موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


248. الموقف الثامن والأربعون بعد المائتين

بغية الطالب على ترتيب التجليات بكليات المراتب

قال تعالى: ﴿وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾[إبراهيم: 14/ 25]، [النور: 24/ 35].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[البقرة: 2/ 26].

وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَ إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت: 29/43].

أخبر تعالى: أنه يضرب، أي يبيّن، فإنَّ الضرب لغة البيان بالأمثال للناس، ما غاب عنهم من الحقائق الإلهية، والمعاني الربّانية، فإن المثال تخييل يوصّل إلى تحقيق، ولا يشترك في المثال مساواته للممثل له من كل وجه، بل يكفي الوجه الواحد. والمراد بالناس المضروبة لهم الأمثال الذين إنسانيّتهم حقيقية، فالأمثال مضروبة لمن كملت إنسانيته، فغلبت حيوانيته، لا مطلق المسمّى إنساناً، فإنَّ من المسمّى إنساناً ماهو حيوان، والناس موضوع للجمع، واحده إنسان من غير لفظه، وقد ضرب الحق تعالى الأمثال بأقواله وأفعاله، وضرب المثل بالفعل أوضح في التفهيم وأبين في التوصيل، ونهى تعالى عباده أن يضربوا له الأمثال، قال: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 16/74].

أي لا تضربوا الأمثال للاسم الجامع «الله» فإنه جامع للمتقابلات من المتضادات، والمتناقضات والمتخالفات والمتماثلات، وذلك من خواص الإله، وهو واحد، فل يوجد له مثال: بخلاف غيره من الأسماء الخاصة. ووعد تعالى من آمن بما ضربه من الأمثال، تقليداً لمن علمّه الله ذلك من نبيّ وولي بأنه يمنُّ عليه بعلمها في ثاني حال، يرفعه من درجة الإيمان إلى درجة العلم، التي هي أعلا درجة من الإيمان، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 2/ 26].

أي سيعلمون أنه أي (المثال): ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾[البقرة:2/26]. حيث أنه مثال للممثل له حق ثابت، وذّم تعالى من لم يؤمن بذلك فقال: ﴿وَأَمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا﴾[البقرة: 2/26].

وذلك أنهم جهلوا الممثّل له فاحتقروا المثال، فما عرفوا أنَّ العالم ظل الحق تعالى ـ، ولا علموا أنَّ العالم كله اسمه الظاهر، وأنه تجلياته وظهوراته ومثالاته وتعيناته بحقائق ألوهيته، البعوضة فما فوقها إلى العرش إلى العماء، فكلُّ العالم العلويُّ والسفليُ أمثالٌ لما في الحضرة الإلهية العليّة من الحقائق والرقائق، الكلّيات والجزئيات. وجعل تعالى معرفة الإنسان نفسه ضرب مثال لمعرفته ربّه، فإذا عرف نفسه عرف ربّه، كما ورد في الخبر، الذي صحّحه الكشف، وإن قال بعض الحفّاظ: أنه من كلام أبي بكر الرازي. فما أحالنا تعالى إلاَّ عليه، في أمره لنا بالنظر في أنفسنا وفي السموات وفي الأرض، حيث يقول: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾[الروم: 30/8].

وقال: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات: 51/ 21].

وقال: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[يونس: 10/101].

يعني من حيث أنها أمثلة لما في الحضرة الإلهية من الحقائق والمعاني، ل من حيث هي أنفس وسماوات وأرض، ولذا قال: «انظرُوا ماذا» وقال ممتنّاً على خليله إبراهيم (عليه السلام) ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[الأنعام: 6/ 75].

وملكوت كلُّ شيء هو باطنه وما تضمّنه من الدلالة و المثالية. والموقن الثابت الذي لا يتزلزل علمه ولا تطرقه الشبه، وليس ذلك إلاَّ من علم بواطن الأشياء وحقائقها، وأمَّا من كان علمه مقصوراً على ظواهر الأشياء وصورها، التي هي كالصدف على الدر، فعلمه عرضة لكلّ شبهة، وغرض لكل شكّ، فلا إيقان له، فالأكوان خلقها تعالى سلاليم يتوصّل بها إلى المعاني الإلهية الباطنة فيها، فمن قصر نظره، ووقف مع المثال، ضلّ وحار، ومن ارتقى إلى الحقيقة اهتدى، قال تعالى: ﴿يضلُّ به﴾ (أي المثال) «كثيراً» وهو الواقف مع المثال الذي تعدّى مرتبة الحسّ، فما عرف أن الدر وراء الصدف، فهو ضالٌ ع مّا أريد بذلك المثال، «ويهدي به» (المثال) «كثيراً» وهو الذي فتح الله عين بصيرته فعبر من المثال إلى الممثّل له، لأنه تعالى ما خلقن إلاَّ لنعبده تعالى ـ. والعبادة من غير معرفة المعبود محال، فخلق العالم لنعرفه به تعالى فنعبده، فالآثار دلّت على المعاني الإلهية، والحقائق الربّانيّة، و المعاني الإلهية دلّت على ذات الإله الرب المعبود تعالى.

«و ما يضلُّ به» (أي المثال) إلاَّ الفاسقين والفسق لغة الخروج، وهم الذين خرجوا عن إنسانيّتهم جملة واحدة إلى أسفل سافلين، فإن لكلّ بني آدم خلقاً: ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[التين: 4]. وهي الإنسانية الحقيقية.

﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[الروم: 30/ 30].

ثم ردّه تعالى أسفل سافلين بجعله تحت حكم الطبيعة وأسر العقل المعاشي. فإن العقل عقال عن الترقّي إلى إدراك الأمور الإلهية، التي فوق طوره، ولذ قال: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت: 29/ 43].

وما قال: وما يعلمها إلاَّ العقلاء، إذ استناد الأمور الكونية، ومثاليته للحقائق الإلهية، خفيٌّ عن العقول، لا تدركه بآلاتها، وما كان فوق حدّها المحدود لها، لا حيلة لها في الوصول إليه واكتسابه، وإنما لها أن تتعمّل بالأعمال الشرعية، وتستعد الاستعداد الجزئي، وتنتظر الوهب من الوهاب تعالى فإنها علوم وهب،  لا علوم كسب، وهو المسمّى بالعلم اللدنّي، إشارة إلى قوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾[الكهف: 18/ 65].

ففيض هذا العلم متقدم على تعقّله، فإذا وردت هذه العلوم من الواهب عقلها العقل وصارت عنده من المعقولات، بل البديهات، بعد أن كان لا يتصوّرها ول يحوم حول حما ها، بل ينكرها إن سمعها. ولما كان موضوع هذا الموقف التعيّنات والظهورات التي هي أمثلة وتخيّلات توصل إلى تحقيقات أدخلناها في قالب التمثيل، ليسهل تصوُّرها ويحصل ما أردنا لإخواننا من معرفة التجليات، وإياك ثم إياك أن تتوهّم وتتخيّل فيما أذكره في هذا الموقف تشبيهاً عقلياً أو تمثيلاً وحلولاً واتحاداً أو سرياناً، أو امتزاجاً أو ارتساماً، أو اتصالاً أو انفصالاً، أو مقابلة أو مقارنة، أو تقديماً أو تأخيراً، أو قبلية أو بعدية، أو كيفا أو كمّا أو معيّة أو أينا، أو متى أو ترتيباً، فمن توهّم شيئاً من ذلك سقط في مهواة من التلف على أمّ رأسه.

فصل 1

لما كان العالم هو الاسم الظاهر، وكان الإنسان من بين سائر العالم، جامعاً بين الاسم الظاهر والباطن، كان له الشرف. فهو أشرف المخلوقات وأكملها؛ وأما فضله على سائر المخلوقات فشيء آخر. فالإنسان الكامل هو الكون الجامع للحقائق الإلهية والكونية،  فهو المثل الذي لا مثل له، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾[الشورى: 11].

ففي الكاف، طريقان عند أهل الله: الزيادة، وعدم الزيادة.

فعلى زيادة «الكاف» يكون المعنى: ليس مثل الحق تعالى شيء، لأنه عين الوجود ولا مثل للوجود، لأنَّه لو صحَّ للوجود مثل لصحّ أن يطلق عليه اسم الوجود، والوجود واحد لا ثاني له، فلا مثل له. أو يكون المنفى هي المثلية العقليّة، وهي المساواة في جميع الصفات النفسيّة، لا المثلية اللغوية.

وأمَّا على أن «الكاف» غير زائدة، وهو مذهب جمهور أهل الطريق، سادة هذه الأمة المحمدية، ففيها طريقان أيضاً، والمماثلة ثابتة على كلا الطريقين:

الأولى: أثبت له تعالى مثلاً وهو الإنسان الكامل، ونفى أن يماثل هذا المثل، فيكون مساق الآية: نفى المثل لمثل الحقّ تعالى ـ، وهو الإنسان الكامل، إذ الإنسان الكامل مظهر جامع لجميع الحقائق الأسمائية، التي تطلب العالم أعلاه وأسفله، جواهره وأعراضه، ومظهر أيضاً لجميع الحقائق الكونيّة. فالمقولات العشر، التي تجمع العالم كله، متفرّقة في العالم، مجتمعة في الإنسان. فللإنسان نسبتان نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية، ونسبة يدخل بها إلى العالم، فهو المقابل لجميع الموجودات قديمها وحادثها، وما سوى الإنسان لا يقبل ذلك. فالحقُّ تعالى له القدم، وما له دخل في الحدوث،  والعالم له الحدوث، وماله دخل في القدم. و الإنسان له القدم وله الحدوث، فهو منعوت بهما. فلهذا هو ربُّ وعبدٌ، عبدٌ من حيث أنه مخلوق مكلّف. وربُّ من حيث أنه خليفة، ومن حيث أنه خلق على الصورة الإلهية فهو يلحق بالإله التحاقاً معنوياً. والعالم كله تفصيل ما اجتمع في الإنسان الكامل. فلهذا سمّاه شيخنا إمام العالمين بالله محي الدين الحاتمي: «بالإنسان الكبير، وبالعالم الكبير» وسمّى العالم ما عدا الإنسان ـ بالإنسان الصغير، قال لي سيدي محي الدين في واقعة من الوقائع: (إن الله خلق الإنسان الكامل له، ليظهر به تعالى. وخلق العالم للإنسان الكامل له، ليظهر به، أي الإنسان. فالعالم مخلوق بواسطة الإنسان، وبسببه، وحيث كان العالم مخلوقاً للإنسان، والإنسان مخلوقاً له تعالى ـ، كان العالم مخلوقاً لله) وذلك لكلام جرى بيننا، فإنه حضر بين أيدينا مؤلّف من مؤلفات سيدنا (رضي الله عنه) ففتحته، فإذا أوله: الحمد لله الذي خلق العالم له، فقلت له: العالم مخلوق للإنسان، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾[الجاثية: 13].وليس تسخيره إلاَّ سعيه في ظهوره وما به بقاء ظهوره، والخطاب للإنسان، فأجاب (رضي الله عنه) بما تقدّم. ولما كان الأمر على ما ذكرناه أعقب تعالى قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾[العنكبوت: 29/43]. [الحشر: 59/21].

بقوله: ﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾[العنكبوت: 29/44].

وهو كلّ ما علا، ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وهو كل ماسفل، ﴿بِالْحَقِّ﴾ بسبب الحقّ المخلوق، إذ من أسماء الإنسان الكامل «الحقُّ المخلوق به» وليس إلاَّ الحقيقة الإنسانية الأكمليّة المحمدّية. أخبر تعالى أنه خلق السموات، والمراد: كل م علا من الأفلاك والأملاك؛ والأرض، والمراد: كلُّ ما سفل من العناصر والأركان وم تولّد منها، لتفصل مجمل الحق، الذي خلقت لأجله، وتمّيز مبهمه وتظهر خفيّة. وهذ بحسب الخلق الأوّلي الغيبي العلمي. فإن الإنسان الأكمل متقدّم بالحقيقة. وأمَّ بحسب الخلق الإيجادي العيني الشهادي، من حيث الصورة والنشأة الطبيعية العنصرية، فالإنسان متأخّر، اجتمعت نشأته من كليات حقائق السموات و الأرض وجزئياتها، فكان مختصرهما، وهم مطوّلاه. ولذا قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾[غافر: 40/ 57].

لأنهما كالأبوين للإنسان، من حيث صورته الظاهرة، لا أنهما أكبر مقداراً، فإنه إخبار بمعلوم، وجلّ تعالى  أن يخبر بمعلوم لا فائدة فيه. ولا أنهما أكبر قدراً، فإنه خلاف ماهو الأمر عليه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنَّ السموات، وهو ما علا من الأرواح والأفلاك والأملاك، آباؤنا العلويات؛ وأنَّ الأرض، وهو ما سفل من العناصر و الأركان، أمهاتنا السفليات.

والطريق الثاني أن يكون مساق قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 42/11].

ليس مثل مثله شيء، أي لا يكون لمثله مثله تعالى مثل. فالمراد إثبات مثل له تعالى ـ. وإثبات مثل، ونفى المثل من هذا المثل، وهذا أوضح، لأن «الكاف» اسمع بمعنى مثل، فيكون هنا مثلان: مثل مشبّه، ومثل منّزه عن المثل.

فأمَّا المثل المشبه فهو العالم غير الإنسان، ولكنه مثل غير كامل، إذ العالم ليس بمثل كامل إلاَّ باعتبار دخول الإنسان في جملته، فإنَّ العالم إنما كمل بالإنسان الكامل، وما كمل الإنسان بالعالم. فالعالم مثل للحق تعالى ـ، فإنه محل ظهوره تعالى بأسمائه العُلى، وحقائق نسبه الحسنى، فكل حقيقة كونية كليّة هي مظهر حقيقة إلهية كلّية، وكلُّ حقيقة كونية جزئية هي مظهر حقيقة إلهية جزئية.

وأمَّا المثل المنّزه فهو الإنسانية الكمالية كآدم (عليه السلام) ومن ورثه من أولاده، الذين تسجد لهم الملائكة، فإنَّ الملائكة لم تزل تسجد لمن ظهر بالحقيقة الإنسانية على الكمال، كما سجدت لآدم. فالإنسان الكامل من حيث أنه آخر موجود من حيث الصورة الظاهرة هو مثل المثل، وليس للإنسان الكامل مثل. فإنه ظهر بالإنسان الكامل من الأسماء الإلهية مالم يظهر بالعالم. فالإنسان الكامل «مثل» بسكون الثاء على النحو الذي ذكرناه، ومثَل بفتح الثاء،  لأنَّ المثل هو ما يتعين به الممثل له في الإدراك و الحق تعالى الظاهر المتعيّن في الآفاق و الأنفس متعيّن بالإنسان الكامل، ولذا كان من أسمائه «صورة الإله» فإنه مستعد للظهور بجميع الأسماء الإلهية على تقابلها وتخالفها كما ظهر الحق؛ فإنَّه لما توجّه الحق إلى خلقه بيديه، فحمل جميع الأسماء الإلهية، والحقائق الكونية. والعقل الأوّل، لما توجّه الحق إلى خلقه، خلقه بأمره، وهو «كن» فحمل علوم الكون إلى يوم القيامة. فالإنسان الكامل هو المثلى الأعلى. قال تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الروم: 30/ 27].

ثم نعته بالعزيز الحكيم، فمن كان نعته العزة والمنعة،  عزَّ أن يعرف أحد مقامه وأوصافه. ووصفه بالحكمة، فيعطي على ما ينبغي، ويمنع على الوجه الذي ينبغي، فهو المثل الأعلى للحق، ظهر به تعالى للمدارك النورانية، فهو مرآة الحق تعالى ـ، ومرآة العالم. فمن رآه رأى الله تعالى ورأى العالم. ومن عرفه عرف الله وعرف العالم. وبهذا ورد «من عرف نفسه عرف ربه» وأقول: من عرف نفسه من حيث الظاهر والباطن عرف ربّه وعرف العالم. لأنَّ النفس جامعة لحقائق العالم وحقائق الحق تعالى ـ، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾[فصلت: 41/ 53].

فآيات الآفاق هي كل كون خرج عن الإنسان في العالم الأعلى والأسفل، وآيات الأنفس هي ما دخل في الإنسان من الحقائق الكونية المستندة إلى الحقائق الإلهية. ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ﴾[فصلت: 41/53].

أي الذين أراهم آيات الآفاق والأنفس، أنَّ ما رأوه في الآفاق والأنفس، ل بحلول ولا اتحاد،  ولا بشيء مما تُحيِيلُه العقول السليمة، وإنّما ذلك كظهور المعاني بالألفاظ، وكظهور الظل عن ذي الظل، لأن التجلّي موضوع للرؤية، ولذا قال: «سنريهم» وقد فعل. وليس ذلك إلاَّ بتجليه في الآفاق والأنفس. وليس تجليه في الآفاق بمغاير لتجليه في الأنفس؛ وإنما ذلك بمثابة المفصل من المجمل. وما ظهر بالحقيقة الإنسانية، التي هي عبارة عن الصورة الرحمانية على الكمال، سوى محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه ظهر بها على الوجه الأكمل، الأفضل الأشرف، إذ هي حقيقته، وغيره من الأنبياء، والكمّل من ورثتهم على جميعهم الصلاة والسلام، حصل لكل نبيّ واحد منهم بحسب ما قسم له من القرب الإلهي، وإن اشتركو كلّهم في الكمال النبويّ والشرف والاصطفاء الاختصاصي الرسالي.

تنبيه:

وصف الإنسان الحقيقي بالكامل ليس للاحتراز من الإنسان الحيوان، فإنَّ التمييز بينهما ظاهر بديهي، حيث أن الإنسان الكامل له الظهور بالاقتدار التام، تتكوّن الأشياء عند قوله: «كن» أو قوله «باسم الله» يحيي ويميت ويذِلَّ ويعزَّ، ويعطي ويمنع، ويولّي ويعزل... الخ ومع هذا الاقتدار الذي أعطيه فهو في نفسه العبد الذليل، الذي لا تشوب عبوديته ربوبية بوجه ولا حال، لا يظهر لأحد بما أعطاه الله وخصّه به من التصرف في العالم أعلاه وأسفله. والإنسان الحيوان لا شيء له من هذا، فل مشاركة ولا مشابهة بينهما، فلا التباس، وإنّما ذلك للاحتراز من الإنسان الناقص حسّاً ومعنى، وهو الدجال، فإنه يظهر الاقتدار، يعطي التكوين بقول: «كن» مثل الإنسان الكامل، يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، واخرجي كنوزك فتخرجها.... تجيب دعوته الوحوش وجميع الحيوانات، يمر على القوم فيدعوهم إلى عبادته، فإن لم يجيبوه، إن شاء قال لأموالهم اتبعيني: فتتبعه، وإن شاء قال له موتي فتموت حالاً، يحيي ويميت، ومع هذا الاقتدار فهو إنسان ناقص حساً ومعنى، أمَّ المعنى فلنقصه السعادة الأخروية، وأمَّا الحس فلأنه أعور العين اليمنى كأنه عنبة طافئة، فنقص خلقته اليمنى إشارة إلى عدم سعادته الأخروية في الدار الأخرى وإن كملت خلقته الشؤمى، التي هي إشارة إلى سعادته الدنيوية بالظهور بالخوارق، التي أعجزت الخلائق، التي من جملتها أنه يتبعه مثل الجنة والنار، فلهذا الاشتباه في الاقتدار التكويني والإنساني، جاء الوصف بالكامل، لتمييز الإنسان الكامل السعادتين الصادق الولي، من الإنسان الناقص السعادة الأخروية الكاذب العدّو.

واعلم: أن الإنسان الكامل، والعالم كلّه، ليس بشيء زائد على أمور معلومة أولاً، متّصفة بالوجود ثانياً، والعلم عين العالم، والمعلوم عين العلم. فآيات الآفاق والأنفس الظاهرة آيات ودلالات على ما في الحضرة الإلهية من الحقائق. إذ قدمنا أنه مامن حقيقة كلّية كونية أو جزئية إلاَّ ولها حقيقة إلهية تقابلها هي مستندها ومحتدها، والحقيقة الكونية هي تعيُّنها وظهورها، ومثال لها وفرعها. فالنسخة الكونية متقابلة للنسخة الإلهية حرفاً حرفا ً، ولا يلزم من تقابل النسختين وإسناد إحداهما إلى الأخرى المساواة في الحقيقة والنسبة، فإن الذهب تقابله مثاقيل الحديد في الصنجه التي يوزن بها، وأين الذهب من الحديد وإن اشتركا في الوزن والمقابلة؟ وقد عنّ لي أن أذكر بعض الكلّيات من تقابل النسختين،  تأنيساً للإخوان، وحرصاً على إيصال العلم إليهم، فإن أكثر سادتنا (رضي الله عنه) ذكروا تقابل النسخة الكونية، أعني العالم، مع النسخة الإنسانية، وما ذكروا من تقابل النسخة الكونية والإلهية إلاَّ بعض أشياء نزرة.

فصل بل وصل 2

وقد أخبر تعالى أن له نفساً، أي ذاتاً، وأن له كلاماً وقولاً وكلمات، وأخبر رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن له نفساً، قال: ((إنَّ نفَس الرحمن يأتيني من قبل اليمن)) رواه الإمام أحمد (رضي الله عنه) والنفس يستدعي مراتب تمييزه وتكييفه، كمخارج الحروف في الشاهد، وتفصيل هذا يطول. فالذات تقابل بالذات، والأسماء بالأسماء، والأفعال بالأفعال، والأحكام بالأحكام، والأمر بالأمر، والنهي بالنهي، والإجابة بالإجابة، والردُّ بالردُّ، والطاعة بالطاعة.... فيقابل ذوات العالم وهي الجواهر، قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 3/ 28 و 30].

قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 2/43]. و [النساء:4 /77] و[الحج: 22/ 78] و[النور: 24/56] [المجادلة:85/13] و[المزمل: 73/202].

ونحوه من الأوامر، فإنّ الذي سميّ دعاء أدبًا، هو في الحقيقة والصيغة أمر. إذ صيغة «أفعل» واحدة، وقولنا: ﴿لاَ تُؤَاخِذْنَا﴾[البقرة: 2/286]. ﴿ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً﴾[البقرة: 2/286]. ﴿لاَ تَجْعَلْنَ فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[يونس: 10/ 85]. و[الممتحنة: 60/5]. هو مثال قوله: ﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾[النساء: 4/36].﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾[الإسراء: 17/ 32]،  ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ ﴾[الأنعام: 151].

فإنَّ «لا» التي سمّيناها دعائية هي «لا» الناهية حقيقة، وقول من قال: «سمعنا وعصينا» هو مثل قوله: ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾[الرعد: 13/14]، [غافر: 40/ 50].

وقوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 5/ 27].

وقوله: ﴿سمعنا وأطعنا﴾ هو مثال قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَ دَعَانِ﴾[البقرة: 2/ 186].

وقوله: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾[يونس: 10/ 89].

قبول بقبول، وردُّ بردّ، بل طاعة بطاعة، بل عبادة بعبادة، وقد أطلق هذه اللفظة إمام الأولياء العلماء بالله محي الدين، وهو من الملامية المتأدبين، قال: «فيعبدني وأعبده». وقد ورد في كتب السير أنه (صلى الله عليه وسلم) قال لعمه أبي طالب لما قال له: يابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك، «وأنت يا عمُّ لو أطعته لأطاعتك».

فكل ما في العالم لابدَّ من أن ينفعل، وهو قبوله تأثير المؤثر، وفعل الفاعل؛ ف هو مثال لهذه الحقيقة الإلهية ومستند إليها، وهي الإجابة، وتسمّى في اللسان: المطاوعة، سموّا الفاعل، مطاوع اسم مفعول، والقابل المتأثر، مطاوع اسم فاعل.

ومافي العالم من الكم؛ فهو العدد، وا لكثرة، فهو مثال لقوله: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[الأعراف: 7/ 180].

فاستناده ومقابلته للحقائق الإلهية.

وما في العالم من الكيف، فهو مثال لقوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن: 55/ 29].

وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 20/ 5].

وقوله (صلى الله عليه وسلم): ((ينزل ربّنا كل ليلة.......)) الحديث، رواه البخاري في الصحيح.

ومافي العالم من التغذي، والعالم كله متغذ، فالهيولى التي هي أصل العالم، غذاؤها الصور مطلقاً، عقلية وروحانية ومثالية وجسمانية، وأغذية الأجسام جسمانية. وأغذية الأرواح معنوية. فهو مقابل للأسماء الإلهية، التي تطلب العالم، فإنَّ غذاءها بظهور آثارها، كالخالق والرازق والمصوّر والقادر والمريد، ونحوها. ولو انعدمت الأشياء التي تظهر فيها آثارها لانعدمت الأسماء، أعني انعدم ظهورها لانعدام آثارها. وصارت كما كانت قبل خلق العالم، كما ينعدم من العالم مالم يبق له غذاء.

وكل ما في العالم من التقييد والتحجير وعدم الإطلاق؛ فهو مثال ومقابل للقدرة الإلهية، فإن تأثيرها مقيد بالممكن ومقصور عليه، ولا تأثير لها في غيره، ومن واجب ومستحيل، إذ لو أثرت فيهما لانقلبت حقيقتهما، وقلب الحقائق محال.

و كل مافي العالم من النسب والإضافات فهو مثال ومقابل لقوله: ((رب العالمين، مالك الملك، خالق الخلق)).

و كل مافي العالم من أن ينفعل، وهو التأثير، فه و مقابل لقوله: ((بيده الميزان، يخفض ويرفع)).

وكل مافي العالم من أين، وهو المكان؛ فهو مثال ومستند لقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾[الزخرف: 43/ 84]. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((كان في عماء)).

وكل مافي العالم من التراكيب والامتزاجات بين الأعيان أو بين المعاني فمظهر ثالث، ليس هو عين المركبين ولا غيرهما،  ولا عين الممتزجين ولا غيرهما، فهو مثال مستند إلى تركيب الوجود الحق مع أحوال الأعيان الثابتة، فظهر هذا المسمّى خلقاً، لا هو حقٌ ولا هو خلقٌ، وماهو إلاَّ هما، واحذر أن تتوهّم أن ذلك كتركيب محدث مع محدث، أو امتزاج محدث بمحدث! هيهات هيهات!!...

وكلُّ مافي العالم من اختلاف الصور و الأشكال والألوان والأمزجة، في النوع الواحد كالمعدن والنبات والحيوان والإنسان؛ فمستنده من الحقائق الإلهية، وارتباطه بعدم تكرُّر التجّلي الإلهي، فإنه تعالى ما تجلّى لواحد بتجل مرتّين، ول لاثنين يتجل واحد، فلابدَّ من الاختلاف في التجلي، مع وحدة المتجلّي تعالى فلابدَّ من الاختلاف في أشخاص كلّ نوع من أنواع المخلوقات، مع وحدة كل نوع بالحد و الحقيقة.

وكلُّ مافي العالم من الشبهات والبرازخ فإنه مثال لهذه الحقيقة.

وكلُّ مافي العالم من المتقابلات فإنها أمثلة مستندة للقدمين الإلهيتين اللتين تدلّتا إلى الكرسي، كما ورد في الخبر، الذي أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين.

وكلُّ مافي العالم من الأمور، التي تظهر آثارها، ولا عين لها في الوجود والشهادة، كالطبيعة وبعض صفات الإنسان كالشجاعة و السخاء ونحوها فهي أمثلة مستندة إلى الأسماء الإلهية، فإنها لا عين لها في الوجود الخارجي والشهادي، والآثار كله لا تنسب إلاَّ إليها.

وكلُّ مافي العالم ممّا يدخل على الناس البسط والطرب فيضحكون وينبسطون، كهؤلاء الذين يفعلون أفعالاً ويقولون أقوالاً يضحك منها الكبير والصغير، والعاقل وغير العاقل؛ فذلك مرتبط ومستند إلى حقيقة قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾[النجم: 53/43].

وكلُّ مافي العالم من التضاد كالخوف والرجاء والقبض والبسط، والعزّ والذلّ، والحياة والموت، والليل والنهار، من حيث أنهما نور وظلمة فذلك مثال مستند إلى اسميه تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 57/ 3].

وإلى التجلّي والاستتار، وأمَّا ظهور الزيادة والنقص في الليل و النهار، مع أنهما في نفس الأمر على حالة واحدة لا يزيدان ولا ينقصان، وإنما ذلك بحسب الرائين لتفسير الأوضاع الأرضية والسماوية عليهم، وإلاَّ فالليل و النهار يتساوقان دائماً إلى قيام الساعة؛ فذلك مثال مستند إلى تحول الحق تعالى في الصور، كما ورد في صحيح مسلم، وظهوره تعالى باسم، وبطونه بآخر، وتجليه بصورة واستتاره بأخرى، وكلُّ ذلك راجع إلى الرائين. وإلاَّ فهو تعالى متجلّ أزلاً وأبداً، لا يحدث له انتقال من صورة إلى أخرى، ولا يعتريه ظهور ولا بطون، ولا تجلّ ولا استتار.

وكلُّ مافي العالم من الأحوال الوجدانية الذوقية التي لا تدرك إلاَّ ذوقاً، فلا تعلم بالحد ولا تدرك بالرسم، مثل العلوم الذوقية، والطعوم والروائح المكتسبة من البواطن؛ فذلك مثال مستنده من الحقائق الإلهية، ما وصف الحق تعالى به نفسه: من الرضا والغضب، والشوق والحب، والفرح... وغير ذلك من الأحوال الذوقية، فل يمكن أن يخلق الخالق ويفعل الفاعل شيئاً ليست له منه نسبة بوجه من الوجوه، أو اعتبار من الاعتبارات. فقد تقرّر عند أهل هذا الشأن، الذين أعلمهم الله تعالى بحقائق الأشياء أن الشيء لا ينتج شيئاً يكون ضدّه أو نقيضه. قال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[الإسراء: 17/ 84].

أي على ما يناسبه، لا على ما يناقضه ويضاده، ولأنَّ نتيجة الشيء هي أثره الحاصل منه؛ فهي من لوازمه. ومن المستحيل أن يكون لازم الشيء ضداً أو نقيضاً له. وأثقل شيء على النفوس، وأعصاه تصوراً، أبعده قبولاً من العقول الضعيفة، استناد حقائق كونيّة تحيل معانيها العقول عن الحق تعالى إلى حقائق إلهية، منها ما ل يقال ولا يطلق على الحق تعالى أدباً وإن كان حقاً إذ ما كل حقّ يقال، ومنه ما يقال للخواصّ، الذين ميزوا المراتب،  علموا التنزيه في التشبيه، فأعطوا كل تجلّ حقه، ونزلو كل اسم منزله.

ولعلو هذا المنزع عن إدراك أكثر العقول وعزته عن أن يطرق ساحته أكثر الخلق، ولما اشتمل عليه كلامنا من الأسرار المضنون بها، لأن علماء الظاهر تنكره وتسارع إلى ردّها، لما شرعت في هذا الموقف، وكتبت بعضه ورد الأمر الإلهي بالتوقف، وتل علي الوارد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾[طه: 20/114]. فتوقفت مدّة نحو السنتين، إلى أن ورد الإذن الإلهي بإتمامه، وتلا عليَّ الوارد قوله تعالى: ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ{67} وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَ تَعْمَلُونَ{68} اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{69}﴾[الحج: 22/ 65- 67].

فمن ذلك استناد الشرك والظلم، والغضب والتعدي،  والكذب و البهتان، والذل والافتقار، والجهل ونحوها إلى حقائق إلهية.

أما الشرك فمستنده من الحقائق الإلهية قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَ لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/ 40].

فشرك في الفعل بين ذات وإرادة وقول، إن كان الشرك أمراً وجودياً وأمّ إذا كان من الأعدام فمستنده، الحقائق الإلهية مرتبة التنزيه، فإنها حضرة لا عين لها في الوجود الخارجي.

وأمَّا تعدد الأرباب المعبودين حسّاً في العالم فمستند ذلك من الحضرة الإلهية تعدُّد الأسماء الخاصة، فإنَّ لكل مخلوق أي مخلوق كان اسماً خاصاً، وهو المسمّى بالوجه الخاص، عند سادتنا، لا يشاركه فيه مخلوق آخر، ذلك الاسم هو ربّه، ل يعرف ذلك المخلوق غيره، ولا يتجلّى له الحق بالأصالة إلاَّ فيه، وذلك الاسم هو محتد ذلك المخلوق، وهو الطالب من الاسم الجامع «الله» إيجاد ذلك المخلوق، بل ذلك الاسم هو حقيقة ذلك المخلوق؛ فلهذا تعدّدت الأرباب في الحس، إذ لكل مخلوق ربُّ باطن يخصّه من الحضرة الربّية الجامعة؛ عرفه أو جهله المربوب.

وأمَّا الظلم، وهو لغة وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، فمستنده من الإلهيات أن يرسل تعالى مطراً غزيراً، فينهدم به بيت رجل صالح أعمى مقعد فقير له ذرية ضعفاء، أو امرأة على هذا النعت في محلّ لا راحم فيه ، وكخلق النار مثلاً فيحترق به بيت رجل أو امرأة على هذا النعت. فظاهر هذا الفعل أنه غير لائق صدوره منه تعالى، فإنه فعل في غير محله اللائق به جلَّ وعزَّ تعالى عن الظلم، ووجه حسن هذا منه تعالى أنه حكيم، وليس من شأن الحكيم أن يترك فعل الخير الكثير إذ لزمه شر قليل، ولا يخفى عن عاقل، أن إنزال المطر فيه حياة العالم من نبات وحيوان وإنسان. وخلق النار فيه من المصالح ما لا يجهله أحد. فلا يترك تعالى إنزال المطر، ولا خلق النار، ولا خلق الحديد، لئلا يقتل به نبي أو رجل صالح، لا يقال : الحق تعالى قادر على إيصال المنافع من غير حصول ضرر لأحد؛ لأنَّا نقول: الحقائق الإمكانية لها ارتباطات مع بعضها، فمنها لوازم وملزومات، وتوابع ومتبوعات، فهو تعالى يفعل ما يريد، ويريد ما علم. وما علم إلاَّ ماهو المعلوم عليه في ثبوته وعدمه، فلا يوجد شيئاً إلاَّ كما علمه.

