من حيث الذات، فأنت لا تعرف من حيث أنك الظل القائم بذي الظل، فإن الظل له عين ظاهرة ممتدة عما هي ظله، وله حقيقة معقولة قائمة بما امتد منه الظل الظاهر، فإذا دخلت - أيها المأمور بالرجوع - جنته التي هي ستره، فإن الجنة من الاجتنان، وهو الاستتار، فقد دخلت نفسك مرة ثانية به بك من حيث هو وقد دخلتها أولاً به من حيث أنت .

فههنا معرفتان، المعرفة الأولى: أن تعرف نفسك وربك بربك من حيث أنت حيث يكون الوجود الحق تعالى مظهراً، فهي مرتبة قرب النوافل المعتبر فيها أن الحق تعالى المتجلّي كالآلة لإدراك العبد المتجلي له، فإن عين العبد باقية. وعليه عاد الضمير في قوله «كنت سمعه وبصره». فيكون العبد مدركاً ومشاهداً بربه ونفسه موجودة .

المعرفة الثانية: أن تعرف نفسك وربك بربك، فيكون الحق تعالى مدركاً ( اسم فاعل) بالعبد من حيث الحق لا من حيث العبد. وهذه مرتبة قرب الفرائض المعتبر فيها أن العبد مظهر للوجود الحق، فيكون العبد كالآلة للحق تعالى ويكون الحق تعالى كالآلة للعبد المتجلي له فنفوز حينئذ بالكمال المطلق.

قال سيدنا رضي الله عنه:

فأنت عبد وأنت رب

 

لمن له فيه أنت عبد

وأنت رب وأنت عبد

لمن له في الخطاب عهد

فكل عقد عليه شخص

 

يحله من سواه عقد

الخطاب لكل إنسان، بم هو إنسان، فإن الحقيقة الإنسانية سارية في كل إنسان، فيقال في عبد من حيث أنه مكلف مأمور منهي، ولم يكن الإنسان موجوداً، ثم كان كسائر المخلوقات. ويقال فيه رب، من حيث أن الله خلقه على الصورة الربانية الإلهية وجعله جامعاً بين الصورة الربانية الوجوبية، والنسخة الكونية الإمكانية. فهو برزخ بين الحق والخلق، وجامع بينهما. فإن البرزخ فيه قوة ما هو برزخ بينهما، فهو برزخ بين الحق الخلق، وجامع بينهما. فإن البرزخ فيه قوة ما هو برزخ بينهما، فالعالم كله لا يقبل الألوهية . والحق تعالى لا يجوز عليه الاتصاف بما يناقض أوصاف الألوهة. والإنسان له نسبتان: نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية، ونسبة يدخل بها إلى الحضرة الإمكانية، فله الكمال المطلق في الحدوث والقدوم، فما أشرف الإنسان وما أطهره وما أخسّه وما أدنسه، إذ كانت الحقيقة الإنسانية في محمد صلى الله عليه وسلم وفي فرعون، فإذا كمل الإنسان وتحقق بالحقيقة الإنسانية التحق بالربّ الحاقاً معنوياً.

لمن له فيه أنت عبد

«من». موصولة، وهي واقعة على العالم، وهوكل ما سوى الله تعالى وضمير «له» يعود على الحق تعالى وضمير «فيه» يعود على العالم، أي أنت للعالم الذي أنت فيه، عبد لله. فإن الله لما خلق الإنسان الكامل المسمى بالروح الكل فوض أمر المملكة له، وجعل توجهه شرطاً في إيجاد كل موجود، فهو الخليفة عن الرب تعالى ـ والخلافة عن الربوبية ربوبية، فهو ظاهر بحكم ملك يتصرف في الملك بصفة سيده ظاهراً، فله الأثر الكامل في جميع الممكنات، والمشيئة التامة، فهو إله في العالم وهوالمنزه عن النقائض كلها، فهو في السماء إله وفي الأرض إله، لأنه المتصرف في العالم العلوي والسفلي، أفلاك وأملاك، مكنه الله من إطلاق جميع أسماء الرب عليه، فله أن يدعى بكل اسم رباني، ولا تعطى الأسماء الربانية الإلهية شيئاً إلا بإذنه.

قوله:

و أنت رب وأنت عبد

لمن له في الخطاب عهد

الخطاب عام لكل إنسان كما تقدم. يريد: أن النسبة الربية التي هي إحدى نسبتي الإنسان، هي النسبة الحقيقية الأصلية المتقدمة على نسبة العبودية إليه، إذ الحقيقة الإنسانية قديمة أزلية مقدسة عن الحدوث، ونقائصه. وإنما الحادث ظهورها كم قال:﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾[ الشعراء:26/5].

وهو كلام الله القديم، فالحادث إتيانه عندنا، فالربوبية في الإنسان مقدمة على عبوديته، فلذا قدّم رضي الله عنه ذكر الرب في هذا البيت فقال:

وأنت رب وأنت عبد

فإن الإنسان إنما كان عبداً مربوباً مقهوراً حتى أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم، مثل الذر متجسدين في صور جسدية نورانية برزخية وأشهدهم على أنفسهم: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾.

أنت ربّنا ومالكنا فأخذ عليهم العهد إذا خرجوا من الدنيا أن يكونو عبيداً له مربوبين لربوبيته عليهم، فعبودية الإنسان طارئة على ربوبيته، فإن عبوديته ما كانت إلا حين العهد الذي أخذ على آدم وبنيه أزلا، ولا زمان. ليس عند ربك مساء ولا صباح. ولكن التفهيم يقتضي هذا الترتيب.

وقوله رضي الله عنه :

فكل عقد عليه شخص

 

يحلّه من سواه عقد

أشار بهذا إلى أن الحق تعرف لكل مخلوق بوجه من الوجوه الإلهية الربانية، ما تعرف به لغيره، والله واسع عليم، فوجود المعارف على عدد الخلائق. تعدّدت الأرباب لتعدد الخلائق، فكل مخلوق له رب يعتقده يخالفه غيره من سائر المخلوقات في اعتقاده بربّه، وذلك لاختلاف أمزجة الخلائق، فما اجتمع اثنان في عقد واحد من كل وجه في الرب تعالى فما عرف أحد إلا نفسه في مرآة الربوبية، فكل أحد تخيل في ربه أنه كذا فعبد ما تخيل له. وقد ورد في حديث غريب: «إن الله خلق نفسه».

