موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


267. الموقف السابع وستون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾[فصلت: 41/ 44].

ضمير الغائب ، عائد على القرآن الكريم، والكلام القديم، أخبر تعالى: أن القرآن للذين آمنوا هدى ودلالة إلى كلّ سعادة وخير، وشفاء من كل علة وضير، كما قال في غير هذه الآية: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾[الإسراء: 17/ 82].

وقال: ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس: 10/57].

فالقرآن دواء العقائد الفاسدة، والأخلاق الرديئة الكاسدة، وهو النور الذي به تبصر الأشياء كما هي حقاً أو باطلاً، وهو بعينه للذين لا يؤمنون وقر وصمم في آذانهم فلا يسمعون حقاً:

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[البقرة: 2/ 171].

فانعدمت فائدة الإسماع وارتفعت نتيجته في حقهم، فإن أعظم فائدة الإسماع هي سماع كلام الله تعالى وسماع دعوة الداعين إلى الله تعالى وإلى سبيل السعادة من نبيّ ورسول ووارث. ولهذا قدّمه الحق تعالى في الذكر الحكيم على البصر، وكما هو وقر في آذانهم هو عمى في بصائرهم وأبصارهم، يزيد الظالمون خساراً إلى خسارتهم، ويزيد الكافرين رجساً إلى رجسهم، وقد شعروا بذلك واعترفوا به: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَ وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾[فصلت: 5]. فلا نبصر.

هذا مع وحدة الكلام القديم، فإنه لا يتجزأ ولا يتبعّض من حيث أنه حقيقة واحدة، ولكن للقوابل أثراً في المقبول فتقلبه إلى نفسها، وتقبله بحسب استعداداته وأمزجتها، وما تقتضيه حقائقها انحرافاً واعتدالاً. المؤمن لما كان منّور الباطن بالإيمان، منور الظاهر بالإسلام، متحلياً بمكارم الأخلاق ومحاسن الخلال، متخلياً عن سفاسفها كان كأرض طيّبة التربة، معتدلة المزاج، قابلة لأن يظهر عنها جميع النباتات النافعة والأزهار المبهجة، وأنواع الثمار المغذية، ينزل بها ماء السماء عذباً، فأنبتت من كل زوج بهيج حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً، والكافر، ويلتحق به المؤمن العاصي، فإنَّ كلّ آية وردت في الكافرين تجرّ ذيلها على عصاة المؤمنين لقذارة ظاهرة وظلمة باطنه، وتضمّخه بسيئ الأخلاق وسفاسفها، كان كأرض خبيثة التربة سيئة المزاج منحرفة مستعدة لأن تقلب الماء العذب النازل إليها من المعصرات إمَّ مراً، وإمَّا مالحاً، وإمَّا زعاقاً، كما تقول الحكماء في ماء مطر نيسان: إنه ينزل في أفواه الأصداف، فتكوّن جوهراً ودرراً نفائس، وينزل في أفواه الحيات، فيتكوّن سماً ناقعاً.

وهكذا هي الحقائق العرفانية التي تكلم بها العارفون با لله تعالى أو أودعوها كتبهم، كالقرآن الكريم يضلّ بها كثيراً، ويهدي بها كثيراً، يسمعه المؤمن الصالح المنور السريرة بالطاعات والأعمال الصالحات، الطاهر الظاهر والباطن من الصفات المهلكات، فتنزل في قلبه كالمطر في الأرض الطيبة المستعدة لكلّ خير، فيزداد بهجة على بهجة ونوراً على نور. فأمَّا الذين آمنوا فزادتهم إيماناً، وهم يستبشرون بما انكشف لهم من أسرار الشريعة، وحصل لهم من نتائج الأعمال الصالحة والأحوال الحسنة والمعارف الإلهية التي يصيرون بها كاملين في المحيا والممات، فتزداد رغبتهم في الأعمال الصالحة، ويزيدون للشرع تعظيماً، وللأمر وا لنهي اتباعاً؛ ويسمعها آخر قد خبثت نفسه وت لطّخ ظاهره وباطنه بالمعاصي وا لمخالفات والتغذّي بالحرام الصرف و الشبهات، وتدنّس بالكبر والعجب والرياء وغيرهما من المهلكات، فتنزل الحقائق في قلبه نزول المطر في الأرض الخبيثة، فتقلبه على مزاجها ولما هي مستعدة له، فتنبت حنظلاً وزقوماً وسعداناً، وما شاكل هذا من النباتات القاتلة والمؤذية؛ كما هو الحال في الكلام القديم: فإنَّ كلام أهل الله تعالى في الحقائق الإلهية و التوحيد الشرعي التنزلي إنما هو تنزلات إلهية وإلقاء ربانين وإلهام روحاني، ينزله الحق تعالى في قلوبهم فتنطق به ألسنتهم، وذلك إما ناشئ عن تقوى كما قال: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾[البقرة: 2/ 282].

