موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


308. الموقف الثامن بعد الثلاثمائة

قول سيدنا في الباب الثالث والعشرين وخمسمائة، في معرفة حال قطب كان منزله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾[النازعات: 79/40].

مقام الربّ ليس له أمان

 

يدلُّ عليه ما يعطي العيان

يقول (رضي الله عنه) أن مقام الربّ وهو حضرته الجامعة للأسماء الربّية، التي يقتضيها مسمّى الربّ والمربوب، ليس لها أمان، لأنها حضرة جامعة للأضداد، ولكل مربوب منها ربٌّ يخصّه، إذ من المحال أن يكون لعبدٍ الربُّ كلّه بالأصالة والاستحقاق. فإذا كان العبد مرضياغً عند ربّه الخاص به، وهو الاسم الطالب إيجاده من الحضرة الكلية الإلهية، فلا يأمن أن يكون غير مرضيّ عند ربّ عبد آخر، وهو الاسم الخاصّ بذلك العبد الآخر، والحضرة الربية الإلهية جامعة للأرباب كلّها، دل على ما ذكرناه المعاينة الكشفية لأهل الكشف، و العقول من حيث مرتبتها لا تعرف هذ إلاَّ بتعريف إلهي، لأن العقل لا يدرك إلاَّ يعيداً مطلقاً أو شقياً مطلقاً، مرضياً مطلقاً، أو غير مرضي مطلقاً، لا يعرف أنَّ كل أحد مرضي عند ربّه الخاص به، وقد يكون سعيداً مرضياً عند ربّ آخر، وقد لا يكون. إذ لا يكون المربوب لربّ خاص سعيداً مرضياً مطلقاً عند كل رب، إلاَّ إذا كان على استعداد يصلح أن يكون مظهراً لظهور جميع الأرباب به وفيه، وهو مقام السعادة المطلقة. وما أثنى الحق تعالى على حد، أنه كان مرضّياً عند ربّه الحضرة الربّية الجامعة إلاَّ على إسماعيل (عليه السلام)  فإنه كان أكمل في هذا المقام، وإن كان هذا المقام ثابتاً لغيره عليه السلام ، إذ كلّ نفس مطمئنة لها هذا المقام. لذا قال له تعالى آمراً: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾[الفجر: 89/28 ].

لمَّا كان لها الاستعداد لظهور غير ربّها الخاص بها، أمرت بالرجوع إلى ربّها، بعد ظهور غير ربّها بها، فإنَّ النهاية رجوع إلى البداية، بل النهاية عين البداية، فإنَّ الأمر دائرة، نهايتها عين بدايتها.

قول سيدنا:

فخفه لأنه خطر وفيه

إذا ما خفته حالاً أمان

يقول (رضي الله عنه) آمراً أو منذراً لمخاطبه ومن بلغه، بالخوف من مقا م الرب، الحضرة الجامعة، ولا يغترّ بكون ربّه الخاص به راضياً عنه، لأنه مقام خطر متخالف الأحكام، متباين الاقتضاءات، لا يدري ماذا يقابله منه. وفي المقام الربّ أمان إذا ما خالفه العبد حالاً. فالموطن الدنيوي والزمان الحال موطن التكليف. و التمكن من الفعل والترك أمان يكتسبه الخائف، إذ من خاف أدلج، ومن أدلج نجا. فيطلب الاستعداد الجزئي أن يكون محلاً قابلاً لظهور آثار الأسماء الإلهية الربيّة به فيه، فيكون سعيداً مرضياً مطلقاً قابلاً لأن يكون متمّماً لمكارم الأخلاق. فلا يظهر بخلق، إلاَّ كان مرضياً عند مقام ربّه الجامع، فإنه يظهر بكلّ خلق في محله المستحسن ظهوره به فيه، بحسب الوقت والحال،  فهو المتخلق بأخلاق الله.

قول سيدنا:

ونفسك فانهها عن كل أمر

 

يضيق لهوله منك الجنان

يقول (رضي الله عنه) ناهياً لمخاطبه ومن بلغ: إِنه نفسك عن كلّ أمر من الأمور، التي لا ترضي مقام ربك الحضرة الجامعة، وإن كام مرضياً عند ربك ا لخاص بك، وليس ذلك الأمر إلاَّ ما نهى عنه الشارع. فإن الأمان والسعادة الخالصة ليس إلاَّ في اتباع حكم الشارع نهياً وأمراً. فإن الله تعالى شرع الشرائع للسعادة، ما نصبها للمكر، وجعل في مخالفتها جميع المخاوف والأهوال، التي يضيق لها القلب والجنان.

قول سيدنا:

فلا تعتب زماناً أنت فيه

فأنت هو المعاتب والزمان

يقول (رضي الله عنه) ناهياً من يعاتب الزمان ويذمه، إذ الزمان ليست له شيئية وجودية، فما هو جوهر ولا عرض فَيُذَمّ أو يحمد أو يعاتب، وإنما هو نسبة لا وجود لها خارجاً، والذي يتوجّه إليه الذم أو العتاب أو الحمد إنما هو الموجود في الزمان، وليس إلا أنت فأنت هو المعاتب، وأنت هو الزمان، فذمك للزمان جور باطل.