وأمَّا الكذب في العالم، وهو الإخبار بالشيء على خلاف ماهو عليه؛ فهو مستند إلى ما نسبه الحق تعالى إلى عباده فقال: «فعلتم، أحسنتم، أسأتم، صلّيتم، زكّيتم»، ولما حَصْحَصَ الحق قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 37/ 96].

وقال: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ﴾[البقرة: 2/ 264].

وقال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾[الأنفال: 8/ 17].

وقال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾[الأنفال: 8/ 17].

ووجه حسن هذا منه تعالى أن قوله على وفق علمه، والخبر على وفق العلم لا يكون إلاَّ صدقاً، فإنه تعالى علم من الإنسان دعوى الاستقلال بالفعل والترك، وأنَّ له قدرة أو كسباً أو جزءاً اختيارياً، ولا تقوم الحجة عليه إلاَّ بدعواه؛ فمّشى دعوته لذلك.

وأمَّا البهتان فاستناده إلى ما ورد في الخبر المرفوع إليه (صلى الله عليه وسلم):(( أنَّه تعالى يوم القيامة يوقف العبد بين يديه ويقول: عبدي فعلت كذ وفعلت كذا)).

وليس للعبد فعل. ووجه حسنه يعلم مما تقدم.

ويقبح من سواك الشيء عندي

 

وتفعله فيحسن منك ذاك

ومافي العالم من الاستعانة بالخير، والاستنصار به؛ فمستنده مثال مرتبط بحقيقة قوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾[محمد: 47/ 7].

يقول تعالى للممكنات، من باب الإشارة: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ بقبول تأثير ﴿ يَنصُرْكُمْ﴾ بإعطاء الوجود لكم. فإن علة الإيجاد مركبة من القائل والفاعل، ولولا ذلك ما وجد شيء.

وما في العالم من المجازاة والمقابلة فمستندة مثال مرتبط بحقيقة قوله: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[البقرة: 2/40].

وقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: 2/152].

ومافي العالم من المجازاة بالشرّ والمقابلة به فهو مستند إلى حقيقة قوله: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾[النساء: 4/142]، وقوله: ﴿وَمَكَرَ اللّهُ﴾[آل عمران: 3/54].

ومافي العالم من الخداع والمكر والنفاق فمستنده قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 7/ 182]، و[القلم: 68/44].

يمدهّهم بالنعم وينسيهم الشكر عليها، فسيستوجبون العذاب فإنَّ أصل الخداع والمكر إرادة الشرّ من حيث لا يعلم.

ومافي العالم من الجبر فمستنده من الإلهيات، أنه تعالى لا يعطي معلوماً إلاَّ ما أعطاه ذلك المعلوم من العلم بنفسه، ولا يفعل به إلاّ ذلك. فهو تعالى مجبور أن لا يتعدّى به، ما علمه منه، بوجه ولا حال، ولذا قال: ﴿مَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾[ق: 50/ 29].

وما قال إلاَّ ما علم، وما علم إلاَّ ما أعطته حقيقة المعلوم.

وما في العالم من فعل، مع كراهة الفاعل وتردده وحيرته فمستنده من الإلهيات ما ورد في الصحيح، فيما يرويه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ربّه: ((ما تردّدت في شيء أنا فاعله، تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابدَّ له من لقائي)).

فَيُمِيته تعالى على كره بعد تردد، والذي جعله تعالى يفعل على كره وبعد تردد هو المعلوم، فإنَّه علمه كذلك، وخلاف المعلوم ما يكون.

وما في العالم من الافتقار فمستنده من الإلهيات توقف العلم على المعلوم، وكونه تابعاً للمعلوم، فإنَّ المعلومات أعطت العالم العلم بها، فلم يكن له العلم بها إلاَّ منها، ومن غلب عليه التنزيه له أن يقول، أنَّ الحق تعالى ما أخذ معلوماته إلاَّ من ذاته، لا من غيره، فمنه وإليه.

ومافي العالم من الجهل بسيطاً أو مركباً فأصله ومستنده من الإلهيات، قوله: ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ [يونس10/18].

يعني الشريك، فهو تعالى لا يعلم له صورة علمية ولا حسّية، فمسمّى الشريك عدم.

ومافي العالم من السهو النسيان والغفلة،  وإن اختلفت حدودها، فهي في مقابلة قوله: ﴿إِنَّ نَسِينَاكُمْ﴾[السجدة: 32/14].وقوله: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ﴾[الجاثية: 45/34].

ومافي العالم من الحركة حسّاً وعقلاً ومعنى وكيفاً؛ فهي في مقابلة قوله تعالى: ((من تقرب إليَّ شبراً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)).

وقوله: ﴿وَجَاء رَبُّكَ﴾[الفجر: 89/ 22]. وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾[البقرة: 2/210].

وأمَّا الجور، وهو لغة الميل إلى أحد الجهتين، غير أنه إذا كان الميل إلى ما ينبغي ويحمد شرعاً أو عرفاً خصّ باسم العدل. وإن لم يكن كذلك خص باسم الظلم والجور؛ فمستنده للحقائق الإلهية «الإرادة» فإنها جور وميلٌ إلى ترجيح أحد الجائزين، اللذين هما حقيقة الممكن. فالكائنات كلها إنما كانت بجور الإرادة وميله لأحد الجائزين على الممكن، فإن الاعتدال لا يكون عنه شيء أصلاً، فلو بقيت قبة الميزان على الاعتدال ما ارتفع شيء وانخفض شيء. وقد أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه يخفض الميزان، ويرفعه.

وأمَّا الغضب والتعدّي وهو أخذ الشيء من يد صاحبه المتصرف فيه؛ فهو في مقابلة الأسماء الإلهية المتضادة، كالمعز والمذل ونحوهما،  يكون الاسم المعزُ مثلاً حاكماً على شخص ظاهراً به، وذلك الشخص عزيزاً فيغير عليه الاسم المذلُ، فيخطفه من يد المعزّ، فيصبح ذلك الشخص ذليلاً، وذلك بحسب القضاء الأزلي. فإن قضى برجوع ذلك الشخص إلى عزّته،  بقي الاسم المذل مقهوراً تحت دولة الاسم المعز إلى أن تنقضي دولته، فإنَّ للأسماء الإلهية دولاً وأياماً يدال هذا الاسم مرّة ويدال عليه مرة أخرى، فيأخذ ذلك الشخص ويسرتجعه من يد غاصبه، وإن كان القضاء سبق، بأنه لا يرجع إلى عزته ذلك الشخص أبداً، ذهب الاسم المعز جملة واحدة، ولم يبق له تعلق بالنسبة إلى ذلك الشخص أو بعكس ما ذكرنا بين الاسمين. وهكذا جميع الأسماء المتقابلة، والنهاية أبداً لا يكون حكمها إلاَّ للاسم الأول، الذي عيّن ذلك الشخص، الثابتة صورته،  وهو المعبرُّ عنه بالوجه الخاص، الذي للحق تعالى في كل موجود، ومن حيث ذلك الوجه ثبتت المعية والقرب والعلم بالجزئيات. فإن كان من أسماء الجمال الكلية أو الجزئية فإليه النهاية. أو من أسماء الجلال والقهر فكذلك، وإن اعترضته في الطريق عوارض تضاده فلا بدّ أن يرجع الأمر والحكم إليه في النهاية، فإن الأمر الوجودي دائرة بدايته عين نهايته. قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾[الأعراف: 7/ 29].

أخبر أن العود عين البداء، أي رجوعكم في النهاية إلى البداية، فالنهاية عين البداية. وما في العالم من رفع درجة بعضهم فوق بعض، وتسخير بعضهم لبعض؛ فهو مثال مستند لرفع درجة بعض الأسماء الإلهية على بعض. فإن اسمه «الحي» أرفع درجة من جميع الأسماء، لأنه شرط في الجميع. وبعده اسمه «العالم» فهو أرفع من جميع الأسماء، ما عدا «الحي» لعموم تعلقه، و القدرة الإلهية تحت تسخير العلم. والعلم تحت تسخير المعلوم، فإنه تابع له.

فها قد ذكرنا بعض الكليات من تقابل النسخة الإلهية والنسخة الكونية،  فتحاً للباب ورمياً للمسترشدين على الطريق، ومن هذا يعلم أنه لا شيء قبيح لذاته، ولا منكر لعينه، وإنما ذلك لعوارض تعرض للفعل، من حيث صدوره من المخلوق، فلا يوجد في العالم قبيح ولا منكر إلاَّ باعتبار، فكل م خلق الله فهو مليح بالأصالة، فلم يبق إلاَّ المطلق. ومن أحاط علماً بما قدمناه، وفهمه على النحو الذي أردناه، عرف أن النسختين متقابلتان حذو القذّة بالقذّة، وعرف صحة قول حجة الإسلام الغزالي (رضي الله عنه): ليس في الإمكان أبدع ولا أكمل من هذ العالم، إذ لو كان وادّخره لكان بخلاً يناقض الجود، وعجزاً يناقض القدرة، مع م تقدّم وتأخر من كلامه في باب التوكل، ومن كتابه «إحياء العلوم» يريد (رضي الله عنه) أنه لما كان العالم مظاهر أسمائه تعالى الكلّية والجزئية، لأنها الطالبة لإيجاد العالم وإظهاره من العدم الإمكاني، مع طلب الحقائق الإمكانية للإيجاد والظهور، من التعيّن العلمي إلى التعّين الخارجي، مع عوارض التعّين ولوازمه من الأحوال والنعوت، التي لا تنحصر، ولا تدخل تحت ضابط، ولا قياس. وقد أجاب الحق تعالى طلب الجميع، فلم تبق حقيقة كلية إلهية تطلب العالم إلاَّ وقد ظهرت بحقيقة كلية كونية، وجزئياتها وأشخاصها لا تتناهى، فلم يبق شيء في الإمكان من حيث الأجناس والأنواع إلاَّ وقد كان. فإنه لو بقي في الإمكان شيء بعد هذا العالم جنساً أو نوعاً، وادخره تعالى لكان هذا الادخار بخلاً عن الممكنات الطالبة باستعداده للإيجاد، وعن الأسماء الإلهية الطالبة لظهورها بظهور الممكنات، التي هي آثارها. وإن لم يكن بخلاً تعيّن أن يكون عجزاً. فإنَّ عدم إسعاف الطالب بمطلوبه لا يكون إلاَّ بخلاً أو عجزاً، وكلاهما محال على الجواد المطلق القادر على كلّ شيء، فهو الذي أعطى كلّ شيء خلقه واستعداده كما ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي. فعطاء الحق تعالى تابع للطلب الاستعدادي الكلي من الأسماء ومن الأعيان الثابتة، التي هي صور الأسماء، وللطلب الحالي الاضطراري لا القولي، إلاَّ أن يوافق الاستعدادي والحالي. فلا يجب شيء على الحق تعالى ، ولا يتصوّر في حقه تعالى ـ منع مستعد لشيء ممّا هو طالبه باستعداده الكلي، فإنَّ من أسمائه تعالى «المعطي».

ولا يكون مسمّى بهذا الاسم في حال دون حال، ولا في وقت دون وقت. وم سمّي «بالمانع» إلاَّ من حيث عدم قبول الطالب بلسانه، ما هو مستعد لقبوله، فم أنكر قولة حجة الإسلام، واستعظمها واستغربها منه إلاَّ من كان متكلماً قحاً محجوباً عن الرقائق والدقائق، ما شمّ رائحة من علم القضاء والقدر، ولا عرف كيف نش العالم ولا أسباب صدوره، فتوهم أن في هذه المقالة تعجيزاً للقدرة، وتناهياً للمقدرات، وإيجاباً على الحق تعالى فعل الإبداع، ومشياً على قواعد المعتزلة، وهيهات!! وإنما مراد حجّة الإسلام: التنبيه على أن سبب هذا الاختلاف، الواقع في العالم بين أجناسه وأنواعه، وبين أشخاص النوع الواحد، هو القضاء الأزلي، وسبب القضاء الأزلي هو الحكمة من اسمه تعالى «الحكيم» فهي المخصّصة للاستعدادات، والحكمة متقدمة بالمرتبة على العلم الأزلي، فما ظهر في هذه النسخة الشهادية إلاَّ ما طلبته الاستعدادات الأزلية غير المجعولة. فكل ما ظهر في العالم فهو العدل والحق: ﴿وَلَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾[الكهف: 18 /49].

إنَّك رمز وفتح كنز

من أعظم الأمثلة للتجلّيات الإلهية الأجسام الصقيلة، وبالخصوص المرايا. ومنها الآلة الشمسية المسماة بفوطوغراف، التي حدثت في زماننا، جعل تعالى الأجسام الصقيلة مثالاً لتجلّيه في الصور الحسّية والخيالية، والمثالية والعقلية، وإن تصور تجلّيه تعالى صعب جداً. فلذا ما تصوره أكثر الخلق سوى هذه الطائفة المرحومة إلاَّ بالحلول أو الاتحاد أو السريان أو نحو هذا من المستحيلات، ممّ يكون بين موجودين مستقلين بالموجودية، ومما هو من لوازم الأجسام، فما استطاعت العقول أن ترقى فوق هذا. والطائفة المرحومة أدركت تجليات الحق تعالى في الصور، وما اشتبه عليهم بحلول ولا اتحاد ولا بغير ذلك، مما اشتبه على غيرهم، من أصحاب العقول المعقولة بقيود الأكوان، المسجونة بسجني الزمان والمكان. وانظر إلى اختلاف مقالات العقلاء فيما يظهر بسبب المقابلة للمرآة، وكلُّ فرقة مصيبة في إبطال مقالة غيرها، غير مصيبة في دعواها؛ فإن ظهور الصور وتجلّيها في الأجسام الصقيلة مجهول للعقول لم يدركه حكيم ولا متكلّم، وإنما أدركه أهل الكشف و الوجود،  الذين أعلمهم الله بحقائق الأشياء.

قال إمام الكاشفين من الأولياء محي الدين (رضي الله عنه) : الجسم الصقيل أحد الأمور التي تظهر صورة البرزخ المثالي بجري العادة الإلهية. ولهذا ل تتعلّق الرؤية فيها إلاَّ بالأجسام، هذا إذا كانت المرآة على شكل مخصوص، ومقدار جرم مخصوص، فإن لم تكن كذلك، لم تصدق المرآة في كل ما تعطيه، بل تصدق في البعض دون البعض، انتهى.

فما خلق الله المرايا إلاَّ ضرب مثال لتجليه، فليست الصورة الظاهرة بسبب المقابلة للمرآة عين المتوجه على المرأة، وإلاَّ لما تحكّمت فيه المرآة فظهر بما عليه المرآة صغراً وكبراً، واعوجاجاً واستقامة، وطولاً وعرضاً، ولا غيره لأنه ما ظهرت إلاَّ بتوجهه على المرآة، ولا عين للمرآة، لأن المرآة ما فيها صورة من ذاتها، ولا غيرها، لأنها ما ظهرت إلاَّ بما فيها، ولأنها (أي الصورة) بين المقابل والمرآة والرائي لا يشك أنه رأى شيئاً زائداً على المرآة، وعلى المقابل لها، فليس هو عدماً صرفاً، ولا هو من المعقولات، ولا من الماديات، ومع إدراكه ذلك محسوساً ل يقدر أن يحكم عليه بأنه موجود ولا معدوم، ولا ثابت ولا منفي، ولا هو معلوم ول مجهول، ولا هو جوهر ولا عرض، ولا جسم، فهو شيء يدركه الحسّ ويثبته، وينفيه العقل. فكذلك يقال في العلم الإلهي في التجلّي: الوجود الحق الذات، متجلّ بالصور الحسية والخيالية والمثالية والعقلية والروحانية،  التي هي مرايا تجليه من غير حلول، ولا شيء مم أحالته العقول، ممّا يكون بين ووجودين عند القائلين بالاثنين. وإذا كان بعض الحوادث يظهر بحادث مثله، ويتجلى به، من غير أن يتصوّر فيه حلول ولا غيره، كتجلّي المعاني وظهورها بالألفاظ، فإنها بالضرورة ليس فيها شيء ممّا ألزمونا به، لقولن بالتجلّي في الصور من غير حلول ولا اتحاد، فإنَّه ليس عند أهل طريقنا إلاَّ وجود واحد، يتعدّد بتعدُّد الصور، التي هي مراياه، يرى فيها ذاته المطلقة والمقيدة المتعينة ببعض أسمائه.

وكما أن المقابل للمرآة، تظهر له صورته بحسب ما هي المرآة عليه من الصفات، وهو على غير تلك الصفات في ذاته وصفاته، كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات الحق، يتجلّى بالصور التي هي مراياه، بحسب استعداداتها، وما تعطيه أعيانها الثابتة في جميع صفاتها وأحوالها ونعوتها المحمودة والمذمومة، التي هي من لوازم الممكنات العارضة للوجود العيني، ولا يلحقه تغيير عما هو عليه من التنزيه والتقديس. وكما أن الصورة الظاهرة بسبب المرآة ليست عين المرآة، ولا عين المتوجّه على المرآة، ولا غيرهما، كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الظاهر بالصور جميعها هو ظلُّ الوجود المطلق عن التقييد، والظهور بالصور، وصورته الظلية، فما هو عين الوجود المطلق، ولا غيره، ولا عين الصورة، ولا غيرها، فلهذا يقال في كل موجود: هو لا هو: بمعنى أن يقال في مسمّى زيد مثلاً هو زيد، أي صورة مخلوقة، ثم يقال ليس هو زيداً، وإنم هو الوجود الظاهر بأحكام عين زيد، الثابتة في العدم، فالوجود المقيد بالموجودات العلمية، وهي الأعيان الثابتة المعدومة في الخارج وبالموجودات الخارجية محصور في الظهور بالممكنات الثابتة العلمية و الخارجية، وأمَّا الوجود المطلق فهو على إطلاقه، لأنه لو تقيّد، انقلبت حقيقته، وقلب الحقائق محال، ومع هذا فالوجود المطلق عين الوجود المقيّد، لا فرق بينهما إلاَّ بالإطلاق والتقيد. والإطلاق والتقييد من الأمور الاعتبارية، لا عين لها في الوجود الشهادي، زائدة على الموجود. فلا يتوهّم أن الوجود الذات المطلق، محصور في العالم. ولا يكمل شهود مشاهد وعرفان عارف حتى يشهد الإطلاق في التقييد، و التقييد في الإطلاق، لأن مشهوده ومعروفه هكذا هو، فافهم. وسيأتيك أوضح من هذا إن شاء الله وأبين.

وكما أن المتوجّه على المرآة، إذا رفع يده اليمنى مثلاً رفعت الصورة يدها اليسرى، وبالعكس؛ فكأنها تقول بالمقابل للمرآة: أنه وإن كانت نشأتي من مقابلتك فما أنا عينك، إذ لو كنت عينك ما خالفتك في شيء، ولا أنا غيرك، إذ لو كنت غيرك ما تحركت بحركتك. كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات المتجلى بالصور الظاهر بها، حسب استعداداتها، وماهي عليه القوابل لظهور آثار الوجود الذات، يقال للوجود المطلق: إني وإن كنت على صورتك فما أنا أنت ولا أنت أنا، فإنك المطلق وأن المقيد، ولا أنا غيرك، فإنه لولا توجهك على العين الثابتة المعدومة ما ظهرت أن بينك وبينها، وكما أنَّ بعض المرايا المصنوعة على شكل مخصوص وهيئة معروفة عند علماء علم المرايا، إذا قابلتها الشمس على حدّ مخصوص ووضع معلوم انعكس ضوؤها على المقابل لها فيحرق ما سامتها من القطر المقابل؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: أعيان العالم لا تزال ينظر بعضها بعضاً في مرآة النور الوجودي، فتنعكس أنوارها عليها، بم تكسبه من أنوار النور الوجودي، فتحدث في العالم التغيرات والاستحالات بالكون والفساد، والمناسب الموافق الملائم، وغير المناسب المخالف، على أثر حقيقة النور الإلهي الواحد بالذات، المتعدد بحسب الاستعدادات، واختلاف القوابل، والمؤثر روحاني، والمتأثر طبيعي.

وكما أن المرآة تحكم على المتوجّه عليها المقابل لها، فيظهر فيه بصفاتها ونعوتها؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات المتجلي بالصورة تحكم عليه الصور فيوصف بأوصافها، وينعت بنعوتها، ويسمى بأسمائها من ملك وعرش وكرسي وإنسان وحيوان وسماوات وعناصر ونحوها، وليس هنالك إلاَّ الوجود الظاهر الشهادة، الساتر، والعالم كلّه الباطن، الغيب المستور. فإنه أخبر تعالى: ﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾[فصلت: 41/ 54]. والإحاطة بالشيء تستر ذلك الشيء، فيكون الظاهر: المحيط لا المحاط به. فإنَّ الإحاطة تمنع من ظهوره. ولكن لما كان الحكم للموصوف بالغيبة في الشهادة، وللموصوف بالباطن في الظاهر، وكانت أعيان العالم الثابتة، على استعدادات في أنفسها، حكمت على الظاهر بما تعطيه حقائقها، فتسمّى الوجود الذات بأسمائها، واتصف بصفاتها، ونعت بنعوتها.

وكما أنَّه إذا وضعت شمعة مثلاً موقدة في وسط مرايا مختلفة الأشكال، من تربيع وتسديس واعوجاج واستقامة وصفاء وكدورة، فترى تلك الشمعة في المرايا بحسب صفات المرايا المتعدّدة النعوت والصفات، فالشمعة واحدة في ذاتها، كثيرة بعدد المرايا، وهي، وإن ظهرت في كل مرآة بحسب ماهي عليه المرآة، فهي منزّهة في حد ذاته من الحلول في المرايا وعن صفات المرايا، وهي على ماهي عليه قبل الظهور بالمرايا، كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات الظاهر بالمظاهر وإن عددته المظاهر ونوعته إلى ما لا يحصى من النعوت و الأحوال والصفات فهو واحد نزيه عن التلون والتعدد والانقسام والحلول والاتحاد بالصور، وهو بعد الظهور بالصور كهو قبل الظهور بالصور لا يلحقه تغيير في ذاته.

وكما يقال في الصور الظاهرة في المرآة: إنها كالنسبة بين المنتسبين، ول عين لها في حد ذاتها، فهي لا موجودة ولا معدومة من حيث ذاتها. فلولا المرآة وفرض المقابل للمرآة، ما ظهرت صورة المرآة في المرآة فهي اعتبار محض، في أمر محقّق، وقد تتغير النسبة ولا يتغير المنسوب والمنسوب إليه، وتزول ولا يزول ذلك الأمر المحقّق، ولا يتغير عمّا هو عليه. كذلك يقال في العلم الإلهي: الصور كلّها معنوية عقلية وخيالية مثالية، وحسّية شهادية، هي نسب حضرة بين أسماء الألوهة، وحضرة الأعيان الثابتة في العدم. فهي أعني الصور كلّها اعتبار محض، في أمر محقّق، وهي أسماء الألوهة، باعتبار قدمها وثبوتها للمسمّى في الأزل، قبل إيجاد العالم، والأعيان الثابتة باعتبار معلوميتها. فإن زالت النسب لم يزل ذلك الأمر المحقق ولا يتغير، كالخلف والأمام مثلاً، إذا استقبلت البيت ثم استدبرته، فتزول نسبة القدام وتحدث نسبة الخلف وعكسه، وأنت والبيت ما تغيرتما لتغير النسب وزوالها. فكلُّ صورة في العالم العلوي والسفلي هي نسبة ظهرت بين مرتبة الأسماء والأعيان الثابتةـ بتوجه النور الوجودي. وكذا يقال في الأعيان الثابتة، التي هي صور علمية: إنها نسب بين الذات الوجود، وبين أسماء الألوهة، وحكمها حكم الصور الخارجية.

وكما أن الإنسان، إذا لم ير المرآة ولم يتقدم له نظر فيها، ثم نظر في المرآة، ورأى صورته فربّما توهّم أنَّ صورته انتقلت إلى المرآة، أو أنَّه وجدت في المرآة صورة حقيقية تماثله، كذلك يقال في العلم الإلهي، الممكنات ما خرجت من الحضرة العلمية، وإنما ظهرت صورها، أي أحوالها ونعوتها وصفاتها، في مرآة الوجود النور. وذلك أنه لمَّا تجلّت الذات من الاسم النور، للأعيان الثابتة، أبصرت الأعيان ذواتها في مرآة الحقّ، فتخيّلت أنها وجدت في المرآة. أو أن ما ظهر في المرآة موجود آخر غير الموجود في العلم. وما علمت أنه لما تجلّى تعالى، وهي موجودة في العلم. لم تستطع إدراكاتها التي هي بمنزلة الشعاع للأبصار، أن تنفذ في المرآة، فانعكس إدراكها إلى ما صدر عنه، كما ينعكس الشعاع من المرآة إلى الناظر، فأدركت نفسها في العلم.

وكما أنَّ المتوجّه إلى المرآة، إذ رأى صورته أو أي صورة رآها إنَّم يرى عوارض حقيقة ما رأى، وغواشيها الغريبة، وصفاتها كالبياض والسواد والطول والقصر، ونحو ذلك، من عوارض الوجود الخارجي، وأما حقيقة الصورة فلا ترى في المرآة. كذلك يقال في العلم الإلهي: كل شيء يدرك في مرآة الوجود الحق من الممكنات، ممّ يسمى إنساناً وحيواناً مثلاً وزيداً وعمراً، إنما تلك عوارض الإنسان وزيد وعمرو،  أدركت في الوجود النور، الذي هو بمثابة النور في إدراك أحوال الممكنات به، وصفاتها، وما يعرض لها. فكلُّ ما يدرك ويشاهد إنما هو الوجود الذات متلبساً بأحوال الممكنات ونعوتها، وأما حقيقة الممكن التي هي عينه الثابتة فلا تدرك خارج العلم. ولا لها وجود خارجي.

وكما أن الناظر في المرآة إنما يرى أثر وجهه الذي هو على صورته، ل وجهه حقيقة، إذ حقيقة الوجه الذي رآه في المرآة من وراء ذلك لا ينزل في المرآة ول يمتزج بها. كذلك يقال في العلم الإلهي: جميع الآثار الكونية، هي مرايا يظهر فيه وجه الحق تعالى ـ، فالأثر هو صورة المؤثر، من حيث الظهور، وليس هو نفس صورة المؤثر من حيث البطون. إذ الأثر يوجد ويعدم على حسب إرادة المؤثر وتوجهه، والمؤثر حقيقة من وراء الأثر لا يتغير بالإيجاد والإعدام. فالآثار هي تجلياته تعالى، يشهده العارفون فيها، وهي الحجب له تعالى عند المحجوبين.

وكما أن المرآة إذا قابلت مرآة أخرى ظهرت كل مرآة بما فيها في الأخرى؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: المخلوق مرآة الخالق تعالى يرى فيها أسماءه، أو قل: يرى ذاته متعينة ببعض أسمائه، والخالق تعالى النور الوجود مرآة المخلوق، يرى المخلوق صورته في مرآة الوجود النور تعالى ـ، فإنه كالمرآة لظهور صورة المخلوق به.

وكما أنَّ الناظر في المرآة يرى أولاً جرم المرآة، ثم ينحجب عنه جرم المرآة بصورته، أو بصورة ما رأى في المرآة ؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: أوّل م يدرك من كل شيء وجوده، وهو الوجود الحق تعالى ـ، الذي هو مرآة ظهرت به وفيه الأشياء، ثم ينتقل الإدراك البصري إلى صورة ذلك الشيء، فينحجب عنه الوجود الحق، ول يقدر أن ينظر جرم المرآة وهو ينظر الصورة أبداً.

وكما أن المرايا المتعددة، إذا وضعت متقابلات وصنعت صنعاً مخصوصاً، يكون في كل مرآة منها ما في المرايا جميعها، كذلك يقال في العلم الإلهي: كل شيء فيه كلُّ شيء، أي كل صورة فيها مافي الصور كلّها، من حيث وحدة وجودها، ولكن ظهور آثار ما تضمنه الوجود مختلف بحسب الاستعدادات والأمزجة، وهي مختلفة اختلافاً لا يحصى. فظهور آثار ما تضمنّه الوجود حاصل في الإنسان الكامل بالفعل، وفي غيره بالقوّة والصلاحية. ويظهر في كلّ بحسب ما قسم له، قلة وكثرة لموانع مزاجية وطبيعية. وإلاَّ ففي البعوضة مافي العرش من حيث الوجود. وكما أنَّ المرايا منها ما يحرق ما واجهه ويفنيه، ومنها ما يظهر صورة ما واجهها ويبقيه؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: أنَّ من التجليات الإلهية ما يبقى ما توجه عليه ويعطيه أحوالاً ويوجد فيه أعراضاً، ومنه ما يفني من توجه عليه كما ورد في سبحات الوجه: أنه لو كشفها لأحرقت ما أدركه بصره.

وكما أن المرآة ما أثرت في حقيقة من أظهرت صورته فيها، وإنما أثرت فيه من حيث أنها أظهرت مثال صورته، فهي مجلى لبعض ظهوراته، ولبعض نسب تضاف إلى صورته المنطبعة في المرآة؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الحق الذي ظهرت به الممكنات، ظهور الصور في المرآة، ما أثر في حقائقها، فليست بمجعولة له، بمعنى مخلوقة. فإنَّ الممكنات من حيث حقائقها، هي شؤون الحق تعالى في التعيّن الأول. فلا يجوز أن يؤثر فيها من هذه الحيثية. ولهذا يقول إمام العارفين محي الدين (رضي الله عنه): «ليس ثمة شيء يؤثر في شيء، وإنما المدد يصل من باطن الشيء إلى ظاهره»، والنور الوجود الحق يظهر ذلك.

وكما أن الصورة تشهد بالمرآة، وتدرك بالإدراك البصري، ولا يدرك ماعد ذلك من وجوهها، فلا تعلم من جميع الحيثيات والوجوه؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الذات التي هي ذات كل موجود وحقيقته تُدرك بالنور الإلهي، وتشهد من بعض وجوهها، ول تعلم. فلا يحاط بها، فهي مجهولة أبداً.

وكما أن المرآة لا لون لها، لذلك قبلت جميع الألوان والنعوت والصور، فتظهر فيها؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الوجود الذات لما كان لا صورة له ولا لون ول نعت خاصاً به، يظهر بجميع الألوان والنعوت والصور، فيظهرها ظاهراً بها.

وكما أنَّ صورة المتوجّه على المرآة، تظهر بالمرآة، ولا يعرف كيف كان ذلك، وما انفصل شيء عن شيء ولا اتصل شيء بشيء، ولا انتقل؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: العارف بالتجليات الإلهية الأسمائية، يعرف تجلّي الحق، ولم تجلّى، وبم تجلّى. ولا يعرف كيف تجلّى. فإن علم كيفية التجلّي في غاية الغموض. وفكيفية تعلق القدرة بالمقدور غير واضح. لأنَّ التجلّي الوجودي، المنبسط النور على الممكنات الثابتة المعدومة غير مجعول، والأعيان الثابتة غير مجعولة أيضاً، ولا يعقل من أثر القدرة إلاَّ اقتران الوجود المفاض بالعين الممكنة، والمقصود من الاقتران حركة معنوية معقولة، توجب الاتصال، ولا حركة في المعاني والحقائق المجرّدة. وأيضاً الممكن لا اقتدار له أصلاً، إذ لا فاعل إلاَّ الله، فلا حقيقة للممكن يطلع بها على اقتدار الله وتجلّيه بالأشياء. إذ كل شيء إنما يشهد الله من نفسه، وممّا هو عليه، فم ليس فيه لا يعلمه من الحق. ولأن تجليه تعالى في الأسماء التي تعطي آثاراً وتظهر عنها أعيان تحجب تلك الآثار والأعيان عن إدراك موجد تلك الآثار وخالقها، إلاَّ إن خص الله بذلك نبياً أو وارث نبيّ، فذلك له تعالى.

