موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


259. الموقف التاسع والخمسون بعد المائتين

قال تعالى حكاية عن أهل النار: ﴿فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنعام: 6/27].

وأكذبهم تعالى في تمنيهم هذا فقال: ﴿ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾[الأنعام: 6/28].

من الكفر والمعاصي. وتكذيب الحق تعالى لهم ليس لقضائه عليهم بذلك، وسبق العمل به فقط كما يقوله الجمهور لأنَّ القضاء يتبع العلم، والعلم يتبع المعلوم،

 

فبالعلم ينكشف المعلوم على ماهو عليه. والمعلوم لا يمكن أن يتبدّل عم هو عليه، لأن العلم يصير حينئذٍ جهلاً. وإنما تكذيبه تعالى لهم لما علمه من اقتضاء حقائقهم وطلب استعداداتهم، وأنها لا تقتضي إلاَّ الكفر وما يلزمه ويتبعه، فماله استعداد إلاَّ لقبوله. فمعنى الآية إشارة لما تداولته الصوفية بينهم من القول بالاستعداد والقابلية. والاستعداد عند الطائفة العلية هو الاستعداد للوجود بشرط كذ وكذا، له لوازم وتوابع هي داخلة فيه وتابعة له كاللوازم البينة عند المناطقة. فيكون كأنه جزء من الماهيّة، و الحقيقة لا تتمُّ الماهية و الحقيقة إلاَّ بحصوله، فلابدَّ من حصوله. ولو تكون لحصوله موانع فلا بدَّ من دفعها، أو شرائط فلابدَّ من كونها. وهذا هو الاستعداد الكلّي الذاتي، لا الاستعداد العرضي الجزئي، فإن الاستعداد على قسمين: كلّي وجزئي، كما قلنا، والاستعداد والقابلية و التهيؤ والقبول للشيء المستعدُّ له، إذا ورد بمعنى واحد، وينفرد الاستعداد بالطلب الاستعدادي، فإنه يطلب المستعد له طلباً حثيثاً، لأن الاستعداد مأخوذ من قولهم: اعتد فلان لطلب الشيء الفلاني.

والشيء يطلبه المزاج كما تطلبه المرتبة إذا ظهر في الوجود، ولكن هذ الطلب الاستعدادي الكلّي قد تعرض موانع بينه وبين المطلوب، وقد تكون لحصوله على المطلوب شروط يتوقف على وجودها، والموانع والشروط قد تكثر، فيطول الأمد ويبعد الحصول على المطلوب. وقد تقلّ، وقد لا تكون موانع ولا شروط، فيحصل المطلوب بسرعة وبلا تعمّل ولا تعب. والعمل في رفع الموانع وحصول الشرائط لحصول ماهو مطلوب بالاستعداد الكلي الذاتي هو الاستعداد الجزئي مثلاً: كل إنسان من حيث إنسانيته وحقيقته مستعدّ بالاستعداد الكلّي إلى ظهور الصورة الإلهية فيه، ولكن قد يتوقّف حصول هذا التجلّي المستعدّ له بالاستعداد الكلّي على رفع موانعه وحصول شرائطه، كم قلنا.

فخوض السالك لطريق أهل الله تعالى في الرياضات النفسيّة و المجاهدات البدنيّة ومعانقة الآداب الشرعية لرفع الموانع الطبيعية، والاقتضاءات الشهوانية النفسية، وتحصيل الشرائط بتصفية محل التجلّي وتنويره بالأذكار، ومواصلة الاعتبار، والتعرض لنفحات الحق تعالى بالأسحار، هو الاستعداد الجزئي العرضي. وهذا ما ذكره بعض الأكابر، وهو أن المرأة من حيث هي مرآة، لها قابلية لأن ينظر الملك فيها وجهه، وليس له استعداد لأن ينظر فيها وجهه إلاَّ إذا كانت محلاّة بأنواع الجواهر، مزيّنة بالحلي الفاخر، فعبّر بالقابلية عن الاستعداد الكلّي الذاتي، وبالاستعداد عن الاستعداد العرضي الجزئي.