قول سيدنا:

ولا تعمر مكاناً لست فيه

 

فربّ الدار ليس له مكان

يقول (رضي الله عنه) ناهياً للنفس الناطقة التي هي الإنسان حقيقة، عن الاشتغال الكلي بمقتضيات الطبيعة و الشهوات الحيوانية. كنى عن الجسم بالمكان، وعلّل النهي بأنك لست حالاًّ فيه، إذ النفس المدبّرة للجسم، الذي سمّاه مكاناً،  مجرّدة عنه. فليس لها فيه إلاَّ التدبير من غير حلول، قيل لسهل بن عبد الله (رضي الله عنه) ـ: ما القوت؟! فقال: ذكر الحي الذي لا يموت. فقيل له: نريد مابه قوام الجسم، ، فقال للسائل: دع الدار لبانيها، إن شاء عمرها، وإن شاء خربها، فرب الدار، وهو الحق لورنس الذي خلق الدار وسوّاها وعدلها، ثم أسكنك إيَّاه واستعمرك فيها ليس له مكان يحلّ فيه ولا حيز يعمره.

قول سيدنا:

فأنت كهو فأنت له جليس

ومؤنسك التعطّف والحنان

يقول (رضي الله عنه) : كما أن ربّ الدار الحقيقي وبانيها، وهو الحق لورنس ليس له مكان؛ فكذلك أنت ليس الجسم لك بمكان، ولا أين، فلا تشتغل به الاشتغال الكلّي عمّا خلقك الحق لأجله، وهو عبادته تعالى، فما أسكنك فيه لتعمره، وإنما ذلك لتعبره. ومع هذا فأنت له تعالى جليس من حيث النفس الناطقة الروح القديسة، التي هي من عالم القدس، جلساء الرحمن على الدوام. ومؤنسك من مجالسته تعالى التعطف والحنان، وهو ما يورده عليك من لطائف المعارف والعلوم الإلهية التي هي غذاؤك وبها بقاؤك. فأنس المخلوق بالله ليس هو من حيث ذاته تعالى، فإنه محال، إذ لا أنس إلاَّ بمناسب. ولا مناسبة بين المخلوق و الذات العليّة. وإنما يكون الإنس من جهة ما يكون منه، وهو آثار أسمائه بالتعطف والحنان. هذا هو الحق عند المحققين من أهل الله.

قول سيدنا:

وفيها الخلد، و الحور الحسان

 

لذاك يقال منزلنا الجنان.

هذا كالاستدراك منه (رضي الله عنه) . فالضمير في «فيها» يعود على الدار. يقول: إن الدار التي ربّها الحق لورنس وجعلها كالمكان لك، وذلك كناية عن الجسم العنصري، فيها جنة الخلد والحور الحسان. وهو كناية عمَّا تضمنّه الجسم. وهو الدار من الحكم الإلهية، لوجود الحواس والقوى الباطنة فيه. فإن لكل حاسّة وقوّة حكمة مخصوصة، ليست لغيرها. فلا تنال النفس الناطقة الروح القدسّية هذه الحكم إلاَّ ـ بواسطة الدار، وهو الجسم، بما اشتمل عليه، كذلك الأعمال الصالحة من الأقوال والأفعال والعلوم والمعارف الإلهية والعقلية،  لا تحصل للنفس إلاَّ بواسطة الدار. فلأجل ذلك يقال منزلنا الجنان، أي دارنا جنّتنا، إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ﴾[الكهف: 18/39].

أي دارك، سأل أمير المؤمنين الرشيد مالكاً: هل لك من دار؟َ قال: لا، وسمعت ربيعة يقول: جنّة المرء داره.

قول سيّدنا: ((اعلم الله وغياك، أنَّ المقام الإلهي الربّاني ما وصف به نفسه)). يقول (رضي الله عنه) إنَّ المقام الإلهي الربّاني المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات: 79/40].

هو ما وصف به نفسه من الصفات والنعوت والأسماء، أو وصفتَه به أنبياؤه ورسله، فإنهم ما وصفوه إلاَّ بما أعلمهم به من أوصاف، فالمقام الإلهي الربّاني في قوله: «مقام ربّه»، كناية عن الحضرة الجامعة التي تطلبها الممكنات بأحكامها، وهي الصور الظاهرة في الوجود الحق.

قول سيدنا: ولما علمه (صلى الله عليه وسلم) حين أعلمه، لذلك استعاذ به منه فقال: (أعوذ بك منك)، يقول (رضي الله عنه) ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما علم مقام ربّه أنه الحضرة الربية الجامعة، لما وصف به الحق نفسه من صفة جلال وجمال ورحمة وغضب، حين أعلمه الله بذلك؛ استعاذ وتحصّن بالله تعالى منه تعالى، فقال، كما في صحيح مسلم وغيره: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك عن عقوبتك، وأعوذ بك منك)).

فاستعاذ بصفات الرحمة من صفات الغضب، وكلّها يجمعها مقام الرب.