فصل بل وصل 3

في مثالية الآلة الشمسية للتجلّي الإلهي. ولنفرض لها فرضاً ليظهر التمثيل ويسهل الإدراك فنقول:

إنَّ ملكاً عظيماً ما رآه أحد ولا عرفه بشيء من أوصافه خطر له في نفسه أن يتعرّف لغيره، فنظر وتأمل في ذلك فوجد ذلك من جهة كنه ذاته غير ممكن، لموانع تمنع من ذلك، وأمَّا من جهة النعوت والأوصاف فرأى ذلك ممكناً، فخرج متحجباً برسم صورة، وقال من وراء حجابية تلك الصورة: هذه الصورة التي تدركونها هي مثال صورتي، فإني عرفت أنكم تعجزون عن إدراك حقيقتي وذاتي، فأظهرت لكم هذه الصورة لتعرفوني بعض المعرفة اللائقة بكم، لا المعرفة من حيث أنا، فإن ذلك غير ممكن، فخذوا عن هذه الصورة ما شئتم من الصور. فلنسم الصورة التي ظهر الملك متحجباً بها بالتعيّن الأول، وبالحقيقة المحمّديّة، وبحقيقة الحقائق، وبهيولي الكلّ، وبالصورة الرحمانية، وبالوحدة المطلقة... وبغير ذلك من الأسماء. ولنسمّ التي أخذت عن هذه الصورة بأجناس العالم،  والصور التي أخذت عن هذه الصور الجنسيّة، وهي أشخاص الأجناس لا نهاية لها. ولنسمّ الأوراق التي تجعل عليها الأصباغ لتستعد لظهور الصورة فيها بالأعيان الثابتة، وبالاستعدادات الإمكانية عند سادتنا، وبالماهيات عند الحكماء، وبالمعلوم المعدوم وبالشيء الثابت عند المتكلمين. وكما قلنا في المثال: إن الملك ما رآه أحد ولا عرفه من حيث ذاته، والذات هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في تعينّها لا في وجودها. سواء في ذلك القديم والحادث، وسواء كان الذات مَعْدُومًا كالعنقاء، أو موجوداً وجوداً محضاً، وهو ذات الحق تعالى ، أو موجوداً ملحقاً بالعدم، وهي ذوات المخلوقات المحدثات، كذلك يقال في العلم الإلهي:

الحق تعالى ما عرفه أحد من مخلوقاته من حيث ذاته، ولا يعرفه ملك ولا رسول لا في الدنيا ولا في الآخرة. فالكل في ذات الله حمقى. كما ورد في الخبر. وأن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه، كما ورد أيضاً. فالمدعي معرفتها كاذب مباهت، والمتكلم فيها لطلب معرفتها أخرس صامت، ولهذا يعبر عنه السادة بغيب الهوية، وبالغيب المطلق، وبالغيب المصون، وبالغيب المكنون، وبالهو، أي الذات الذي هو الكل في الكل، وبالغيب الذي لا يصحُّ شهوده، وبمحلّ سلب الأحكام والقيود، وبالعجوز عنه، وهو ما لا يتصور، فليس هو موجوداً ولا معدوماً. فليس بمعلوم، لأنَّ التصوُّر أول مراتب العلم. ولا هو مجهول، لأن الجهل لا يرد إلاَّ على ما يرد عليه العلم، إذ هو ضده، والعلم لازم لمحله، فلا يعرض له الجهل، فما لا يتعلق العلم به في محله ل يتعلّق الجهل به فيه، وإلا اجتمع الضدّان، إن كان الجهل معناه التصديق بالخلاف، وإن كان الجهل معناه عدم العلم بما من شأنه أن يعلم، فهو نقيضه، ولا يجتمعان، ول يرتفعان، لكن عمَّا من شأنه أن يتعلقا به، وليس من شأن العلم أن يتعلّق بممتنع التصور، فليس من شأن الجهل الذي هو عدم تعلق العلم بما من شأنه أن يتعلق به أن يتعلّق بالممتنع التصور، فالممتنع التصوُّر لا معلوم ولا مجهول. فطلب العمل بالذات من حيث هي ذات حماقة، والوصول إلى العلم بها محال. ولهذا حذر الله تعالى عباده وأراحهم من طلب ما حصوله محال فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 3/ 28 و 30].

أي ذاته، وأمرهم بطلب ما حصوله ممكن، وهو علم مرتبة ذاته، وهي الألوهية فقال: ﴿وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ﴾[إبراهيم: 14/52].

وقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد: 47/ 19].

إذ الألوهة تعلم ولا تشهد، فإنها معقولة، والذات تشهد من بعض وجوهه ولا تعلم، إذ العلم بالشيء يقتضي الإحاطة به من جميع جهاته ووجوهه، والإحاطة بالذات محال، فإنَّ الذات في اصطلاح أهل الطريق سادة هذه الأمة يراد به: ما ل يشعر به إلاَّ من حيث أنه لا يشعر به. فالعلم به هو أنه لا يعلم، فلا يحاط به وكلّ شيء، العلم به غير الجهل به؛ إلاَّ الذات، العلم به عين الجهل به، وهو أنه ل يعلم. فلا يدخل تحت إحاطة علم منه تعالى فضلاً عن غيره، فهو ي علمها أنه ل يحيط بها علمه. وهذا علم لا جهل معه، علم من حيث أنه علم أن من حقيقة الذات عدم الإحاطة بها، وجهل من حيث أنه لا يحيط بها علماً؛ فعلم من حيث جهل، فجمع بين الضدين، وليس ثم من يجمع الأضداد إلاَّ هو، ولا نقول: أنه تعالى لا يعلم ذاته، كما قيل، حيث العلم بالشيء يقتضي الإحاطة به من كل جهاته ووجوهه، وذاته تعالى لا نهاية لها، بمعنى أنه لا غاية لظهوراته بمفعولاته، والإحاطة بما لا يتناهى محال، لما فيه من الجمع بين النقيضين، وهو النهاية وعدم النهاية، ولا نقول إنه تعالى محيط بذاته، لأن الجهل عليه محال، كما قيل. والذي نقول وهو الحق، والقول الصدق إنه يعلم ذاته على ما هي عليه. والذي هو عليه عدم النهاية، وعدم الإحاطة بها. فهو يعلمها: أنه لا يحاط بها. ومن علم الشيء على ما هو عليه لا يقال جهله. فالذات مقوّم كل علم ومعلوم، وإدراك ومدرك، وحكم ومحكوم به، ولا يتقوّم بشيء. فالذات لا يدرك ولا يعلم ولا يحكم عليه بشيء، وهذا الثبوت السلبي يعّبر عنه ساداتنا بامتناع النفي والإثبات، فلا يقال عليه، فإنه المعجوز عنه والشعور به ليس إلاَّ أنَّه ما لا يشعر به. وبعض سادات أهل الطريق، يعدُّ الذات من جملة المراتب؛ وبعضهم لا يعدها في المراتب، لأنَّ المراتب كلها متقوّمة بالذات، فليست الذات بمرتبة. وقولهم: ذاته: إنما هو عبارة عن مرتبة حدّية قامت في المدارك مقام الذات؛ فأسندوها إلى الذات المقوم لكل مرتبة. ولذا جاءوا بالضمير المشعر به فقالوا: ذاته.

كسر طلسم وإيضاح مبهم

الذات من حيث هو، هو مادة العدم والوجود. فأحد طرفيه العدم بقسميه، والآخر الوجود بقسميه، إذ العدم المحض المطلق الذات المتجردة تجرداً أصلياً، والعدم المقيّد، هو الذات المتجرد تجرداً نسبياً. فإذا اعتبرت الذات لا بشرط شيء ولا بشرط لا شيء، فهي في مرتبتها الشعورية، وهي مادة العدم المطلق والمقيد، والوجود المطلق و المقيد. وهي المسماة في اصطلاح ساداتنا: بالوحدة المطلقة، لها وجه إلى العدم ووجه إلى الوجود. فهي لا وجود ولا عدم. فإذا اعتبرت الذات بشرط لا شيء، فهي على تجرّدها الأصلي، وهذه مرتبة العدم المحض المطلق، وهي المسماة في اصطلاح ساداتن بالأحدية، فإذا قيل: العدم هو الذات المتجرّدة تجرداً أصلياً، أي غير نسبي، فالمراد به العدم المحض المطلق. وبعض سادات القوم يعّبر عن الذات المتجردة تجرداً أصلياً، أي غير نسبي، فالمراد به العدم المحض المطلق. وبعض سادات القوم يعّبر عن الذات المتجردة تجرداً أصلياً: بإطلاق الهوية، وبالإطلاق الذاتي، وهو اللا تعين، فل ينضاف إليه نسبة اسم ما، من وحدة أو وجوب وجود أو اقتضاء أثر أو تعلّق علم منه بنفسه فضلاً عن غيره، لأن كل ذلك يقتضي التعيّن المنافي لإطلاق الهوية، والإطلاق هنا أمر سلبي، لا يقابله التقييد. إذ الإطلاق الذي يقابله التقييد تقييد بالإطلاق، وقولهم: لا ينضاف إلى الذات نسبة ولا اعتبار ولا وصف ولا وجه ولا إضافة، ليس المراد: أن ذلك خارج عن الذات كله، وإنما المراد: أن جميع تلك الاعتبارات، من جملة الذات. فهي الذات لا باعتبارها ولا بنفسها، بل هي عين ما عليه الذات. فإذا اعتبرت الذات بشرط شيء، فهي مرتبة الوجود المحض المطلق، وهي المسماة في اصطلاح السادة: بمرتبة الواحدية. فإذا قيل: الوجود هو الذات المتعّين تعييناً أصلياً، أي غير نسبي، فالمراد به الوجود المحض المطلق، وهو اعتبار الذات، لا بشرط هذا. أي اعتبار الذات مقيّدة بغير معين، بل تقييد مطلق. وهذه المرتبة تستلزم الوجود المقيد، فإذ قيل: الوجود هو تعين الذات تعيناً نسبياً؛ فالمراد به: الوجود المقيّد. وتستلزم هذه المرتبة العدم المقيّد، وهو اعتبار الذات بشرط لا هذا، أي اعتبار الذات متجرّدة عن شيء، بالنسبة إلى تعينها بشيء. فحيث قيل: العدم هو انتفاء التعيّن النسبي؛ فالمراد به: العدم المقيد. وإنما كانت مرتبة الوجود المحض المطلق، مستلزمة للوجود المقيّد والعدم المقيد، لأن الوجود المحض المطلق مرتّب على العدم المحض المطلق، والوجود المقيد، مرتب على الوجود المطلق، والعدم المقيد مرتّب على الوجود المقيد، فافهم، فإنَّه من النفائس المخزونة.

وكما قلنا في المثال: إنَّه خطر في نفس الملك أن يتعرف لغيره... الخ، م تقدم؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: إنّّ الذات العلية، لما مالت إلى الظهور بالمظاهر، والتعين بالتعينات الأسمائية، والاعتبارات الكونية، بميل هو الذات، ل زائد عليها. كما ورد في الخبر الذي صحّحه أهل الكشف والوجود «كنت كنزاً» الخ... عند هذا الميل حصل انكشاف الذات للذات بالذات. وكما قلنا في المثال: إن الملك لم نظر وتأمل في نفسه، وجد التعرف على الغير ممكناً من حيث الصفات، كذلك يقال في العلم الإلهي: الحق تعالى ـ، لما أحب أن يعرف وعلم ذاته بذاته، رآها قابلية مطلقة، قابلة لظهورها بأوصاف الحق وبأوصاف الخلق وما يلحق ظهورها إجمالاً وتفصيلاً، وقابلة لبطونها وغيبها وانتفاء جميع الاعتبارات عنها كما هي.

وكما قلنا في المثال: إن الملك برز متحجباً ومتستراً بصورة وقال: هذه صورتي؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الذات الغيب المطلق ظهر متحجباً بالصورة المسماة بالصورة الرحمانية، وبالتجلّي الأول، وبالتعيّن الأول، وبالحقيقة المحمدّية، وبرداء الكبرياء،  وبغير ذلك. وهذه الصورة هي السارية في كل موجود، فتستّرت وتحجّبت بصور الموجودات العقلية والروحانية والخيالية والمثالية والحسّية، وظهرت بها أيضاً، فهي المظهرة لها عند العارفين أهل الكشف والوجود، وهي الساترة لها عند الغافلين المحجوبين من وجه واحد: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[الحشر: 59/ 2].

 وكما أنَّ الصورة التي خرج الملك متحجباً بها في المثال هي حاجزة بينه وبين الناس، فهي كالبرزخ بين الشيئين؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة الرحمانية التي هي أول التعيّنات، برزخ بين الحق والخلق، فهي المانعة من اختلاط حقيقة الواجب بحقيقة الممكن فلا يجتمعان في حدّ ول في حقيقة.

وكما أنَّ الصورة في المثال لها وجه إلى الملك ووجه إلى الناس؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة الرحمانية، التعيّن الأوّل، لها وجه إلى الحق، فهي من ذلك الوجه حق قديم واجب فاعل مؤثر، ولها وجه إلى الخلق، فهي من هذا الوجه خلق حادث ممكن منفعل متأثر، هذا باعتبار، وإلاَّ فهي وجه واحد، لأنها لا تنقسم ول تتجزأ، فهي عين الحق وعين الخلق.

وكما أنَّ للصورة في المثال حقيقة، وللملك حقيقة في حد ذاته، وللناس الذين ظهر لهم بصورته حقيقة؛ كذلك يقال في العلم الإلهي، الحقائق ثلاث: حقيقة قديمة واجبة فاعلة وهي حقيقة الحق تعالى ـ. وحقيقة حادثة ممكنة منفعلة وهي حقيقة العالم كله. وحقيقة ثالثة جامعة بينهما من وجه، فاصلة بينهما من وجه، فهي واجبة ممكنة، قديمة حادثة، فاعلة منفعلة، وهي هذه الصورة الرحمانية الحقيقية المحمدّية، حقيقة الحقائق الكلية.

وكما أن الصورة التي ظهر الملك متحجباً بها في المثال هي أصل جميع الصور،  التي أخذت عنها بآلة التصوير؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة المسماة بالحقيقة المحمدية، مادة جميع العوالم العلوية والسفلية.

وكما أنَّ الورقة التي تمسك الصورة، إذا كانت متقنة بجميع ما يلزم لإمساك الصورة، معدلة مسواة، ظهرت فيها الصورة على الكمال والتمام؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة إذا كانت معدّلة مسواة، ظهرت فيها الصورة على الكمال والتمام؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة إذا كانت معدّلة مسواة، ظهرت فيه الصورة الرحمانية المعبّرة بقوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[الحجر: 15/29]، و [ص: 38/72].على الكمال والتمام. وليست إلاَّ صور الأنبياء وكمّل ورثتهم صلى الله عليهم جميعهم ـ. وقد تكون الورقة غير تامة التسوية و التعديل فتظهر فيها الصورة غير تامة، كما ينبغي، وهي صورة ما عداهم (صلى الله عليه وسلم) جميعهم من الأناس إلى الحيوان إلى النبات إلى الجماد.

وكما أنَّ الصورة التي خرج متحجباً بها، هي حجاب بين الملك وبين الناس، فلا يدركون ذات الملك وحقيقته من حيث هو؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة الرحمانية، التي هي الحقيقة الإنسانية الأكملية، ورداء الكبرياء، حجاب يبن العالم وبين الحق تعالى ـ، من حيث السبحات المحرقة، فإنَّ الله لا ينظر إلى العالم إلاَّ ببصر الإنسان الكامل، فلا يحترق العالم للمناسبة. ولولا هذا الحجاب لاحترق العالم وتلاشى.

وكما أنه بمجّرد رفع الغطاء مابين الصورة وما يراد انطباعها فيه تنطبع الصورة من غير مهلة ولا تراخ؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: كلُّ صورة فعلته الطبيعة وسوّتها، ورفع عنها غطاء العدم ارتسمت فيها الصورة الإلهية بحسب مرتبتها، وم يعطيه استعدادها بل الصورة عين ما ارتسمت فيه.

إفصاح وإيضاح

للذات الغيب المطلق تجلّيات وتنّزلات وتعيّنات وظهورات، تسمّى: بالمراتب والتعيّنات، والمجالي والمنصّات، و المظاهر، وهي الأسماء الإلهية والمخلوقات الكونية؛ من العقل الأول إلى آخر مخلوق، لو كان للمخلوقات آخر، ولا آخر لها، فأول المراتب عند من يعدّ الذات مرتبة: الأحدية، وهي الذات بشرط لا شيء، أي بشرط الإطلاق. فهي مرتبةٌ تقيده بتجرُّدها عن القيود الثبوتية، فهي عبارة عن مجلى ذاتي ليس لشيء من الأسماء ولا لمؤثراتها فيه ظهور؛ وإنما هي ذات مجرّدة عن الاعتبارات الحقية والخلقية، فهي مرتبة العدم المطلق كما قدمنا. وإنَّما قال من قال: الأحدية الذاتية، أول المراتب، مع أنها مرتبة العدم المطلق، لمَّا كان تعقل كل تعيّن يقضي بسبق اللا تعيّن من حيث هو هو لا يصح أن يقضى عليه بتعّين، قالوا: إن وراء ما تعيّن أمراً لا يدرك كنهه، هو منشأ ما تعيّن وبه ظهر كل متعيّن، فما حصل عندنا من الأحدية إلاَّ أمر جملي، هو اعتبار الذات بإسقاط جميع الاعتبارات، إذ الاعتبارات فيها بحكم البطون، لا بحكم الظهور، فهي في المثل، كمن ينظر من بعيد إلى جدار بني من طين وآخر من جصّ وخشب، ولا ينظر إلاَّ جداراً فقط، وأحدية كثرة ذلك الجدار مجموع ما بني منه، لا على أنه اسم لهذه الأشياء. فالأحدية اسم للذات الصرف المحض، لكن نُسبت الأحديّة إليها فنزل حكمها عن الصرافة المحض، وهي ملحقة بالصرافة والسذاجة، فهي أعلى المجالي، وبعدها الهوية، فإنه ليس لشيء فيها ظهور إلاَّ الأحدية، فالتحقت بالسذاجة لكن دون لحوق الهوية، لتعقّل التحّدي فيها، والحضور والحاضر أقرب إلينا من الغائب، ويمتنع الاتصاف بالأحدية للمخلوقات، فإنه مناف ومغاير للأحدية، لأن الذات مطلق، والعبد قد حكم عليه بالمخلوقيّة، وكلُّ اسم بعد الأحدية فهو مخصصّ لا ينسب إلى الذات، إذ حكم الذات في نفسه شمول الكليات والجزئيات والنسب والإضافات والاعتبارات لا بحكم ظهورها، بل بحكم اضمحلالها تحت سلطان أحدية الذات، وإنما ينسب ذلك التجلّي إلى الاسم الذي ظهر به، لا على الذات. وبهذا الاعتبار، وهو سقوط جميع الاعتبارات سمى تعالى بالأحد. وليس في الأسماء الإلهية اسم علم على الذات، لا شيء فيه غير العلمية، إلاَّ الأحد الواحد عند إمام العلماء بالله سيدنا محي الدين.

وكليات التعينات والمراتب محصورة في ست مراتب: الأولى مرتبة الغيب المغيب، وهو التعين الأول، المرتبة الثانية مرتبة الغيب الثاني، المرتبة الثالثة مرتبة الأرواح، المرتبة الرابعة مرتبة عالم المثال،  المرتبة الخامسة مرتبة عالم الأجسام، المرتبة السادسة مرتبة الإنسان الجامع لجميع المراتب المتقدمة. والمراتب والتعينات والمظاهر ونحوها كلها أمور اعتبارية لا وجود لها في حدّ ذواتها، إذ التعين ونحوه لا يزيد على المتعيّن بالعين، فلا عين لها في الوجود العيني، فليس إلاَّ الذات الوجود الأحد الواحد، وأمَّا المراتب كالخلافة والسلطنة والإمامة والقضاء و الحسبة ونحوها، فهي أمور عقلية اعتبارية، وإن كان التأثير والفعل لا ينسب إلاَّ للمراتب، وإن نسب إلى الذوات فلأمر خفي فيها. فليس الوجود إلاَّ لصاحب المرتبة. والتمييز بين المرتبة وصاحبها ظاهر حاصل حقيقة وعلماً، فليس في الخارج صورة للمرتبة زائدة على صورة صاحبها، لكن أثرها مشهود، ممّن ظهر بها، مادام له الحكم بها، وهي قائمة به، ومتى انتهى حكمها بقي صاحبها بعد كسائر الناس، لا يظهر عنه أثر إذ الأثر نسبة بين مؤثّر ومؤثّر فيه، ولا تحقّق لنسبة بنفسها فتحققها بغيرها، ولا يصحُّ أن يكون ذلك الغير هو الوجود، لأن الوجود لا يظهر عنه ما لا وجود له، ولا يظهر عنه عينه من كل وجه، لأنه حينئذٍ يصير الوجود وجودين اثنين. وأمر الخلق والإيجاد محصور بين الوجود الذات و المرتبة، أي مرتبة الوجود الذات، وهي الألوهة، فإنها الجامعة لجميع مراتب التأثير، وهي الأسماء، وحيث لم يصح نسبة التأثير إلى الذات الوجود، تعيّن نسبته إلى المرتبة وهي الألوهة.

فصل 4

في المرتبة الأولى من مراتب التعينات الكلية، وهي المسمّاة في اصطلاح القوم بمرتبة الوحدة، وهي الذات لا بشرط، وهي التي عبّرنا عنها في المثال بالصورة التي خرج الملك متحجباً بها، وقال للناس: هذه صورتي. فالذات لما تنزّلت من الذات الأحدية، نزلت إلى مرتبة التعيّن الأول، وهي الوحدة المطلقة الذاتية الحقيقية. بمعنى أنَّ الوحدة عين الذات، لا صفة لها ولا نعت. ونسبة الأحدية المسقطة لجميع الاعتبارات، ونسبة الواحدية المثبتة لجمعها إليها على السواء. فإن قيل: إن أهل هذ الشأن قالوا: أو ل تعيّن الذات هي الوحدة المطلقة الذاتية، وقالوا: أول المراتب الأحدية الذاتية، فمن أين لهم بالأحدية؟ قلنا: الإطلاق مقدم بالمرتبة على التقييد، وإنما كانت الوحدة أ ول تعيين للذات، وأول اعتبار، وأول المراتب المنعوتة، لأنَّ كل تعيّن يفرض لابدَّ وأن تتقدم عليه الوحدة ضرورة. إنَّ كل كثرة وكثير، لابدَّ وأن تتقدم عليه الوحدة تقدماً رتيباً، بلا توهم تقدم استتار وغيبة فقدان. ومن مرتبة الوحدة نشأت الأحدية والواحدية التي هي المرتبة الثانية للوحدة، والثالثة للأحدية، فكانت برزخاً جامعاً بينهما من وجه، موحداً وفاصلاً بينهما من وجه، معدداً لهما. ولهذا كان من أسماء هذه المرتبة مرتبة الجمع والوجود، وأحدية الجمع، لأنَّ الأحدية مرتبة العدم المطلق. والواحدية مرتبة الوجود المطلق، كما بينا قبل. و الوحدة البرزخ الجامع بين الوجود والعدم، والفاصل بين الوجود والعدم،  وكان من أسمائها البرزخ الأكبر، والأعظم، والأول، وبرزخ البرازخ، لأنها البرزخ الساري في جميع البرازخ. ومن المعلوم أن كل متقابلين لابدَّ أن يكون بينهما برزخ معقول، لئلا يتحّدا، لا يكون عين المتقابلين، ول غيرهما، له وجه إلى هذا ووجه إلى هذا، بل هو وجه واحد، فإنه لا ينقسم ولا يتبعّض. ولتقدم مرتبة الوحدة وأصالتها وكونها منبع المراتب والتعيّنات، ولا تعين ولا تعقل لمعقول ولا لمحسوس ولا لمتخيّل إلاَّ بها، سمّيت حقيقة الحقائق. فإن الوحدة الذاتية باطن كل حقيقة إلهية وكونية. تكون في الإلهية إلهية واجبة قديمة، وفي الكونية كونية ممكنة حادثة. فهي المعلوم الثالث. فإن المعلومات منحصرة في ثلاث، باعتبار: الحق الواجب تعالى، والعالم الممكن، وحقيقة الحقائق هذه، وهي المسماة بالحقيقة الكلية في كتب القوم، وهي لا موجودة ولا معدومة، بمعنى أنها غير موجودة العين خارجاً وجود استقلال فإنها معقولة في حد ذاتها، فلا تكون لها صورة ذاتية؛ لكن له في كل موجود حقيقة من غير انقسام ولا تبعيض، وهي باطن كلّ حقيقة، والوصف الذاتي لكلّ حقيقة، لاستحالة تعقّل شيء بدونها موجوداً أو معدوماً، ووجودها عين بروز الموجودات وتابع لها. فإنَّ كان الموجود الموصوف بها واجباً فهي واجبة، أو ممكناً فممكنة، أو قديماً فقديمة، أو حادثاً فحديثة. ولا توصف بالكلّ ولا بالبعض ول بالزيادة أو النقص ولا بالتقدم على العالم ولا بالتأخر عنه، فهي واحدة تتعدّد بتعّدد الموجودات. ولولا أعيان الموجودات ما عرفت. ولولاها ما عرفت حقائق الموجودات. وهذه الحقيقة تقارن الحق في الأزل، من غير أن يكون لها وجود في عينها. ويستحيل عليها التقدم الزماني على العالم والتأخر عنه،  كما استحال ذلك على الحق تعالى ـ، لأنها ليست بموجودة ولا معدومة. وليس العالم بمتأخّر عنها أو يحاذيها بالمكان، إذ المكان من العالم، وهذه أصل العالم، وعنها ظهر العالم، فهي حقيقة حقائق العالم الكلية المعقولة في الذهن، التي تظهر في القديم قديمة وفي الحادث حادثة، وهي معلومة له تعالى، يعلمها بها لا بغيرها، إذ هي صفة العلم، وليس العلم بغيرها، ولا هي العلم، فلول الإله الحق وهذه الحقيقة الكلية، ما ظهر شيء من العالم العلوي والسفلي من الجواهر والأعراض والنسب. فإن قلت: إن هذه الحقيقة هي العالم صدقت، أو غير العالم صدقت، أو أنها الحق سبحانه صدقت، أو غير الحق تعالى صدقت، أو غير العالم وغير الحق وأنه شيء ثالث زائد صدقت، ولا غير، لأن المغايرة بين الوجودين، وليس الوجود بائنين. كلُّ هذا يصحُّ عليها، فهي الكلّي الأعم الجامع للحدوث والقدم، وهي الهبأ والهيولي وهيولي الكل وهيولي الهيولات والهيولي الخامسة، لأنَّ الهيولي في اصطلاح ساداتن اسم للشيء باعتبار ماهو ظاهر فيه، بحيث يكون كلُّ باطن هيولي الظاهر، الذي هو صورة فيه، وإنما قيل في هيولي الكلّ الخامسة، لأنَّ الجسم الكل، الذي هو أقصى مراتب الظهور، صورة في النفس الكلية؛ والنفس الكلية صورة في العقل الكل، والعقل الكل صورة في العلم، والعلم صورة ظهرت من باطن الوحدة المطلقة، وهي حقيقة الحقائق المسماة أيضاً بالحقيقة المحمدّية. فالحقيقة المحمدّية صورة لمعنى وحقيقة ذلك المعنى. وتلك الحقيقة هي حقيقة الحقائق. فهو (صلى الله عليه وسلم) الإنسان الكامل الأكمل مظهر التعيّن الأول، وغيره من الكاملين ممّن يسمّى الإنسان الكامل الأكمل مظهر التعيّن الأول، وغيره من الكاملين ممّن يسمّى بالإنسان الكامل هو مظهر التعيّن الثاني، ولذ قالوا في التعاريف: الحقيقة المحمدّية هي الذات مع التعيّن الأول، ولهذه المرتبة والتعين الأول أسماء كثيرة، وذلك لكثرة وجوهها واعتباراتها. وجميعها عبارة عن صورة علمه تعالى بنفسه، من حيث تعلق نفسه بنفسه، باعتبار توحد العالم والعلم والمعلوم. وعندما تعيّنت الذات هذا التعيّن المذكور، تميزت الحقائق الإلهية و الكونية التي كانت مستهلكة في الذات الأحدية تمييزاً نسبياً لا حقيقياً. ولذا كانت الحقائق في هذه المرتبة تسمى شؤوناً مجملة في الذات. بخلاف المرتبة الثانية، فإنه فيها متميزة حقيقة. فلها في المرتبة الأولى تميز نسبي وإجمال حقيقي. وفي المرتبة الثانية لها إجمال نسبي وتمّيز حقيقي. فلهذه سميت هذه المرتبة الأولى: بحضرة علم الإجمال، وهي اعتبارات الوحدة التي لا تميز فيها حقيقياً ولا مغايرة للذات، لمنافاة الوحدة لذلك، ولاتصاف معلوماته بالإجمال، فلو قيل: إنه تفصيل في هذه المرتبة للزم الكذب والتناقض، على أن العلم من حيث أنه تميز وانكشاف لا يوصف بالتفصيل والإجمال، لأنها من لوازم الكمّ، ولا كمٌ في العلم، ومن المعلوم البيّن، أن العلم حكاية ومرآة للمعلوم، يتعلق به على ماهو عليه، من إجمال وتفصيل، فلو لم يكن الأمر هكذ لكان جهلاً، فالعلم في مرتبة الوحدة التعين الأول، متعلق بمعلوم واحد، ففعله متعدّ لمفعول واحد، فلا يقال في هذه المرتبة إلاَّ أنه علم نفسه فقط. ولذا كان الوجود في هذه المرتبة، عبارة عن وجدان الذات نفسها في نفسها، باندراج اعتبارات الواحدية فيها، وجدان مجمل، مدرج فيه تفصيله، فحكم عليه بنفي التميز، من غير اعتبار زائد على الذات، إذ لا غير في هذا التعين. وكل معلوم سمّي غيرا وسوى، فيما بعد من المراتب، فهو في هذه المرتبة عين الذات. فالذات والمعلومات جملة واحدة، لقرب هذه المرتبة من الأحدية الصرفة المحضة.

حل مشكلة وفتح قفل

العلم الذاتي يقال فيه: علم فعلي، وهو حقيقة كل مرتبة فاعلة، وحقيقة مؤثرة من حيث فاعليتها وتأثرها. وإلاَّ فكلُّ حقيقة ومرتبة فاعلة من وجه، منفعلة من وجه، فإن قيل: كيف هذا والعلم لا تأثير له في المعلوم؟ قلنا: لكون الحقائق إنم تحققت به، وقد كانت مستهلكة في الذات ، في مرتبة الأحدية، ولما تعيّنت التعين الإجمالي بالعلم الذاتي، صحّ القول بأنه فاعل لها في الجملة، توسعاً، بخلاف العلم في المرتبة التي بعد هذه، فإنه يقال فيه: انفعالي، لأنه نسبة ظهرت بين العالم والمعلوم، ظهور الصورة بين المرآة والمتوجّه عليها، فهي حكاية العلم الذاتي، ول فرق بينهما إلاَّ باعتبار أن العلم الذاتي تعلّق بالذات من غير اعتبار شيء مغاير للذات، إذ لا غير في هذه المرتبة. وفي المرتبة الثانية تعلق العلم بأشياء مغايرة للذات، متميّزة عنها. والعلم عين الذات في المرتبتين، ليس غيرها. غير أنه في المرتبة الأولى يقال: علمت الذات. وفي المرتبة الثانية يقال: علمت الذات معلومات غير الذات، مغايرة نسبية لا حقيقية. ولما كانت الذات في المرتبة الثانية عالماً وعلماً، وكان المعلوم غيرا، صحّ القول بأن العلم نسبة. بمعنى أن الذات إذا نسبته إلى المعلومات تكون علماً، وهكذا جميع ما ينسب إلى الحق تعالى من قدرة وإرادة وغيرهما، فافهم وتدّبر ولا تتحير بمخالفة أهل النظر. ثم اعلم أن بين معلومية المعلوم حال عدمه وحالة وجوده فرقاناً. فإذا كان الشيء موجوداً فالعلم به متقدم على وجوده العيني، وهو مراد من قال: مطلب المعلوم تابع للعلم. وإذا كان الشيء معدوماً عدمه الأزلي فالعلم به مساوق له، ويتأخّر عنه بالمرتبة، لأنه لذاته أعطاه العلم. وهو مراد من قال: العلم يتبع المعلوم، وهو عبارة إمام العلماء بالله سيدن وشيخنا محي الدين الحاتمي في كتبه، حيث أن العالم عنده لم يزل على عدمه الأزلي، من حيث أعيانه وحقائقه. وكانت الذات في التعين الأول والمرتبة الأولى هي العالمة وهي المعلومة وهي العلم، فهي من حيث اعتبارها علماً تابعة لنفسها، من حيث اعتباره معلوماً، تبعّية رتبة لا تبعيّة ترتيب. وإنه تعالى لما علم ذاته، علم كل ما يصحُّ أن يعلم من علمه بذاته، فليس علمه بالعالم مغايراً لعلمه بذاته، فما أخذ معلوماته إلاَّ من ذاته. وحيث كان الأمر كما بينا، صحّ القول: بأن معلومات الحق تعالى أعطته العلم بها، فإنها في هذه المرتبة عين الذات لا غيرها. فذاته أعطته العلم بذاته، والمعلوم مقدم بالمرتبة على العلم. فإن العلم مرآة المعلوم وحكايته، وأنكر هذا العالم الكبير الشهير الكبير عبد الكريم الجيلي (رضي الله عنه) إذ قال في كتابه «الإنسان الكامل»: ولقد سهى الإمام محي الدين ابن العربي فقال: إن معلومات الحق أعطته العلم من نفسها، و«لا يجوز أن يقال هذا» انتهى. يريد (رضي الله عنه) منع هذا، لما فيه من رائحة الافتقار إلى الغير، وإذا فهمت ما قدمناه على وجهه علمت من سها. ولقد صار المعقول بالبيان المحسوس، (ولا عطر بعد عروس) وهذا الذي ذكرناه، هو باعتبارات وحيثيات وجهات، وإلا فنسبة الذات إلى جميع الموجودات العينية والعلمية نسبة واحدة، وليس لها تقدم ولا تأخر بالنسبة إليها، فإنه ليس إلاَّ الذات، وعلمها عينها، وعين معلومها. لذا تعلّق العلم الذاتي بما لا يتناهى، لأنه علم ذاته، وما تقتضيه ذاته من الأسماء وما تقتضيه تلك المقتضيات، وهلم جرَّا. فالمرادات والمقدورات والظهورات والتعينات لا نهاية لها، ولا حدّ تقف عنده من حيث أشخاص الأجناس، فإن المعلومات نوعان:

نوع متناه من حيث اقتضاء الحكمة الإلهية لذلك، فيتعلق العلم به على ماهو عليه من التناهي، كأجناس العالم والدنيا، وهي عالم الكون والفساد، وذلك من محدّب السماء السابعة العليا إلى أسفل سافلين، ونهاية المخلوقين،  فهذا هو الدنيا، والبرزخ الذي تنتقل إليه أرواحنا بعد الموت ومفارقة هذه الصور العنصرية، فالعلم محيط بما يتناهى على سبيل التفصيل شخصاً شخصاً وجزءاً جزءاً، وبأحواله التي تتجدّد عليه وأزمنته وأمكنته ومراتبه.