المراد أنه خلق ما تخيله المتخيلون في مخيلتهم فعبدوه وهو هو عند كل متخيّل، فالأرباب المعبودة المتعددة هي المتخيلة، لأن الإله الذي دعا الشارع إلى عبادته ومعرفته وجاء بأوصافه ونعوته لا يعقل إلا متخيّلاً ولا يدركه أحد على ما هو في ذاته. والاسم الرب من حيث دلالته بالوضع يعطي أنه هو الذي يسع الاعتقادات كلّها، وإن تباينت واختلفت، فيظهر في نفس كل معتقد بصورة معتقدة، فلهذا كان العارفون لا يتقيدون بمعتقد دون معتقد، ولا ينتقدون اعتقاد أحد من المسلمين في ربّه دون أحد، لوقوفهم مع العين الجامعة للاعتقادات. فكانوا كالواقفين على أفواه السكك الموجهة للحضرة الإلهية إذ هي منتهى كل طريق، فلا يرون طريقاً إلا ونهايته إلى تلك الحضرة. ولولا الشرائع ما كان هناك أمر يعطي الشقاء إذ ما ثمّ شيء في العالم إلاّ وهو مستند إلى إلهية، ولم لم يكن الحق له تعالى هذا السريان في الإعتقادات كان بمعزل، ولصدق القائلون بكثرة الأرباب، أرباب متفرقون. وقد قضى:﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾.

في كل معتقد إذ هو عين كل معتقد واعتقاد، فما اجتمع اثنان في معتقد واحد من كل وجه، وإن انتسبوا إلى طريقة واحدة من سائر الملل والنحل على تعداده وكثرتها التي لا يحصيها إلا الله تعالى والعارفون وإن كانوا بهذا العقد في اعتقاد تسريح الرب تعالى وعدم تقييده وقولهم به في صورة كل اعتقاد وإيمانهم بذلك يخافون أن كون اعتقادهم هذا مثل باقي الاعتقادات في الربّ تعالى يتخيلون أنهم مع الرب الجامع للاعتقادات، وهم مع ربهم الخاص، فلا يزالون خائفين. فمن عرف الحق بالحق شاهده في كل شيء أو مع كلّ شيء أو عين كل شيء أو قبل كل شيء أو بعد كل شيء، حسب اختلاف المشاهدات، ومن عرف الحق بنظره وفكره شهده منعزلاً عن العالم بعيداً عن المخلوقات. ثم اعلم أن جميع عقائد الخلق لا يصح ذوقها إلا لأصحابها. وأما غيرهم فإنما لهم العلم بما استندت إليه عقائد غيرهم من الحقائق الإلهية. والأذواق كلّها لا تضبطها عبارة ولا يصحّ تحديدها في المحسوسات فضلاً عن المعاني الباطنة، فحظ كل إنسان من النظر إلى الرب تعالى في الدار الآخرة إنما هو على قدر ما عنده من وجوه الاعتقادات، فإن حصل على الجميع فحظه ما للجميع من النعيم لكنه نعيم علم لا نعيم ذوق .

قول سيدنا رضي الله عنه : (فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون، ورضوا عنه فهو مرضي. فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال، والأمثال أضداد لأن المثلين حقيقة ل يجتمعان إذ لا يتميزان وما ثمّ إلا متميز فما ثمّ مثل، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضدّ فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه.

فلم يبق غير الحق لم يبق كائن

فما ثم موصول وما ثم بائن

بذا جاء برهان العيان فما رأى

 

بعيني إلاّ عينه إذ أعاين

المراد بالعبيد الذين رضي الله عنهم فهم مرضيون ورضوا عنه فهو مرضي، العبيد الذين عرفوا الله حق المعرفة حسب الطاقة البشرية، فكانوا عبيداً لرب الحضرة الجامعة، فهم المرضيون مطلقاً ولهم السعادة المطلقة، ولذا قال: (فرضي الله). فذكر الاسم الجامع، فليس المراد بالعبيد هنا كل عبد عرف ربه الخاص فقط، وقد وصف الله نفسه بالرضا عن عبيده في القرآن، وإن لم يبذلوا استطاعتهم في مرضاته كرماً وفضلاً، فإنه ما قدر أحد الله حق قدره، وأما رضاء العبيد عن الله فمتعلق رضاهم الموجود فرضوا به من الله وعن الله فيه، والموجود كلّه قليل بالنسبة لما عند الله، فإن كل ما دخل الوجود متناه وما عند الله لا يتناهى، ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾ لاينفذ، فلذا كان الرضا من الله هل به وبما عنده، فالعالم يعلم أن الله أعظم وأجل من أن يرضى العبد منه بالقليل، وهوالموجود، فإنّ يد الله ملأى سحّاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فهو تعالى مرضى عنه لا منه، فاللازم للعبد أن يطلب المزيد في كل نفس. وقد ورد في الخبر: «إذا سألتم الله فعظموا المسألة فإن الله لا يتعاظمه شيء» .