قول سيدنا: اعلم أن كلّ مقام سيد عند كل عبد ذي اعتقاد إنما هو بحسب م ينشئه في اعتقاده في نفسه. ولهذا قال الله: «مقام ربّه» فإضافة إليه، وما أطلقه. يقول: (رضي الله عنه) أنَّ مقام كلّ سيد ورب عند كل عبد ومربوب صاحب اعتقاد وربط في سيده وربه إنما مقام سيده وربه عنده هو بحسب ما ينشئه ويخلقه المعتقد المربوب في اعتقاده في نفسه من مقام ربّه من الصفات الثبوتية والسلبية، فإنّضه لابد أن يُحَلِّيهِ في اعتقاده بصفات، ويخليه عن صفات. فيكون ربه الخاص به، على حسب ما ربط واعتقد فيه، فصار ربه من إنشائه فلا يتجلّى له ربه إلاَّ في صورة اعتقاده. ولا يعرفه هذا العبد إلاَّ بتلك الصورة. فإذا تجلى له الحق تعالى بغي رتلك الصورة، وقال له: أنا ربّك؛ أنكره وقال له: لست بربي، فما عبد عابد من الربّ الكلّي المطلق إلاَّ وجهاً خاصاً، أنشأه العبد فظهر له الرب به، فإنه القائل: ((أنا عند ظن عبدي بي)).

ولما كان الشأن أنَّ كل عبد له رب يخصه من الحضرة الجامعة، قال الله: «مقام ربّه» فأضافه إلى العبد المربوب وما أطلقه فقال: مقام الربّ مثلاً، وكما أن مقام الربّ الإلهي الحضرة الجامعة، ربّ الكمّل والأكملين، الذين يعتقدون إطلاق الرب وعدم تقيده بصورة ووصف، سواء كان ممّا يحمد شرعاً أو عقلاً أو عرفاً أو كان ممّا يذم شرعاً أو عقلاً أو عرفاً، كذلك مقام كل سيد عند كل عبد ذي اعتقاد خاص بصورة خاصّة، اعتقد ربه عليها وقيّده بها. لأنه تعالى قال: «مقام ربّه» أي رب كل مربوب، فأضاف الربّ إلى مربوبه، وما أطلق الرب، فكما دَلَّت الآية على أن المراد بمقام ربه الحضرة الجامعة دلت كذلك على أن مقام ربّه الأرباب الخاصّة بكلّ مربوب ذي اعتقاد الخ.

قول سيدنا: وما تجد قط هذا الاسم الربّ إلاَّ مضافاً مقيّداً لا يكون مطلقاً في كتاب الله، فإنه رب بالوضع. يقول (رضي الله عنه) إن الاسم الربّ ل يوجد في كتاب الله إلاَّ مضافاً لمخلوق مقيّداً به كربّ العالمين، وربّ السموات والأرض، رب المشارق والمغارب، فوربك... وإنما لزمته الإضافة لأنه ربّ بالوضع، والوضع تخصيص شيء بشيء متى أطلق أو أحسّ بالشيء الأول فهم منه الثاني. فلا يتصّور رب إلاَّ بتصور مربوب وجوداً أو تقديراً في العلم، فلا ينفكّ أحدهما عن الآخر. وم أقسم تعالى في كتابه باسم من أسمائه إلاَّ باسم الرب وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالقسم به، فقال: ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾[يونس:53]. وما أقسم به تعالى إلاَّ مضافاً لمخلوق، لأن القصد في القسم بالشيء تشريفه وتشريف من يضاف إليه، وعند إضافته يكون بمعنى الصفة أو الفعل، وأمَّا بمعنى الذات فلا تصح فيه الإضافة إجلالاً للذات، فإنَّ الربَّ يكون بمعنى الثابت اسماً للذات، وبمعنى المصلح اسماً للفعل، وبمعنى المالك اسماً للصفة.

قول سيدنا: والرب من حيث دلالته، أعني هذا الا سم، هو الذي يعطي في أصل وضعه أن يسع كلّ اعتقاد يعتقد فيه ويظهر بصورته في نفس معتقده. يقول (رضي الله عنه) أن لفظ الربّ من حيث دلالته الوضعية وما يعطيه معناه في أصل وضعه أن يسع كلّ اعتقاد يعتقد فيه، كان ماكان ذلك الاعتقاد، لا يضيق عن اعتقاد ما، ويظهر بصورة كلّ اعتقاد في نفس معتقده، وهو تعالى رب واحد من حيث الذات، كثير من حيث تجليه بصور المعتقدات التي هي صور أسمائه، التي لا نهاية لظهوراتها بالصور، فكل مخلوق له رب بحسب استعداده ومزاجه، والاستعدادات والأمزجة متخالفة متباينة لا يجتمع اثنان في مزاج واحد من كل وجه أبداً، كما لا يوجد اثنان من كل نوع من أنواع المخلوقات على صورة واحدة من كل وجه، فكل إنسان غير الآخر، بل كل ورقة من الأوراق غير الأخرى، وكل حبّة من أنواع الحبوب غير الأخرى، إذ لو اتفقا من كل وجه لكانا عيناً واحدة، ماكانا مثلين. والله الواسع العليم.