ونوع غير متناه، فيتعلّق العلم به على أنَّه غير متناه، كذاته تعالى، بمعنى أنه لا نهاية لظهوره وتجليه بمراداته ومقدوراته، وكالجنة والنار ومن فيها، وما أعدَّ الله لأهلها فإن الجنة والنار لا يلحقهما فناء أبداً، بهذا وردت الأخبار الصحيحة كتاباً وسنّة وكشفاً، فيتعلق بما لا يتناهى على ماهو عليه. فلو قيل: العلم محيط بما لا يتناهى كإحاطته بما يتناهى، لانقلبت حقيقة المعلوم الذي قلنا: إنه غير متناه، إل ى أنه متناه، وانقلب العلم جهلاً حيث تعلّق بالشيء على خلاف ماهو عليه ذلك الشيء، إذ العلم حقيقة ينكشف بها المعلوم على ماهو عليه، إذا كان موجوداً، أو يكون عليه إذا وجد من إجمال وتفصيل وتناه وعدم تناه.

هذا؛ ووصف المعلوم بالتناهي أو عدم التناهي مطلقاً فيه تسامح، فإن مالم يدخل في الوجود لا يوصف بالتناهي ولا عدمه، وما دخل في الوجود فهو متناه. ولما كان الوجود الذات علم عين ذاته، وذاته عين وجوده، ووجوده غير متناه، تعلّق م لا يتناهى وجوداً، بما لا يتناهى علماً ومراداً ومقدوراً. لا يقال: كيف يريد الحق تعالى إيجاد نعيم لأحد من أهل الجنة مثلاً لم يعلم شخص ذلك النعيم؟! فإن العلم بالشيء متقدم على إرادة إيجاده ضرورة، لأن تأثير القدرة مرتّب عقلاً على تأثير الإرادة، وتأثير الإرادة مرتب على العلم، لأنا نقول: نعيم أهل الجنة معلوم الأجناس والأنواع على طريق الإحاطة والتفصيل. وكذا عذاب أهل النار، فما وجد من أشخاصه علمه الحق تعالى . ومالم يوجد فهو مثل لما وجد، غير مخالف له. وتعلق العلم به أنه هكذا يكون إلى غير نهاية. فأجناسه لا تتغير ولا تتبدل، وهي متناهية، وأشخاصه غير متناهية، تتماثل في الصور وتتباين في الطعم بحسب تأثير المؤثرات فيها. وسبب اختلاف تأثير المؤثرات، اختلاف تجليات الأسماء الإلهية على المؤثرات. هكذا أخبرت في الواقعة. ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾[البقرة: 2/ 25].

يشبه بعضه بعضاً في الصورة، ويخالفه في الطعم، فمعنى تعلق العلم بما ل يتناهى هو إحاطته بحقيقة كل معلوم. وإلا فليس معلوماً بطريق الإحاطة. وحقائق المعلومات وأجناسها قد وجدت وانحصرت وتناهت، وبقيت أشخاصها وأفرادها لا تتناهى ول تنحصر. وأشخاص ما يوجد من كل جنس هو مثل لما وجد. وما وجد معلوم؛ فما بقي في الإمكان فمعلوم. فليس من شرط تعلق العلم بالمعدوم عند الإدراك أن تكون أشخاص ذلك الجنس موجودة في أعيانها، وإنما من شرط أن يكون منها موجود واحداً وجزءاً في موجودات متفرقة، يجمعها مظهر موجود آخر، وما بقي معدوماً فهو مثل له. فما بقي معدوماً فمدرك حقيقة عندك إدراكاً صحيحاً، لأنه مثل له أجزاء موجودات. فالعلم إنم يتعلّق بالمعدوم، لتعلقه بمثله الموجود أو بأجزاء مثله، فهذا معنى تعلق العلم بم لا يتناهى معلوماً. فالعلم عند المحققين لا يتعلق إلاَّ بالموجود، وتعلقه بالمعدوم، هو بالمعنى الذي ذكرناه. والمعدومات أربعة أقسام: قسم معدوم لا يصح وجوده كالشريك للبارئ تعالى ـ. وقسم يجب وجوده وجوباً اختيارياً كشخص من الجنس الموجود، وقسم يجوز وجوده كعذوبة ماء البحر في البحر. وقسم لا يصحُّ وجوده قطعاً اختياراً. لكن وجد شخص من جنسه، هذا على ما يجوز وجوده وما لا يصح اختياراً، والمراد الشخص الثاني من الجنس فصاعداً. فأما القسم المعدوم الذي لا يصحُّ وجوده وهو المستحيل، فلا يتعلق به علم أصلاً، لأنه ليس شيئاً، فهو عدم محض. والعدم المحض ل يتصور تعلق العلم به، لأنه ليس على صورة ولا مقيد بصفة. وما عدا هذا من أقسام المعدوم فقد جعلناه إما وجوباً أو جوازاً أو محالاً اختياراً، مع فرض وجود شخص من الجنس. وكلّها راجعة إلى الوجود. وما كان راجعاً إلى الوجود فالعلم يتعلق به. فإذ علمت هذا علمت أنه لابدَّ من الرؤية، وحينئذٍ يحصل العلم في زمان الرؤية، وفي تقدير زمان إن كان الرائي لا يجوز عليه الزمان؛ فكل عالم أحاطه من غير تخصيص موجود في نفسه وعينه، عالم بنفسه، مدرك لها، وكل معلوم سواه إما أن يكون على صورته بكمالها، فهو مثله أو على بعض صورته، فمن هذا الوجه يكون عالماً بمعدومات، لأنه عالم بنفسه، وذلك العلم ينسحب على المعدومات انسحاباً. وهذا عموماً في كل موجود، فإنه من وجد على صورة شيء فذلك الشيء على صورته، بنفس ما يرى صورته، يرى من هو على صورته، وبنفس ما يعلم نفسه، علم من هو على صورته، لا ينقصه من ذلك شيء. فلولا ماهو الإنسان على الصورة الرحمانية، وكما ورد في الخبر ما تعلّق العلم به أزلاً، إذ العلم المتعلق أزلاً بالحادثات إنهما حصل ولم يزل حاصلاً بالصورة القديمة الموجودة التي خلق عليها الإنسان. فالعلم إنما يتعلق بالمعدوم لتعلّقه بمثله الموجود، وهذ هو إدراك المفصّل في المجمل مفصلاً وهو مختص بالحق. وأما نحن معاشر الحوادث فم ندرك المجمل إلاَّ من

ص 550

المفصّل الحادث الحاصل في الوجود. ثم أدركنا في ذلك المجمل تفصيلاً مقدراً، يمكن أن يكون وأن لا يكون. فهذا هو الفرق بين علم الإجمال المنسوب إلى الحق وإلى الخلق. فالحق تعالى يعلم التفصيل في الإجمال كما قلنا، وهو لا يدل على أن المجمل مفصّل، وإنما يدل على أنه يقبل التفصيل إذا فصّل بالفعل، فليس العالم علواً أو سفلاً دنيا وأخرى إلاَّ صوراً تعقب صوراً. والعلم يسترسل عليه استرسالاً. وإلى هنا الإشارة بقوله: «حتّى نعلم» مع علمه قبل تفصيلها أنها تنفصل، ل أن علمها مفصلةٌ حال إجمالها، فإنه جهل لا علم. ومعنى الاسترسال هو أنه تعالى يعلمها بالعلم الكلّي الشامل لها على سبيل التفصيل، فيسترسل عليها من غير تفصيل الآحاد، لتعلقه بالشامل لها من غير تمييز بعضها عن بعض، وتعلقه بها على هذا الوجه ليس بنقص، فإنه تعلق بها على ما هي عليه، وكشف الشيء على ما هو عليه هو العلم، وقد شُنِّعَ على إمام الحرمين أبي المعالي (رضي الله عنه) حيث قال في كتابه «البرهان»: «علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا نهاية لها، فمعنى تعلّقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد، مع نفي النهاية». ونسب بهذا على مذهب الفلاسفة القائلين بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، ونحن نحاشيه من هذا، فإن كان الاسترسال عنده بالمعنى الذي ذكرناه فهو الحق الذي لا شك فيه، وهو مذهب أهل الكشف والوجود، وليس هذا من مذهب الفلاسفة، فإن مذهبهم نفي علمه تعالى بالجزئيات الشخصية، إلاَّ على وجه كلّي. وكلامنا إنما هو في المعدومات الشخصية، التي لم تدخل في الوجود بعد، ولغموض هذا المبحث عن أهل النظر والفكر تخالفت فيه الآراء فكثرت المقالات، فحكم للحكماء والمتكلمين فيه تطويل وتهويل وتشعيب وتشغيب، وأما أهل الله الذين أعلمهم الحق بحقائق الأشياء على ماهي عليه، واختصهم برحمته فما بقي لهم اضطراب ولاشك ول ارتياب، فلهذا أطنبنا في البيان إراحة للإخوان، وريّاً للعطشان: ﴿الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4}﴾[الرحمن: 55/1- 2].

فصل في التعين الثاني والمرتبة الثانية 5

ولما تعينت الذات التعين الأول العلمي الإجمالي الذاتي، تبيّن أن له كمالين: كمال ذاتي مجمل بلا شرك ولا كثرة ولا غيرية ولا تميز ولا اسم ولا نعت وقد حصل بالتعين الأول وكمال أسمائي مفصل سار في الأسماء والحقائق، متوقف ظهوره على الأسماء ومؤثراتها من حيث ظهور كلّ فرد فرد ووجدانه لنفسه ولأمثاله، من كونه أغياراً مقيدات بالمراتب، استدعى ثبوت هذا الكمال وظهوره، لكثرة المعلومات وتعدّدها المستحيل مجامعتها للوحدة، إلى أن تكون له حضرة، هي محلُّ تفصيل تلك الحضرات، فتنّزلت الذات الوجود من التعين الأول إلى التعين الثاني، الذي تظهر فيه الأشياء وتتميّز ظهوراً وتميزاً علميين، لانتفاء الكثرة والتميز الحقيقي في التعين الأول، مع تضمن التعين الأول لجميع نسب التعين الثاني مع الأسماء الإلهية التي هي لها الفعل والتأثير، والحقائق الكونية التي لها الانفعال والتأثر، وهي المسماة في التعين الأول بالشؤون الذاتية، جمع شأن، بمعنى أمر مجمل غير مفصّل. فالشؤون تعقلات الحق تعالى للأشياء، من حيث كينونتها في ذاته، فظهرت في هذا التعين الثاني والمرتبة الثانية وما تحتها من المراتب، بصور الحقائق المتبوعة لغيرها من الأسماء كالحياة والعلم، وبصور أمور كائنة مثل الذوات والجواهر. فالعلم في هذا التعين الثاني هو ظهور الذات لنفسه بشؤونه من حيث مظاهر تلك الشؤون المسماة صفات عند المتكلمين، فيكون متعلقاً بمعلومات متمايزة متغايرة، فهو متعلق بمفعولين. ولهذا كان الوجود في هذا التعين الثاني عبارة عن وجدان الذات عينها، من حيث ظهورها وظهور صورته المسماة بظاهر اسم الرحمن، وظهور تعّيناتها، وهي أسماء الألوهة. وهذه المرتبة الثانية الكلية تشتكل على مراتب منها: مرتبة الوجود المقدسة عن شوائب النقص، وهي المدعوة بمرتبة الصفات، ومنها مرتبة الإمكان، ولهاتين المرتبتين مرتبة فاصلة بينهما من وجه، وجامعة لهما من وجه، فهي البرزخ الفاصل الجامع المعقول. كما أن حقيقة كل برزخ كذلك، فإذا وجبت كانت ألوهة فاعلة مؤثرة مقدسة، وعليها يطلق لفظ (الله)، وإذا أمكنت باقتضاء حضرة الوجوب لمظاهرها ومؤثراتها كانت خلقاً منفعلاً. فلهذا سميت هذه المرتبة بالبرزخية الثانية، كما سمّيت بالعماء، حيث كان العماء اسماً للسحاب الرقيق الحايل بين الناظر والشمس. وهذا العماء حائل بين مرتبة الوجوب ومرتبة الإمكان، وفاصل بين الوحدة والكثرة الحقيقيتين، وحدة الذات وكثرة صور الموجودات، فليست هذه المرتبة عينهما ولا غيرهما. وفيها قوّة كلّ واحدة منهما. فحضرة الوجوب من العماء تلي التعّين الأول، لأنها حضرة تعيّن أسماء الألوهة التي هي كلها واجبة له لذاته تعالى. والوجه الآخر يلي حضرة الإمكان حقائق الممكنات التي هي كلها ممكنة لذاتها، وهي القابلة لحضرة الوجوب الفاعلة، وحضرة الإمكان هي أيضاً برزخ متوسّط بين حضرة الوجوب وحضرة الامتناع، التي يتوهم مقابلتها لحضرة الوجوب. فالممكن من حيث الإمكان، برزخ بين الوجوب والامتناع. وحقيقة البرزخ أنه لا يكون إلاَّ معقولاً، فلهذا نقول الممكنات كلها من حيث إمكانها معقولة. وإنما صارت محسوسة لما في المدارك من الأغاليط، بل الأغاليط في العقول الحاكمة لا في المدرك، فإن المدارك تعطي مافي قوّتها. ومن هذا البرزخ العمائي اتّصف الحق بصفات الخلق ونعت بنعوتهم، كما ورد في الكتب الإلهية والأخبار النبوية، وهي المسماة عند المتكلمين بالصفات السمعية، بمعنى أنها لولا أنَّ الشارع جاء بها ما أثبتها العقل ولا قبلها. بل ما قبلتها بعض العقول إلاَّ بالتأويل والردّ إلى مداركها؛ واتصف الخلق بصفات الحق كالحياة والعلم، والقدرة والإرادة، والإحياء والإماتة. ومنشأ هذا العماء من النفس الرحماني، فمنه ظهر؛ والنفس الرحماني هو أيضاً من أسماء المرتبة، باعتبار أن النفس الطبيعي في الممكن هواء ساذج لا صورة له في باطن المتنفس، ينبعث من باطنه إلى ظاهره، حاملاً لصور المعاني التي يريد المتكلم إبرازها، فإذا وصل إلى المخارج الحرفية تصور بصور ماهي المخارج مستعدة له فتتميز الحروف، وتتركب الكلمات، وتظهر مختلفة الصور، والنفس حقيقة واحدة، فسمّى هذا التعين الثاني بالنفس الرحماني، لأجل ذلك فإن تعدد الوجود الواحد واختلاف صورها إنما حصل من اختلاف القوابل التي هي الأعيان الثابتة واختلاف أحكامها وأحوالها. والعماء عين النفس، ولكن لما تميز عن النفس اللطيف بالصورة العمائية الكشفية، لكون الممكنات كلها في العماء بالقوة، فشبه بالسحاب الرقيق الذي أصله ومنشأة نفس الأبخرة الطبيعية الصاعدة من الأرض، كما تميز الثلج بالصورة الثلجية من الماء، وليس الثلج إلاَّ ماءً منعقداً، فإذا زالت الصورة التي هي اعتبار محض وعرضٌ عرض للحقيقة المائية، بقي الماء على حقيقته وأصله، وإلى هذا العماء الإشارة بقوله (صلى الله عليه وسلم): لابي رزين العقيلي، لما قال له ي رسول الله: أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق؟!.

«كان في عماء ما فوقه هواء وما تحت هواء».

رواه الترمذي، يريد السائل أنَّ الحق تعالى ظاهر في صور مخلوقاته الظهور اللائق بجلالته ونزاهته بلا حلول ولا اتحاد كما أخبر، بقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 57/ 4].

فأين كان ظهوره قبل خلق المخلوقات؟ فكان الجواب: إنه كان ظاهراً بمعلوماته التي تضمنتها الحضرة العمائية.

وقوله: «ما فوقه هواء وما تحته هواء» بيان للعماء، وما في قوله «م فوقه وما تحته»، يصحُّ أن تكون موصولة، أي الذي فوقه حقٌ وتحته خلق، يريد (صلى الله عليه وسلم) أنه برزخ بين حق مطلق وخلق مقيّد، وهو في نفسه وحقيقته لا حقٌ محض ولا خلق محض، فهو حقٌّ وخلق.

ويصحُّ أن تكون «ما» نافية، لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، فهو ل عين ولا غير، فإنه فاصل بينهما، ولولا هو ما تميّز أحدهما من الآخر.

فالعماء اسمه تعالى الظاهر، والنفس الرحماني اسمه تعالى الباطن، وليس الظاهر بشيء زائد على الباطن إلاَّ باعتبار ما قدّمنا. وإنما أضيف النفس إلى الرحمن دون باقي الأسماء، لأن الرحمن اسم للوجود المفاض على الممكنات، أعياناً ثابتة وصوراً وجودية، فهو عين الرحمة العامة التي وسعت كل شيء حتى أسماء الألوهة، فإنه به رحمت ممّا كانت فيه من الاستهلاك والاجتنان في وحدة الذات فتميّزت حقائقها بهذ النفس.

وبعض سادة القوم يجعل النفس الرحماني من أسماء التعّين الأول، لهذ الاعتبار، ولا مشاحة في الاصطلاح.

(تكميل)

ولهذا التعين الثاني والمرتبة الثانية أسماء كثيرة لكثرة وجوهه واعتباراتها، منها: مرتبة الواحدية، وهي أشهرها وأكثرها دوراناً في كلام القوم، سمي بذلك لأنه اعتبار الذات من حيث إنتشاء الأسماء منها، ومن حيث اتحادها من جهة كون كل اسم دليلاً عليها، وإن كان يفهم منه معنى يتميّز به عن غيره، فسمّيت الذات واحداً بالاعتبار الذي صار به الكل متوحداً في الدلالة عليها. قال إمام العلماء شيخنا محي الدين: «ليس في الأسماء الإلهية اسم علم على الذات إلاَّ الاسم الواحد الأحد» انتهى.

وفي الواحدية تظهر الذات اسماً والاسم ذاتاً، ولهذا ظهر كل اسم عين الذات وعين كل اسم من الأسماء الأخر، لاشتراك الأسماء في الذات، وظهور الذات بكلّ ما ظهر من الأسماء. فإذا تجلّت الواحدية، فما ثم خلق، بل كل مايدرك حقُّ، لظهور سلطانها بكل صورة في الوجود. والأسماء الثابتة للذات في هذه المرتبة الواحدية، منه أسماء أجناس أصول كالأسماء السبعة «الحي، العليم، القادر، المريد، المتكلم، السميع، البصير» عند المتكلمين أهل العقول. «والحي، العالم، المريد، القائل، القادر، الجواد، المقسط» عند أهل الكشف والشرع والوجود، والأسماء التسعة والتسعون، والوارد بعضه في الكتاب وبعضها في الأحاديث متفرقة؛ ومنها أسماء كالأشخاص والجزئيات النازلة ول نهاية لها، إذ لكلّ مخلوق من أول مخلوق إلى غير نهاية له اسم يخصّه، هو الذي اقتضى من الذات الغنية إيجاد ذلك المخلوق، وإبرازه من العدم إلى الوجود. والله واسع عليم.

ومن أسمائه «محل نفوذ الاقتدار» لكون الاقتدار إنَّما يتحقق في هذه الحضرة التي هي منشأ السواء، فإن الوجود إنَّما تعدّد وتكثّر بحسبها.

ومن أسمائه: «الظل الأول» لأنه أول قابل للكثرة التي هي صور ظلال شؤون الوحدة.

ومن أسمائه: «الحقيقة الإنسانية الكماليّة» بمعنى أنَّ صورة الإنسان الكامل صورة لمعنى وحقيقة ذلك المعنى، وتلك الحقيقة هي حضرة الألوهة المسماة بالتعين الثاني وبالمرتبة الثانية. فالإنسان الكامل من حيث أنه معلوم الواجب، بمعنى أنه تعالى علم نفسه فعلم الإنسان الكامل من نفسه، فهو لهذا لا يزيد على الواجب تعالى حقيقة، فهو المثل الأعلى العزيز الحكيم. ومن حيث تميزه بالإمكان فهو الإنسان الحقيقي. فالإنسان الأكمل مظهر التعين الثاني، والإنسان الكامل مظهر التعيّن الأول، حقيقة الحقائق، وهي الحقيقة المحمدية الإنسانية، الحقيقة الأصلية.

ومن أسمائه: «قاب قوسين». وهما ظاهر العلم وظاهر الوجود لجميع الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم وأمَّا قاب قوسين، في قوله تعالى: في حق محمد (صلى الله عليه وسلم): ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 53/ 9].

فهما الأحدية والواحدية، «أو أدنى» يعني الوحدة الجامعة بين الأحدية والواحدية، فإن حقيقته (صلى الله عليه وسلم) هي البرزخيّة العظمى الأولى.

ومن أسمائه: «حضرة الإمكان» تسمية له بما فيه من الممكنات، فإن المعلومات بهذا العلم الأزلي مابين واجب ظهوره بنفسه، وبين ممتنع ظهوره بنفسه، وبين متوسط بينهما نسبته إليهما على السواء، فسمي المتوسط بمرتبة الإمكان.

ومن أسمائه: «المرتبة الثانية» لكونها صورة التعين الأول، الذي هو مرتبة الذات.

ومن أسمائه: «مرتبة الألوهة» لكون التجلّي الظاهر فيه وبه أصل جميع أسماء الألوهة، التي اشتمل عليها الاسم الجامع «الله».

ومن أسمائه: «مرتبة الجبروت، ومرتبة الأسماء، ومقام الجمع، وعالم الجمع، وحضرة الدنوّ، وحضرة التداني، وحضرة تجلّي الغيب الثاني، والأفق الأعلى». فمتى وصل المخلوق إليه ظهر بصفات الخالق، فيحي ويميت، ويبرئ الأكمة والأبرص، وذلك للإنسان الكامل المتحقق بالحقيقة الإنسانية؛ وقد يراد بالأفق الأعلى، حضرة الجمع والوجود، والمتحقق بها هو المتحقق بمقام الأكملية الذي هو فوق مقام الكمال.

ومن أسمائه: «عالم المعاني» لتحقق جميع المعاني الكلية والجزئية وتميزها، لاستحالة خلوّ علمه عن شيء.

ومن أسمائه «حضرة الارتسام» لارتسام الكثرة النسبية المنسوبة إلى الأسماء الإلهية والكثرة الحقيقية المضافة إلى الكون وحقائقه، والمعنى بالارتسام الامتياز النسبي الحاصل للماهيّات، لاستحالة الكثرة في ذاته تعالى لترتسم فيه تلك الكثرات والتميزات. ولهذا كان من أسمائه: «حضرة العلم الأزلي الذاتي» لأنه حضرة تعلق علمه تعالى بالأشياء، على سبيل التفصيل لحقائقها. فالعلم في هذ التعّين الثاني، نسبته بين العالم والمعلومات، بمعنى أن الذات إنما نسبتها إلى المعلومات كانت علماً، وإلى المرادات كانت إرادة، وإلى المقدورات كانت قدرة، وهكذ في أسماء الحق كلها، فليس العلم في هذه المرتبة إلاَّ تعلق خاص للذات العالمة لهذ التعلق تسمى عالمة، فقول إمام المحققين محي الدين: «علم الحق تعالى نسبة كسائر ما ينسب إليه تعالى»، المراد منه نفي الزائد على الذات، الذي أثبته المتكلمون، ونفي تعلقه، فليس إلاَّ الذات والمعلومات. فإذا ظهر الممكن في عينه تعلق العلم به، بأنه ظاهر، كما تعلق به أنه باطن بذلك العلم، فهو نسبة عقلية حكمية أوجبت للذات اسم العالم من كون هذه النسبة حالاً وشأناً من شؤون الذات، وللحاصل في العلم اسم المعلوم. فامتياز العلم النسبي الحكمي عن الذات أوجب هذا الحال، وهو كون الذات عالمة، والأحوال لا موجودة خارجاً ولا معدومة عقلاً وحكماً. وحيث كان العلم في هذه المرتبة نسبة كان توقّف تحقّقه على تحقّق المعلوم، وإليه الإشارة بقوله: «حتى نعلم، ولنعلم، ولمَّا يعلم» ونحوه. فإن العلم المضاف إلى الحق تعالى من حيث أسماؤه الحسنى يتوقف تحققه على تحقّق المعلوم التحقق اللائق به، كما هو شأن النسب، فإنه لا تحقّق لنسبة إلاَّ بتحقق طرفيها، فإن مقتضى الذات من حيث هذه النسب أن لا يظهر كل منها إلاَّ بكل منها، وتوقّف النسب بعضها على بعض لا يقدح في الغنى الذاتي، بخلاف العلم الذاتي في التعين الأول، فإنه ليس هناك إلاَّ الذات، فلا يقال في العلم هناك أنه نسبة، لأن النسبة بين اثنين ولا في التعّين الأول، فتوقف العلم على المعلوم ليس من حيث أحدية الذات، فإنَّ الأحدية تقهر الكثرة النسبية العلمية والوجودية العينية فافهم.

وفي هذه الحضرة العلمية تعيّنت حقائق الممكنات المسماة بالأعيان الثابتة، تميّزت تعيناً وتميزا علميين، فهذه المرتبة حقيقة كل مرتبة منفعلة متأثرة قابلة.

(تدقيق)

ثم اعلم أنها لما تحصّل من تعين الذات لنفسها بنفسها صورة علمية، هي المسماة بصورة الرحمن، وبصورة جمعية الحقائق، وبالنكاح الأول الغيبي، فإن النكاحات أربع، هذا أولها، وهو التوجّه الأصلي الإلهي الذاتي من حيث اجتماع الأسماء الأولى الأصلية، التي هي مفاتح غيب الهوية، والحضرة الكونية، فكان المولود الوجود العالم المسمّى بنفس الرحمن. وبالصورة الرحمانية كانت تلك الصورة العلمية بمثابة الظلّ للذات والحكاية لها، مع ما اندرج في الذات من المعلومات التي هي عين الذات، والمراد بالصورة الواردة في الأحاديث كما في رواية البخاري: ((إن الله خلق آدم على صورته)). وفي رواية صححها ابن النجار: ((إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)).

مجموع الأسماء الإلهية ومدلولاتها هي المعلومات الإلهية والكونية، التي هي لوازم الأسماء، فلا صورة له تعالى مطلقاً، لا محسوسة ولا متخيّلة ول معقولة. ولكل ذي ظلّ ظل قائم بذاته، معقول فيه، وظلٌّ ممتدٌّ عنه. ولا يعرف الحق تعالى من حيث الظل المعقول أحد غير محمد (صلى الله عليه وسلم) فامتد الظل المسمّى بالوجود المقيد وبالرحمن وبالوجود المفاض وبالنور المرشوش، كما سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالتجلي الساري في جميع الذراري وبالرق المنشور، وبالوجود العام، وبالوجود المشترك، وبالرحمة التي وسعت كل شيء وبحقيقة العالم... وبغير ذلك. فقابله العدم المقيّد، كما قابل الوجود المطلق العدم المطلق. فما قبل النور المرشوش فهو المسمى: بالعدم المقيد وبالممكن، ومالم يقبل النور الوجود هو المسمّى: بالعدم الصرف وبالمحال وبالعدم المطلق. والكلُّ معدوم لنفسه حينئذٍ، غير أن المعدوم المطلق معدوم للعالم تعالى أعني ليست له صورة ولا عين في علم العالم تعالى، والعدم المقيد معدوم لنفسه موجود للعالم به تعالى بمعنى أن له صورة علمية هي المسماة بالاستعدادات وبالأعيان الثابتة وبحقائق الممكنات عند ساداتن أهل الطريق، وبالماهيّات عند الحكماء، وبالمعدوم الثابت عند المتكلمين. وكلّه عبارة عن تعلّقات الحق الكلية والجزئية التفصيلية، وهي ثابتة لا موجودة، خلافاً للأشاعرة النافين للثبوت. والثبوت غير الوجود كما أن النفي غير العدم، فالثبوت والنفي متناقضان كالوجود والعدم، والثبوت للأعيان عبارة عن إمكانها وقابليته للوجود عند إرادة الموجد تعالى وطلبها للوجود طلباً استعدادياً. فإنَّ حقيقة كل ممكن عبارة عن نسبة متميزة وكيفية متعينة في علم الحق تعالى من حيث أن علمه عين ذاته. وهذا الثبوت للأعيان ليس بجعل جاعل، لأنه عدم والعدم لا يكون أثر الفاعل، وإنما فاضت في العلم بالتجلي الذاتي الحبي المسمى «بالفيض الأقدس» فهي في هذا الموطن محكوم لها بالقدم، إذ لا علم إلا بمعلوم، فيستحيل علم ولا معلوم كم يستحيل علم ولا عالم، فهي في هذا الحكم قديمة للعلم، محدثة لأنفسها، فإنه يستحيل مساوقتها للحق في انتفاء الأولية، إذ كلُّ ما سواه تعالى محدث، بمعنى أنه مفتقر إليه تعالى في تعينه في العلم أو الخارج، وإلاَّ كان مساوياً للحق تعالى في الغنى الذاتي، وبذا أخبر تعالى فقال: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: 76/1].

أي قد أتى، «فهل» هنا بمعنى «قد» بإجماع، على الإنسان حين من الدهر، والدهر لله، والحين تجلّ من تجلّياته، لم يكن الإنسان في ذلك التجلي شيئاً مذكوراً، فلم يكن معلوماً فلا وجود له في ذلك التجلّي، لا من حيث الوجود العيني، ولا من حيث العلم، لأنه لم يكن مذكوراً، فلم يكن معلوماً، لأنَّ الوجود الذات إذا ذكر بعلمه الذي هو عين ذاته، الممكن المعدوم، كان موجوداً له بعلمه، وهو معنى ثبوته. وإذ ذكره كلامه، الذي هو عين علمه، الذي هو عين ذاته، صار موجوداً له بكلامه، وهو معنى وجوده لنفسه بعد عدمه، والثبوت للممكن هو عين ثبوته هو تعالى في علمه. والوجود العيني الذي للممكن هو عين وجوده هو تعالى في نفسه. فصحّ بما ذكرنا أنَّ للأعيان الثابتة اعتبارين، هي بأحدهما قديمة وبالأخرى حادثة. فمن قال بقدمها مطلقاً وفّى المقام حقّه. وكذا من قال بحدوثها مطلقاً، والخلاف في الماهيّات بكونها مجعولة أو غير مجعولة مشهور في كتب المتكلمين. ونحن لا نعتبر إلاَّ كلام أهل الله، أهل الكشف والوجود. وللعالم ثلاثة مواطن: الموطن الأول التعيّن الأول، ويسمّى العالم فيه: شؤوناً ذاتية. والموطن الثاني. التعين الثاني، ويسمّى العالم فيه: أعياناً ثابتة، والموطن الثالث، هو هذا الوجود المسمّى: بالوجود، عند العامة.

وطاء وكشف غطاء

ثم اعلم: أنه لما كانت المعلومات تنقسم إلى ما يختصُّ بعلمه الحق تعالى ـ، وذلك في مرتبة التعين الأول والتعيّن الثاني، حيث كانت المراتب اعتبارية علمية، لا وجودية عينّية، وجميع المراتب المتقدِّم ذكرها علمية؛ وإلى ما يعلمه الحق تعالى ـ، والأشياء المسماة غير، أو سوا، وخلقا، وذلك في مرتبة عالم الأرواح، ومرتبة عالم المثال، ومرتبة عالم الأجسام، وكانت الأسماء الإلهية قد تميزت وتعينت حقائقها في التعين الثاني، وهو المرتبة الثانية، تحاورت الأسماء فيم بينهما، وطلبت ظهورها بظهور آثارها، سرياناً محبته الظهور فيها من الذات، فإن الأسماء في الحضرة العلمية لا آثار لها، فهي مؤثرة بالصلاحية والقوة، حينئذٍ فخالق ولا مخلوق، ورازق ولا مرزوق، ومصوّر ولا صورة، ورحيم ولا مرحوم، حقائق معطّلة التأثير. فأسماء الألوهة التي تطلب العالم، وإن كانت معاني قديمة بالنسبة إلى المسمّى تعالى ـ، وكان التعلّق لها نفسياً، فتأثيرها في مؤثراتها حادث. فلهذ نقول: إذا اعتبر الاسم من حيث المسمى تعالى كان قديماً، وإذا اعتبر من حيث الأثر كان حادثاً. فمن قال بقدمها مطلقاً، كبعض أهل السنة، أو بحدوثها مطلقاً، كالمعتزلة، أو فرّق بين أسماء الأفعال وأسماء الصفات، فما أصاب، بل هي قديمة عنده حادثة عندنا. وقد كانت أيضاً الأعيان الثابتة تمّيزت أعيانها في هذا التعين الثاني، فسرت فيها محبة الظهور، من حيث أنها علمه الذي هو عينه تعالى، فلجأت إلى الأسماء في ظهور أعيانها، فلجأت الأسماء إلى الاسم الجامع «الله» وذلك بالاقتضاء الذاتي. فسبب نشوء العالم طلب الأعيان، الطلب الاستعدادي، ظهور أعيانها من الأسماء، وطلب الأسماء من الاسم الجامع «الله» لسريان الميل الذاتي إلى الظهور في الأعيان والأسماء، لا سبق العلم كما يقول المتكلِّم، ولا أن الحق تعالى علّة كما يقول الحكيم. فتجلى الحق تعالى عند طلب الأسماء، بضرب من التجليات إلى الحقيقة الكلية، حقيقة الحقائق، فانفعل عنها حقيقة الهباء. وذلك أنه تعالى قسم ذاته قسمين، من غير تعدُّد في العين، فسمى أحد القسمين بالواجب القديم الربّ الفاعل، وسمى القسم الآخر بالممكن المحدث، العبد المنفعل، فأوّل ما ظهر من ذلك القسم الثاني محلٌ حكما، لأنه مكان متوهم، يقول فيه بعض أهل الله: «فلك الإشارات»، وهو المسّمى بالهباء، عند بعض أهل الله، و«بالنفس الرحماني» و«بالخيال» عند بعضهم وبغير هذا من الأسماء، لأن العالم متحيّز، ولابدّ له من مكان، ويتسلسل أو يدور أو ينتهي إلى محل حكمي لا يقال فيه خلق على الإطلاق لئلا يدخل في جنس العالم، ولا حق تعالى على الإطلاق لأن الحق ليس بظرف لغيره. كما أن غيره لا يكون ظرفاً له. فكان الهباء ظرفاً للعالم حكماً، كظرفية العلم للمعلومات، فإن المعلوم في العلم حكماً. ويسمى الهباء بالحق المخلوق، وتقيد الحق بالمخلوقية في هذه المرتبة من أجل ذلك الانقسام. فالهباء جوهر العالم، والعالم كله فيه بالصلاحية والقوة، مثّلوه بطرح البنّاء الجصّ ليفتح فيه ما شاء من الأشكال والصور، ملأ الله به الخلاء، وهو الفراغ المتوهم. ولما خلق الله تعالى الخلق التقديري خلقه جوهراً مظلماً معقولاً، فتجلى الحق عليه باسمه «النور» الوجودي فانصبغ بذلك النور، فاتصف بالوجود، بعد أن كان عدماً، فزالت عنه ظلمة العدم، فظهر الهباء، بعدما انصبغ بالنور الوجودي على صورة العالم، لأن الممكنات كلها ظهرت فيه ظهوراً غيبياً علمياً. فالهباء هو العالم البسيط، والعالم فيه هو الوسيط، والإنسان الكامل هو الوجيز، فالإنسان على صورة العالم، والعالم على صورة الهباء، والهباء على صورة الحق، باعتبار الظهور وبالعكس باعتبار البطون ظهر تعالى في الهباء بمعلوماته فهو محل الأعيان الثابتة. فإذ قال تعالى للممكن: كن، وهو ثابت العين في جوهر الهباء المسمّى بالعماء وبالخيال وبالهيولي عند الحكماء، وسمع الأمر بالسمع الثبوتي لم يتوقّف عن الوجود، فكان صورة في جوهر الهباء، بعد أن كان معلومات. ولما وجدت الصور في الهباء أعطته الوجود العيني بعد أن كان مع قولاً فهو الذي قبل أعيان العالم الثابتة وأرواحه وصوره وطبائعه، وهو قابل لما لا يتناهى. فإن مالم يدخل في الوجود لا يوصف بالتناهي، والأمر بالتكوين والوجود أمر للصورة، لأنَّ الأعيان الثابتة لم تزل ثابتة في عدمها. والصور أعراض مجتمعة، والوجود ليس إلاَّ له تعالى ـ. فالأمر بالتكوين هو المكوّن، اسم فاعل، والمكوّن، اسم مفعول، والتكوين؛ فهذا بدء العالم وجوهره فهو موجود من النور الوجودي، والحقيقة الكليّة، و الهباء.