وقال بعض السادة: القناعة من الله حرمان. ولما قال تعالى:﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾. تقابلت الحضرتان: الحضرة الإلهية والحضرة العبدية، فإنه خلقنا على الصورة فجعلنا مثلاً له. ومن حيث جعل تعالى للعبد قدراً واعتباراً بذكره رضاء العبد عن سيده في مقابلة رضا الله عن عبده، فتقابل الرب والعبد تقابل الأمثال، أي الذوات المتماثلة، فإن المثل قد يراد به الذات كقوله: مثلك لا يفعل هذا. أي أنت لاتفعل. والأمثال أضداد، أراد بالضد المنافي المتأخر في عدم الاجتماع لاالضد في الاصطلاح، فإن الضدين في الاصطلاح بينهما غاية الخلاف، فأطلق الضدّ على المثل من حيث أن المثلين حقيقة لا يجتمعان، كالبياضين مثلاً والسوادين إذ لا يتميّزان لو فرض اجتماعهما في موضع واحد. وما ثم في الموجودات الخارجية إلاّ متميز، فالأحدية سارية في كل موجود الحق والخلق، فالشء الذي يتميز به هو أحديته وتميزه:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فآية كل شيء هي أحديته وتميزه. قال أبو نواس - رحمة الله- لما سمع بهذ البيت لأبي العتاهية: (وددت أن هذا البيت لي بجميع شعري). وحيث ثبت التمييز بين الموجودات حقاً وخلقاً ثبت أنه ما ثمّ مثل في الوجود. ولما انتفت المثلية انتفت الضدّية، فلا ضد في الوجود. فإن الوجود حقيقة واحدة لا تتعدد ولا تتجزأ ولا تتبعض. والشيء الواحد وحدة حقيقة لا يضاد نفسه. والمراد بهذا الذات فإنها لامثل لها ول ضد، إذ هي عين المتضادات والمتنافيات، فلا غير لها ولا سوى. وأمّا من حيث الألوهية والربوبية فلها ضد وسوى وهو المألوه والمربوب.

وقوله:

فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن

 

فما ثم موصول وما ثم بائن

أشار رضي الله عنه بهذا البيت إلى المقام الذي تضمحل فيه أحوال السائرين وتنعدم فيه مقامات السالكين، فيه بيّن اعتقاد العارفين ومشهد الواصلين، وأنهم لا يرون إلا الحق تعالى وإن خالطوا الناس وعاشروهم، فليسوا معهم، وإن رأوهم لم يروهم من حيث هم فلا يرون منهم إلا كونهم من جملة أفعال الله، فهم يشاهدون الصانع في الصنعة فلا تحجبهم الصنعة عن الصانع، فلا جمعهم يحجبهم عن فرقهم، ولا فرقهم يحجبهم عن جمعهم. شربوا فازدادوا صحوا، وغابوا فازدادوا حضورا. مقامهم: كان الله ولا شيء معه، ولم يزل كذلك، ولا يزال كذلك، ولا شيء معه. فالعالم بأسره على تفاصيله وتعداده عندهم إنما هو ظهور الحق في مظاهر أعيان الممكنات بحكم ماهي عليه الممكنات من الاستعدادت، فاختلفت وتميزت، فما في الوجود إلاّ الله. وأحكام الأعيان الثابتة معدومة فهي لا هي في الوجود لأن الظاهر أحكامها فهي لا عين لها في الوجود، وأحكامها إنّما هي معان ونسب لا موجودة ولا معدومة، ولكن الخيال جسدها في عين الوجود الحق فهي - ولله المثل الأعلى - مثل الصور الظاهرة في الأجسام الصقيلة، هي لا هي، فكلّ عين متصفة بالوجود هي لا هي، فالعالم كله هو لا هو، والحق الظاهر بالصور هو لا هو، فهوالمرئي الذي لا يرى، فليس الوجود الحقيقي إلا الذات الحق تعالى والعالم كله في الوجود الخيالي. ولما ظهرت الأعيان الثابتة في الوجود الحق أعطته أسماءها فسمي عرشاً وكرسياً وعقلاً ونفساً وطبيعة وملكاً وإنساناً. وكل هذه الأسماء التي للممكنات إنما هي لعين واحدة، فالمعلوم خلاف المشهود، فإن البصر رأى وشهد فيقول هناك عالم، والعلم وشهود البصيرة يقول ( ما ثم إلا الله) ولا يكذب واحد منهما فيما يقول ويشهد، فهذه حيرة العارفين. ولا يعلم العالم الممكن المحدث ما هو إلا من علم ما هو قوس قزح وألوانه والحرباء وتلونها، كذلك صور المحدثات واختلافها، فإنك تعلم علماً يقيناً أنه ما ثمّ لون ولا متلون مع شهودك ذلك يبصرك، كذلك صور العالم في الوجود الحق، فتقول أن هناك عالم لأنك تشهده ببصرك وما ثم عالم فليس إل الله المسمى بالخلق، وإذا انتفى كون العالم شيئاً مقرراً انتفى أن يكون هناك موصول بالحق أو باين منه، فإنه لاغير ولا سوى، فمن يتصل ومن ينفصل. فبهذا الشهود والمعاينة ، من عدم العالم في شهود العارف، والعالم باق على ما هو عليه وما هو بغير ولا سوى، جاء ببرهان العيان. ولا عطر بعد عروس، لا برهان النظر الفكري بترتيب المقدمات وإنتاج النتائج إذا عاين أخبار العارف عن نفسه بهذا الشهود. والمعاينة أنه لا يرى إلا عين الحق إذا عاين شيئاً. يقول المحجوب فيه: إنه غير الله وسوى الله.

ثم اعلم أن العارفين في الشهود على طبقات، فالخاصة يرون الوحدة من غير كثرة إلا عقلاً. وخاصة الخاصة يرون الوحدة في الكثرة ولا غيرية بينهما. وخلاصة خاصة الخاصة يرون الكثرة في الوحدة. وصفاء خلاصة خاصة الخاصة يجمعون بين الشهودين، وهم في هذا الشهود على طبقات عال أو أعلى وكامل وأكمل. وأعلى من الجميع من يشهد العين الجامعة مطلقة عن الوحدة والكثرة والجمع بينهما. وأما مشاهدة الحق قبل كل شيءأو بعده أو معه أو فيه فكلها ناقصة لما فيه من التجديد، بالقبلية والبعدية والمعية والظرفية، والكاملون لا ينفون العالم كما ينفيه أهل الشهود الحالي الذين غلبت عليهم مشاهدة الوحدة، ولا يثبتون العالم كما يثبته أهل الحجاب على أنه غير وسوى والحق مباين له منعزل عنه.

قول سيدنا رضي الله عنه :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾. (أن يكونه لعلمه بالتمييز لما دلنا على ذلك جهل أعيان في الوجود بما أنا به عالم. فقد وقع التمييز بين العبيد، فقد وقع التمييز بين الأرباب. ولو لم يقع التمييز لفسّر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسره الآخر به. والمعز لا يفس بتفسير المذل إلى مثل ذلك، لكنه هو من وجه الأحدية كما نقول في كل اسم أنه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو. فالمسمى واحد: فالمعزّ هو المذل من حيث المسمى، والمعز ليس المذل من حيث نفسه وحقيقته، لأن المفهوم يختلف في الفهم في كل واحد منهما).