قول سيدنا: فإذا كان العارف عارفاً حقيقة لم يتقيد بمعتقد دون معتقد، ول انتقد اعتقاد أحد في ربه دون أحد، لوقوفه مع العين الجامعة للاعتقادات. يقول (رضي الله عنه) : أن العارف بالله تعالى حقيقة المعرفة هو الذي لم يتقيّد بمعتقد دون معتقد، فلم يتقيّد بتنزيه مطلق، ولا تشبيه مطلق، ولا قيّد ربه بصورة وصفة لا يقبل غيرها، فلا ينكر الرب تعالى في أي صورة تجلّى له فيها من تنزيه أو تشبيه، كانت الصورة جليلة أو حقيرة، شرعاً أ و عقلاً أو عرفاً. وكذلك من حقيقة المعرفة بالله تعالى أن لا ينتقد اعتقاد واحد من المخلوقين في ربّه دون أحد. ولا يعترض بأن يقول لأحد: ليس ربّك كا اعتقدت، ولا هو هذا التجلّي، فأنت مخطئ من كل وجه، هذا محال صدوره من العارف حقيقة المعرفة، لوقوف العارف مع العين الجامعة للاعتقادات، وهي العين الواحدة حضرة الأسماء الربيّة الإلهية، التي تفرّعت منه جميع الفروع الأسمائية، التي هي سبب اختلاف الاعتقادات، كالطرق الكثيرة المتوجّهة إلى المدينة مثلاً، فليس منها طريق إلاَّ وهو متوجّه للمدينة ومنتهاه إليها، كذلك الاعتقادات وأن تعدّدت وخرجت عن الحصر، فهي صور أسماء تنتهي إلى الحضرة الجامعة للأسماء. فالعارف الكامل لا يقيّد ربّه بصورة يعرفه بها، إذا تجلّى له فيها، وينكره فيما عداها من الصور. كما أنه لا ينتقد اعتقاد أحد في ربّه، كان ماكان ذلك المعتقد، وذلك الاعتقاد، لعلمه أنه ما ثمَّ شيء من محسوس ومعقول ومتخيّل إلاَّ وهو مستند إلى حقيقة إلهية عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. فلذا يقال: مافي العالم خطأ مطلق، وإنما الخطأ في العالم نسبي. قال تعالى: ﴿قَلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ﴾[الزخرف: 43/24].

والذي وجدوا عليه آباءهم هو عبادة الأوثان والأصنام، فجاءهم بأهدى، واشترك في مطلق الهداية.

قول سيدنا: ثم إنه إذا وقف مع العين الجامعة للاعتقادات كلها فيخاف أن يكون هذا القدر الذي اعتقده واحداً من الاعتقادات، مثل كل ذي اعتقاد في الرب، فيتخيل أنه مع الرب وهو مع ربه لا مع الرب، مع كونه بهذه المثابة في تسريحه وعدم تقييده، وقوله به في كلّ صورة اعتقاد، وإيمانه بذلك، فلا يزال خائفاً حتى تأتيه البشرى في الحياة الدنيا بأن الأمر كما قال و اعتقد. فهذا حد إطلاق العبد في الاعتقاد. يقول (رضي الله عنه) : إن العارف بالله حقيقة المعرفة، لو وقف مع العين الجامعة للاعتقادات في الرب تعالى وهو الحضرة الربيّة الإلهية فما تقيّد بمعتقد دون معتقد. فلهذ هو لا ينكر الربّ في أي صورة تجلّى، ولا انتقد اعتقاد أحد في ربه. وقال له: أنت ل تعبد ربّك الخاص بك، ولا تعرفه، وإنما تعبد باطلاً مطلقاً، فهو مع هذا يخاف أن يكون هذا الاعتقاد منه واحد من الاعتقادات، فيكون مثل كلّ ذي اعتقاد جزئي مقيّد، وأن كونه مع الرب المطلق خيال ودعوى، وإنما هو مع ربّه الخاص به، لا مع الرب بالمطلق، كلّ هذا لشدّة خوف العارف، مع كونه بهذه المثابة والمنزلة في تسريح الرب وَإِطلاقه، وقوله به، وبوجوده تعالى في صورة كلّ اعتقاد، سواء أذن الشارع في ذلك الاعتقاد أو لا. فلا يزال خائفاً أن يكون غير معتقد إطلاق الرب كما يليق بجلاله، حتى تأتيه البشرى من الربّ تعالى في الحياة الدنيا بالطريق التي عوّده الله الإخبار عليها، فإن للعارفين طُرُقاً في الأخذ عن الله تعالى فيبشره الله تعالى بأن الأمر كما قال واعتقد، ولا يكون العارف كاملاً حتى يشهد الإطلاق و التقييد في آن واحد فيشهده متعيناً لا متعيِّن، فهذا حد إطلاق العبد في الاعتقاد.

قول سيدنا: ولو لم يكن الحق له هذا السريان في الاعتقاد لكان بمعزل ولصدق القائلون بكثرة الأرباب. ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[الإسراء: 17/23].في كل معتقد. إذ هو عين كل معتقد.

يقول (رضي الله عنه) : ولو لم يكن الحق الرب تعالى له هذه الكثرة الأسمائية، والسريان في صور الاعتقادات، مع الوحدة الذاتيّة، لكان بمعزل عن بعض الاعتقادات، ولصدق القائلون بكثرة الأرباب كثرة حقيقية ذاتية، وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[الإسراء: 17/23].

حكم تعالى أن لا يعبد عابد إلاَّ إياه في كل معبود من صورة ملك وكوكب وشجر وحجر وإنسان وحيوان عبد، فليس المعبود إلاَّ هو تعالى في كلّ ذلك، فالربّ المضاف إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) حكم بذلك وقضى. ولا يكون خلاف ما قضى به. وقال تعالى لموسى (عليه السلام) ـ:﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾[طه: 20/14].