فصل في المرتبة الثالثة 6

هو تنزُّل الذات إلى مرتبة الأرواح، مرتبة النكاح الثاني، وهي عبارة عن الاجتماع الواقع في عالم المعاني لتوليد الأرواح العالية: العقل والمهيمن. فإنَّ الأرواح العلية هيئات اجتماعية متحصلة من اجتماع جملة من أحكام الوجود، وهي الأسماء الإلهية و الحقائق الإمكانية. فتسمى المؤثرات: أحكام الوجوب، والقوابل المتأثرات: أحكام الإمكان. فلمَّا خرج الإذن الإلهي للأسماء بالظهور والتأثير توجّه كلُّ اسم إلى ما تقتضيه حقيقته، فكانت الموجودات الخارجية، التي أولها عالم الأرواح العالية والعقل الأول، ومن في مرتبته من المهيمين في الله، الذين ما عرفو أن الله تعالى خلق غيرهم ولا أنفسهم، وهم الكربيون (بالتخفيف) سادة الملائكة المقربين. بل ليسوا بملائكة، وإنما هم أرواح، والنفس وهو اللوح المحفوظ من العالين، وإن كان مخلوقاً بواسطة العقل الأول. وأما العقل الأول والمهيمون فمن غير واسطة. وهذه المرتبة يسميها بعض أهل الله «بعالم الملكوت» وبعضهم يسميها «بعالم الجبروت» وبعضهم يسميها «بعالم الأمر» لوجوده عن أمر الحق فقط من غير واسطة سبب غير الأمر، وهو قوله «كن» فما هو موجود عن مادة. وعالم الخلق كل موجود صدر عن مادة وسبب متقدم، كصدور الولد عن أبويه. وفي التحقيق الكل عالم الأمر كما قال تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾[الأعراف: 7/ 54].

غير أن عالم الخلق له وجهان: وجه إلى سببه الحادث العيني، ووجه إلى الأمر وهو سببه الغيبي، وعالم الأمر له وجه واحد. وحيث كانت حقائق الممكنات وهي الأعيان الثابتة صور الأسماء في المرتبة الثانية، التي هي التعين الثاني. والأسماء كانت شؤون الذات في المرتبة الأولى، التي هي التعين الأول، وتسمّى الحقائق هنالك «بالحروف العالية». وكانت حقائق الشؤون وذواتها تقتضي تقدم بعضها وتأخر بعضها، لأن بعضها شأن الذات بلا واسطة، وبعضها شأن الذات بواسطة، كالحياة فإنها شأن الذات بل واسطة، والعلم فإنه شأن الذات بواسطة الحياة، وإن كانا عند المحققين متلازمين، فإن كل حيّ عالم، كما أنَّ كلّ عالم حيٌّ، فالعالَم كلُّه حيَّ عَالِم، كان بعض مظاهر الحقائق الإلهية علة وبعضها معلولا، والعلة أقرب إلى الذات الوجود من المعلول. لذلك لما أراد الحق إيجاد الأعيان الخارجية، وكان ذلك بتجليه للأعيان الثابتة وظهورها في نور الوجود ظهور الصورة في المرآة، كان أوّل تجليه لأقرب المعلولات، وجعله علة وشرطاً لإيجاد كلّ مابعده من المخلوقات، وهو العقل الأول الذي هو الحقيقة المحمدية في الخارج، بمعنى أن العقل الأول مظهر الحقيقة المحمدية، التي هي الذات مع التعين الأول، وهي حقيقة الحقائق. وما بعد العقل الأول من المخلوقات إلى غير نهاية هو مظهر العقل الأول. ولهذا يقال: الحق تعالى ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته، وظهر فيما عداها بصفاته. وقد ورد في الخبر: ((أنا من نور ربي و المؤمنون من نوري)).

أي جميع المخلوقات من نوره، كما وردفي حديث جابر، الذي خرجه عبد الرزاق في مصنّفه. فكان العقل لما قدمناه ألطف الموجودات وأشرفها، لأنه ظهر في مرآة الوجود بلا واسطة، فصارت حقيقة العقل الأول التي هي الحقيقة المحمدية، كالحجاب على الوجود الذات، فكلٌ من ينظر بعده مرآة الوجود الحق فلا يرى إلاَّ صورة العقل. كم أن من ينظر في مرآة العقل لا يرى إلاَّ صورة النفس ومن ينظر في مرآة النفس لا يرى إلاَّ صورة الطبيعة. وهكذا إلى آخر السلسلة. فالعقل أوّل الحجب الكونية، لا بمعنى أنَّ الذات الوجود حل في حقيقة العقل، أو حقيقة العقل اتصلت بالذات الوجود، وإنم ذلك أنَّ الوجود الذات عندما يتوجه على عين من الأعيان الثابتة توجهاً خاصاً، وتوجهه عينه وعين ما توجّه عليه، تنصبغ تلك العين بالنور الوجود الذات، وينصبغ الوجود الذات بأحكام تلك العين، ونعوتها فيظهر من هذا الانصباغ ما يسمى: خلقاً وغير وسوى. وهذا الحجاب الأول لا يرتفع دنيا ولا آخرة، وهو الرداء المشار إليه في الخبر: [وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن]. وجميع إشارات الصوفية وتغزلاتهم متوجهة إليه. فهو المكني عنه بليلى، وسلمى، والكأس، و الخمر، والشمس، والبرق، والنور، والنار... وهو غاية سير السائرين، ونهاية السالكين. فإذا وصلوا إليها علماً وشهوداً وذوقاً، وصلوا إلى الإيمان بالغيب، وعرفو أنَّ الحق تعالى وراء ذلك، ومن أهل الرياضات والمجاهدات وتهذيب الأخلاق النفسية، ممّن على غير شريعة أو على شريعة منسوخة من يصل إلى شهود العقل الأول، فيظن أنه الحق تعالى ـ، وأنه ليس وراءه مرمى لرام، فيزداد ضلالاً ويجني وبالاً، لأنه ليس معه نور إيمان، وإنما معه نور النفس وخصوصيتنا، ولا تتجلى الأشياء على الحقيقة إلاَّ لذوي نورين وعينين. وكما قلنا في المثال المتقدم أنَّ الملك خرج متحجّباً بصورة وقال: هذه صورتي، خذوا عنها ما شئتم من الصور، فصورة العقل الأول هي أول صورة عينية شهودية ظهرت عن الصورة التي خرج الملك متحجّباً بها، وهي الصورة الغيبية الرحمانية، صورة التعين الأول، وهذه الصورة هي السارية في جميع ما يظهر من الصور أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى غير نهاية. فلو أ خذ عنها مثلاً آلاف ألوف من الصور إلى ما لا نهاية له لكانت الصورة المفروضة أخيراً، هي الأولى بعينها. وإنما الأوراق والأصباغ التي ظ هرت الصورة فيها التي تتجدّد وتحدث، كذلك يقال في العلم الإلهي: الصورة الرحمانية المفاضة على الممكنات هي واحدة في ذاتها لا تتعدد ولا تتجزأ ولا تختلف، وإنما الصور الطبيعية والعنصرية التي هي بمثابة الأصباغ والأوراق هي التي تختلف وتتجدد، فهو الأول الآخر، من حيث أن صورته غير وجوده، الذي هو عين ذاته، في كلّ ما يفرض وجوده من الممكنات التي لا نهاية لها، ولا غاية لها. فهو الأول الآخر من حيثية واحدة لا بالنسبة إلى كذا، لأنَّ أسماءه ليست بمتضادة. والذي اختص به الحق تعالى وبه عرف، هو الظهور بالضدين، وهذا ممّا غلط فيه المتكلمون، فإنهم جعلوا ما ورد في الكتاب والسنة من نحو قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد:57/ 3].
من وجهين مختلفين، وباعتبارين، وجعلوا للكمالات الثابتة له تعالى أضداداً ونقائص، مع أن تصور الضد والمنافي إنما يكون إذا كان المحل قابلاً، والحقُّ تعالى لا يقبل النقائص، فكمالاته لا منافي لها، فاعرفه، فإنه نفيس، وكما أنَّ الصورة التي ظهر الملك متحجباً بها هي صورته بلا شك فالملك ظاهر معروف من حيث الصورة. وكلُّ من عرف الصورة وشاهدها يعرف الملك ويميّزه ممن سواه. والملك من حيث نشأته وحقيقته باطن، م عرفه أحد، فهو ظاهر معروف باطن مجهول؛ كذلك يقال في العلم الإلهي الحق تعالى ، ظاهر باطن باعتبار واحد وجهة واحدة، لأن العالم صورة الوجود الذات الحق، فإنه تعيّن أسمائه، وظهور الأسماء هو ظهور الذات الوجود، لأنَّ الأسماء أمور عدمية معقولة غير مشهودة، والظهور وجودي، وبطون الذات عين ظهور الأسماء، لأن ظهور الأسماء هو عين ظهور الكثرة، وذلك مناف للوحدة الذاتية، فعين بطونه تعالى عين ظهوره. فهو الظاهر الباطن. فانظر ما أعجب هذا!! فيا خيبة العقل في حكمه على الله تعالى الذات المطلق!.

وكما أن آلة التصوير لا تظهر عنها صورة إلاَّ بالنور الشمسي، فإذا كانت الشمس محجوبة لا تظهر عنها صورة ما قابلها، كذلك يقال في العلم الإلهي: لولا النور الوجود الذات ما ظهر شيء من المخلوقات، لأنَّ المخلوقات ظل الحق تعالى ـ، ول يظهر الظل عادة وشهادة إلاَّ بنور وشاخص وشيء يظهر الظل فيها. فالشاخص مرتبة الأسماء، والذي يظهر الظل فيه أعيان الممكنات، والنور الوجود. فعندما يشرق النور على الشاخص يظهر الظل في أعيان الممكنات.

وكما أن الصورة لا تظهر بآلة التصوير إلاَّ في شيء قابل لارتسام الصورة فيه، مستعد لذلك، وهي الأوراق المصبوغة بالصبغ المخصوص والوضع المخصوص، وإلاَّ فل ظهور؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: لا يقبل الصورة الوجودية من الموجد تعالى ـ، إلاَّ الممكنات فإنها مستعدة متهيئة لقبول الوجود. وأما ما لا استعداد له للوجود ول قبول وهو المحال فلا يقبل الوجود، فلا يؤثر فيه المؤثر تعالى فعله الإيجاد، مركبة من الفاعل والقابل؛ فلو فرض عدم أحدهما لم يكن شيء.

وكما أنَّ الصورة إذا لم يُقابلها شيء يكون خلف آلة التصوير مستعد لأن يكون مظهراً للصورة، لا تظهر الصورة؛ كذلك يقال في العلم الإلهي: المتجلّي الإلهي لا يكون في غير مظهر معنوي أو روحي أو خيالي أو طبيعي أو عنصري، لا في الدنيا ول في الآخرة، فإن عدم المظهر عدم، والتجلي ظهوره؛ فالوجود الذات لا يدرك مجرداً عن المظاهر:

كالشمس يمنعك اجتلاؤك نوره

فإذا اكتست برقيق غيم أمكن

وقول أهل السنة المثبتين رؤية الحق تعالى في الدار الآخرة: أنه تعالى يرى بلا مظهر ول صورة ولا جهة ولا كذا ولا كذا... هو جار على التنزيه العقلي الذي هو خلاف التنزيه الشرعي. وقد نّزه الحق تعالى نفسه عن تنزيه العقول فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[الصافات: 37/ 159].

وقال: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: 37/159- 160].

وعباد الله المخلصين هم الذين نزهوه كما نزه نفسه على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ.

تتميم

ولما كثرت وجوه العقل واعتباراته كثرت أسماؤه، إذ كلُّ من قام به وصف اشتق منه اسم. منها «العقل الأول» عند قدماء الحكماء، لأخذه الوجود والعلم مجملاً بلا واسطة. فهو أوّل من عقل عن ربّه، وأوّل قابل لفيض موجده.

ومنها «القلم الأعلى» لتفصيله ما أخذه مجملاً في اللوح المحفوظ، فهو القلم من جهة التدوين والتسطير.

ومنها «الروح الأعظم» عند أهل الله. فهو الروح من حيث التصّرف و الإمداد، لكونه حاملاً للتجلّي الأوّل، ومنسوباً إلى مظهريته، ولغلبة حكم الوحدة والبساطة عليه. فإن الله خلق جوهراً بسيطاً لا تعدّد فيه ولا تركيب، بمعنى أنه ل يشبه المركبات الطبيعية أو العنصرية، وإلاَّ فكلُّ مخلوق مركب، له ظاهر وباطن. فالبسائط معقولة، لا وجود لها خارجاً، فالأرواح مركبة من حقائق إمكانية، ووجود حق، ولا صورة لهذا الروح، فلا يتميّز إلاَّ بالصور التي تحمله، وهو جامع لجميع التجليات الإلهية. ولمَّا تجلَّى له الحق علم جميع ما يظهر عنه من اللطائف والكثائف والبسائط والمركبات والجواهر والأعراض والأزمنة و الأمكنة إلى يوم القيامة.

ومنها «روح الأرواح» لأنه منشأ جميع الأرواح الكلية الجزئية.

ومنها «الإمام المبين» لأنه ظاهر بصفة كلّ شيء، ومفصل مبين لكل شيء، بظهوره في كلّ شيء، كما أظهر الحبر الكلمات والحروف.

ومنها «العرش» الذي استوى عليه الرحمن لأنه مظهر لجميع الأسماء،  من جمال وجلال، فاستوى عليه تعالى كما يعلم هو.

ومنها «مرآة الحق» لأنه تعالى شاء أن يرى ذاته ظاهرة له، فظهر بنفسه في صورة العقل الأول، فقامت له نفسه في صورة المغايرة مقام المرآة، من غير انفصال ولا تعداد، فظهر كل مافي الصورة الإلهية في تلك المرآة التي هي نفس الحق تعالى في الحقيقة، والعقل الأول في الخلق الأول، وحقائق العالم في حضرة التفصيل.

ومنها «الكلمة» لأنه صدر عن كلمة الحضرة، وهي «كن» وهي صورة الإرادة الإلهية والتوجُّه الإلهي، فصدر عالماً ب المعلومات التي لا تتبدل، كما قال: ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾[يونس: 10/64].وقال: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾[ق: 50/ 29].

ومنها «المادة الأولى» لأنَّه أوّل مخلوق تبين من الغيب، وتفصلّ منه جميع ما في العالم الكبير والصغير من جماد وحيوان ونبات وإنسان وملك وجبريل... وغيره من سائر الأرواح والملائكة.

ومنها «الفيض الأول» لأنه تعالى أبرزه من حضرته قبل كل شيء وأفاضه على عين كلّ شيء، فظهر كلُّ شيء ممتداً منه، بسبب فيضانه عليه.

ومنها «نفس الرحمن» فإنه تعالى: قال: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[الحجر: 15/29]، و [ص: 38/72].

والنفخ إرسال النفس على المنفوخ فيه، فهو روح كلّ صورة، جعل له تعالى مع كل شيء يخلقه وجهاً خاصاً.

ومنها «العقل الكلّي» و«العقل الكل» والفرق بينهم هو أنَّ العقل الكلي ماهيّته عقلية لها تعيّنات لا تتناهى بالقوة، هي لها كالمرايا، تظهر فيها كسائر الماهيات التي تظهر في جزئياتها. فالعقل الكلي صورة العلم في العقل. والعقل الكلُّ هو صورة العقل الكلي في التشخّص، لأن كل ماهيته لابدَّ أن يكون لها من جزئياته جزء هو شخصها الكبير، الذي اقتضاه الكلي بنفسه، فانحصر فيه بجميع خاصياته ومعانيه ولوازمه، فهو الحقيقة، و الجزئيات المحسوسات ظلاله. كآدم لماهيّة الإنسان، فإنه الشخص الكبير الجامع لجميع معاني هذه الماهية وخواصها. وكل ما سواه من أشخاص الإنسان ظلال لهذا الشخص، وبهذا تعرف أن العقل الكلّي موجود عينيٌّ متناه غير متحيز في مكان.

ومنها «الروح الكل» و«الروح الكلي» والكلام فيهما كالعقل الكلي والعقل الكل.

ومنها «مركز الدائرة» لأنَّ نقطة المركز تقابل بذاتها كلّ نقطة من نقط الدائرة، وليست هي من الدائرة. وكذلك هو، فإنه واحد بسيط يقابل جميع الصور والأجسام والجواهر، ويتلوّن بكل صورة، فهو الواحد الكثير.

ومنها «العقاب» لأنه يصطاد النفس ويخطفها من سفل هياكلها الظلمانية على عوالمها النورانية.

ومنها «الدرة البيضاء» لكونه أشدُّ الممكنات بساطة ونزاهة، فهو غير متلون، وقد و رد في خبر: ((أول ما خلق الله درّة فنظر إليها نظر هيبة، فسألت....)) الحديث.

ومنها «العدل» لأنه يعطي كلّ شيء خلقه واستعداده، ومن أعطى الأشياء استعداداتها وما تقتضيه حقائقها، وأعطى كلّ شيء خلقه، لا أزيد ولا أنقص، فعدل كل العدل.

ومنها «أمر الله» قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[الإسراء: 17/85].أي الروح أمر ربي، فـ «من» بيانيه، لأن الأمر هو ما صدر عن الحق بلا واسطة، فهو الروح.

وهو النور المحمدّي، كما ورد في الخبر الذي خرّجه عبد الرزاق: ((أَوَلُّ ما خلق الله نور نبيك يا جابر))، الحديث بطوله وورد في الخبر: ((إنَّ الله قبض قبضة من نوره، وقال لها كوني محمداً، فكانت)).

ولهذا من أسمائه قبضة النور.

فجميع ما تقدم من الأسماء، وارد عليه ومتوجّه إليه شخصاً وحقيقة، فإنه التعيّن الأوّل، إذ الأمر الصادر من حضرة الإطلاق، حيث لا ت عيّن، صدر بصورة النور المحمدي، فهو التعين الثاني باعتبار قيام النور المحمدّي بالأمر، والتعين الثالث باعتبار نزوله في عالم الخلق. فالمراتب ثلاث، وصاحبها واحد، فالحقيقة المحمدّية حقيقة الروح الأول، وهو حقيقة جميع الأرواح، فهو ظهور الحقيقة المحمّدية، وجميع الأرواح ظهوراته، والروح منزّه عن جميع النقائص الإمكانية ما عدا الوجوب بالغير. فمن لم يعرف، منزهاً عن النقائص، إلاَّ الحق تعالى فقد جهل الروح، ومع كون العقل الأول أشرف المخلوقات وأقربها إلى الحق تعالى ـ، لأنه خلقه من غير واسطة، فهو أجهل بالله من المصنوعات بصانعها، فإن المصنوعات بينها وبين صانعها مناسبة ما، ولو في الإمكان والحدوث.

والعقل الأول، الروح الكلُّ، ليس بينه وبين مبدعه مجانسة من وجه أصلاً، فهو لا يعلم من الحق تعالى إلاَّ وجوده، كما أن الذين دون العقل الأول، لا يع لمون من العقل الأول الروح إلاَّ وجوده، أما حقيقته فلا. فمن أين للمرآة معرفة حقيقة ذي الصورة، المتوجه على المرآة؟ ومن أين للظل معرفة ذي الظل الذي امتدَّ عنه؟! وهو يستمد من الحق تعالى ، ويمدُّ الخلق، ولا علم له بكيفية إمداد الحق ـ تعالى له، فإن الإمداد بالتجلي، والعلم بكيفية التجلّي من خصائص الإله. فإن العلم بكيفية التجلّي يقتضي الاتحاد في الإنية، واتحاد إ نّية الخالق بالمخلوق محال، وتقدم الكلام فيه، وعلم العقل الأول، عين ذاته، ماهو صفة له، وهو مجمل ينفصل بحسب التجليات. وإمداده لمن تحته في المرتبة ذاتي لا يوصف فيه بالمنع، فإذا أراد الله نفاذ أمر ما كان أول من يتلقاه من الحق تعالى العقل الأول، وهو يأمر غيره من الملائكة، فهم الجند له، مثل جبريل وميكائيل وسائر الملائكة، وعندما يأمر بأمر يخلق منه ملكاً لائقاً بذلك الأمر، فيرسله الروح لقضاء ذلك الأمرز ولم يكن بين خلق العقل الأول والحق تعالى زمان يتقدم به هذا ويتأخر به هذا فيقال: قبل وبعدن هذا محال. ولكن الوهم يتخيّل أن بين الحق تعالى وبين إيجاده الخلق امتداداً، وليس الأمر كذلك، وإنما تقدم الحق تعالى بالمرتبة لا ب الزمان، كتقدم أمس على اليوم. فإن الزمان من جملة المخلوقات، وعدم العالم لم يكن في زمان. والأولية المنسوبة للعقل الأول الأولية في المخلوقات، خلاف الأولية التي للحق تعالى . وقد جعل الحق تعالى للعقل الأول توجهاً خاصاً إلى كل ما يريد تعالى إيجاده. ويخلق تعالى عند التوجّه ماشاء لا بتوجّه العقل؛ فإنه يتعالى عن الشريك والمعين، فلا يخلق تعالى شيئاً بشيء، وإن خلق شيئاً لشيء؛ فتلك «لام» الحكمة، وخلقه عين الحكمة. «فالباء» في خلقه تعالى بالحق، بمعنى اللام، فليست للسببية ولا للاستعانة، ومن هنا يعلم غلط من قال في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾[الحجر: 15/ 85].

إن الحق المخلوق به عين موجودة، وإنما «الباء» بمعنى «اللام» كم قدّمنا.

إفشاء سر، وهتك ستر

نسبة الوجود إلى العقل الأول وغيره من سائر الممكنات، ممّا له ماهية عرض لها الوجود، ليس هو كما يقوله المتكلمون وجمهور الحكماء: أن الممنات له وجودات يخلقها لله تعالى لها، لكلّ ممكن وجود، و الموجودات موجودة في الخارج حقيقة؛ ولا أنها موجودات في الخارج ح قيقة بوجود م شترك بين جميع الممكنات، كما يقوله بعض قدماء الحكماء؛ وإنَّما معنى نسبة الوجود إلى كلّ ممكن، عند أهل الله، أهل الكشف و الوجود، أنه تعالى ـ، لما تجلت الأعيان الممكنات الثابتة في علمه تعالى ، لم تستطع أبصارها الثبوتية، النفوذ في النور الوجودي، فانعكست عليها، فرأت أنفسها وقد انصبغت بذلك النور الوجودي ، فعلمت أنفسها وغيرها، وانصبغ النور الوجودي بأحكامها ونعوتها؛ فتوهمت لذلك أنها وجدت خارج العلم، لظهور الوجود بأحكامها ونعوتها، وهي لم تخرج ولا تخرج أبداً. فلو خرجت خارج العلم كما تخيّلت، لانقلبت حقائقها، وقلب الحقائق محال، لما يلزم عليه من نفي العلم عن الحق تعالى . ولمَّا استحال على الأعيان الثابتة أن تظهر ذواتها، واستحال على الحق تعالى أن يظهر بذاته مجرداً عن المظاهر؛ تعين أن تكون هذه المسماة موجودات ومخلوقات، وإنم هي تجليات الحق تعالى ، بأحوال الممكنات ونعوتها، ليست عين الحق، ولا عين الممكن، ولا غير الحق، ولا غير الممكن، فعين ما ترى عين ما لا ترى، فالموجودات كالصورة في المرآة، ماهي عين الرائي ولا عين المرئي فيه، ولكن بالمحل المرئي فيه، وبالنظر للمحل ظهرت الصورة. قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾ فنفي، ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾[الأنفال: 8/ 17].فأثبت ما نفى ﴿ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 8/ 17]فأثبت لله ما أثبته لمحمد. فقوة هذا التركيب تعطي: ما أنت، إذ أنت، ولكن أنت اللهّ وغير خاف أن الصفات النفسية عين الموصوف كالحيوانية والنطق للإنسان. ولكل مخلوق صفات نفسية مالها ظهور إلاَّ في عين الموصوف، وهي معان لا تقوم بأنفسها، وهي عين الموصوف لا غيره. فإنَّ الموصوف مجموع صفاته النفسية. وما ثم ذات غيرها تجمع الصفات. فوصف الشيء بنفسه، وقام بنفسه، من حقيقته أنه لا يقوم بنفسه. فانظر ماذ ترى؟! فما هو إلاَّ الحق المسمى بالخلق، فليست صور العالم كلها إلاَّ كقوس قزح، واختلاف ألوانه كاختلاف صور المحدثات، فإنك تعلم أنه ماتمَّ متلوّن ولا لون، مع شهودك ذلك؛ كذلك شهودك صور المحدثات في وجود الحق الذي هو الوجود فتقول ثمَّ ماليس ثمَّ، لأنك لا تقدر أن تنكر ما تشهد وأنت تشهد، كما أنك لا تقدر أن تجهل ما أنت تعلمه، وأنت تعلم. فالمعلوف في هذه المسألة خلاف المشهود. فالبصر يقول: ثمّ، والبصيرة تقول: م ذمّ، ولا يكذب واحد منهما فيما يخبر. ومن هنا تعرف قول ساداتنا أهل الله: العالم كله خيال، لا يريدون أنه عدم محض، كما تقول السوفساطئية، أو أنه لا وجود له إلاَّ في الخيال المتّصل، كما توهم ذلك كثير من الجهلاء بطريق أهل الله، كابن خلدون في مقدمته للتاريخ الكبير، وأضرابه، فردَّ عليهم بجهل، وإنّما مراد أهل الله: أن العالم في حقيقة الأمر على خلاف ما تدركه مدارك الجمهور، فإن ظاهره خلق وباطنه حق، أو قل: ظاهره حق وباطنه خلق، فالعالم كالخيال الذي يجده كل عاقل من نفسه، فإنَّ لكل إنسان خيالاً، هو شعبته من الخيال الذي وجد فيه العالم، كما سنوضحّه. فإنك إذ أخذت عوداً مثلاً على طرفه جمرة، وحركته طولاً بسرعة ترى خطاً من نار، وإذا حركته دائرة ترى دائرة من نار لا تشك فيما أدركه بصرك. فإذا راجعت عقلك حكمت الأمر على خلاف ما أدركه بصرك، فلا وجود إذا لخط النار ودائرة النار إلاَّ في خيالك المتصل، ل في الخارج عن خيالك؛ وكذلك المسحور يدرك ببصره أموراً وصوراً لا يشك فيها ول يرتاب، ولا وجود لما أدرك إلاَّ في خياله المتصل، فإنَّ الساحر إذا أراد أن يظهر عند شخص أمراً ما أمسك الساحر ذلك الأمر في خياله المتصل، وخطف بصر ذلك الشخص الذي يريد سحره بخاصية اسم أو بخاصية نفسية اكتسبها برياضة، وردّ ذلك الشيء إلى خيال ذلك الشخص، فيراه في خياله كما هو في خيال الساحر، هذا في اليقظة؛ وكذلك النائم يرى أشياء لا تنحصر، وتكون حوله جماعة غير نائمين لا يرون شيئاً ممّا رأى، فل وجود لما رآه إلاَّ في خياله المتصل، فليست هذه المدركات معدومة من كلّ وجه، وإلاَّ لم تدرك، ولا موجودة من كل وجه، وإلاَّ لأدركها الحاضرون. والوجود الخيالي من أقسام الوجود. فسادة هذه الأمة الوارثون علوم الأنبياء يقولون: العماء الذي هو جوهر العالم، وفيه وجدت أجناسه وأشخاصه هو الخيال المنفصل. ويقال: الخيال المطلق، ويقال: الخيال المحقّق، بمثابة المرآة التي بسبب التوجه عليها ظهرت الصور الخيالية في المرآة، وظهور صور العالم فيه هي المتخيلات، وإنما سمّي بالخيال لأنَّ كلّ شيء ظهر فيه ظاهر، بخلاف ماهو عليه. فكلّ شيء وصف بالوجود فهو لا هو. فالعالم لا هو، والحق الظاهر بالصورة هو لا هو. فتحكم عليه با لجمع بين الضدين حكماً صادقاً، فلا يقال في العالم: أنه عين الحق، ولا غير الحق، بل الوجود كله حق. ولكن من الحق ما يتصف بأنه مخلوق، ومنه ما يوصف بأنَّه غير مخلوق. وأيضاً كلُّ شيء ظهر في الخيال، فهو إلى استحالة إمَّا سريعة وإمَّا بطيئة، فكلُّ ما سوى ذات الحق تعالى متخيل، فل يبقى شيء في الدنيا والآخرة وما بينهما ولا صور ولا أرواح ولا نفوس ولا أشخاص... ولا شيء ممّا سوى ذاته تعالى على حالة واحدة، بل يتبدّل من صورة إلى صورة دائماً أبداً، وليس الخيال إلاَّ هذا، فلو كان وجوداً حقيقياً ما تغّير ولا تبدّل لأنَّ الحقائق لا تتبدل. فما في الوجود الحقيقي الذي لا يتغير ولا يتبدل إلاَّ ذاته تعالى، وكل العالم في الوجود الخيالي. ومن حقيقة الخيال الحكم على كل شيء، من واجب ومستحيل وممكن، ولا يستحيل عنده شيء، يحكم في الأعراض والمعاني فيجعلها صوراً محسوسة قائمة بأنفسها، وفي أي صورة شاء ركّبها وجسّدها، ويريك الشخص الواحد في مكانين في آن واحد كما ورد في الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((مررت بموسى يصلي في قبره)).

لما وصل إلى السماء السادسة قال: ((فإذا أنا بموسى)).

وموسى شخص واحد، ومن هذا الخيال المقتول في سبيل الله؛ يراه المؤمن بعين إيمانه حياً يرزق يأكل ويشرب؛ ويراه غير المؤمن ميتاً ملقى. وكذلك سؤال القبر يأتي المحجوب إلى زيد الميت مثلاً فيقول: أراه ميتاً ساكتاً لا حركة له، فيأتي المؤمن فيقول له: كذبت، إنه قد أقعده الملكان وهو حي يسأل ويجيب، فيأتي العالم الربّاني صاحب الكشف فيقول لهما: إنما كلاكما صادقاً. فإنه أخبر عن إدراكه، وإدراكه صحيح من وجه، لأنَّ الخيال يجمع الضدّين، يجمع بين الوجود والعدم، والحركة والسكون، والموت و الحياة. فزيد الذي اختلفتما فيه هو حي ميت، متحرّك ساكن، ساكت متكلم، ملقى قاعد. وأقرب مثال يفهمك هذا ما يجده كل إنسان من نفسه فيما يراه في منامه من الأحوال التي لا تنحصر ولا تحصى، فالذي ينظر بالعين العوراء المحجوبة عن اللطائف أنكر سؤال القبر، وأوّل ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآيات كالمعتزلي. والذي ينظر بعين الإيمان المنوّرة اعتقد عذاب القبر تقليداً للشارع وجهل الكيفية. والذي ينظر بعينين ويمشي بنورين، وهو الذي كشف الله تعالى له عن أسرار الأخبار الإلهية و النبوية أثبت سؤال القبر وحياة المقتول في سبيل الله ونحو ذلك، وعرف الحقيقة والكيفية. والصورة المثالية قد تسري منها اللذة والألم إلى الصورة الحسية، لكون مدبرها واحد، فإن الإنسان يرى في النوم أنه يقاتل أو يخاصم أو يرى أسداً أو حيّة، فيقوم وبوادره ترجف وقلبه يخفق. وقد يجامع الإنسان في النوم ويقضي حاجته فيستيقظ وقد أمنى... وأمثال هذا كثير. وقد يأكل أو يشرب بعضهم في الخيال والواقعة فيرجع إلى حسه شبعاناً رياناً، وقد نقل غير واحد عن إمام الأندلس في زمانه، بقي بن مخلد أنه رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) سقاه لبناً في النوم، فاستقاء ليطمئن قلبه فقاء لبناً.