الإشارة بذلك إلى الرضى الحاصل من الربّ لعبده، ورضى العبد عن ربه تعالى لمن خشي وخاف وهاب ربه، الحضرة الربية الكلية. فليس المراد (خشي ربه) الخاص به، فإن عبداً لا يخشى ربه الخاص به، إذ الرب الخاص راض عن عبده على كل حال، والعبد راض عن ربّه الخاص. وما خشي هذا العبد العالم ربه الكلي إلا لعلمه بربّه الكلي، فإن العلم بالرب تعالى يورث الخشية.

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[فاطر:35/28].

لعلم العالم بالرب تعالى وتميزه بالحقائق الربيّة إذ الربّ وإن تنزل، والعبد عبد وإن تسمّى بأسماء ربّه وتحقّق بها، وكان الحق تعالى سمعه وبصره وجميع قواه. ومع هذا لا يُعقل بون بين العبد والرب. فمن خشية العالم بربه خشية أن يبتليه بما ابتلي به بعض العبيد بأن يجد في نفسه أنه الله فيقول أنه الله، كأصحاب حضرة الجمع، فإنها حضرة تزل فيها الأقدام. أو يقول أنه الله من غير أمر إلهي ولا باعث يقتضي بهذا القول، وما قالها من الكمل إلاّ بأمر إلهي، كأبي يزيد وأمثاله رضي الله عنه أوغلبة حال أو غيبة من عقل التكليف، وإن الأكابر يخافون أن يبدو منهم ما يوجب الاستغفار أو الاعتذار فيطلبون الستر من الله أن يحكم عليهم حال من شأنه يبدو منهم لحكم ذلك الحال ما ينبغي أن يستر، ولو كان حقاً، إذ ما كل حق يقال. ومن هذا القبيل يكون استغفار المعصومين من الأنبياء والمحفوظين من الأولياء من غير ذنب. وكيف يصح لعبد أن يقول أنه الله ويدعي هذه الدعوة وهو يجوع ويمرض ويتغوط وتزعجه قرصة برغوث أو بعوض؟! قال الشيخ رضي الله عنه عن نفسه: دلنا على التمييز بين الربّ والعبد وعرفنا ذلك جهل أعيان وذوات غافلة بما أنا به عالم. فقد وقع التمييز بين العبيد بالعلم والجهل والعقل والبله ونحو ذلك. فلولا التمييز بين العبيد لكان ما يعلمه زيد لا يجهله عمرو، والأمر على خلاف هذا. وهو أحدية كل شيء، فم اجتمع اثنان فيما يقع به الامتياز، ولو وقع الاشتراك من كل وجه ما امتازت الأشياء حساً وعقلاً، وإن كان ثمة صفة يقع فيها الاشتراك فلا بد من أحدية تميّزه وتخصه. وكما وقع التمييز بين العبيد وقع التمييز بين الأرباب الذي هو سبب تمييز العبيد عن بعضهم بعضاً، ولو لم يقع التمييز بين الأرباب لفسر الاسم المعزّ مثلا، - فإن معناه الذي يعطي العزة للعبيد. فيكون العبد عزيزاً منيع الحمى قاهراً لمن ناوأه - بتفسير الاسم المذل، ومعناه: الذي يجعل العبد ذليلاً مغلوباً، وهذا لا يصح. ولكن الأسماء الربية وإن تكثرت واختلفت معانيها فلها وحدة توحد كثرتها، إذ كل كثرة لابدّ لها من وحدة تجمعهاكالمعزّ مثلاً وهو المذل من وجه الأحدية الذاتية التي اتحدت فيه الأسماء على وجه البطون من غير كثرة ولا ظهور. كما نقول في كل اسم من الأسماء الإلهية أنه دليل على الذات العلية المسماة به ودليل على حقيقته ومعناه من حيث م هو موضوع لذلك المعنى الخاص به. فالمسمى واحد، فالمعز هو المذل من حيث دلالتها على المسمى، والمعز ليس هو المذل من حيث حقيقته ومعناه الخاص الذي وضع له. لأن المفهوم من كل اسم منهما يختلف في الفهم. والحاصل أن كل اسم من الأسماء الإلهية له اعتباران: اعتباره من حيث دلالته على الذات العلية، فهو بهذا الاعتبار عين الذات وعين غيره من جميع الأسماء الإلهية، فكل اسم يسمّى وينعت بجميع الأسماء بهذ الاعتبار، الاعتبار الثاني: اعتبار كونه يدل على معنى مخصوص وحقيقة خاصة وضع له فهوبهذا الاعتبار غير الذات وغير ما سواه من الأسماء.

قول سيدنا:

فلا تنظر إلى الحق

وتعريه عن الحق

ولا تنظر إلى الخلق

 

وتكسوه سوى الحق

المراد النهي عن نظرالحق والخلق كنظر العامة، وأعني بالعامة المتكلمين في التوحيد العقلي الذين منعوا تجلي الحق تعالى في الصور. فإنهم ينظرون الحق تعالى منعزلاً عن الخلق بعيداً منهم، بينه وبين مخلوقاته بون بعيد، ويظنون أن متعلق علمهم ورؤيتهم إنما هي الحقائق الكلية والنسب وصور الممكنات التي هي آثار النسب، وأن الحق تعالى غير مرئي لهم ولا معلوماً إلا علماً إجمالياً من كونه مستندهم في وجودهم، والأمر ليس كذلك. فإن التجلي في الصور ثبت شرعاً وكشفاً. فصور المخلوقات جميعها هي صورة الحق  ـ تعالى فينظره من ينظره، ويراه في كل صورة من صور المخلوقات.