والاستعدادات الكلية الذاتية غير مجعولة، فلا توصف بالخلق، فلهذا هي ل علّة لها، ولا يقال عليها «لم»؟!.. لأنها حصلت في العلم الذاتي بالتجلّي الذاتي المعبّر عنه عند الطائفة العلية بالفيض الأقدس، من غير تخلل اسم من الأسماء، ول صفة من الصفات، كالإرادة والقدرة والاختيار، وهي محصورة في كلّيات أربع، كما ورد في الصحيح: «الرزق، والأجل، والشقاوة، والسعادة». وجميع ما يطرأ على الإنسان فهو من توابع هذه الأربعة ولوازمها. وظهور بعضها قد يتوقّف على أسباب وشروط. والمجعول المخلوق وهو الاستعداد الجزئي العرضي، هو الذي يعلّل ويعتبر وزنه بالميزان الشرعي، والتعمّل بالاستعداد الجزئي قد يفيد في حصول المستعد له، إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع جميعها، وقد لا يفيد لنقص بعض، أو بقاء بعض الموانع خفيّة عند هذا، إذ كان الاستعداد الجزئي مستنداً إلى استعداد كلّي، كالمثال المذكور. وإلاَّ كان عملاً في غير معمل، وضرباً في حديد بارد، وإن كان هذا أيضاً من مراتب الاستعداد الكلي، فإنه هو الذي اقتضى هذا العمل الذي لا يحصل به مطلوب. والاستعدادات الكلية غيبيّة خفية عن المستعدّ وغيره، لا يطّلع عليه إلاَّ من أطلعه الحق تعالى على الأعيان الثابتة في العلم الأزلي، وذلك خاص بالأبدال السبعة، وهم الأفراد الأربعة و القطب والإمامان وأمَّا العموم فإنما يدركون الاستعدادات الجزئية فيقولون: فلان مستعد "لكذا، فينزلون الاستعدادات الجزئية منزلة الاستعدادات الكلية. ثم أنهم يرون شخصاً عالماً عاقلاً مدبراً جامعاً لصفات الكمال، في مرتبة سافلة عند الملك مثلاً، ويرون من دونه في صفات الكمال أو لا كمالات له أصلاً في مرتبة عالية عند الملك، فيتوهّمون أنه مقصّر بهذا الكامل دون استعداده، وأنه أعطى لمن دونه في الكمالات فوق استعداده، وليس الأمر كما توهّموا، فإنَّ هذه الكمالات استعدادات جزئية عرضية، وهي من لوازم الاستعداد الذاتي الكلي ومراتبه، فلا أثر لها ول اقتضاء، والذي أعطى المرتبة العالية مع عدم الكمالات أعطاه استعداده الكلي الذي هو غير متوقّف على وجود شرط ولا مانع له، وهكذا هو الأمر في جميع الناس من علم وغنى وعزّ وجاه، ومراتب دنيوية وأخروية فتحصل لمن لا استعداد عرضيّ له في تحصيلها، ول تحصل لمن له استعداد ع رضي جزئي في تحصيلها، وقد تحصل بعد تعب وعناء، وقد تحصل آخر جزء من العمر، لوجود شرطها وانتفاء مانعها مثلاً، وكل ذلك راجع إلى الاستعداد الكلّي الذاتي ولوازمه وتوابعه وشرائطه وموانعه.

فليس لجاهل ولا لخامل ولا لمعتوه ولا لفقير ولا لمبتلي بأنواع البلايا، ولا لشقي ولا لغيرهم ممّن يطلب كمالاً دنيوياً أو أخروياً حجّة على الله،  فإنه تعالى ما أعطى كلّ أحد إلاَّ ما أعطاه استعداده الكلي الذي هو كجزء من حقيقته. وما منعه إلاَّ ممّا لا يقبله استعداده لو أعطاه إياه، فإن الحق تعالى جواد لا يبخل. وطلب الاستعداد الذاتي مجاب لا يرد، ولهذ الاستعداد الكلي الذاتي الكامن في العباد أشار (صلى الله عليه وسلم)

((إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلاَّ شبر أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار؟)). الحديث بطوله في صحيح البخاري.

فالرجل الأوّل له استعداد كلي ذاتي للكفر، فإنه كان مستعداً للوجود بشرط الكفر، و الكفر له لوازم وتوابع وأحوال، من جملتها دخول النار. وكان لظهور الكفر الذي هو مستعد له منه موانع، ربّما تكون كثيرة، ولما حانت وفاته، وكانت الدنيا هي موطن الكفر والإيمان لا الآخرة، ارتفعت الموانع، وحصلت الشرائط فظهر م كان مستعد له وهو الكفر، فمات كافراً، وأمّا ما كان يعمله من عمل أهل الجنة فهو من الاستعداد الجزئي الذي لا أثر له في حصول المطلوب، وإن كان من مقتضيات الاستعداد الكلّي عوارض عرضت وأحوال حالت. فلّله الحجة البالغة على أهل النار، فليس لأحد منهم أن يقول: يا رب لم جعلتني من أهلا النار؟! فإنه تعالى يقول له: ما جعلت إلاَّ ما علمت، وما علمت إلاَّ ما أنت عليه، فإن حقيقتك مركبة من الاستعداد للوجود بشرط الكفر ولحقائق غير مجعولة ، لأنها معدومة، وإن كانت ثابتة فما أعطيتك إلاَّ ما طلبته باستعدادك فإنه من حقيقتك؛ ولو أعطيتك خلافه ما قبلته، ولرددته، لأنه يلزم من إعطائك خلاف ما أعطيتك قلب حقيقتك، وقلب الحقائق محال.

فليس لشيء أن يقول: (يا رب لم جعلتني أنا؟!) فإنه كلام وسؤال مهمل.

وإنما كانت دعوة الرسل (عليهم الصلاة والسلام) للمستعدّين للإيمان والكفر سواء، لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فمن أهل النار من يقنع ويسلّم بحجّة إرسال الرسل؛ ومنهم من لا يقنعه ذلك، فيحتج الحق عليه باستعداده وهذ من سرّ القدر، الذي منع الله عباده من الاطلاع عليه، ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن السؤال عنه، والخوض فيه.

لا يقال أنكم ذكرتم أنَّ كلّ إنسان له استعداد ذاتي كلّي، لتجلي الصورة الإلهية فيه، وطلب الاستعداد مجاب لا يرد، ونحن لم نر هذا الأمر حصل إلاَّ لأفراد قليلين من أولياء الله تعالى، لأنَّا نقول: لابدَّ من حصول ذلك، عند وجود الشرائط وانتفاء الموانع، وحضور الوقت المقدّر لذلك، وهو الشرائط، إمّا في الدنيا وإمَّ عند الموت، وإما في البرزخ وإمَّا في الجنة، لمن يدخلها أولاً، وإمَّا بعد الخروج من النار بالشفاهة الخاصة و الرحمة، وإما بعد الرحمة العامة لأهل النار في النار جميعاً، فافهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!