كنت مرّة في مجاهدة، فجعت وعطشت أشد جوع وعطش، فرأيت في أثناء ذلك أني أتيت بطعام ماذقت مثله في اللذة مدة حياتي، وسألت عمّن صنع ذلك الطعام؟! فقيل: فرح. فانتبهت وطعمة الطعام في فمي شبعاناً رياناً، وانتشرت آلتي من تلك الأكلة في الحين، وقد كانت مدة أيام ملتوية مثل الخيط. فا لخيال المتصل لا يستحيل فيه شيء، وهو شعبة من الخيال المنفصل، فأحرى الخيال المنفصل الذي هو الحضرة الجامعة، فهو حقيق أن لا يظهر فيه إلاَّ المستحيل، فلهذا كان يزيفه ويرمي به العقل، لولا أن الشرع قرّره وجاء بحكمه، يكثف اللطيف المطلق، ويلّطف الكثيف المطلق، فإنَّ الحق تعالى ـ يظهر فيه كثيفاً، فإنه يظهر متجلياً بالصورة الكثيفة، لأنه تعالى إذا ظهر في الخيال يظهر فيه إلاَّ بحقيقته الخيالية. ويظهر الكثيف المطلق لطيفاً كظهور الإنسان بصفات الحق، وليس إلاَّ الوجود الذات. وهذا الخيال المطلق العماء البرزخ الذي وجدت فيه الموجودات المتخيلات، كان معقولاً قبل إيجاد المخلوقات، وإنَّم الصور المتخيلات التي وجدت فيه أعطته الوجود، وإنَّما فهو أشبه شيء بالحقائق الكلية، بل هي أشبه شيء به، فإنها موجودة ضمن أشخاصها، وهو القول الحق. وهي من حيث هي حقائق كلية معقولة لا موجودة ولا معدومة. و الخيال المطلق المنفصل المحقق هو الوهم عينه، لا غيره.

وليس هو الوهم الذي يقول الحكماء: إنه قوة تدرك المعاني المتعلقة ب المحسوسات، كعداوة عمر وصداقة زيد، وإذا تحكم الخيال المطلق الوهم في إنسان وتسلطن واستولى عليه لا يبقى عنده شيء مستحيلاً عقلاً ولا عادة، فلا يحيل شيئاً في حق الحق تعالى ـ. وكلُّ شيء أحاله العقل في حق الحق تعالى فهو ممكن عنده. وجميع المتشابهات الواردة في الكتب الإلهية و الأخبار النبوية هي على ظاهرها لا يؤول شيئاً منها ولا يحيل شيئاً من المستحيلات عادة، كالطيران في الهواء والمشي على الماء والدخول في النار من غير حصول أضرار، والغوص في الأحجار والبحار، والنفوذ من الجدران والتصوّر بكل صورة من جماد ونبات وحيوان وإنسان وملك. فإنه يصير روحاً مجرداً لا تقيده صورته ولا صفة، فهو مطلق من جميع القيود، ونسبة جميع الصور إليه كنسبة صورته الخاصة إليه؛ فيؤثر في أي جسم أراد، بأي شيء أراد. فهو روح العالم جميعه، والعالم كله صورته. وإنَّما وصف الخيال بالمنفصل وبالمطلق، لأن الإنسان له قوّة في مقدم دماغه، صورتها كالدودة، يتخيل بها الأشياء، فتظهر في خياله المتصل، ل في الخارج عنه، وهو شعبة من الخيال المنفصل، ووجه من وجوهه، فالخيال المنفصل المطلق المحقق حضرة ذاتية قابلة دائماً للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها، فالصور التي تسمى في العرف العام محسوسات، وإنما هي أرواح متجسدة في الخيال المنفصل، كم تجسد جبريل لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولمريم (عليه السلام). فوجود الأجسام في الخارج مثل ظهور العلم في صورة اللبن. وليس الفرق بينهما إلاَّ أنَّ الأجسام الموجودة في الخارج تظهر في الخيال المنفصل، وهو العماء والبرزخ الثاني، والعلم يظهر في صورة اللبن في الخيال المتصل المقيد، وحقيقة الخيال فيهما واحدة، وليس الخيال المتصل المقيد بحضرة ذاتية، فإنه يذهب بذهاب المتخيّل اسم فاعل وهو على نوعين: منه ما يوجد عن تخيّل وهو ما يمسكه الإنسان في نفسه، في مثل ما أحسن به، أو ممّا صورته القوّة المصورة؛ ومنه ما لا يوجد عن تخيل، كالنائم ماهو عن تخيل م يراه من الصور في نومه. وهذه الشعبة والوجه من الخيال المطلق يكثف اللطيف المقيد، وهي المعاني المعقولة، فتظهر بصور متجسدة، كالعلم في صورة اللبن، والثبات في الدين في صورة القيد، والإسلام في صورة القيد، ونحو هذا، يلطف الكثيف المقيد فيظهر بصورة لطيفة روحانية، كالأجسام المحسوسة عندما تمسك صورها في مخيلتك، وبما ذكرناه تعرف الفرق بين عصا موسى (عليه السلام) عندما ظهرت حيّة تسعى، وبين عصا السحرة وحبالهم عندما ظهرت بصور حيّات تسعى، فعصا موسى ظهرت حيّة تسعى في الخيال المنفصل المحقق، فهي كسائر المخلوقات التي تتبدل صورها بأن يخلع جوهرها صورة ويلبس أخرى. وأمَّا حبال السحرة وعصيّهم فإنما ظهرت حيّات تسعى في الخيال المتصل، أعني خيال الحاضرين، فكانو يرونها حيات تسعى ولا وجود لما أدركوه بأبصارهم إلاَّ في خيالهم الخاص بهم، ممّ لا وجود له إلاَّ في خيال الحاضرين وأبصارهم. قال تعالى: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾[الأعراف: 7/ 116].

فظهرت حيّات تسعى في الأعين، لا في نفس الأمر، فهي في نفس الأمر حبال وعصي ساكنة؛ فلو فرض حضور شخص ما كانوا سحروه، لرآها حبالاً وعصياً ساكنة كما هي قبل ذلك.

مطلب:ويرحم الله والدي، كان كلّما رأى إنساناً تغير رأيه وتبدّل قوله لأمر طرأ عليه، يقول: الآن صار يدرس. فسألته عن ذلك؟ فقال لي إنَّ ساحراً كان يضع كوماً من البيض بالأرض، فإذا اجتمع الناس عليه سحر أعينهم وأراهم أنه يدرسه ويدوسه برجله ولا ينكسر منه شيء! ففعل ذلك يوماً كعادته، فحضر إنسان ما كان سحره الساحر، فقال للناس: ما جمعكم؟!.. فقالوا له: انظر أنه يدرس البيض ويدوسه برجليه، ولا ينكسر!! فقال: أنتم عميان،  إنما هو يدور بالبيض ولا يدوسه ولا يمسه برجليه، ففطن به الساحر، فسحره مثل الجماعة قبله، فقال: الآن صار يدوس، وأما قبل فإنما كان يدور بالبيض.

وأمَّا عصا موسى (عليه السلام) فلها وجود في الخيال المنفصل المحقق، الذي هو الحضرة الجامعة، وجميع ما ذكره القوم في كتبهم من: أرض السمسمة، سوق الجنة، وعالم المثال، والخيال المتصل... هي شعب من الخيال المنفصل، ووجوه من وجوهه.

تحقيق

ثم اعلم: أن الوجود الذي وصفت به الممكنات، ونسب إليها، ليس هو الثبوت ولا الحصول ولا التحقق، كما يقول المتكلم والحكيم، لأنها اعتبارات عقلية، لا وجود لها إلاَّ في الذهن، كسائر المصادر، وإنما هو عند الطائفة العلية، وجدان الشيء نفسه في نفسه، أو غيره في نفسه، أو في غيره. قال بعضهم الوجود مابه وجدان الشيء، وتحقيقه التحقق الذي له بالذات فهو محقق في نفسه، وكلُّ شيء إنّما تحقّق به، فتحقّق كل شيء به فرع تحققه هو في نفسه. وإنما سمي عند القوم «بالوجود العام، وبالوجود المشترك» لفيضانه على جميع الأعيان الممكنة، واشتراكها فيه: العقل الأول وما بعده إلى غير نهاية. فليس مرادهم بالمشترك والعام أنه كلي لا تحقق له في الأعيان، كما فهم ذلك من كلامهم سعد الدين التفتازاني وردّ عليهم، و الحكم على شيء قبولاً أوردا فرع تصوره، كما تصوّره القائل. فإنَّ الكلّي بالمعنى المتعارف بين أهل الميزان لا وجود له خارج الذهن. كما يسميه بعضهم «بالتجلّي الساري، في جميع الذراري»، كما يسميه بعضهم «بنفس الرحمن» نظراً إلى مما حصل بالوجود من التنفيس عن الأسماء الإلهية والحقائق الممكنة، وهو المسمّى «بالروح الكل» عندما تنزل إلى مراتب الإمكان، ولم يكن معدوماً ووجد، إذ الوجود لا يكون عدماً. ولو كان ممكناً لما كان بينه وبين الممكنات التي كساها الحق إياه فرق، فيتاح على وجود وتسلسل، أو يدور ويؤدي إلى محل، وهو أن لا توجد هذه الممكنات، وقد وجدت. ولا يصح أن يكون جوهراً ولا عرضاً ولا من المجردات، عند من أثبتها. قيل لي في واقعة: الأشياء ثلاثة: جواهر، وأعراض، وم لا جواهر ولا عرض. فالعرض معروف، والجواهر والأرواح، وما لا جوهر ولا عرض الوجود الحق، فإنه لو كان من الأعراض والجواهر أو المجردات لدخل تحت «كن» وهو منّزه عن الدخول تحت حيطة «كن» فهو وجه الحق المعبّر عنه بالوجه الخاص، الذي لكل مخلوق من الخالق تعالى، فهو روح الله وروح الشيء نفسه، فالعالم قائم بنفس الله (بفتح الفاء) ونفسه ذاته، فالوجود قائم بذات الله، فلكل شيء صورة، ولتلك الصورة روح، ولذلك الروح المخلوق روح إلهي قام به ذلك الروح، فمن نظر إلى الروح الإلهي القدسي في المخلوقات، قال: أرواحها قديمة، ومن نظر إلى ما ذكرناه قال: الأرواح مخلوقة حادثة، لانتفاء قديمين. فلكل مخلوق شكل هو صورته، وروح هو معناه وسرٌ هو روح روحه، وهو الوجود الذات الحق، ولا تفاوت في الوجود، فالوجود الذي به العرش المحيط موجود، و الوجود الذي به البعوضة وجود واحد، والاختلاف في الموجودات بالوجود الواحد راجع إلى اختلاف حقائق الممكنات وصورها وأمزجتها، فليس ذلك لاختلاف في الوجود، ولا أن ثمّة وجودات متعددة، فإنه أول ما صدر عن الواحد الحقيقي، ولا يصدر عن الواحد الحقيقي إلاَّ واحد. وصدوره ليس على طريق الخلق و الإيجاد من العدم، كما توهمه الكثير و الجم الغفير؛ وإنَّما ذلك على طريق الظهور من الغيب إلى الشهادة، ومن الإطلاق المحض إلى التقيد مع الإطلاق، ومن التجرد عن المظاهر إلى التعين بها، فهو أول ما ظهر من البطون، لا من العدم، فهو محدث عند من اتصف به، لا في نفسه كما قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾[الأنبياء: 21/ 2].

والذكر كلام الله، وكلام القديم قديم، فهو حادث عند من أتاهم لا في نفسه، فالحادث إتيانه وتنزيله. فإن قيل: إذا كان الوجود واحداً قديماً فما الفرق بين الوجود، والواجب الوجود لذاته، والوجود الممكن، مع وحدة الوجود فيهما؟! فالجواب: إن المرتبة التي يقتضي فيها الوجدان موجودة، حاصل له بذاته حصولاً لازماً هو موجود واجب. والمرتبة بما تقيد به من المظاهر، وتعين به من التعينات فهو مطلق أبداً لأنَّ الحقائق لا تنقلب. فالمطلق عين المقيد، وهو الذي ذكرناه في صدور الوجود عنه تعالى، هو أحد محتملات قول بعض سادة القوم: «ما صدر عن الواحد إلاَّ واحد» فذلك الواحد هو الوجود الذي كسا الحق تعالى الممكنات إياه، لا موافقة للحكماء في قولهم: «لم يصدر عن الواحد إلاَّ واحد » وهو العقل الأول عندهم. فإن مراد الحكماء بقوله: هذا الصدور على طريق الخلق و الإيجاد من العدم، وهذا باطل عند أهل الله. فإن صدور العقل الأول وغيره من الممكنات، إنما كان عن الفردية، وهي ذات وإرادة وقول. كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/ 40].

لا عن الوحدة الحقيقية. فأحدية الكثرة هي التي نشأ العالم عنها. وأم أحديّة الواحد فهي غناه عن العالمين، لأن الوحدة لا فرق بينها وبين الهوية وكمال الإطلاق ومرتبة الغنى عن العالمين، إلاَّ باعتبار حضوره لنفسه، المسمّى بالتعيّن الأول. فلا مناسبة بينها وبين الممكنات في فيضان الوجود. فالإبداع والخلق والإيجاد والتأثير والمبدئية... إنما كانت عن مرتبة الألوهية، للنسبة التي بين أعيان الممكنات والأسماء، فإنها الطالبة لظهور العالم وإيجاده.

لطيفة

الوجود الذي به الموجودات موجودة، لا يوصف بالوجود ولا بالعدم، من حيث ذاته. فلا يقال: الوجود موجود، فيتّصف بنفسه، وإلاَّ كان غير نفسه، فيجتمع النقيضان بأنه هو لا هو. ولا يقال: الوجود معدوم، فيتّصف بضده فيجتمع الضدان. فالوجود لا موجود ولا معدوم، كما لا يقال في البياض أبيض ولا أسود، لا يقال في هذا ارتفاع النقيضين، لأنا نقول: نعم، عمّا لا يقبلهما.

إقامة جدار لإخراج كنوز وأسرار

ثم أعلم أن في هذه المرتبة، أعني المرتبة العمائية الخيالية البرزخية، التي هي مرتبة اقتران الوجود الذات المنّزه عن التجزؤ والانقسام والحلول في الأرواح والأجسام بالممكنات، وشروق نوره على أعيان الموجودات يسمّى الحق تعالى بكل اسم من أسماء الممكنات، ويوصف بكل وصف، ويتقيّد بكل رسم، ويقبل كلّ حكم، ويدرك بكل حاسة من سمع وبصر ولمس وغيرهما من الحواس، والقوة الحسّية والعقلية والخيالية لسريانه في كل شيء محسوس ومعقول، ومتخيل بالنور الوجود البحت النزيه لذاته من غير حلول ولا اتحاد، لأنه بسبب التقييد والشروق على الأعيان يصير ظلاً لمرتبة إطلاقه، والظلُّ عين ذي الظل، و الوجود نور، والعدم ظلمة، فإذا انبسط النور على الأعيان في صورة الغيب المجهول، وهو الإطلاق الذاتي،  يقع له امتزاج فيصلح أن يدرك، لأنَّ النور المحض لا يدرك مالم يمتزج بظلمة، وكذلك الظلمة الصرفة، لا تدرك. فلابدَّ في الإدراك من النور و الظلمة،  أخبر تعالى بأنه عين كل شيء في قوله: ﴿يَ أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ﴾[فاطر: 35/15].

ونجد أنفسنا نفتقر إلى كل شيء من إنسان وحيوان ونبات وجماد، فجعل نفسه ـ تعالى عين ما يفتقر إليه كل مفتقر. وظهوره تعالى بالصور الممكنة واتصافه بصفاتها وتسميه بأسمائها لا ينافي إطلاقه وعزته ولا يضاد قدسه ونزاهته ووحدته وأحديّته فإنه تعالى من حيث هذه البرزخية الثانية، قابل الإطلاق والتقييد، والوحدة و الكثرة، والتنزيه والتشبيه، والوجوب والإمكان، و الحقيّة والخلقية... ومن هذه البرزخية جاءت الآيات والأحاديث التي هي خارجة عن طور العقل، ولا يقبلها إلاَّ بتأويلها وردها إلى مداركه، ويسميها متشابهات. فإنه تعالى ذكر في كتبه وعلى ألسنة رسله: أنَّ له عيناً وعينين وأعيناً ويدين ويداً وجنباً وقبضة، واستواء على العرض وإتياناً ومجيئاً، وأنه في السماء وفي الأرض، وله معيّة مع مخلوقاته أينم كانوا، وأنه يجوع ويعطش، ويعرى ويمرض، ويضحك، ويتبشبش ويبشبش، ويفرح ويرضى، ويغضب ويؤذي ويحارب ويتقرب إلى عبيده، ويسعى ويهرول، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا... إلى غير ذلك، ووصف العبد بالفعل والترك والعلم والإرادة والقدرة والحياة والإماتة و الإحياء... فإنها صفاته نسبها إلى عبيده، كما هو صريح حديث التقرُّب بالنوافل. كلُّ هذا من هذه البرزخية العمائية الجامعة للمرتبتين فكل ما ورد في الكتب الإلهية وعن المظاهر النبوية ممّا يعطي التشبيه فهو بحسب أحد وجهي هذه المرتبة البرزخية مرتبة التقييد وكل ما ورد من التنزيه فهو بحسب وجهها الآخر، مرتبة الإطلاق. فإن للحق مرتبتين: مرتبة إطلاق ومرتبة تقييد. ومنها جاءت الشرائع ونزلت الكتب وأرسلت الرسل... فاصرف ما ورد في الكتب والأخبار النبويّة من التنزيه المطلق، إلى مرتبة الإطلاق، واصرف ما ورد فيهما من التشبيه، على مرتبة التقييد، و الظهور بالمظهر، واعتقد التنزيه في التشبيه، والإطلاق في التقييد، تكن ربانياً كاملاً لا منزهاً فقط، ول مشبهاً فقط.

فصل بل وصل 7

في المخلوق الثاني من عالم الأرواح العالية، التي هي فوق الطبيعة، وهو النفس الكل.

ولما خلق الله تعالى العقل الأول وسمّاه قلماً، كما ورد في الخبر، ول يكون القلم قلماً بالفعل إلاَّ إذا كان له لوح يكتب فيه، وإلاَّ فهو قلم بالقوة والصلاحية، أوجد تعالى من العقل : «النفس الكل» وهو اللوح المحفوظ، وجوداً انبعاثياً، كإيجاد حواء من آدم (عليه السلام) فكانت من ضلعه القصيري، لا بمعنى أن الضلع صارت حواء، وإنَّما تكوّنت منها، كتكوُّن آدم من التراب، لا بمعنى أنَّ التراب صار آدم. فكان اللوح المحفوظ محلاً لما يكتب فيه هذا القلم الإلهي. وقد ورد في خبر أخرجه أبو يعلى الموصلي، بسند حسن: ((أول ما خلق الله القلم، ثم خلق اللوح، وقال للقلم اكتب، قال القلم: وما أكتب؟! قال الله له: أكتب وأنا أملي عليك)).

فخطّ القلم في اللوح مايملي عليه الحق، وهو علمه في خلقه الذي يخلق إلى يوم اليامة، فجميع ما يحدث عند الأسباب من الأشياء والعلوم فهو ممّا علّمه القلم،  وكتبه في اللوح، وهنالك علوم يهبها الله لمن يشاء من الوجه الخاص الذي له تعالى في النفس، وهو اللوح، وهو ملك كريمٌ، ذو صفتين، نصفه علم ونصفه عمل، فبصفة العمل تظهر صور العالم عنه، كما تظهر صورة التابوت وغيره من الصور عند عمل النجار، وبهذه الصفة يعطي الصور للعالم. والصور منها ظاهرة حسّية، وهي الأجرام والأشكال والألوان، وصور باطنة وهي العلوم والمعارف و الإدراكات. فبالصفتين اللتين للنفس، اللوح المحفوظ، ظهر ما ظهر من الصور. لأن الموجودات كلها منطبعة فيها انطباعاً أصلياً، جرى بذلك القلم الأعلى فيه، بإيجادها، فلا تقتضي الهيولي صورة إلاَّ وهي منطبعة في اللوح فلابدَّ من إيجادها، ولهذا يقول الحكماء: إذا اقتضت الهيولي صورة كان حقاً على واهب الصور إيجاد تلك الصورة. وإنم سمي لوحاً محفوظاً لحفظه من التبديل والتغيير.

فإن المكتوب فيه هو علم الله، وعلم الله لا يتغير، ومن جملة ما كتب فيه مايبدل ويغير في عالم الكون والفساد. فالذي كتبه القلم في اللوح على نوعين: نوع اقتضته الأسماء الإلهية بذواتها من غير واسطة، فهذا لا يتبدل ولا يتغيّر، ونوع اقتضته القوابل الإمكانية كالأمور الجارية على حسب العادة، فهذا قد لا يتبدل، ويجريه الله تعالى على العادة المعتادة، وقد لا يجريه، ويخرق فيه العادة المعتادة. ل يقال: اقتضاء الأسماء الإلهية هو عين اقتضاء القوابل، لأنا نقول: إنَّ بين م تقتضيه الأسماء بواسطة وبغير واسطة فرقاناً. وأيضاً من حقيقة الحقائق الإمكانية و الإمكان، وهو صحة الوجود و العدم، فكذلك ما اقتضته يصحُّ وجوده وعدمه، قال تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[الرعد: 13/ 39].

أخبر أنه يمحو ما يشاء محوه من لوح الوجود، مِمّا كان أُبته، إذ لا محو إلاَّ بعد إثبات ممّا له أجل محدود، أي يرده إلى أصله، وهو الثبوت في الغيب الذي كان فيه، ويثبت ما يشاء إثباته في لوح الوجود، ثم يمحوه إن كان ممّا له آجال محدودة، وهكذا على الدوام، فهو الخلاّق على الدوام، والممكن مفتقر على الدوام، والمحو والإثبات المتعاقبان على الممكن، إنما هما في الصور، وأمَّا الجواهر وهي الأرواح، فم أثبت منها لا يمحوه، وإنما تتبدّل عليه الصور. فكلُّ شيء من صور العالم هالك، ل من جواهره، فليس بهالك، ولا ممحو. وعلى هذا التأويل لا تعلق للآية باللوح المحفوظ، النفس الكلية، وعنده أم الكتاب، الضمير يعود على الاسم «الله» العلم على مرتبة الألوهة التي لها الإشاءة والمحو والإثبات، وإليها تنسب جميع الآثار المسماة بمرتبة العلم الأزلي الذاتي؛ والأم الذات، والكتاب مرتبة العلم التفصيلي، مرتبة الألوهة، فالذات التي هي مرتبة العلم الإجمالي، المتعلّق بما لا يتناهى مصاحبة الكتاب الذي هو مرتبة العلم التفصيلي. بل هي عينه، وهو مرتبة من مراتبها. فالذات أم، وعلمها الكتاب المبين، من حيث أن ما في الذات على الوجه الإجمالي الكلي هو في العلم تفصيلي جزء، كما أن القلم أمٌ، واللوح المحفوظ الكتاب المبين، من الحقائق الكونية، من حيث أن مافي القلم على الوجه الكلي الإجمالي هو في اللوح جزئي تفصيلي. فهي ظاهرة بعلمها، هكذا أخبرني ختم الولاية شيخنا محي الدين في الواقعة، قال في الفتوحات: «ما يكتب في اللوح المحفوظ لا يتبدل فلا يمحى بخلاف ما يكتب في ألواح المحو والإثبات المشار إليه بقوله: «يمحو الله ما يشاء» ومنها تنزلت الشرائع، ولهذ دخلها النسخ، وإلى هذه الألواح كان تردُّد محمد (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء في تحقيق الصلوات، ومنها وصف الحق تعالى نفسه بالتردُّد» أ هـ وعلوم اللوح نبذة من علم الحق تعالى ومع هذا لم ينقل أن أحداً أ حاط به، مع أنَّ علمه متناه.

ومن أسماء هذا الملك الكريم اللوح «النفس الكلية» لأنه متوجّه بالتدبير والتكميل لكل ما تفصل منه من الصور، فظهر بصور الموجودات الحسّية والمثالية المركبة و البسيطة. فنسبة النفس الكلية إلى كل صورة في العالم نسبة واحدة، ل تفاضل بينها. إلاَّ أنَّ الصور تقبل من ذلك بحسب استعداداتها التي هي عليها. ولأنه تعالى فنس بها عن القلم، إذ جعلها لوحاً لما يلقى إليه.

ومن أسمائه: «الروح المضاف» المشار إليه بقوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[الحجر: 15/29]، و [ص: 38/72].

فهي الروح المنفوخ منه في الصور المسواة، ولكل صورة تسوية تليق به وبمرتبتها، خيالية أو حسّية أو معنوية، فإذا سوّاها الحق تعالى توجّه عليه روح الحق، وهو المراد بالنفخ في قوله: «ونفختُ» فالنفخ عام في جميع الصور، كانت م كانت، من كل مايطلق عليه اسم صورة، حتى إذا مشت دودة أو حية في الرمل وكان من أثرها صورة، نفخ تعالى في تلك الصورة روحاً يحفظ عليها صورتها إلى أن يأذن الله بانعدامها فيفارقها روحها إلى صورة أخرى. فالروح له الإمداد، والنفس لها التدبير، تدّبر كل صورة بما قدّ{ لها أو عليها، تنصبغ في كل صورة بحسب مزاجها واستعدادها، كم أنَّ النفس الجزئية الخاصة بكل إنسان تنصبغ في كلّ عضو بما هو مستعدٌ له، فتظهر في السمع سمعاً، وفي العين بصراً، وفي الأنف شمّاً... وقس على هذا جميع الإدراكات الظاهرة والباطنة. فالعالم كله حامل، من حيث أنه صور، ومحمول من حيثأنه أرواح، فإذ كانت الصورة عنصرية ولم تظهر منها للعين حركة ولا إحساس سميت جماداً ومعدناً. وإذ كانت عنصرية وظهرت منها للعين حركة سميت نباتاً. وإذا ظهرت عنها حركة وإحساس سميت حيواناً. وإذا ظهرت عنها حركة وإحساس وعقل وفكر وتصوير سميت إنساناً. وإذا كانت الصورة معنوية معقولة، فإنها ظهرت عنها حركة معنوية سُميت نُورَ علمٍ، فإن لم تظهر عنه حركة معنوية سميت عملاً. والصورة مطلقاً هي ظل النفس في جوهر الهيولى، والنفس ظل الروح، والروح ظل الحياة، والحياة هي اقتضاء الوجود الحق للإدراك والفعل. فالوجود هو صاحب الحياة و الروح والنفس و الصورة بالحقيقة، وذلك للشخص بالمجاز. وصورة كلّ شيء مابه يتعيّن ويقع عليه الإدراك، أيُّ إدراك كان. فالصور الحسية، هي صور الأرواح، والأرواح صور الأعيان الثابتة، والأعيان الثابتة صور الأسماء الإلهية، والأسماء الإلهية صور الذات الغيب المطلق.

ومن أسمائه: «كل شيء» وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 7/145].لأنه قبل ما نقشه القلم الأعلى فيه فصار متضمناً للكلم القولية والفعلية، مفصلة من كل ما يدخل في الوجود إلى يوم القيامة.

ومن أسمائه: «الكتاب المبين» وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾[الأنعام: 6/59]،  لأنه تنّزل وظهر متصوراً بكل صورة: عرشاً و أرضاً وأفلاكاً، وما فيها إلى آخر صورة.

ومن أسمائه «الكوكب الدري» نسبة إلى الدرة البيضاء، وهو العقل الأول.

ومن أسمائه الزمردة سمي بذلك لأن نوره مشوب بسواد الطبيعة التي هي بنت النفس، لأن الطبيعة نشأت من النفس الكل.

ومن أسمائه «العرش العظيم» فإنَّ النفس عرش العقل الأول، ومن أسمائه «الذكر» كما في صحيح البخاري: ((وكتب في الذكر كلّ شيء)).

فصل 8 (مرتبة الطبيعة)

ثم بعد ما أوجد الله تعالى الأرواح العالية إيجاداً عينياً شهادياً؛ عين الله تعالى مرتبة الطبيعة، ثم عيّن بعدها مرتبة الهباء، وهو المسمى بالهيولى في اصطلاح الحكماء. ثم عين تعالى بعدها مرتبة الجسم الكلّ، ثم عين الشكل الكل. وهذه الأربعة يطلق عليها اسم الخلق التقديري، لا الخلق الإيجادي، فإنه غير موجودة في أعيانها، وإنما هي أمور كلّية معقولة كالأسماء الإلهية. ومعنى قولن في هذه الأربعة: أنه تعين كذا ثم كذا؛ أنه تعالى لو أوجدها في العيان لكانت هذه مراتبها مرتبة كما ذكرناها. فأما الطبيعة فإنها أوّل ما تعيّن، بعد النفس الكلّية، اللوح المحفوظ، وهي عند أهل الله، على غير ما هي عليه عند علماء النظر من الحكماء. فهي حقيقة إلهية فعّالة للصور جميعها من كلّ ما يقال فيه عالم. فهي أحقُّ نسبة بالحق تعالى ممّا سواها، فإن كلّ ما سواها ما ظ هر إلاَّ فيما ظهر منها، وهو النفس الرحماني، وهو الساري في صور العالم، إلاَّ أن يكون مراد من جعل مرتبة الطبيعة تحت النفس الطبيعة التي ظهرت في الأجسام: العرش ومافي باطنه؛ فتكون هذه الطبيعة الكبرى العليا. وهذه النسب مرتبطة بالأجسام من حيث ظهور حكمها فيها وبها، لأنه لما كانت الصور الجسمية هي أظهر الصور للمدارك صارت الطبيعة إنّما تطلق على الطبيعة الجسمانية. وإنما سميت بالطبيعة لأن فعلها طبيعي لا علمي، فإنها غير موصوفة بالعلم، وفعلها بعلم النفس، وهي لا علم لها بما يصدر عنها، إذ الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة، التي هي مجموع ما سمي بالطبيعة، أعراض تقوم بالأجسام بأنفسها، وهذه الأربعة مستندة إلى الأسماء الأربعة التي قام الوجود كله بها، وهي الحي العالم المريد القائل، كما أنَّ الأركان الأربعة: التراب والماء والهواء والنار، مستندة إلى أركان الطبيعة الأربعة. فالطبيعة أمر كلي عقلي، لا عين لها في الخارج الحسي و المثالي كسائر المراتب، وبهذا تعرف أنَّ الطبيعة عند أهل الله المحققين أعلى من جميع العالم. فإنها حقيقة إلهية فعالة، تفعل الصورة الأسمائية الإلهية الوجودية بباطنها، وهو أحدية الجمع، ومادة هذه الصورة الأسمائية وهيولاه العماء؛ وتفعل الصور الروحية: العقل الأول والمهيّمين والنفس الكلية وعالم المثال، ومادة هذه الصور النور؛ وتفعل الأجسام غير العنصرية كالعرش والكرسي والأطلس والكوكب ومادتها الجسم الكل؛ وتفعل صور جميع ما حواه العرش إلى غير نهاية، ومادته معروفة. والظاهر في الأجسام آثار الطبيعة لا عينها، كالأسماء الإلهية تعلم وتعقل وتظهر آثارها، ولا عين لها في الخارج، فالطبيعة ظاهراً أمر الله، وأمر الله باطنها. وفي هذه المرتبة تعين النكاح الثالث الطبيعي الملكوتي، وهو توجّه الأرواح العالية بما سرى فيها من أحكام أسماء الألوهة بذواتها، دون أحكام مظاهرها المثالية في مرتبة الطبيعة إلى إيجاد عالم المثال والأرواح الملكية، عماد السموات والأرضين.

 

فصل 9 المرتبة الرابعة

في المرتبة الرابعة من المراتب الكلية، وهي مرتبة عالم المثال الخيال، وهي الصور الجسدية الخيالية البرزخية المركبة من الأجزاء اللطيفة، التي لا تقبل الخرق والالتئام، بمعنى انفتاح خرق فيها وسدّه، كما هو ذلك في الأجسام العنصرية، فهي في حقيقتها أجسام نورانية شعاعية، تنفذ في الأجسام نفوذ الشعاع البصري و الشمسي في الأجسام الشفافة، ولكنها تظهر للمدارك ظهور الأجسام الكثيفة. تظهر في هذه الصور المثالية الأرواح الملكية النورية والأرواح الجنية النارية، والجن في اصطلاح سادتنا كل روح ناري أو نوري ظهر في جسم متجسد، وقد يعرف بآثاره. فكل صورة يظهر فيها الروحاني من ملك وجان، وكل صورة يرى الإنسان نفسه في النوم فيها، والصور التي تنتقل إليها أرواحنا بعد الموت، فهي من صور هذا العالم، وكذلك أرض السمسمة التي ذكرها أكابر القوم هي من هذا العالم، لها من هذا العالم محل مخصوص من الخيال المنفصل، الذي هو العماء، والصور المثالية كلّية، إلاَّ أنها محسوسة، كما ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي: أن في سوق الجنة صوراً، وكلُّ من استحسن صورة منه لبسها، وهي باقية في محلها لا تزول، ولو استحسن صورة واحدة أَلْفَ إنسان مثلاً لبسها وهي باقية على حالها لا تنقص ولا تتغير. كذلك هذه الصورة المثالية لو أ راد أَلْفَ ملك أو آلاف من الملائكة الظهور بصورة دحية المثالية مثلاً، لظهروا بها في آن واحد، وهي على حالها لا ينقصها ذلك شيئاً. وهذا من بعد عجائب عالم المثال الخيال، الذي أثبته الكشف و النقل، ونفاه النظر و العقل، وكذلك ما تصوّره القوة المصورة التي بكل إنسان،  القوة المصورة التي بكل إنسان، هو من صور هذا العالم، إذ كل صورة يصورها ا لإنسان في خياله المتّصل به لها وجود في هذا العالم. فلا يمكن أن يصوّر إنسان في خياله شيئاً ل وجود له أصلاً، فإن الأرواح الإنسانية لها التصور بكل صورة، لكن في الخيال المتصل لغير الكمّل، ولو أدرك الإنسان ما تتصور به روحه، وتشكل خ ارج خ ياله لأدرك أمراً مهولاً.