يقول لا إله إلاَّ أنا الظاهر في كل ما يعبده أهل كل ملة ونحلة. فم تلك الآلهة إلاَّ أنا. ولهذا أثبت لهم لفظة الآلهة تسمية حقيقية لا مجازية، كم يقول من ليس له هذا المشرب، ولا حصل له هذا العلم: إنه إنّما أراد تعالى من حيث أنهم سموهم آلهة، لا من حيث أنهم لهم في أ نفسهم هذه التسمية. وهذا غلط وتحريف للكلم. لأن هذه الأشياء، بل جميع مافي الوجود له هذه التسمية حقيقة. إذ الحق تعالى عين الأشياء، وليست الأشياء عينه. ولو كان الأمر كما يزعم من ليس من أ هل هذا الشأن لكان الكلام أنَّ تلك المعبودات التي يعبدونها ليست بآلهة، وإنّما أن الله فاعبدني، لكن إنما أراد تعالى أن يبين له: أن تلك الآلهة مظاهر له، وأن حكم الإلهية فيهم حقيقة، وأنه ما عبد في جميع ذلك إلاَّ هو تعالى فقال: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾[الأنبياء: 25].

أي ما ثمَّ ما يطلق عليه اسم إله إلاَّ وهو أنا فما في العالم من عبد غيري، وأنا خلقتهم ليعبدوني، ولا يكون إلاَّ ما خلقتهم له. قال (صلى الله عليه وسلم) مشيراً إلى هذا: ((كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه))، رواه البخاري في صحيحه.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾[العنكبوت: 29/42].

بل كل ما تدعونه إلهاً أو غيراً هو الله. ماهو شيء دونه غيره فافهم.

قال سيدنا: ثم نصب الله لهذا العارف دليلاً من نفسه، بتحوّله في نفسه، في كلّ صورة، وقبوله في ذاته عند الإنشاء كلّ صورة ينشئها هذا المعتقد في قوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 82/8]. وقد صحّ وثبت هذا القول فعلمنا أن له تجلياً في صور الاعتقادات، فلا ينكر... الخ. في هذه الجملة تقديم وتأخير، تقديره: ثم نصب الله لهذا العارف دليلاً من نفسه، بتحوله في نفسه في كل صورة ينشئها هذا المعتقد، وقَبُوله في ذاته عند الإنشاء كلّ صورة؛ دليله في قوله﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 82/8]. الخ...

يقول (رضي الله عنه) : إن الحق تعالى نصب لهذا العارف دليلاً يعضد اعتقاده، وعلامة يستند إليها من نفسه دليلاً فعلياً، وهو تحوله في نفسه في كل صورة ينشئها هذا المعتقد، عند توارد الخواطر وتنوع صورها عليه، فإنَّ النفس الناطقة تتصّو ر له بصورة كلّ خاطر، وتتحوّل من صورة إلى صورة باطناً على الدوام، كم يتصوّر الملك ويتحول من صورة إلى صورة ظاهراً على الدوام. وليس هذا التصوّر والتحوّل في الصور خاصاً بالعارف، بل هو لكل نفس ناطقة، وإنما خصّ العارف لأنه هو الذي يعلم ذلك ويشعر به. وغير العارف لا يعلم ولا يشعر. ثمّ نصب لهذا العارف دليلاً آخر قولياً في قوله تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 82/8].

وذلك لقبوله في ذاته من حيث نفسه الناطقة عند إنشائه وإيجاده كلّ صورة روحانية ينشئه الحق عليها، وتخصيصه بصورة دون صورة، مع قبوله كل صورة، إنما ذلك بمشيئته تعالى وتخصيصه، لا باقتضاء مقتضى من الجسم أو غيره، كما زعمت الحكماء. وهذا الدليل المأخوذ من الآيات هو نظر إشارة ممّا تشير إليه الآيات القرآنية، ممّ يفهمه أرباب القلوب، لا تفسير للآية، فليس لقائل أن يقول: هذا قول بالرأي في كلام الله تعالى وهو كفر. فلولا قبولك عند تسويتك وتعديل مزاجك كل صورة روحانية، م ثبت قوله تعالى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 82/8].

وقد صحّ وثبت عنه هذا القول تعالى فعلمنا أنَّ الحقّ تعالى له التجلي في صور الاعتقادات، فلا ينظر عند المعتقد لتلك الصورة، فإذا تجلَّى في تلك الصورة لغير معتقدها تعوّذ منه وأنكره، وقال: لست بربي. والعارف الكامل لا ينكره في أي صورة تجلّى، فيقر به في كل صورة.

قول سيدنا: فكلّ من لم يعرف الله هذه المعرفة فإنه يعبد ربّاً مقيّداً منعزلاً عن أرباب كثيرة، إذا أنصف نفسه لم يدر أيّ رب هو الرب الحقيقي في نفس الأمر من هؤلاء الأرباب، الذي في نفس كل معتقد. يقول (رضي الله عنه) : كلّ من يدّعي معرفة الله تعالى ولم يعرفه هذه المعرفة، وهو أن لا يتقيّد بمعتقد دون معتقد، وأن لا ينتقد اعتقاد أحد في ربّه دون آخر، وأنه ما عبد عابد من أيّ ملة ونحلة من الملل الضالة إلاَّ الحق تعالى من وجه، وأن كلّ عبد مرضي عند ربّه الخاص به، وأن وجوه الحق الكثيرة الظاهرة بالصور هي المعبودة. والمعبود واحد، من حيث ذاته وحقيقته. فإنه إنّما يعبد ربّاً مقيّداً بصورة قيّد ربّه بها. فربّه منعزل عن أرباب كثيرة، كلّ رب مقيّد بصورة قيّده فيها مربوبه وربطه بها. هذا شرح حال غير العارف، إذا أنصف نفسه ولم يغالطها؛ فإنه لم يدر أيّ رب من هذه الأرباب الكثيرة، الذي كل واحد منها رب لمعتقد، وكلّ رب منها مغاير للآخر ذاتاً وصفة. فياليت شعري، من هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة في نفس الأمر وباطنه من هؤلاء الأرباب، الذي كل رب منها مستقل في نفس معتقده؟!!