فإنها ليست غير الحق ولا سوى. فمن ينظره تعالى لا ينظره مجرداً عن الصور الخلقية والملابس الممكنة، فحكم الخلق مع الحق حكم الأسماء الإلهية. فكم أنه لا انفكاك بين الحق وأسمائه كذلك لا انفكاك بين الحق ومخلوقاته من حيث مرتبة التقييد والأسماء. وحاصل البيتين الإشارة إلى ما تقرر عند الكمل من أهل الكشف والوجود، أن الوجود الحق مظهر للخلق، والخلق مظهر للحق، فأنت مرآته وهو مرآة أحوالك. وأما غير الكمل فإنه لا ينظر ولا يشهد إلاّ وجهة واحدة. كل واحد و ما أعطاه الحق في كشفه. فوجود الحق ووجود الخلق، أي شيء جعلته مظهراً أو مرآة فهو كذلك، حضرة الأعيان الثابتة أو وجود الحق رضي الله عنه ، فإما أن تكون الأعيان الثابتة مظهراً وهوالظاهر فيها بحكم ما هي عليه من الاستعدادات والأحكام فهو كحكم المرآة في صورة الرائي، فهو عينه وهو الموصوف بحكم المرآة، فهو الظاهر في الظاهر بأحكام المظاهر، فهو قوله:

فلا تنظر إلى الحق

وتعريه عن الخلق

أو يكون الوجود الحق تعالى هو عين المرآة. وأحكام الخلق وهي الأعيان الثابتة تعلقت به تعلقاً ظهورياً تعلق صورة المرئي في المرآة، فترى الأعيان الثابتة من وجود الحق تعالى م يقابلها منه، ولا ترى من حيث ما هي المرآة عليه، فإنما ترى من حيث ماهي عليه. فإن التجلي في المظاهر لا يكون إلا بصورة استعداد العبد، فلا يرى الخلق في مرآة الحق إلا صورة نفسه، ما رآى الحق تعالى مع علمه أنه ما رآى صورته إلا فيه تعالى، فهذ معنى قوله:

ولا تنظر إلى الخلق

 

وتكسوه سوى الحق

فالتجلي الذاتي في غير مظهر محسوس أو معقول أو متخيل ممنوع. ولا حلول ولا اتحاد ولا امتزاج ولا ولا ولا .. ولا شيء مما يتوهمه القاصرون. فليس في أحد من الله شيء ولا فيه من خلقه شيء.

قول سيدنا رضي الله عنه :

ونزّهه وشبّهه

وقم في مقعد الصدق

اعلم أن للخلق في مشاهدتهم ربهم نسبتين: نسبة تنزيه ونسبة تشبيه. وبكليهما جاءت الكتب الإلهية والأخبار النبوية، فمن شهد التنزيه فقط كالمنزهة من المتكلمين أخطأ، ومن قال بالتشبيه فقط، كالحلولية والاتحادية، أخطأ. ومن قال بالجمع بين التشبيه والتنزيه أصاب. فالعامة في مقام التشبيه، والعقلاء في مقام النتزيه، والعارفون بالله تعالى في مقام التشبيه والتنزيه، جمع الله لخاصته بين الطرفين إذ للحق تعالى تجليات: تجل في مرتبة الإطلاق حيث لا مخلوق، وتجل في مرتبة التقييد بعد خلق - المخلوقات. فما ورد في الكتب الإلهية والأخبار النبوية من التنزيه فهو راجع إلى مرتبة الإطلاق؛ وما ورد فيهما مما يوهم ظاهره التشبيه عند من لا معرفة له فهو راجع إلى مرتبة التقييد. ومنذ خلق الله تعالى الخلق م تجلى في مرتبة الإطلاق لمخلوق، لأن تجلّي الإطلاق هو تجليه تعالى في ذاته لذاته على الدوام، ولا يكون إلا في حضرة الاسم الله أو الأحد. فمرتبة الإطلاق تعلم أن وراء هذا المقيد شيئاً لا يشهد ولا يعلم من غير إطلاقه، فتجلّي الإطلاق هو ما أشعر بعدم المخلوقات. كما أنه تعالى منذ خلق الخلق ما تجلى إلا في مرتبة التقييد، وهي الصورة المنطبعة في نوره تعالى، فتجلي التقييد كل ما أشعر بوجود الخلق مع الرب تعالى فهو تجليه في الأسماء الإلهية التي تطلب المخلوقات وتطلبها المخلوقات، وفي هذه المرتبة وهذا التجلي يشهد ويحس ويعلم. فالتنزيه المأمور به إذا ليس هو التنزيه العقلي الذي بإزائه تشبيه فيكون تنزيه يقابله تشبيه، وهذا مما غلط فيه الجم الغفير من العقلاء حيث جعلوا في مقابلة الصفات الكمالية التي هي للحق أضداداً نزهوه عنها. ومن شرط المتقابلين كون المحل قابلاً لهما معاً على البدل، والحق ليس بقابل لم نزهوه عنه، وإنما ينزه من يجوز عليه ما ينزه عنه، وهو المخلوق. والحق نزيه لنفسه لا بتنزيه منزه. فلا يزال المنزه يقول ليس الحق تعالى كذا ولا كذا حتى يشرف على التعطيل، وإن كنا نقول العلم بالسلب علم بالله تعالى في الجملة. وإنم المراد بالتنزيه المأمور به التنزيه الشرعي، وهو انفراد الحق تعالى بذاته وأسمائه وصفاته وكمالاته، كما يستحقه لنفسه. لا باعتبار أن شيئاً ماثله أو شابهه، وهو المشار إليه بقوله:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [ الصافات: 37/180].

فهو تنزيه التنزيه، وهو أصدق التنزيه. كما أن حمد الحمد أصدق الحمد. وكذلك التشبيه المأمور به ليس المراد به التشبيه الذي ضلت به بالمشبهة، وهو حمل الصفات السمعية الواردة في الكتب الإلهية والأخبار النبوية، التي توهم مشابهته تعالى لخلقه عند من أضله الله على ما يسبق إلى الأفهام، إذ التشبيه الشيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد في نفسه. وإنما المراد التشبيه الشرعي المشار إليه بقوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:42/9].