ومن هنا سمّي التصور الذي هو أول مراتب وصول العلم إلى النفس تصوراً، لأن روحه تصوّرت بما أدركته نفسه. فكلّما أرادت النفوس شيئاً تصورت به لها أرواحها. إمَّا في الخيال المتصل وهو للعموم، وإمّا في الخيال المنفصل وهو للخصوص من الأكابر. ولهذا كانت النفوس الزكية كلما توجهت إلى علم شيء تصوّرت به لها أرواحه فأدركته، إلاَّ ما شاء الله من العلوم. وأمَّا الكمل من الرجال الذين كملت إنسانيتهم، وتحكم فيهم الخيال المنفصل، فكملت فيهم قوة الوهم، فإنه عين الخيال؛ فإنهم يخلقون ما شاؤوا من الصور خارج الخيال المتّصل، صوراً محسوسة قائمة بأنفسها، يكلمّونها وتكلّمهم، وتبقى ما شاؤوا بقاءها، بشرط أن يحفظوها في مراتب الوجود الروحي والمثالي و الحسي، فإذا غفلوا عنها انعدمت. وهذه الأرواح النورية والنارية المتجسدة قد لا يراها من يراها بعين الخيال، وقد يراها بعين الحس، و كلا الإدراكين في العين الواحدة. وبين الإدراكين فرق: فإذا رأى الرائي الصورة وأدام النظر إليه ورآها تختلف أحوالها وأشكالها فليعلم أنه رآها بعين الخيال. وإذا رآها لا تختلف عليها الأحوال والصفات والأشكال، بأن تكون على حالة واحدة، فليعلم أنه رآها بعين الحس، وقد كان جبريل يأتي في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، فيراه (صلى الله عليه وسلم) بعين الخيال فيعرفه، وتراه الصحابة بعين الحس، فلا يعرفونه إلاَّ دحية أو أعرابياً،  فالصورة صورة دحية المثالية، بصورته العنصرية الحسّية، في مكانه الذي هو فيه وفي النفوس الإنسانية خاصّية، وهي أنه إذ أدرك الإنسان روحاً متجسداً ملكياً أو جنياً وقيّده ببصره، وأدام النظر إليه بحيث لا يفتر، فلا يستطيع الروحاني أن يتحرك، مادام الإنسان مقيداً له بالنظر إليه. وعندما يتشكل الروحاني مطلقاً بصورة حيوانية أو إنسانية يُعْطَى حكم تلك الصورة، فيجوع ويعطش ويبرد ويسخن وهكذا في جميع خواص الصورة التي تشكل بها لحكم الصورة عليه، وإنم سمّي بعالم المثال لأنه حاو لمثال كلّ شيء، ولأن الأشياء تظهر فيه ممثلة ماهي عين الممثل له ولا غيره، كما في المرائي المنامية، فإنَّ الله تعالى إذا أراد أن يري أحد أن يري أ حد من عباده شيئاً من المغيبات الموجودة أو المعدومة كشفاً أو مناماً أراه ذلك بهذه الصور المثالية. فإنَّ صوره محيطة بكلّ ما يعلم، فكلُّ م يراه المكاشف في يقظته من نبيّ وولي ومرتاض، ولو على غير شرع مشروع، والنائم في نومه، فهو من صور هذا العالم المثالي الروحاني. فالمرئي لا يكون إلاَّ ممثلاً، لأنه قد يرى أشياء معدومة ما دخلت في الوجود، وإنما توجد في ثاني حال. والرائي إن كان ما رآه في النوم فإنه لا يرى إلاَّ بعين الصورة المثالية الخيالية التي لبسته روحه. وإن كان من أهل الكشف في اليقظة فقد يرى ما مثل له بعين الخيال. وقد يراه بعين الحسّ كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، تقدم وتأخر فَسُئِلَ عن ذلك فقال:

((مُثِّلَت لي الجنة والنار عرض هذا الحائط)) الحديث.

فإنه لو أدرك ذلك بعين الخيال ما أثّر فيه التقدم والتأخر، فإنَّه أقوى من ذلك. وهذا هو المعروف عند الحكماء والمتكلمين «بالمثل الأفلاطونية» فإنَّ الله كشفه لهذا الإمام الإلهي، وأنكر ذلك المتكلمون قاطبة،  حتى قال سعد الدين التفتازاني، عندما ذكر المثل الأفلاطونية: «لما كانت الدعوة عريضة، والحجة ضعيفة، لم يشتغل المحققون بردّه».

وأما تسميته بالبرزخ، فإنَّه برزخ بين المعاني، التي لا أعيان لها في الوجود الخارجي، وبين الأجسام النورية والطبيعية والعنصرية، فالمحسوسات تعرج إليه والمعاني تنزل إليه، فتظهر بصورة برزخية جسدية خيالية، فيكسو المعاني المجردة عن المواد أجساداً ويشكلها ويصوّرها؛ هو جسر باطن بين المعقول والمحسوس، كظهور العلم في صورة اللبن الكثيفة، وظهور الحق تعالى في النوم في الصور الطبيعية و العنصرية، فيراه الرائي ولا يشك أنه رأى الله ويعبرها المعبّر بما عنده من علم التعبير. وكظهور جبريل في صورة دحية، وظهور الملائكة في صور الذر يوم بدر، وقد قدّمنا أنَّ الله تعالى أوجد الأ رواح الملكية في مرتبة الطبيعة بعد خلق عالم المثال.

فصل 10.

في الأرواح الملكية عمار العرش والسموات والأرضين، ثم بعد ما أوجد الله العالم المثالي توجّهت الأرواح العالية من حيث مظاهرها المثالية، إلى إيجاد الأرواح الملكية في مرتبة الطبيعة. فكل الملائكة طبيعيون داخلون تحت حكم الطبيعة. وكذلك ملائكة الأجسام العنصرية عنصريون طبيعيون. والأرواح موجودة قبل الأجسام في الغيب دون الشهادة، وجوداً متداخلاً كوجود النخلة في النواة، والسنبلات في الحبّة الواحدة، والحروف في الحبر الموضوع في الدواة. فهي متميزة للعالم بها تعالى ل لأنفسها حينئذٍ. والروح الكلّي واحد، ومنه تتعيّن الأرواح وتتميز تميزاً شعاعياً لا يتصل ولا ينفصل فهي غير منقسمة بل ذات واحدة. ويتميّز بعضها عن بعض بحسب الصور و استعداداتها، من تدبر الروح الكلّ. وانظر إلى الشخص الواحد الجالس وسط مرائي متعدّدة متخالفة الأشكال، كيف يظهر في كل مرآة بحسب شكلها رقة وغلظاً، وطولاً وقصراً واعوجاجاً واستقامة... إلى غير ذلك من الصفات، فإنَّ المدّبر (اسم فاعل) على صورة المدبر (اسم مفعول)، فالروح واحد. ولم يرد في الكلام القديم إلاَّ مفرداً، وهو أرواح كثيرة بعدد الأجسام والصور التي يدبّرها. فمن قال العالم كله له روح واحد يدبره أخطأ، وإن أصاب من وجه، فالصور بمثابة المرائي للروح، كلما قابلته مرآة، أي أوجد الله صورة ارتسم فيها، وانطبع بحقيقته على ما يليق به، لا يتجزأ ول يتبعض ولا ينقسم. فبهذا المعني، تعدّدت الأرواح، فلهذا الأرواح لا تعرف نفسها إل في صورة ومركب. فإذا انعدمت الصورة الطبيعية على الفَرض، أو العنصرية، انتقلت إلى صورة مثالية خيالية برزخية. فإنَّ الأرواح لا تنعدم بعد الإيجاد. ومن خواص الأرواح عدم التحّيز، فلا مكان لها يحصرها، وإن كانت من العالم المخلوق، فهي ل داخلة في العالم ولا خارجة عنه. فليست الصور بأبنيات ومحال للأرواح، والأرواح كله سواء في هذه الخاصية، ملك وجن وبشر، وغيرهم. إلاَّ أنَّ الصور العنصرية كالمُلْكِ لأرواحها في التصريف، وغير العنصرية كالمظاهر لأرواحها. فكلمّا أكمل الله صورة وسواها نورية أو عنصرية تجلى لتلك الصورة، فيتكوّن عن التجلي والصورة روح تناسب تلك الصورة، وأمدّها بتدبيرها. والأرواح كلّها موجودة عن العقل والنفس. وهي من حيث ماهي أرواح أقسام ثلاثة: قسم مقيد بعدم المظهر، لا ط بيعي ولا مثالي ولا عنصري، وهي الأرواح المهيمة في جلال الله، فلا يشعر أحد منهم بنفسه فضلاً عن غيره، ولا يسمون ملائكة، وهم المعروفون عند الحكماء بالجواهر المجردّة. وقسم مقيد بالمظهر، وهم صنفان: صنف يضاف المظهر إليهم، لا هم إليه، وهم عمَّار السموات والأرضين، الذين تضاف الآثار والأفعال إليهم، وهم موجودون قبل السموات والأرضين، وهم المسخرون الوكلاء على ما يخلقه الله تعالى ـ، فوكّل بالأرجاء الملائكة المسماة بالزاجرات، وبالأخبَار المرسلات، وبالإلهام الملقيات، وهي التي تلقي العلوم والخواطر بما شاء الله. وبالتفصيل المقسمات، وبالتشتيت النازعات، وبالأحكام المدبرات، وبالسوق السابحات، وبالترغيب والترهيب الناشرات، إلى غير ذلك، من الأصناف التي لا يحيط به إلاَّ الله تعالى ـ، وآخر صنف من الملائكة، المخلوقون من أعمال العباد وأنفاسهم. والصنف الثاني من هذا القسم يضافون إلى المظهر، بمعنى أنهم لا يتعيّنون في الخارج إلاَّ بعد تسوية المظهر، كالأرواح الإنسانية المضافة إلى صورها. والقسم الثالث ل يتقيدون بالمظهر وبعدمه، فلهم أن يظهروا حيث يشاءون. وهم الرسل السفراء بين الله وبين خلقه. والتصوُّر بالأشكال المختلفة ذاتي للأرواح، من غير أن تكون لها قوة مصورة مثل الإنسان. فإنَّ الأرواح عين الخيال، وهي إن كانت أجساماً فهي نورانية، تنفذ في الأجسام نفوذ الشعاع البصري في الأجسام الشفافة. وقد ورد في الصحيح: «أن للملك لمة وللشيطان لمة»، يعني في القلب. الحديث. أخرجه الإمام أحمد. وورد أيضاً أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو ينفذ في جسم الإنسان حقيقة، لا كما يقول أهل الحجاب، أنه تمثيل وتخييل، إلاَّ العقل الكل والنفس فإنهما لا يتشكلان ول يتصوران لأنهما فوق الطبيعة، ولا علم لهما بصور الأشكال الطبيعية، فلا يشهدان صور العالم، وإن كان النفس الكلّي يعطي الإمداد بذاته لعالم الطبيعة، من غير قصد، كم تعطي الشمس المنافع من غير قصد. فالعمل والعلم المنسوب إلى النفس هو نسبة ذاتية لها، كما ينسب التبييض إلى الشمس، والإحراق إلى النار، هكذا قال إمام أهل الكشف محي الدين، والصور التي يتصوّر بها الروحاني من: ملك، وجنّ، وإنسان متروحن، ماهي غير الروحاني، ولو كان في ألف شكل مثلاً، وفي ألف مكان، فهو هو. وينسب الروحاني إلى أوّل صورة خلقه الله عليها، ثم تختلف عليه الصور حسب إرادته، كما ورد في الصحيح: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل أن يظهر له في صورته))، فرآه صلى الله عليه وسلم قد سدَّ الأفق وله ستمائة جناح، وكان يأتيه مرة في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وتارة في صورة أعرابي، وفي غير ذلك، وإذا اتفق موت الصورة التي تشكل بها الروحاني، وماتت في ظاهر الأمر انتقل ذلك الروحاني إلى البرزخ. فهذا معنى موت الروحاني، وسواء في ذلك النوراني والناري؛ فإن من الملائكة من يموت هذه الموتة، فقد ورد أن علة تحريم إخراج الريح في المسجد هي أنَّ الملك يلتقم الريح الخارج من الإنسان، ويخرج بها من المسجد، فيموت لذلك. وذكر بعض سادة القوم أنَّ علة تحريم اللواط، هي أن النطفة إذا نزلت من الإنسان، نزل معها عدد كثير من الملائكة، فإذا وقعت في غير محل الزرع، مات أولئك الملائكة، فإذا وقعت في محل الزرع، وتكوّن عنها إنسان كان أولئك الملائكة من جملة الملائكة الموكلين بذلك الكائن. فإن لم يتكوّن عن النطفة شيء مات أولئك الملائكة؛ وليس على الفاعل إثم، فإنه فعل بإذن، إذْ كان الفعل حلالاً. فإن كان حراماً فعلّة حرمة الزنا شيء آخر. فالجن تشارك الملائكة في كثير من الأحكام، من حيث أنها أرواح غير متحيّزة، غير أن الملائكة عقول منفوخة في أنوار، والجان عقول منفوخة في مارج من نار وهواء، كما في الصحيح: ((إنَّ الله خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم ممّا قيل لكم)).

وسنتكلم إن شاء الله على الجان، عندما نصل إلى مرتبة إيجاده. والصورة التي يتصوّر بها الروحاني، ويظهر فيها، تحكم عليه حين تصوُّر بها، فإذا تصوّر بصورة أسد زأر وافترس، أو بصورة حية أنساب ولدغ، أو بصورة عجل خار ونطح، أو بصورة طائر طار وصوت، أو بصورة إنسان حصل له ومنه ما يحصل للأرواح الإنسانية، سواء في ذلك الأرواح النارية والنورية، ففي صحيح البخاري: إن جبريل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح خيبر وقال له: ((إنك وضعت سيفك ونحن ما وضعن أسيافنا. وقد عصب الغبار رأسه))، ولولا حكم الصورة ما حمل السيف في عنقه. وقد ورد : أن جبريل وميكائيل بكيا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلولا حكم الصورة م صحّ البكاء منهما. وإذا كانت الصورة تحكم على الحق تعالى فيسمى بأسمائها، وينعت بنعوتها، ويحكم عليه بأحكامها فكيف بالأرواح؟!..

فصل 11 (في مرتبة الهباء أو الهيولي)

ثم تعيّن بعد مرتبة الطبيعة مرتبة الهباء، وتسمّيه الحكماء الهيولي، وهو كالطبيعة لا وجود له إلاَّ في العلم، ولو أوجده الله خارجاً لكانت هذه مرتبته. وبعض الحكماء جعل مرتبته قبل الطبيعة ودون النفس الكل. وحقيقة الهباء جوهر منثّ في جميع الصور الطبيعية و العنصرية البسيطة والمركبة، لا تظهره إلاَّ الصور، ولا تخلو منه. إذ لا تكون صورة إلاَّ في الجوهر. وهو مع كلّ صورة بحقيقته، لا ينقسم ول يتجزأ، ولا يتبعّض ولا يوصف ب النقص، فهو كالبياض الموجود في كل أبيض بذاته وحقيقته، فلا يقال: نقص من البياض قدر ما حصل منه في هذا الأبيض،  والقول في الهباء عند المحققين من أهل الله كالقول في الطبيعة. وأنه ليس هذه مرتبته، وإنَّما مرتبته التقدم على الكلّ، فإنه أعلا الكل، لأنه الحقيقة الكلية، حقيقة الحقائق التي سبق الكلام عليها، تسمى هناك هيولى الهيولات، وهيولى الكل، والهيولى الخامسة،  وقد بيّنا ذلك، فهو الجوهر الذي يقبل كل صورة بجوهره، والمدرك الصورة لا هذا الجوهر، ولا تقدم صورة إلاَّ في هذا الجوهر المعقول، فكلُّ موجود معقول بالنظر إلى ما ظهرت فيه صورته. وقد ذكرنا فيما تقدّم أن الهباء عند السادة، الذي هو الهيولى عند الحكماء، اسم للشيء باعتبار نسبته إلى ما هو ظاهر فيه، بحيث يكون كلُّ باطن هيولى الظاهر، الذي هو صورة فيه، مثلاً السرير صورة، هيولاها قطع الخشب، وقطع الخشب صورة هيولاها الشجر، و الشجر صورة هيولاها العناصر، والعناصر صورة هيولاها الهيولى الكل. وبعض أهل الله يسمي الهباء العنقاء، لأنَّ العنقاء طائر يطير في القاف، يسمع باسمه ولا يرى، فكذلك حال الهباء وما يقتضيه الهباء المسمّى بالهيولى من الصور، لا سبيل إلى بروزه جميعه، بحيث ل تبقى فيه قابلية لصورة أخرى. هذا محال، فلا يدرك لما في اله يولى من الصور غاية، وأوّل صورة قبل صورة الجسم الكل، وهو الطول والعرض والعمق...

(مطلب):وإلى ما ذكرنا يشير إمام أهل الله محي الدين، في الخطبة التي ترجم بها عن العنقاء قال: قامت العنقاء تُعربُ عن وجودها، وتغرب بعزة حدودها، فقالت: أنا عنقاء مغرب، مازال مسكني بالمغرب، فأنا الذي لا عين لي موجود، وأن الذي لا حكم لي مفقود:

عنقاء مغرب قد تعورف ذكره

غربا وباب عيانها مسدود

ما صيّر الرحمن ذكري باطل

 

لكن بمعنى سره المقصود

بي تكون الحدود، وعليَّ توقّف الوجود، يسمع بذكري، ولا أرى، و ليس الحديث بي حديثاً يفترى. أنا الغريبة العنقاء، وأمي المطوّقة الورقاء، ووالدي العقاب المالك، وولدي الغراب الحالك، أنا عنصر النور والظلم، ومحلّ الأمانة و التهم. أن الحقيقة لما عندي من السعة، ألبس لكل حالة لبوسها، إمَّا نعيمها وإمَّا بؤسها؛ ول أعجز عن حمل صورة، وليس لي في الصور المعلومة سورة. ولكن وهبت أن أهب العلوم ولست بعالمة، وأمنح الأحكام ولست بحاكمة؛ لا يظهر شيء لم أكن فيه، ولا يحصره طالب مدرك ولا يستوفيه، الخ.

فصل 12 (مرتبة الجسم الكلّ).

ثم بعد مرتبة الهباء تعينت مرتبة الجسم الكل الشامل لجميع الأجسام روحانية ومثالية وطبيعية وعنصرية. وهو أمر معقول كالطبيعة والهباء، ليس له وجود عيني، فإنه كلّي ظهر فيه حكم الهباء كما ظهر حكم الطبيعة في الهباء. فعمّر الله تعالى بهذا الجسم المعقول الخلاء، وهو الامتداد المتوهّم في غير جسم. ولما كان الخلاء مستديراً كان الجسم الكلُّ مستديراً، فإنَّ الجسم الكل عمر الخلاء، وكانت حركته مستديرة. فلو لم يكن الخلاء مستديراً لكان ما خرج عن الجسم لا يقال فيه خلاء ولا ملاء، فحركته في خلائه، فهي رحويّة في حيزه ومكانه، فهو متحرّك لا متحرّك، بمعنى أنه لا ينتقل من حيّز إلى حيّز. وأظهر الله تعالى صور العالم في هذا الجسم الكلّ، على اختلاف، لاختلافها في استعدادها، وأن جمعها جسم واحد، وظهرت أحكام الأسماء الإلهية بوجود هذه الصور، وما تحمله من الأرواح. ولمَّا تحرَّك هذا الجسم بالاستدارة سمى فلكاً، فإنَّ غير المستدير لا يسمّى شكله فلكاً. وبقبوله للطبيعة، وهي الحرارة والبرودة و الرطوبة واليبوسة، تحرّك بغلبة الحرارة عليه، فإنَّ الاعتدال لا يظهر عنه شيء. فلمَّا تحرّك، وما ثمَّ خلاء إلاَّ ما عمره هذا الجسم، ولابدَّ له من الحركة، فتحرّك في مكانه وهي حركة الوسط كما قدّمنا، لأنه ليس خ ارجه خلاء فيتحرك إليه.

فصل 13 (مرتبة الشكل الكل)

ثم بعد مرتبة الجسم الكلّ تعيّنت مرتبة الشكل الكلّ، وهو أمر معقول كالمراتب الثلاث قبله، والشكل لغة، القيد، وهو المقيّد بالشكل الذي ظهر به، فكلُّ من تشكّل بشكل فقد تقيّد به، كائناً ما كان. والشكل الكلُّ إنما ظهر في الجسم الكلّ، لأنه هو الذي يقبل الأشكال، أي القيود، من تربيع وتسديس وتثمين واستدارة وتكعيب وتسطيح وتقعير.. إلى غير ذلك من الأشكال، والشكل معقول أبداً، والذي يدرك هو المتشكّل لا الشكل، فليس المتشكل عين الشكل، إذ لو كان عينه ما صحّ أن يظهر في متشكل آخر، وهذا المشكَّلُ ليس هو عين المتشكل الآخر. وكما أن العقل الأول ظهر في مرآة الوجود الحق بلا واسطة كذلك النفس الكلُّ ظهرت في مرآة العقل الأول بل واسطة. والطبيعة ظهرت في مرآة النفس الكلّية. والهباء ظهر في مرآة الطبيعة، والجسم الكل ظهر في مرآة الهباء؛ كذلك الشكل الكلُّ ظهر في مرآة الجسم الكل. فكل واحد من هذه الأربعة المعقولة هباء لما قبله، ومجموع هذه الأربعة ظهرت في العرش، فهي العرش، والعرش من جهة ظهوره العيني ظهر في مرآة النفس، إذ ليس بينهما موجود ع يني خارجي، وإنما بينهما أمور معقولة غيبية لا شهادية. والنفس ظهرت في مرآة العقل، والعقل ظهر في مرآة العلم، والعلم مرآة ظهرت من باطن حقيقة الحقائق.

فصل 14 (مرتبة العرش)

في المرتبة الخامسة من المراتب الكلّية، وهي مرتبة عالم الأجسام، وأوّله العرش. ثم أوجد الله تعالى العرش في الجسم الكلّ المعقول وجوداً عينياً شهادياً، فهو موجود عيني طبيعي بعد النفس الكلية. واسم العرش يطلق لغة على السرير وعلى الملك. والمراد هنا السرير. و العروش خمسة أوّلها عرش الحياة، ويقال: عرش الهويّة، وعرش المشيئة وهو العماء المتقدم الذكر، ويسمّى فلك المعاني، وهو عرش معقول، و الثاني العرش المجيد، وهو العقل الأوّل، الثالث العرش العظيم وهو النفس الكلُّ، الرابع العرش الرحماني عرش الاستواء، الخامس العرش الكريم وهو الكرسي. والمراد هنا العرش الرحماني، وبعض السادة يسميه بالجسم الكلّ نظراً لإحاطته بجميع الأجسام. وكان إيجاد العرش بتوجّهات الأرواح العالية، بما سرى فيها من أحكام الأسماء الإلهية من حيث مظاهرها المثالية المتعيّنة في عالم المثال، فكانت الأرواح بمثابة الذكر، والطبيعة بمثابة الأنثى، والجسم الكلُّ بمثابة المحلّ، والعرش بمثابة المولود، وهذا من النكاح الثالث، فإن درجة عالم المثال ودرجة العرش واحدة طبيعية، وما بقي بعده إلاَّ النكاح الرابع، وهو النكاح العنصري الثقلي. فهو (أعني العرش) جسم طبيعي نوراني مثالي شفّاف مستدير محيط بجميع العالم لاستدارتة. وكلُّ ما هو داخل فيه مستدير: الكرسي والسموات والأرض والعناصر وما تولد منها؛ يوصف بالعظم من حيث الإحاطة بالأجسام، إذ لا جسم طبيعي فوقه، وبالكرم من حيث أنه أعطى ما في قوّته لمن تحته من الأجسام، وبالمجد من حيث أن ما فوقه شيء من الأجسام، فله الشرف و المجد، وهو منزّه عن الجهات، وقوائمه على الماء الجامد، فهو محمول على قوائمه، وأما حملته من الملائكة والآدميين فإنما ذلك تشريف له، قال تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾[هود: 11/7].

وفي الصحيح: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء».

والماء الجامد على الهواء البارد، وهو الذي جمّد الماء. وتحت الهواء ظلمة لا يعلم ما بعدها إلاَّ الله، فإنه ما ورد في ذلك خبر نبويُّ ولا كشفي عن أهل الله تعالى . وهو غير متحرك، خلافاً لأهل النظر من الحكماء. إذ لو كان متحركاً ما أخبر الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) أنه على الماء مستقرٌ. فهو جسد العالم، وهيكله الجامع لجميع متفرّقاته، كما أن جسم الإنسان وهيكله جامع لجميع ما تضمّنه وجوده من الروح والعقل و النفس والقلب وجميع قواه وحواسه الظاهرة والباطنة، غير أنه وإن أحاط بالعالم من حيث صوره فما أحاط به من حيث أرواحه، فإنَّ الأرواح ليست تحته، فإنه غير متحيّزة، كروح العرش، لا هي داخلة فيه ولا خارجة عنه. واعلم أن سيّد المحققين وإمام الأولياء المكاشفين يخالف أهل الأرصاد وعلماء الهيئة، فإنهم يقولون الأفلاك تسعة: فلك البروج الأطلس وهو المسمّى في الشرع بالعرش،  وفلك الثوابت المكوكب وهو المسمى في الشرع بالكرسي، و السموات السبع.وسيدّنا الشيخ يقول: الأفلاك أحد عشر: العرش، والكرسي، والأطلس، وفلك الثوابت، و السموات السبع، ويقول: الأطلس هو سقف الجنة ومحدّب فلك الثوابت أرضها، ومقعره سقف جهنّم. ويخالفهم في حركة العرش و الكرسي، فإنهما غير متحرّكين عنده. وليس في كلام سيدنا الشيخ مخالفة لما ورد في الصحيح: ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة)).

وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه (أي من الفردوس) تفجّر أنهار الجنة، فإنه يحتمل أن يكون المراد من قوله «وفوقه عرش الرحمن» الإخبار بعلوّ العرش على الفردوس، فإنه وصف الفردوس بالعلوّ، فربما يتوهم أنه أعلا من العرش، وحينئذٍ فلا ينافي أن يكون بينهما شيء، أو لكون الأطلس سقف الجنة اعتبره من الجنة، ولم يعتبر الكرسي لكونه من جنس العرش، فصحّ كون العرش سقف الجنة. أو يكون الحديث ورد على ما تعرفه العرب ممّا يقوله أهل الرصد: إنّ الأفلاك تسعة، أعلاها الأطلس، الذي سماه المتشرعون بالعرش. قال في الباب السابع من الفتوحات: «وجعل سقف الجنة هذ الفلك وهو العرش عندهم الذي لا تتعين حركته ولا تتميز»، فالذي يسميه الشيخ فلك البروج الأطلس هو الذي يسميه أهل النظر بالعرش، حيث توهموا أنه لا شيء فوقه. فإن فلك البروج الأطلس هو غاية ما وصلت إليه العقول والأنطار. ولما جاء الشرع بذكر العرش، وأنه أول الأجرام، وأنه فوق الكل، جعل المتشرّعون من المتكلمين في الهيئة و الرصد، فلك البروج الأطلس هو العرش، تطبيقاً للشرع على العقل، وقال في هذا الباب: «فأصغر الأيام التي تعدُّها حركة الفلك المحيط... إلى أن قال: فأصغر يوم عند العرب، وهو هذا لأكبر فلك» أراد بهذا الفلك الأطلس، فلك البروج، فإنه متحرّك. وأم العرش فغير متحرك، إلى أن قال: «فأول شيء أوجده في الأعيان الجسم الكلُّ وأول شكل فتح في هذا الجسم الشكل الكري المستدير». أراد بهذا العرش عنده، إلى أن قال: «ولم خلق الله الفلك الأول دار دورة غير معلومة الانتهاء إلاَّ لله تعالى، فإنه أول الأجرام الشفافة»، أراد بهذا الأطلس فلك البروج. فإنه أول الأجرام الشفافة الخالصة الجرمية، فإذا قال الشيخ: أول الأجرام العرش، فذلك حيث يعتبر صورة العرش الجسمانية ذات الطول والعرض والعمق، وإذا قال: أول الأجرام الأطلس فإنما ذلك حيث يعتبر صورة العرش المثالية الروحانية، بحكم المرتبة التي ظهرت فيها الصورة العرشية، وهي المثال، فإن الغالب على العرش الروحانية، لأن الطبيعة انبسطت بحكم المحل الذي هو عالم المثال، فعينت لها الإرادة الإلهية صورة العرش. وإذا أطلق الشيخ لفظ الحركة، على العرش والكرسي فإنما يريد الحركة المعنوية بالتأثير والإمداد، كالحركة الإرادية والحركة في الكيف ونحو هذا. وهذا هو العرش الرحماني، ليس هو المراد بقوله: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾[الزمر: 39/ 75].

فإن ذلك عرش فصل القضاء يوم القيامة، فهو عرش آخر، ولذا قال آخر الآية: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ﴾.

وما قدمناه من أن مرتبة العرش بعد النفس، هو عليه جلُّ العارفين المحقّقين و المتشرعّين، وخالف في ذلك العارف الكبير عبد الكريم الجيلي فقال: «مرتبة العرش أعلا من العقل الأول، فضلاً عن النفس»، لأنَّ العرش مظهر العظمة وخصوصية الذات. وسمي جسم الحضرة ومكانها لكونه المكان المنّزه عن الجهات الست، وهو المحل الشامل لجميع الموجودات، فهو في الوجود المطلق كالجسم للوجود الإنساني، باعتبار أن العالم الجسماني شامل للعالم الروحاني والخيالي والعقلي، ولهذا عبّر بعض الصوفية عنه بأنه الجسم الكلُّ. وفيه نظر، لأن الجسم الكلّ، وإن كان شاملاً لعالم الأرواح فالروح فوقه، والنفس الكل فوقه. وليس شيء فوق العرش إلاَّ الرحمن. فإذ نزّلناه في عالم العبارة قلنا: إنه فلك محيط بجميع الأفلاك المعنوية والصورية، سطح ذلك الفلك هي المكانة الرحمانية. وهويّة هذا الفلك هو مطلق الوجود عينياً أو حكمياً. ولهذا الفلك ظاهر وباطن. فباطنه عالم القدس، / عالم الأسماء الإلهية، وظاهره عالم الأنس، محلُّ التشبيه والتجسيم والتصوير. فمتى قيل لك: العرش العظيم، فإن المراد به من الحقائق الذاتية مكانة العظمة، وذلك من الصفات، فاعلم أن المراد بذلك الوجه من الفلك، كالعرش المجيد، فإن المراد به من عالم القدس، المرتبة الرحمانية التي هي منشأ المجد. وكذلك العرش العظيم، فإن المراد به من الحقائق الذاتية، مكانة العظمة، وذلك من عالم القدس. وعالم القدس عبارة عن المعاني الإلهية المقدّسة عن الأحكام الخلقية والنقائص الكونية »، وما قاله هذا السيد يشهد له حديث الطبراني عن ابن عباس: ((خلق الله العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم)) الحديث.

فصل في الكرسي 15

وهو العرش الكريم.

ثم أوجد الله تعالى الكرسي بعد العرش الرحماني، إيجاداً عينياً شهادياً جسماً لطيفاً بسيطاً طبيعياً، روحانيته غالبة على جسمانيته كالعرش.والأجسام الطبيعية في اصطلاح ساداتنا: العرش والكرسي، وكما أن علوم العقل الأول مجملة، تتفصّل في اللوح النفس الكلّ؛ كذلك علوم العرش مجملة تتفصّل في الكرسي؛ فإن لعالم الملك كتاباً مجملاً وهو العرش، وكتاباً مفصلاً وهو الكرسي. فاعتبار ما كان في العرش مجملاً في الكرسي يقال للكرسي:«الكتاب المبين». فبين القلم والعرش مضاهاة من جهة الإجمال، وبين اللوح المحفوظ النفس الكل والكرسي مضاهاة من جهة التفصيل. فالعرش من هذا الوجه المذكور في المرتبة الحسية مرآة القلم، فما في القلم مندرج على الوجه الكلي و الإجمالي، فهو في العرش كذلك، والكرسي أيضاً من هذا الوجه، في المرتبة الحسيّة، مرآة اللوح النفس. فما في اللوح ثابت فهو في الكرسي على الوجه التفصيلي. ومن الكرسي يبرز الأمر الإلهي في الوجود، فهو محلُّ فصل القضاء. وهذا الكرسي إذا نزّلناه إلى المثل فهو بمثابة الكرسي الصغير، الذي يوضع بين يدي العرش، المعد لجلوس الملك وقت الحكم، لأجل الصعود عليه إلى العرش، وإذ دلَّى قدميه للاستراحة يضعهما على الكرسي ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾[النحل: 16/ 60].