قول سيدنا: ونهي النفس في هذا الذكر عن الهوى، هو النهي عن تقييده الرب المعبود بمعتقد خاص عن معتقد، فإنه عابد هوى. يقول (رضي الله عنه) نهي النفس بصيغة المصدر، في هذا الذكر القرآني عن الهوى هو النهي عن تقييد الرب المطلق بمعتقد خاص، كأن يقول: معبودي وربّي هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة. وغيري إنم يعبد ربّاً غير ربي لا يستحق العبادة. ويعتقد تعددًا ذاتيًا حقيقيًا، والمعتقد تعدّد الأرباب تعدداً ذاتياً إنما يعبد هواه. والهوى رب من جملة الأرباب المعبودين، بل هو أعظم مظهر عبد. قول سيدنا: ثم تمم الذكر في حق العارف، الذي خاف مقام ربه، كما قلنا، ونهى النفس عن الهوى، كما شرحنا، فإنَّ الجنة هي المأوى. يقول: مقامه ستر هذا العلم بالله، الذي حصل له. فإنه مهما ظهر عليه كل صاحب اعتقاد مقيّد أنكر عليه وجهله، إن كان صاحب نظر، وربّما كفّره إن كان ذا إيمان:

فكن في أمان أن يقول بقولكم

شخيص له في ربّه الحصر والقيد

فمن يعتقد في الله ما قد شرحته

 

فذاك هو المكر الإلهي والكيد

وكيف يرى التقييد من هو مطلق

له البدء فيما شاءه الحق والعود

يقول (رضي الله عنه) أن الحق تعالى كما نهى الجاهل عن اعتقاد التقييد والحصر في الرب بقوله: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾[النازعات: 79/40].

فإنه خبر بمعنى النهي ، تمّم الذكر في حق العارف، الذي اعتقد إطلاق الرب الحقيقي، وهو الذي خاف مقام ربّه، مع هذا الاعتقاد الصحيح، كما تقدم بيانه، وهو الذي نهى النفس عن الهوى كما شرحنا، بأن بيّن تعالى للعارف حقيقة أن هذا المقام مقام ستر، فهو إخبار بمعنى النهي. يقول تعالى: مقام العارف ستر هذا العلم القريب الذي حصل له، واجتنانه من الاجتنان والاستتار، فإنه العلم الذي ورد في الحديث أنه كهيئة المكنون، لا يعلمه إلاَّ العلماء بالله، فإذا علمه أهل الغرّة بالله أنكروه، أو كما قال، فلا يظهره العالم بالله إلاَّ لأهله، وهو العلم الذي أشار إليه علي الرضى (رضي الله عنه) بقوله:

إني لأكتم من علمي جواهره

 

كي لا يراه أخو جهل فيفتتن

وقد تقدم من قبلي أبو حسن

إلى الحسين وأوصى قبله الحسن

يارب جوهر علم لو أبوح به

 

لقيل لي: أنت ممّن يعبد الوثن

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسن

فمهما ظهر على العارف هذه المعرفة ب الله، كل صا حب ا عتقاد خاص مقيّد أنكره عليه وجهله، إن كان ذا علم ظاهر، ولا يكفّر لأنه يراه يصلّي ويصوم وينسك. وربما كفّره من يظهر عيه ويطل ع على عقيدته إن كان جاهلاً ذا إيمان لا علم عنده. يقول : هذا يصحّح جميع الأديان والعقائد الفاسدة ويصَوّبها. فليس هذا العلم إلاَّ لأهل الله، لا للعقلاء، من حيث أنهم عقلاء متكلّمون، لا سني ولا معتزلي ولا حكيم، فل يعرف مقام: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ ومنزلته من العلم الإلهي إلاَّ من خاف مقام ربّه. فهما مثلان في العلم بالله والمنزلة:

لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده

 

ولا الصبابة إلاَّ من يعانيه

فكن يا جنس العارف حقيقة في أمان مِنْ أَنْ يقول بقولكم، ويعقد في الربّ عقدكم شخص حقير جاهل بأحديّة الربّ، مع أنه المعبود لكلّ مهتد وضال ومؤمن وكافر، يعتقد في ربّه ومعبوده القيد والحصر، كما بينّاه قبل. فمن يعتقد في الله القيد و الحصر، كما قد شرحناه، فذلك هو الكيد الإلهي والمكر بمعتقد التقييد و لحصر، حيث ما تجلّى تعالى لمعتقد التقييد و الحصر إلاَّ محصوراً مقيّداً كما اعتقد كيداً ومكراً به. وكيف التقييد والحصر؟! ويعتقده في الربّ المطلق تعالى من هو مطلق في نشئه وإيجاده، «فكيف» استفها م استبعاد وإنكار على معتقد التقييد وا لحصر في الرب تعالى المطلق الواسع، مع إطلاقه هو، من حيث قبوله لما يشا ءه الحق تعالى به . فإنه ممكن قابل لكلّ صورة من الصور غير المحصورة.