وهو قبول الصفات السمعية والإيمان بها من غير تأويل واعتقاد، أنه: «ليس كمثله شيء». وأنه تعالى ما خاطبنا إلا بما نعلم وبما هو معروف عند أهل اللسان العربي الذي نزل القرآن به، ولكن لما جهلنا الذات العلية جهلنا نسبة هذه الأشياء إليها، فلا تنسبها إليه تعالى كما تنسبها إلى المخلوق. فهذا تشبيه في تنزيه وتنزيه في تشبيه. فمن حصل في هذا المقام السنّي الهني مقام السواء ورجاله أصحاب البرازخ، وكل برزخ فإنه جامع لماهو برزخ بينهما، فليقم فيه ولا يرتحل عنه، فإنه حصل على محل قعود الصادقين، إذ الصدق الإخبار عن المخبر به مع العلم بأنه كذلك وهوصدق تام فإنه مطابق لمافي الخارج والاعتقاد معاً.

قول سيدنا رضي الله عنه :

وكن في الجمع إن شئت

 

وإن شئت ففي الفرق

معنى هذا البيت مرتب على ما ذكرناه في معنى البيت الأول، فليس مراد سيدنا رضي الله عنه بما أمر به من الكون في الجمع أو الفرق مع التخير بينهما الجمع والفرق المصطلح عليهما عند الطائفة العلية، فإن الجمع والفرق بذلك المعنى حالان ناقصان فلا يأمر سيدنا بالكون فيهما مع التخيير بينهما وعدم جمعهما فإنه رضي الله عنه النصوح الشفوق.

فالجمع والفرق حال ناقص

فاعدل وكن واحداً إن كنت إنسان

فحال الجمع بالمعنى المصطلح عليه يؤدي إلى الزندقة والعياذ بالله. ومن وصاياه رضي الله عنه : إياكم والجمع والتفرقة، فإن الأول يؤدي إلى الزندقة والاتحاد، والثاني تعطيل الفاعل المطلق. وإنما المراد أمر المشاهد أمر تخيير أن يجمع بين الشهودين، فيكون مشاهداً لكون الوجود الحق ظاهراً، ومظهراً لأحوال الأعيان الثابتة، ومشاهداً للأعيان الثابتة من حيث أحوالها ظاهرة، ومظهر للوجود الحق. فالكامل من الرجال يشهد الوجهين وهو الكشف الكامل، وبعضهم لا يكشف من ذلك إلا الوجه الواحد، والكل صواب، والجمع أكمل.

قول سيدنا:

تحز بالكل - إن كل

 

تبدى - قصب السبق

يعني أنك إذا جمعت هذه الأشياء المذكورة، وهي نظر الحق تعالى ومشاهدته في الخلق، ونظر الخلق ومشاهدتهم في الوجود الحق، وهو شهود الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة في آن واحد من غير مناوبة، من غير حلول ولا اتحاد ول امتزاج، مع جمع التنزيه في التشبيه، والتشبيه في التنزيه، والكون في الجمع والفرق، بالمعنى الذي أراده بالجمع والفرق، فقد حزب قصب السبق في ميدان حلبة المتسابقين إلى كشف الأمور على ما هي إذا تبدت لك هذه الأشياء وظهرت كشف وعيان.

قول سيدنا:

فلا تفْنَى ولا تَبْقَى

ولا تُفْنِي ولا تُبْقِي

نهى رضي الله عنه السالك عن التشوف بحصول حال الفناء، فإنه وإن كان حصوله لا بتعمل، فالنفوس تتشوف إليه وتطلبه، وعن التعشق به إذا حصل لما في الفناء من تضييع الوقت الذي لا ينبغي أن يصرف إلاّ في المجاهدة لتحصيل العلم بالله تعالى ولما فيه من نقص المرتبة في الآخرة، فإن زمان الفناء الحاصل في الدني يفوت مقاماً من المقامات في الآخرة. إذ التجلي في الآخرة يكون على قدر العلم بالله الحاصل في الدنيا، مع أن الفاني لا يشهد في فنائه إلاّ صورة علمه الذي اكتسبه في مجاهدته، فما زاده الفناء عن العالم فائدة، وأن الفاني يفنى عن عبوديته. وكل أمر يخرج العبد عن أصله وحقيقته فما هو من الشرف بمكان. فالدنيا ليست بموطن الفناء في الحق وإنما موطن الفناء الشهود الدار الآخرة، وأما الدنيا فإنها دار عمل وتكليف ومجاهدة، وأما عطف البقاء على المنهي عنه وهو الفناء، مع أن البقاء للحق ثابت ل يزول، فهو نسبة محققة. فإنّما ذلك حيث كان الفناء، مع أن البقاء للحق ثابت ل يزول، فهو نسبة محققة. فإنّما ذلك حيث كان الفناء والبقاء حالين مرتبطين، فلا يفنى إلا باق ولا يبقى إلا فان.

فالموصوف بالفناء لا يكون إلا في حال البقاء، والموصوف بالبقاء لا يكون إلا في حال الفناء. وأنك لا تقول فنيت عن كذا إلا مع تعقلك من فنيتّ عنه، ونفس تعقلك إياه هو نفس شهودك إياه، إذا لا بدّ من إحضاره في نفسك، فالفناء والبقاء متلازمان يكونان لشخص واحد في زمان واحد.

قول سيدنا:

ولا تفني ولا تبقي

لمانهى السلك عن الفناء نهاه أن يفني شيئاً من العالم ويخلي شهوده منه ولا يبقيه، فإن كل شيء في العالم فيه كل شيء، ففي الذرة ما في العالم كله. والفناء والإعدام والإبقاء لله تعالى لا للعبد. والفناء عن العالم أو عن شيء منه يعطي الفاني الأمر على غير ماهو عليه. إذ العالم موجود في نفسه، وهوعند الفاني معدوم فألحقه فناؤه بالجاهلين.

قال سيدنا رضي الله عنه: اجتمعت بهارون عليه السلام وقلت له: يا هارون، إنّ ناساً من العارفين زعموا أن الوجود ينعدم في حقهم، فلا يرون إلا الله، ول يبقى للعالم عندهم ما يلتفتون به إليه. ولا شك أنهم في المرتبة دون أمثالكم. وأخبرنا الحق أنك قلت لأخيك وقت غضبه: فلا تشمت بي الأعداء، وجعلت لهم قدراً. وهذ حال يخالف حال أولئك العارفين. فقال: صدقوا ما زادوا على ما أعطاهم ذوقهم، ولكن انظر هل زال من العالم مازال عندهم ؟! قلت: لا. قال: نقصهم من العلم بما هو الأمر عليه قدر ما فاتهم، فنقصهم من الحق تعالى على قدر ما انحجب عنهم من العالم، فإن العالم كله هو عين تجلي الحق لمن عرف.