وقال: ﴿إن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾[الأنفال: 8/ 29].

وإمَّا وهب محض لا ثمرة عمل ولا نتيجة حال ولا مقام. وقد رأينا ممّن ضلّ بسماع كلام أهل الله تعالى في الحقائق أو بمطالعة من غير فهم لها على مرادهم، خلقاً كثيراً، فضلّوا وأضلّوا، أسأل الله العافية لي ولإخواني. فإن العلم محبوب للنفوس طبعاً لشرفه، لاسيّما علم ما غاب عن أكثر الناس، لاسيّما في الإلهيات، فتتوجّه النفس لذلك، فتبرق لها بارقة من الجناب الإلهي عند توجّهها، إذ حقيقة النفس تعطي ذلك على أي حالة كانت، من جميل وقبيح، وعلى أي نحلة كانت من النحل، لكن لا على الكمال، ولا على ما يعطي السعادة، فتقصد النفس تلك البارقة، فتنطفئ البارقة، فتضلّ النفس وقد فارقت السبيل التي كانت عليها. وتريد النفس أحياناً الرجوع إلى ما كانت عليه، فلا يتأتّى لها لأنها تتخيل أن ذلك نزول وانحطاط من الذروة ا لعليا، ومشاركة للعامة والسوقة فيما هم عليه، فلا هي بالحاصل ولا الفائت، ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾[البقرة: 2/ 17].

ما أمامهم فيهتدون: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾[البقرة: 2/18]. إلى ما تركوه وراءهم مما عليه عامة المسلمين، فيصيرون حينئذٍ إمَّ حلولية، أو اتحادية، أو إباحيّة.. أو ما شاء الله من الضلالات وهم مع هذا يتخيلون أن ماهم عليه هو طريق أهل الله تعالى وأنه أسنى ما يتحف الله به من اصطفاه من عباده، فقنعوا بكلمات من الحقائق يتمشدقون بها في المجالس، ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً،  حبطت أعمالهم فلا يقيم لهم الحق تعالى يوم القيامة وزناً، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، فلا يرفعون بالأوامر والنواهي الشرعية رأساً، يستهينون بالأعمال الصالحة وأنواع القربات، ولا يناجون الحق بكلامه في الصلاة والتهجد في الليالي المظلمات: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المجادلة: 58/ 19].

وعند هذا يقبل عليهم الحارث إقبال الوالد المشفق على ولده الوحيد، بالإلقاءات، والواردات، والتنزّلات الشيطانية،  وقد ملك الله لإبليس الخيال، فيخّيل لهم ما أراد ممّا يزيدهم به ضلالاً وبواراً ووبالاً وخساراً، فإن سبقت لواحد من هؤلاء العناية الإلهية وأراد الله به خيراً، وقليل ماهم، بل هو الغراب الأدهم الأعصم ساقه الله تعالى إلى من يبّين له ضلاله، وجمعه بمن يشرح له محاله، ويعرفه أن النجاة والسعادة كل السعادة وأساس كلّ خير وع طاء وزيادة هي في اتباع الشارع في كل ما ورد وصدر، والتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) في المنشط و المكره والعسر واليسر. وقد ضرب بعض ساداتن لهؤلاء مثالاً فقال: مثلهم مثل الصبي إذا شمَّ رائحة الوجور وهو الدواء الذي يصب في الحلق ولم يسق منه، فإنه يعتريه مرض الدق، ويبقى يرق ويدق وتنسل منه قوته شيئاً فشيئاً، على أن يسقى منه أو يموت؛ وكذلك هؤلاء، إذا شموا رائحة من الحقائق الإلهية، وما ساقهم الله إلى من يكشف لهم عن محيّاهم ويشمّهم على الوجه المراد لأهل الله ريّاها، لا يزال أحدهم يرق دينه ويضعف إسلامه وينحل إيمانه.... إلى أن ينسلّ من الدين، انسلال الشعرة من العجين، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، وفي نَصْلِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رِصَافِه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في نَضِيِّهِ، فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث و الدم. فهذه الطريق إمَّا هلك و إمَّا ملك، فالحذر الحذر إخواني ممّن هذه صفاتهم، و النجاة النجاء ممّن هذه سماتهم: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾[محمد: 47/ 30].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!