قول سيدنا: فإطلاق العبد قبوله لكلّ صورة يشاء الحق تعالى أن يظهره فيها. فما ظنّك بخالقه الذي له المشيئة فيه؟ يقول (رضي الله عنه) مبيناً لإطلاق العبد، المذكور في البيت قبله، وهو قبول العبد المخلوق لكل صورة نفس نا طقة مدبرة لجسمه العنصري، يشاء الحق أن يظهره فيها. فالعبد مطلق لهذا، فما ظنك بخالقه تعالى، الذي له المشيئة فيه وفي كل مخلوق؟!...

قول سيدنا: وهو سبحانه في تحوله في الصور لذاته غير مشيء لذلك. فإن المشيئة متعلقها العدم، وهو الوجود. فلا يكون مشاء المشيئة، بل لم يزل في نفسه كما تجلّى لعبده، فمشيئته إنما تعلّقت بعبده أن يراه في تلك الصورة،  التي شاء الحق أن يراه فيها. فإذا رآها العبد التبس بها وركبه الحق فيها. وهو قوله من باب الإشارة﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ﴾ من صور التجلي ﴿ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 8]. هذا في باب المعارف. وفي باب الخلق، في أيّ صورة من صور الأكوان ﴿ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ يقول (رضي الله عنه) ـ : إن الحق تعالى في تصوره بالصور، وتحوله من صورة إلى صورة لذاته، لا من غيره، لأمر عر ض له من غيره، بخلاف غيره تعالى، من الأرواح والمتروحنين من البشر، ممّن له التجلي بالصور والتحوّل لا يتجلّى في شيء منها لذاته، وإنّما يتجلّى منه ويتحول من صورة إلى غيرها بمشيئة خالقه تعالى وتكو ينه. فيقو ل تعالى الصور التي تتجلى فيها الأ رواح والمتروحنون: كوني: فتكون الصورة، فيظهر بها من له هذه الحالة، فهو تعالى مشيء لذلك التصوّر والصورة والتحوّل. فإن المشيئة متعلقه العدم. فيظهر بها من له هذه الحالة، فهو تعالى مشيء لذلك التصوّر والصورة والتحوّل. فإن المشيئة متعلقها العدم، فكلّ مشاء حادث. فما ظهر إلاَّ حادث، والحق ـ تعالى هو الوجود، فلا يكون مشاء لمشيئته وتعلّقها في غير هذا المقام لسان آخر، ذكرناه في هذه المواقفن عند الكلام على الأبيات التي ذكرها سيّدنا في كتاب الفصوص، في فص لقمان (عليه السلام) فانظره فإنه نفيس.

واعلم أن الحق تعالى لم يزل ولا يزال في نفسه، كما تجلّى لعبده، فهو على ماهو عليه أزلاً وأبداً، لا يخلع صورة ويلبس أخرى. ولا يلحقه تغيير في ذاته، وإنم التغيير في إدراكات العبد ومدركاته، فمشيئته تعالى إنما تعلّقت بعبده، أن يراه عبده في تلك الصورة التي شاء الحق أن يراه عبده فيها. فلما رآها العبد التبس به وركبه الحقّ فيها. فكلّ صورة يخلقها الله تعالى فهي با لنسبة للحقّ تجلّ من التجلّيات، ومظهر من المظاهر، وبالنسبة للممكن هي أحكام عين الممكن الثابتة. وتسمّى الصورة بأسماء الممكنات فالصور التي تقع عليها الأبصار، والتي تدركه العقونل والتي يمثلها الخيال تجليات له تعالى، وهو قوله تعالى من باب الإشارة ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ﴾ من صو رالتجلّي ﴿ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾. فعند نسبة الصورة لله تعالى، يقال: في أيّ صورة ما شاء، ظهر من غير جعل جاعلن هذا في باب المعارف والاعتقادات. ويقال في باب الخلق: في أيّ صورة من صور الأكوان ماشاء ركّبك. فسوّاه تعالى وعدله على مزاج يقبل كلّ صورة.

فخف مقام الربّ إن أضفته

ولا تخف منه إذا عرفته

يقول (رضي الله عنه) : آمراً بالخوف من مقام الربّ إذا لم تعرفه إلاَّ مضافاً مقيداً، بأن اعتقدت أنَّ ربّك غير رب سواك من سائر الملل والنحل، من حيث الذات والحقيقة، وهو جهل بالربّ الحقيقي رب السموات والأرضين وما فيهما وم بينهما. ولا تخف مقام الربّ الحضرة الربّية الإلهية إذا عرفته حقيقة المعرفة، كم بينّا فيما تقدّم، فإنّك عرفت الحق واعتقدت الصدق، ولابدَّ أن تأتيك البشرى في الحياة الدنيا، لأن الأمر كما قلت، والحق كما اعتقدت.