وليس الكمال سوى كونه

 

فمن فاته ليس بالكامل

ويا قائلا بالفناء أتئد

وحوصل من السنبل الحاصل

ولا تتبع النفس أغراضه

 

ولا تمزج الحق بالباطل

قول سيدنا رضي الله عنه :

ولا يلقى عليك الوح

ي في غير ولا تلقي

هذا إخبار منه رضي الله عنه بما هو الأمر عليه في باطنه، وأنه لا يلقى على من يلقى عليه شيء من الأمور الدينية والعلوم الإلهية في غير بمعنى للحق تعالى من حيث غفلتك أنت وعدم حضورك، وأما في نفس الأمر فلا غيرية لشيء من الموجودات، ولا مغايرة للحق تعالى . وطرق حصول المغيبات: الإلقاء والوحي والإلهام والنفث والوجود. والذي يختص بالنبي والرسول هو الوحي بوساطة الملك ينزل على قلبه أويتمثل له رجلاً بحكم مشروع، وأما الوحي بغير أمر مشروع لبعض العبيد بإخبارات غيبية وعلوم إلهية يجدها في نفسه لا يتعلق بذلك الإخبار تحليل ولا تحريم فغير ممنوع، بل حاصل. ولكن لا نطلق عليه اسم الوحي أدباً مع منصب النبوة. وعبّر بالوحي، والمراد ما يوحي به من الأمور الغيبية مجازاً، إذ الوحي حقيقة هو الكلام الخفي يدرك بسرعة في ذاته، غير مركب من حروف مقطعة تحتاج إلى تمويجات متعاقبة. فم يلقي على من يلقى عليه بطريق من هذه الطرق لا يلقي عليه من حيث أنه غير وسوى بل الملقي إليه والالقاء كله حق عين واحدة، إذ الالقاء يكون من اسم إلهي على اسم إلهي متعلق بعين من الأعيان الكيانية، ثم يصل إلى الروح النفس الناطقة، فتعقله من حيث أنها مظهر. وإذا وقع الإلقاء لظاهر النفس يقع الإدراك للعلوم الظاهرة، وإذا وقع لباطن النفس يكون الإدراك بالبصيرة للحقائق والمعاني المجردة وعلوم الأسرار، وم يتعلق بالآخرة ويلزم الملقى إليه أن يتلقى ما يلقى إليه من حيث أنه مظهر من مظاهر الحق لا يتوجه إلى ما يلقى إليه مع الغفلة والذهول.

قوله: ( ولا نلقي). نهى لمن تلقى على أحد شيئاً من العلوم وغيرها مع الغفلة والذهول عن كون الملقي إليه عين الحق ومظهراً له، وكذلك الملقى، بل يلزم أن يستحضر أن الملقي والملقى إليه عين واحدة السائل والمجيب، هذا هو أدب الأدباء الذي أدبهم ربهم.

قول سيدنا رضي الله عنه : (الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليه بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز.

﴿وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾[ الأحقاف: 46/16].

مع أنه توعدهم في ذلك. فأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وقد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح:

فلم يبق إلاّ صادق الوعد وحده

 

وما لوعيد الحق عين تعاين

اعلم أن الثناء هو الذكر بالخير، وهو الكلام الجميل، أو هو الإتيان بم يشعر بالتعظيم بالقول، أو بالفعل. يستعمل في الخير والشرف لحديث:

((من أثنيتم عليه وجبت له الجنة ومن أثنيتهم عليه بشر وجبت له النار)) (1).

ولهذا قيده سيدنا بقوله: الثناء المحمود. وعند الجمهور: إطلاق الثناء في الخير حقيقة وفي الشر مجاز. والوعد الترجية بالخير، وما قيل أن الثلاثي من الوعد يستعمل في الخير، والمزيد يستعمل في الشر، يعارضه الحديث الصحيح:

(( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة)): فأما لمة الشيطان فإيعاد الشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. وقد جرت عادة الحق أن يشفع وعد بوعيده في القرآن الكريم لترجى رحمته ويخشى عقابه. ولما كان اختلاف الوعيد وعدم إنجازه مما تتمدح به العرب وتفتخر به الأمة الذي نزل القرآن بلسانه وهو ممدوح في كل أمة من الأمم قال الشاعر يثنى على نفسه مفتخراً:

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وما تمدح أحد قط بصدق الوعيد وإنجازه، لهذا كان الثناء المحمود على الله بصدق الوعد لا بصدق الوعيد. فإن الحضرة الإلهية من حيث تعلقها بالعالم تطلب الثناء المحمود بالذات طلباً ذاتياً لا عرضياً، لارتباطها بالعالم واتصافها بصفات العالم، ونعتها بنعوته. وفي الصحيح: ((لا أحد أحب إليه المدح من الله ))(2).

فيثنى عليه بصدق الوعد لا بصدق الوعيد حيث كان الأمر كذلك في العالم، فالوعد حق عليه أخبر به عن نفسه تعالى، والوعيد حق له. ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ولا فضل إلا لمن ترك حقه. ومن استوفى حقه فلا فضل له. وما عاب أحد من الأمم من أسقط حقه وعفا مع القدرة، ولا قال أحد فيمن عفا بعد ما توعد أنه ما صدق. وقد ورد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:

(( من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن شاء عفا وإن شاء عذب)) (3).

وقال تعالى:﴿ وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾[ الأحقاف: 46/ 16].

مع أنه توعدهم على ذلك الذي فعلوه من المخالفة لأمره تعالى ولا يشك أحد أن عدم صدق الوعيد من أعظم مكارم الأخلاق. وقد أمر الله عباده بمكارم الأخلاق ورغباتهم فيها وأثنى عليهم بها ووعدهم الثواب الجزيل عليها. وكيف يأمرهم ويثني عليهم بشيء ولا يفعله؟ وهو يحب الثناء المحمود والمدح أكثر من عباده؟! هذا بعيد جداً. وقد أثنى الله على رسوله ونبيه إسماعيل عليه السلام بأنه كان صادق الوعد وم قال صادق الوعيد. ثم أعلم أن الإمكان الذاتي بمعنى الجواز الفعلي الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال، زال في حق الحق تعالى فلا يجوز أن يقال في حق الحق يجوز أن يفعل كذا لما فيه من طلب المرجح، ولا مرجح إلاّ هو تعالى، فإنّ فعله للأشياء ليس بممكن بالنظر إليه، ولما زال الإمكان بطل أن يقال: يمكن أن يصدق الحق في وعيده كم يصدق في وعده، وقد أخبر أنه يتجاوز عن سيئاتهم مع أنه توعدهم، فلم يبق إلا صادق الوعد وحده، لا الوعيد. الضمير في وحده يعود على الوعد فيثني عليه بصدق الوعد، وأم الوعيد فلا، فما للوعيد عين قائمة ثابتة تعاين وترى .

قول سيدنا رضي الله عنه :

فلم يبق إلاّ صادق الوعد وحده

 

ومالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

على لذة فيها نعيم مباين

نعيم جنان الخلد فالأمر واحد

 

وبينهما عند التجلي تباين

يسمى عذابا من عذوبة طعمه

وذاك له كالقشر والقشر صاين

يقول رضي الله عنه : أن الأشقياء الذين توّعدهم الله تعالى بأنهم لا يخرجون من جهنم أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا هي تفنى ولا هم يخرجون منها، وليس إلا أهل النار الذين هم أهلها لا يخرجون بشفاعة ولا غيرها، فهم وإن دخلوا دار الشقاء وهي جهنم، وكانوا من غير غاية ولا نهاية، فإنهم يقيمون فيها على لذة ونعيم وحبور وبسط وابتهاج وسرور لا يقدر قدره إلى الله تعالى الذي رحمهم، كما هم أهل الجنة في جنتهم، غير أنّ نعيم أهل النار مباين لنعيم أهل جنان الخلد، وإن كان الأمر واحداً في التلذذ أهل كل دار وتنعمهم بدارهم وبما فيها. فإنه بعد عموم الرحمة وانقضاء الغضب الإلهي لا يحب أهل جهنم الخروج منها بل يتضررون لو خرجوا، بل يتأذون بما يجد أهل الجنة من النعيم، كما يتضرر العجل برائحة الورد والمسك، وذلك لأن الله تعالى يجعلهم بعد انقضاء مدة العذاب وسكون الغضب الإلهي على مزاج يعطي لساكن تلك الدار النعيم فيها وحصول الضرر بالخروج منها لأنها موطنهم وفيه خلقوا. ولو كانوا على هذا المزاج الذي صاروا إليه آخر الأمر ما تألموا من جهنم ول استغاثوا ولا طلبوا الخروج. ونعيمهم فيها من نوع نعيم المحرور والمقرور، فإن نعيم المقرور بوجود النار، ونعيم المحرور بوجود الزمهرير، وكالجرب الذي يجد اللذة في الحك ودمه يسيل وجلده يتمزق. وحيث زالت الآلام وحصلت اللذة والسرور والملايمة للطبع فلا يبالي بوجود أسباب الآلام وألات الانتقام من النيران والأغلال والأنكال والحيات والعقارب، فإن صورة جهنم التي هي دارهم بعد عموم الرحمة ورفع الآلام كهي قبل ذلك لا تتبدل ولا ينقصها شيء من أسباب الانتقام، ولكن التألم ومنافرة الطبع قد ارتفعا فما سمي عذاباً إلا لكونهم يستعذبونه آخر الأمر ويتلذذون به ويتنعمون، هذ بعد عموم الرحمة، وجعلهم على مزاج ملائم لجهنم وما فيها. فالعذاب مشتق من العذوبة في المآل، فتكون جهنم بما فيها صورة عذاب وباطنه لذات وإنعام، كالقشر المرّ الذي يصون اللب وما به الانتفاع، من حيث ما يجدون في أنفسهم. غير أن أهل النار وأهل الجنة وإن اشتركوا وتساووا في وجود اللذات والبسط والسرور والابتهاج، ورضى كل فريق عن الله بما يجده مما يلائم طبعه، فبينهما تباين عند التجلي. فأهل الجنة يتجلّى لهم في الأسماء التي كانت تربيهم في الدنيا، وهي أسماء حنان وعطف ورحمة ولطف، وأهل النار يتجلى لهم في الأسماء التي كانت تربيهم وتمشي بهم إلى ما يريده الله بهم، والكل أسماء الله تعالى فأهل الجنة وأهل النار يشاهدون الحق تعالى مشاهدة الأسماء كما كانوا في الدنيا. وما تصرف مخلوق فيما تصرف فيه إلا عن قضاء سابق وقدر لاحق ولا محيص عنه فلا بد له منه. فالكل تحت قبضة الأسماء الإلهية الربية، فمن لم يوافق الأمر وافق الإرادة فيجوز أن يكون أهل النار الذين هم أهلها مرحومون آخر الأمر بعد نفوذه الوعيد، ولا يسرمد عليهم العذاب وعدم الرحمة إلى ما لا نهاية له، إذ لا مكره له على ذلك. وقد أخبرت الرسل عليهم السلام بأنّ الغضب له نهاية، فكل واحد منهم قال: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وذلك عند سؤال الأمم الشفاعة منهم، وما ثمّ نصٌ لا يتطرق إليه الاحتمال في تسرمد العذاب على أهل النار، وإنما هي ظواهر عرضت للاحتمالات. والنصوص التي لا يطرقها الاحتمال إنما وردت في تسرمد نعيم أهل الجنان فلم يبق إلا جواز رحمة أهل النار، والحق تعالى أهل الرحمة والمغفرة:﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾[ الأحزاب: 33/4].

﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّ لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَ بِالْحَقِّ﴾[ الأعراف: 7/ 43].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!