فلا يخاف الربّ غير مقيد

 

أطلقته إن شئت أو أضفته

يقول (رضي الله عنه) ـ: بعد أن أمر المعتقد تقيد الرب وحصره بالخوف، ونهى العارف بالرب حقيقة عن الخوف، إن ا لإطلاق منه حقيقي وغير حقيقي. فإطلاق الرب تعالى الحقيقي لا يقابله تقييد ولا يتصوّر معه تمييز. فإن الإطلاق الذي يقابله تقييد ليس بإ طلاق، بل هو تقييد بالإطلاق وتمييز به، كما أن المقيد متميّز بالتقييد. وإنما مفهوم الإطلاق عند السادة هو ما لا تقييد له، فلا يكون مقيداً بالإطلاق ول بغير الإطلاق، بل هو الأمر الذي لا تقييد فيه بوجه من الوجوه. فمعتقد هذا الإطلاق هو الذي لا يخاف مقام ربّه، أمَّا من قيده بالإضافة أو بالإطلاق الذي يقابله تقييده فهو مأمور بالخوف من مقام الربّ، فالعارف حقيقة يعتقد إ طلاق الحق وتنزيهه عن التقييد في التقييد، وا لتحديد في التحديد، والتعين في التعين. لذا أمرن الشارع أن نقول عند افتتاح الصلاح’ وفي الانتقالات من ركوع وسجود: (اللهُ كْبَرُ). بعد أمره لنا بتخيّل الحق في قبلتنا ومواجهتنا. وأننا نراه بقوله: ((ابعد الله كأنّك تراه))،  كأننا نقول عند كل تكبيرة: « اللَّهُ أَكْبَرُ» عن التحديد في التحديد، والتقييد في التقييد، فهو أكبر من أن يقيده حال، أو يضبطه خيال.

قول سيدنا:

فإنه عين الذي تشهده

فكن به الموصوف إن وصفته

يقول (رضي الله عنه) : الربّ المطلق الذي تعلمه مطلقاً هو عين الربّ المقيد الذي تشهده مقيداً. فكلّ مشهود مقيّد لك فهو الربّ المطلق حقيقة وعيناً. فالمقيّد وجه من وجوه المطلق، واعتبار من اعتباراته. إذ لو علم المطلق من حيث هو، أو شوهد من حيث هو، لانقلبت حقيقته، وانقلاب الحقائق محال. وحيث كان الربّ المطلق هو عين الربّ المقيّد بالصور، وصورتك من جملة ما تشهده، ومقيداً بها، فالربّ ع ينك. فكن وا عتقد أنك أنت الموصوف بكل ما وصفته به تعالى، إذ الصور أحكام الممكنات في الوجود الظاهر في الصور. فهي للحق تعالى أسماء، وللممكن نعوت وصفات، من حيث أن الممكن متّصف بها.

قول سيدنا:

لا تقتصر على الذي أشهدته

 

ولا تزد في الكشف إن كشفته

يقول (رضي الله عنه) حيث كانت المشاهدة متعلقها الذوات، وما من أمر تشهده إلاَّ وله حكم زائد على ما وقع عليه الشهود، لا يدرك إلاَّ بالكشف، فل تقتصر على المشاهدة، إذ الشهود لا يعطي العلم بالشهود من حيث حقيقته تفصيلاً، فحظ المشاهدة المحسوسات، ولا تزد في الكشف إن كشفته، حيث كانت المكاشفة متعلقه المعاني، فهي إدراك مع نوي مختص بالمعاني. فلذا كانت المكاشفة أتمّ من المشاهدة، كم إذا شا هدت متحركاً مثلاً، فإنك تطلب بالكشف محرّكهُ، لأنك تعلم أن له محركاً، وليست هناك مرتبة بعد المكا شفة تزيد إيضاحاً في الشهود.

قول سيدنا:

فكن به ولا تكن أيضاً به

فذا هو الإنصاف إن أنصفته

يقول (رضي الله عنه) : كن بالحق تعالى وجوداً وفعلاً، وتعمل في تحصيل الكشف عن ذلك، لا أنَّكَ تحصل شيئاً لم يكن قبل ذلك، بما شرعه لك،  فإذا حصلت على قرب الفرائض وجدت نفسك إياه. وإنما أمرت بالكون به، فإنك لست عينه من كلّ وجه، فلو كنت عينه من كل وجه ما كلّفك ولا أمرك ولا نهاك. ولا تكن أيضاً به، فإنك لست غيره، والسعي في تحصيل الحاصل محال. فلو كنت غيره من كل وجه ما صحّ لك التسمّي بأسمائه كلّها، والاتصاف بصفاته بجملتها.

قيل لي في واقعة من الوقائع: ليس بين الأقطاب وبين الحق تعالى إلاَّ مرتبة واحدة. أقول: وهي الوجوب بالذات، فأنت الصورة الظا هرة في المرآة، ماهي عين المتوجه على المرآة من كلّ وجه، ولا غيره من كلّ وجه، ولا هي عين المرآة من كل وجه، فأنت لا عين ولا غير، ورفع النقيضين يؤذن باجتماعهما. والأصل ما عرف إلاَّ بجمعه بين الضدين، وكذلك الفرع، وهو أنت. وهذا الذي ذكرناه في حل ألفاظ هذا المنزل هو من وراء وراء مشرب سيّدنا (رضي الله عنه) فقد جلّ سيدنا أن يرمي رام مرماه، أو يحوم أ حد حول حماه. يقول لسان حاله:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل

 

ونزلت في البيداء أبعد منزل

اللهم فهمنا كلامه، وبيذن لنا مرا مه، حتى نقول كما قال رضي الله عنه :

فإذا فهمت مقالتي فافرح له

فالقول قول الله في المخلوق

إذ كان من فهم الذي قد قلته

 

من حكمة أدّى إليَّ حقوقي

والحمد لله الذي علمنا مالم نكن نعلم، وكان فضل الله علينا عظيماً. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!