وهو بالنسبة إلى العرش الرحماني كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض. والكرسي غير متحرك حركة حسّية مثل العرش، ومقره على الماء الجامد الذي استقر عليه العرش. وبعدما خلق الله الكرسي تدلت إليه القدمان، كما ورد في الخبر. أخرجه الحاكم على شرط الشيخين عنه (صلى الله عليه وسلم) : «الكرسي موضع القدمين».

وهما كناية عن كل حكمين متضادّين مخصوصين بالذات، غير متعدين إلى المخلوقات، فهما عين الذات، كالحقيّة والخلقية، والحدوث والقدم، والتنزيه والتشبيه؛ أو متعدّيين، كالأمر والنهي. وإن شئت قلت: هما الخير والشر، وإن شئت قلت: هما قدم الصدق الذي للسعداء وقدم الجبار الذي للأشقياء. وإن شئت قلت: هم الرحمة والغضب... كل ذلك سائغ. فالقدمان عبارة عن انقسام الكلمة التي هي الأمر الإلهي، فإنه ينزل إلى العرش هيولانياً لا صورة له. فإذا وصل إلى الكرسي تعين وانقسم إلى ما ذكرناه. وقال بعض سادة القوم:

ينقسم إلى حكم، وهو الحكم الشامل للأحكام الخمسة الشرعية، وإلى خبر، وهو مالم يدخل تحت واحد من هذه الخمسة. والخلاف لفظي، فإن المعنى واحد. وعن العرش و الكرسي تكون الأشكال الغريبة الخارقة للعادة كالمعجزات والكرامات، وظهورها يكون في الخيال المنفصل، وكالسحر وما شاكله، وظهوره يكون في الخيال المتصل، وبهذا تعرف الفرق بين الكرامة والمعجزة والسحر، وإن اتفقا في الصورة. وعنهما تظهر الطبيعة المجهولة، التي يقال فيها الخاصّية. كما تقول الحكماء الأطباء: الشيء الفلاني يفعل كذا بالخاصِّية، حيث يجهلون السبب الموجب لذلك الفعل.

فصل الفلك الأطلس 15

ثم أوجد الله تعالى الفلك الأطلس بعد الكرسي، وهو في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض. قال تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البقرة: 2/255].

والسماء كلُّ ما علا، والأرض كلُّ ما سفل، والكرسي هو هذا الجسم الذي قدمنا بعض صفاته، وإن ورد في اللسان العربي: الكرسي بمعنى العلم. وإلى هذا الفلك الأطلس ينتهي علم علماء الهيئة والأرصاد، ويسمى، فلك البروج، وبفلك الأفلاك، وسمي بالأطلس لكونه لا كوكب فيه ولا شيء ممّا تتميّز به حركته، فإنه متشابه الأجزاء، مستدير الشكل، لا تعرف لحركته بداية ولا نهاية، وماله طرف؛ ويسمّى بفلك البروج، لأن الله ـ تعالى لما خلقه قسمه اثني عشر قسماً سمّاها بروجاً، أولها الجدي وآخرها القوس، وهي أسماء ملائكة خلقهم الله تعالى على صور مختلفة، فسموا بأسماء صورهم في عالمنا قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾[البروج: 1].

والسماء كل ما علا، فإن هذا الفلك ليس هو من السموات السبع، فجعل كل قسم برجاً لسكنى مملك من الموكلين بتدبير العالم كأبراج المدينة كل وال في برج، رفع الله الحجاب بين هؤلاء الأملاك وبين اللوح المحفوظ، فيشاهدون ما شاء الله أن يجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة، وجعل تعالى هذه الأقسام كالمنازل و المناهل، التي ينزلها المسافرون حال سفرهم، فتنزلها الكواكب السيّارة وغيرها من الكواكب التي تقطع بسيرها في هذه البروج فيخلق الله ما يشاء عند قطعها وسيرها، وبعدم خلقه الله تعالى دار دورة غير معلومة الانتهاء إلاَّ الله تعالى لأنه ليس فوقه شيء محدود من الأجرام الخالصة الجرميّة يقطع فيه، لأن الكرسي فوقه الغالبة عليه الروحانية، فإن الأطلس أوّل الأجرام الشفافة، ولا كان الله خلق في جوفه شيئاً فتتميز الحركات، وتنتهي عند من يكون في جوفه، ولو كان لم تتميّز، لأنه أطلس متشابه الأجزاء، والبروج فروض مقدرة فيه موهمة لا موجودة عَيْناً. ويسمى بفلك الأفلاك لإحاطته بما تحته من الأفلاك، فجميع الأفلاك تقطع فيه، فيعلم ما لكل فلك من الطول والقصر في دورته، وهو يوم ذلك الفلك ولهذه الحكمة خلق الله تعالى الدراري السبعة في السموات، ليعرف قطع فلكها في الفلك المحيط الأطلس. وبوجود الأطلس حدثت الأيام السبعة والشهور والسنون، ولكن ما تعينت فيه إلاَّ بعد ما خلق الله في جوفه من العلامات التي ميّزت هذه الأشياء، فإن الليل والنهار ماكانا إلاَّ بعد خلق الشمس. وأصغر الأيام هي التي تعدها حركة الفلك المحيط الذي يظهر فيه الليل والنهار، فأقصر يوم عند العرب وهو هذا الأكبر فلك. وذلك لحكمه على ما في جوفه من الأفلاك، إذ كانت حركة ما دونه في الليل والنهار حركة قسرية له، قهر بها سائر الأفلاك التي يحيط بها. ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية، فكلُّ فلك دونه ذو حركتين في الآن الواحد. ولكل حركة طبيعية في كلّ فلك يوم مخصوص، يعدُّ مقداره بالأيام الحادثة عن الفلك المحيط الأطلس. وهذا الفلك هو سقف الجنة عند سيدنا الشيخ، كم قدّمنا، وعن حركته يتكوّن في الجنة ما يتكوّن، وهو لا ينخرم نظامه. فالجنة لا تفنى لذاتها أبداً. ولما كانت الطبيعة فوقه ولم يكن بسيطاً فإنه مركّب كان منقسماً على الطبائع الأربع: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، الأمهات الأربع، ومع كونها أربع فإن الله جعل الاثنين منها أصلاً في وجود الاثنين الآخرين، انفعلت اليبوسة عن الحرارة، والرطوبة عن البرودة. فالرطوبة واليبوسة موجودتان عن سببين: هما الحرارة و البرودة. وهذا الفلك أحد الأفلاك التي خلقها الله للبقاء، فلا تبدل لصورها يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات وهي العرش والكرسي،  وهذا الفلك وهو الأطلس، وفلك المنازل... فإنهم ليسوا من عالم الدنيا التي قضى الله تعالى عليها بالفناء والهلاك من حيث صورها. فأول الدنيا من أعلى السماء الأولى التي تلي فلك المنازل سماء زحل، إلى أسفل سافلين. وما ذكرناه من أن الفلك الأطلس فلك البروج قاسر لما تحته من الأفلاك بحركته فهي لذلك ذات حركتين، فهو يتحرك من المشرق إلى المغرب، وسائر الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق، هو ما عليه علماء الهيئة أصحاب الأرصاد، ووافقهم على ذلك سيدنا الشيخ في الفتوحات المكّية، وفرع على ذلك أنه عن هذا الرأي لا يستحيل مؤثر فيه بين مؤثرين، بمعنى إيجاد مفعول واحد عن فاعلين، لأن مثل هذه الحركة لهذه الأفلاك تكون عن حكمين مختلفين حكم قسري وحكم إرادي، أو طبيعي، وخالفهم في عقله المستوفز قال: وجعل حركات هذه الأفلاك كلّها على طريقة واحدة من المشرق إلى المغرب، كحركات الأفلاك الثابتة، يعني بالثابتة: الأطلس والكواكب، فإنها لا تفنى ولا تزول ولا ينخرم نظامها. قال خلاف ما يقوله أصحاب علم الهيئة، وذلك أنهم يرون السيارة تقطع في فلك الكواكب الثابتة من الشرطين إلى البطين، ومن الحمل إلى الثور، فيرون حركتها بالعكس من حركة فلك الكواكب الثابتة؛ فيجعلون حركاتها من المغرب إلى المشرق وليس الأمر كذلك، ولكن حركة فلك الكواكب على مقدار يعطيه تركيبه وطبعه من السرعة، والأفلاك السّيارة معه في ذلك الدور، غير أنه يمشي عنها على قدر قوته بالوزن المعلوم، الذي قدّره خالقه وفاطره، فيظهر تأخّر القمر وغيره عن منزلة الشرطين إلى منزلة البطين، وعن برج الحمل إلى برج الثور، وهذا تأخر صحيح، ولكن ليس بتأخر حركة تقابله. وكلُّ من قال: إن حركة الأفلاك مع حركة الفلك المحيط على التقابل، فما عنده علم ومن شبهة م ذكرناه. والقهقرة الظاهرة في بعض السّيارة لسرعة تكون في فلكه في ذلك الوقت، أعطاه تركيب ذلك الفلك وطبعه الذي خلقه الله تعالى عليه. وليس هذا من سيدنا اختلاف رأي، حاشا وكلاّ، فإنه بعيد من مثل سيدنا، ولكنه في عقله المستوفز ذكر ما أعطاه الكشف الصحيح، وماهو الأمر عليه في حقيقته. وفي الفتوحات ذكر ما عليه علماء الهيئة، وما تعطيه المشاهدة البصرية لأهل الأرصاد، إذ لم يتعلق بذلك شيء من أمر الدين وأحكام الشرع، حتى تلزم مخالفتهم. فإنه كما قال (رضي الله عنه) ليس كل أحد يصدقنا فيما ندعي فيه الكشف، ورأي إجماع أهل الرصد على ذلك، ولذلك فرع عليها مسألة الأثر الواحد عن مؤثرين، وهي مسألة إجماع الحكماء والمتكلمين على امتناعها، لم يلزم عليه من كون الواحد اثنين بمعنى كون الأثر الواحد أثرين، إلى أن قال: فإن الكواكب تقطع في الفلك، في رأين العين من الغرب إلى المشرق، والفلك الأكبر ا لمحيط يقطع بها من الشرق إلى الغرب، فانظر قوله «في رأي العين» يعني لا في نفس الأمر.

فصل في فلك الثوابت 17

ثم أوجد الله تعالى فلك الثوابت، بعد فلك البروج الأطلس، وهو آخر الأفلاك التي خلقها الله تعالى للبقاء فلا تفنى ولا تهلك صورها، سطحه أرض الجنّة، ومقعّره سقف لنار جهنم، وفيه الكواكب الثابتة. وهو بما احتوى عليه من السموات والأرضين في الفلك الأطلس كحلقة ملقاة في أرض فيحاء، وفيه قوة ما فوقه الأطلس والكرسي والعرش، لأنه مولّد عنهم. وهكذا كلُّ مولّد فإنه يجمع حقائق م فوقه، حتى ينتهي إلى الإنسان، فيجتمع فيه قوة جميع العالم، فإن كان إنساناً كاملاً جمع مع ذلك الأسماء الإلهية، بكمالها. ويسمى هذا الفلك بالمكوكب (بكسر الكاف) وبفلك المنازل، قال تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: 36/ 39]. أي قدّرنا له. والمنازل مقادير التقاسيم التي في فلك البروج، عيّنها الحق تعالى لنا بهذه المنازل، إذ لم يميزه البصر. وهي ثمان وعشرون منزلة، أولها: النطح، وآخره بطن الحوت؛ سمّيت منازل لقطع السيّارة فيها، وهي كالمنطقة في هذا الفلك بين الكواكب. وهي تقديرات وفروض في هذا الفلك، وما عرفت أنها منازل إلاَّ بنزول السيّارة فيها. ولولا ذلك ما تميّزت عن سائر الكواكب، ولا فرق بينها وبين سائر الكواكب الأخر التي ليست بمنازل في سيرها، فإنَّ الكلّ يسير ويقطع في الفلك الأطلس. وهذه المنازل هي مساكن أملاك نواب الأثني عشر ملكاً، الذين هم في الفلك الأقصى، يأخذون الأمر عن الاثني عشر ملكاً، وإنما سميت الكواكب ما عدا السيّارة ـ بالثابتة، لأن الأعمار لا تدرك حركتها، لقصر الأعمار. إذ كل كوكب منها يقطع الدرجة من الفلك الأقصى الأطلس في مائة سنة، تعد ثلاثماية وستين درجة، كلُّ درجة مائة سنة. فانظر ماذا يجتمع فهو يوم ذلك الكوكب، فيوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك البروج الأطلس. فأسرع الكواكب قطعاً السيارة السبعة. وأسرع السيارة القمر، فإن يومه ثمانية وعشرون يوماً من أيام دورة الفلك الأطلس. وجميع الأيام تقدر بدورة الفلك الأطلس، وهي من طلوع الشمس إلى طلوعها ثانية، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾[الحج: 22/ 47].

يعني هذا الأيام المعروفة. فأقصر أيام السبعة السيارة يوم القمر، وهو ثمانية وعشرون يوماً من أيامنا. والسيارة وغيرها من الكواكب إنما هي صور لأرواح ملكية، تدبّرها مثل صورة الإنسان وبروحه يفعل، وكذلك الكواكب، وكذلك الحروف هي صور لها أرواح، وبأرواحها تفعل. ولولا الأرواح ما فعلت الصور شيئاً، لا من إنسان ول كوكب ولا حرف. وأنه تعالى جعل البروج والمنازل وسباحة الكواكب أدلة على حكم م يريد تعالى أن يجريه في العالم الطبيعي والعنصري من حر وبرد ويبس ورطوبة في حار وبارد ورطب ويابس. فمنها يقتضي وجود أجسام، ومنها ما يقتضي وجود أرواح، وغير ذلك. فهي كالأسباب والعادة المعتادة في العموم، التي لا يجهلها أحد. فلا يكفر القائل بأنها أسباب وضعها الحق تعالى ـ، كما لا يكفر القائل بغيرها من الأسباب العادية من غير نسبة خلق وإيجاد إليها. وكلُّ صورة في العالم يطلق عليها اسم فلك، ومدبره ومحركها ملك.

تمهيد (إيجاد الدنيا والأركان الطبيعية الأربعة)

أوائل لإيجاد صورة الإنسان الكامل

ثم تعلقت إرادته تعالى التعلق التنجيزي، بإيجاد الدنيا وهي عند سيدّنا إمام العارفين محي الدين: اسم لما تحت مقعّر فلك الثوابت، إلى الظلمة التي انتهى إليها علم العلماء من الأركان وهي: التراب والماء والهواء والأثير وهو النار، والسموات والأرضين، و المولدات من الأركان وهي: الجماد والنبات والمعدن والحيوان والجان والإنسان، التي مآل صورها وأجسامها على فساد وانتقال. فإنه تعالى جعل للدنيا أمداً معلوماً تنتهي إليه وتنقضي صورتها وتستحيل إلى صورة مخصوصة ما نشاهدها اليوم، كما أنه تعالى ينشئنا بعد البعث من القبور نشأة أخرى ل نعلمها اليوم قال: ﴿وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[الواقعة: 56/ 61].

والنشأة الأولى قد عَلِمْنَاهَا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾[الواقعة: 56/ 62].

وما سميت دنيا إلا بنا، فإنها دنيا أي قربى منّا، والآخرة بعدي. قال تعالى لمحمد (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾[الضحى: 93/ 4].

فمن مقعّر فلك الثوابت إلى ما تحته يكون استحالة ما نراه إلى الأخرى. فللآخرة صورة غير صورة الدنيا، فينتقل ما ينتقل منها إلى الجنة من إنسان وغير إنسان، وكلُّ من يبقى فيها فهو من أهل النار الذين هم أهلها، لا يخرجون منها أبداً. ومن محدّب فلك الثوابت، الذي هو أرض الجنّة عند سيدنا إمام العارفين محي الدين، إلى فوق فهو مخلوق للبقاء، لا تتبّدل صوره. وقوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾[الانفطار: 82/ 2].

واسم الكواكب يشمل الكواكب الثابتة، وهي في الفلك، الذي هو أحد الأفلاك المخلوقة للبقاء. فالمراد بانتشارها ذهاب ضوئها فقط. ولذا قال في الآية الأخرى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾[المرسلات: 77/ 8]. فطمسها إذهاب ضوئها وهذه هي مرتبة النكاح الخامس، باعتبار النكاح الغيبي المعنوي، والرابع على عدم اعتباره، وهو النكاح العنصري السفلي الثقلي، لأنه عن عصارات العناصر الأربعة وامتزاجاتها، وهو الاجتماع الواقع للأجسام البسيطة، بموجب ما وصل إليها من أحكام الأصول الأسمائية والمعنوية والروحانية لإظهار صور المركبات وعالم الكون والفساد على اختلاف طبقاته وأجناسه وأنواعه. فنظم تعالى الطبائع الأربع وهي: الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة نظماً خاصاًز فضمّ الحرارة إلى اليبوسة، فكانت النار البسيطة المعقولة، ثم ضمَّ الحرارة إلى الرطوبة، فكان الهواء البسيط المعقول، ثم ضمَّ البرودة إلى الرطوبة، فكان الماء البسيط المعقو ل، ثم ضمَّ البرودة إلى اليبوسة، فكان التراب البسيط والمعقول. فحقيقة الطبيعة جامعة بين الأربعة، بمعنى أنها عين كل واحد من الأربعة، وليس واحد من الأربعة عينها من كل وجه، بل من بعض الوجوه، وهذه الأركان الأربعة كل واحد منها مركب من الأربعة، لأن مجموعها مسمى الطبيعة. والطبيعة حقيقة واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم. ويسمّى المتكلمون هذه الأركان الأربعة: «بالكيفيات الأوَّل» لتكيف البسائط العنصرية بها أولاً، وبتبعية البسائط تتكيّف المركبات به ثانياً. فكلُّ ما غلب فيه ركن الحرارة حتى اضمحلت البواقي سمّي بالطبيعة النارية. وكلُّ ما غلب فيه ركن الرطوبة حتى اضمحلت فهي البواقي سمّي بالطبيعة الهوائية. وكل ما غلب فيه ركن البرودة حتى اضمحلت فيه البواقي سمّي بالطبيعة المائية. وكلُّ م غلب فيه ركن اليبوسة حتى اضمحلت البواقي سمّي بالطبيعة الترابية. ولا يسمَّى بالمرتبة الأولى تراباً ولا ماءً ولا هواء، ولا ناراً، ولا يقبل واحد منه الامتزاج بغيره من الأركان، لأنها في هذه الدرجة الأولى، واصلة إلى حدّه وانتهائها، فإذا تنزّلت إلى الدرجة الثانية قبل كلّ واحد منها الامتزاج بغيره، فإنه لولا امتزاجها ماكان لواحد منها وجود. فلولا امتزاج النار مثلاً ببقيّة الأركان لم يكن لها وجود، لأنَّ الطبيعة اسم لجميعها. فالطبيعة لا وجود لها إلاًَّ بالأربعة الأركان. وإذا كانت أركان الطبيعة في مرتبتها الأولى يقال فيها حرارة عنصرية ورطوبة كذلك، وبرودة ويبوسة كذلك؛ وإذا كانت في الدرجة الثانية يقال فيها حرارة طبيعية وبرودة طبيعية ورطوبة ويبوسة كذلك. وإذا كانت في الدرجة الثالثة يقال فيه حرارة نارية وبرودة مائية ويبوسة ترابية ورطوبة هوائية، وإذا تنزّلت الأركان إلى الدرجة الرابعة وَوُجدت عنها صورة من الصورة الجمادية أو النباتية أو الحيوانية أو الجنية أو الإنسانية، سمّيت حرارة غريزية ورطوبة غريزية وبرودة ويبوسة كذلك. ففلك العناصر فوق فلك الطبائع. وفلك الطبائع فوق فلك الاسطقسات، وهي أفلاك النار والهواء والماء والتراب. ومع كون الطبائع أربع أمهات، فاثنتان منها أصل في وجود الاثنتين، لأنّ الرطوبة واليبوسة منفعلتان عن الحرارة والبرودة. وأقوى الأركان النار، لأنها تؤثر في الأركان، فالماء يسخن وكذلك الهواء وكذلك التراب والنار ل تقبل التبريد. فللنار أثر في نفس الأركان، وليس لواحد منها في النار أثر، فلهذ قالت طائفة: ركن النار هو الأصل، فما كثف منه كان هواءً وما كثف من الهواء كان ماء. وما كثف من الماء كان تراباً. وبعد النار الماء، فإن له أثراً في الهواء والتراب، فيبرد الهواء ويزيد في رطوبته ويرطب التراب ويزيد في برودته، وليس للهواء والتراب أثر في هذين العنصرين،  فلهذا قالت طائفة: ركن الماء هو الأصل. وقالت طائفة: ركن الهواء هو الأصل، فما أفرطت فيه الحرارة سمّي ناراً، وما أفرطت فيه الرطوبة سمّى ماء، ومابقي على الاعتدال بقي عليه اسم الهواء. وقالت طائفة: ركن التراب هو الأصل. وقالت طائفة: الأصل أمر خامس، ليس هو واحد من الأربعة. وجعل تعالى بين الأركان منافرة، فمنها ما يقتضي المنافرة من كل وجه كالنار والماء، والهواء والتراب. وجعل الهواء بين الماء والنار، فإنه وإن كان بين الماء والتراب منافرة من وجه، فبينهما مناسبة من وجه. وكذلك بين الماء والهواء والنار، فالماء ينافر النار ويناسب التراب بالبرودة، والهواء بالرطوبة. والهواء ينافر التراب ويناسب النار بالحرارة ويناسب الماء بالرطوبة، فلهذا يستحيل التراب ماء، والماء هواء، والهواء ناراً. والنار لا تستحيل تراباً إلاَّ بوسائط. والاستحالة لا تقع إلاَّ عند الإفراط. فإذا جاوز المستحيل حدّه المحدود انتقل إلى ضدّه. ولا يفهم من الاستحالة أن الحرارة تنقلب برودة واليبوسة تنقلب رطوبة أو البياض ينقلب سواداً.... فإنه محال، لما يؤدي إليه من قلب الحقائق، وقلب الحقائق محال لما يؤدي إليه من قلب العلم جهلاً، وهو محال. وإنما المراد أن الصور والأجسام الحاملة لهذه الطبائع الأربع هي التي تستحيل. فا لجسم البارد قد يصير حاراً، و الجسم اليابس قد يصير رطباً لكن لا في وقت كونه حاراً ولا في وقت كونه يابساً. وكذلك الجسم الأبيض قد يصير أسودًا لكن لا في وقت كونه أبيض. فالصورة المائية قد تنقلب صورة حجرية، والحجر قد يجعل ماء، والهواء الملاصق للإناء المبرّد قد يصير قطر ماء، والعامّة تتوهّمه ماء رشح من الإناء. والماء المغلي والشعلة يصيران هواء، والهواء يصير ناراً، كما في كير الحداد. فالفاسد حينئذٍ الصورة المائية. والكائن الصورة الحجرية في الأول، والفاسد الصورة الحجرية. و الكائن الصورة المائية في الثاني، والفاسد الصورة الهوائية. والكائن الصورة المائية في الثالث، والفاسد الصورة المائية والنارية. والكائن الصورة الهوائية في الرابع والجوهر الحامل لهذه الصور، الحاملة لهذه الطبائع باق على حالة لا يفسد ولا يتغيّر، وهو المسمّى بنفس الرحمن وبالعماء، فهو لا يهلك ولا يستحيل، ولو هلكت ذرّة من العالم من حيث جوهره لهلك العالم جميعه، لأحدية جوهر العالم. فهو واحد بالذات وإن ظهر للعيان بصور متعدّدة لا تتناهى كثرة. ولا يفهم أيضاً من الاستحالة والانقلاب في الصور أنَّ الصورة باقية، وانقلبت هي في نفسها. فهذا أيضاً محال غير معقول، وإنَّما هو إعدام للصورة التي قلنا فسدت، وإيجاد للصورة التي قلنا كانت ووجدت، مع بقاء الجوهر على حالته من غير تغيّر في الحالتين مع الصورتين، وإلى هذا أشار عليم الأسود (رضي الله عنه) في الحكاية المنقولة عنه، وهي أنه ضرب بيده أسطوانة في المسجد فصارت ذهباً. ثم ضربها بيده فعادت كما كانت. فلما بهت الرائي قال له عليم: يا هذا إن الحقائق ل تنقلب، ولكن هكذا تراها لحقيقتك بربّك، يريد عليم: إن الجوهر الذي هو حقيقة الصورة الحجرية وبه قامت الصورة لم ينقلب ذهباً، وإنَّما الصورة الذهبية ظهرت في عينك لم لبسها الجوهر، كما ظهرت الصورة الحجرية في عينك عندما كان الجوهر لابساً لها. و الجوهر على حاله ما تغيّر، وذلك لحقيقتك بربّك أي لتحقّقك بربّك أنه متجلّ من الأزل إلى الأبد لا يتغير ولا يتحوّل. ومع هذا يظهر بصورة ينكر فيها، ويظهر بصورة يعرف فيها، وهو هو في حالة الإنكار له والإقرار به. والتغير والتحُّول، إنَّما هو في نظر الرائي لا في حقيقة المرئي. فالصور الحاملة للطبائع كلها من تراب وماء وهواء ونار وجماد ونبات وحيوان وجن وإنسان وأفلاك وأملاك إنَّما هي أعراض في الجوهر الواحد بالحقيقة، المتعدّد بحسب الصور. يلبس الجوهر صورة فيسمّى بها، كانت ما كانت، وهو المسمّى بالكون، أي انتقلت، من العدم إلى الوجود؛ ويخلع صورة فيزول عنه ذلك الاسم بزوالها، وهو المسمّى بالفساد، أي انتقلت من الوجود إلى العدم، وزال عنها ما ظهر من الكون والوجود. وهكذا العالم كلّه دائم الكون والفساد في الصور في كلّ نفس، غير أنه إذا خلع الجوهر صورة ولبس صورة مثلها يقع اللبس، فتتلبّس الصورة الثانية بالأولى، أي الصورة الكائنة بالفاسدة، وهو الخلق الجديد، الذي الناس في لبس منه، وما أدركه أهل الله أهل الكشف و الوجود، وبعض الحكماء القدماء أدركوه عقلاً. وأمَّا إذا لبس الجوهر صورة مخالفة للصورة الأولى الفاسدة كخلع الجوهر الصورة المائية ولبسه الصورة البخارية مثلاً، فذلك ظاهر الفساد والكون. فلهذ العالم دائم الافتقار إلى الحق تعالى ، وكان الحق تعالى خلاّقاً على الدوام. فأمَّا افتقار الجوهر فإنه لا بقاء لظهور عينه إلاَّ بتكوّن الصور التي هو حاملها، إذ من شرط بقائه وجود الصور فيه، التي هو موضوع لها، كما يقول المتكلمون الذين يتوهمون أنَّ الصورة الجسمية جواهر، والجوهر لا يخلو عن عرض يقوم به. وكذلك الجواهر الجزئية، وهي الأرواح الجزئية التي هي موضوعة لما تحمله من الصفات الروحانية والإدراكات والعلوم، فإنه لا بقاء لعينها إلاَّ بها، فهي تتجدّد عليه تجدُّد الأعراض،  وأما افتقار الصور فلبروزها من العدم إلى الاتصاف بالوجود، فإنها عند أهل الله كلها أعراض. قال قائلهم:

ماالكون إلاَّ عرض

سيّان الجوهر والعرض

فتنعدم لأنفسها في ثاني زمان وجودها، كما يقول الأشعري، فالعرض عنده ل يبقى زمانين، فلا تزال الطبيعة وهي ظاهر الأمر الإلهي، تفعل الصور، والروح الكلُّ يمدُّها بالأرواح دنيا وآخرة، إلى غير نهاية. فإنه تعالى ما يسوّي صورة محسوسة في الوجود، طبيعية أو عنصرية، على يد من كانت من فلك أو إنسان أو حيوان أو ريح إذا هبَّت فتحدث في الرمل أشكالاً، حتى الحيّة والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق، فذلك الطريق صورة أحدثها الله بمشي هذه الدودة أو غيرها. فينفخ الله فيها روحاً تناسبه من أمره تعالى،  لا يزال يسبحه ذلك الشكل لصورته وروحه، إلى أن تزول الصورة وتفسد، فينتقل روحه إلى البرزخ. وإلى هذه الإشارة بقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{27}﴾[الرحمن: 24/ 27].

وهو الكائن عن أمره تعالى، الذي هو روح الله المضاف إليه. وكل من أحدث صورة وزالت وفسدت وانتقل روحها إلى البرزخ، فإن روحها الذي هو ذلك الملك، يسبّح لله ويمجده ويعود فضل ذلك على من أوجد الصورة التي كان هذا الملك روحها.

تنبيه

يلزم هذه الأجسام والصور الطبيعية والعنصرية أمور كالأشكال والألوان، والخفة والنقل، واللطف والكثافة، والكدرة والصفا، واللين والصلابة.... وما أشبه هذا من لواحق الأجسام و الصور. وذلك يرجع إلى أسباب مختلفة.

فأما الألوان فعلى قسمين: منها ألوان تقوم بنفس المتلوّن فتسمى أعراضاً لازمة وصفات، كالبياض في العاج، والصفرة في الذهب، والسواد في الزنجي (وهي المقول عنها انفعاليات عند المتكلمين) وإلاَّ تكن لازمة، كصفرة الوجل وحمرة الخجل، فتسمى أحوالاً، وهي المقول عليها انفعالات عند المتكلمّين. وقد أخبرناك أنه لا شيء منه بلازم ولا باق زمانين، عند أهل الكشف والوجود والأشاعرة، ولا ما يقال: إنها جواهر، عند المتكلمين. ومنها ألوان تظهر لناظر الرائي، وماهي في عين المتلّون، لاختلاف الأشكال وما يعطيه النور في ذلك الجسم، فإنه بالنور يقع الإدراك، كالجسم الواحد المتلّون مثلاً بالحمرة والخضرة، إذا اختلفت منك كيفيات النظر إليه من الاستقامة الانحراف، كيف يعطيك ألواناً محسوسة تدركها ببصرك، لا وجود لها في الجسم المنظور إليه، ولا تقدر تنكر ذلك، فقد أدركت ألواناً غير موجودة في أعيانها. وكذلك تقلب الحرباء في لون ماهي عليه من الأجسام على التدريج شيئاً بعد شيء، وإدراك تقلّبه في الألوان محسوس، مع علمك بأنَّ تلك الألوان لا وجود لها في أعيانها. وكذلك الألوان التي تظهر لناظر الرائي من قوس قزح فإنه ماتمَّ متلّون، ولا ألوان مع شهودك الألوان ببصرك، لا تشك في ذلك. وكما يبصر الإنسان الشيء الأبيض من مسافة بعيدة أسود أو غيره، وهو في نفسه على خلاف ذلك اللون، ولا قام به ولا عرض له، وإنم ظهر هذا اللون في قوّة الإدراك،  بواسطة ذلك الشيء والبعد عنه.

الأشكال

وأمَّا الأشكال فكذلك، مثل الألوان، ترجع إلى أمرين: إلى حامل الشكل، وهو الجسم المتشكّل حقيقة كما هو ظاهر للبصر، وإلى حسّ المدرك له فقط، ولا وجود لذلك الشكل في ذلك الجسم الذي يرى أنه بذلك الشكل، كالعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة، والخاتم القريب من العين يرى كالحلقة الكبيرة، والشمس ترى على شكل الترس ومقداره، وهي أضعاف الأرض في المقدار، فإنها قدر الأرض مائة وستين ونصف وثمن مرة. وكذلك ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجمرة النار في يد المحرك لها إذا أداره فتحدث في عين الرائي دائرة وخطاً مستطيلاً، إن أخذ بالحركة طولاً، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار وشكل خط، ولا تشك أنه ما ثمَّ شكل دائرة ولا خط. ونحو هذا وما عد ما ذكرناه من لواحق الأجسام الطبيعية والعنصرية فهو راجع إلى المدرك، لذلك، لا إلى أنفسها، ولا إلى الذوات الموصوفة التي هي الأجسام والصور، هذا عند أهل أصحاب الكشف والوجود، وأمَّا الحكماء أصحاب الأفكار الذين ما وصلوا مرتبة الكشف الصحيح فقد أخطأوا في مسألة لواحق الأجسام وما أصابوا، فإنا موقنون بأنَّ من أهل الكشف الصحيح من لا تحجبه الأجسام الكثيفة كالجبال والجدران والستائر وبعد المسافة... فصورته عنده صورة الأجسام اللطيفة التي لا تحجب ما وراءها عن نفوذ الإدراك، فيدركها ببصره الحسي. وإذا غمض عينه لا يراها ولا يدركها، وهذا هو الفرق بين الكشف الحسّي والخيالي، فإن الكشف الحسّي كما ذكرنا لا تحجب صاحبه الكثائف ولا المسافة البعيدة، فإذا غمض عينيه لا يرى شيئاً ممّا كان يراه، والكشف الخيالي كذلك ل ينحجب عنه ما أبصره وأدركه، لأنه أدرك ما أدرك ببصره الخيالي، لا الحسّي. ومن أهل الله من لا يثقله شيء يحمله، ومن أهل الله من لا يؤثر فيه النار ولا تحرق ثوبه. فصار مآل هذه الأوصاف اللاحقة للأجسام إلى المدرك لها، ماهي لذوات الأجسام، إذ لو كانت لذوات الأجسام لوقع التساوي في ذلك في حقّ كلّ مدرك، كما وقع التساوي في كونها أجساماً وصوراً. وإياك أن تظن أني أعني بقولي: «ومن أهل الله» هؤلاء الذين يأكلون النار ويدخلون مسامير الحديد في أشداقهم،  ويدخلون التنور ويمشون راكبين على ظهور الأشخاص ليعرفهم العوام بالولاية،  مع عدم الاستقامة و المشي على الكتاب والسنة، اللذين هما أساس طريق أهل الله تعالى حاشا وكلاّ، وما يصدر عن هؤلاء منه ماهو إلاَّ شعبذة، ومنه ماهو سيمياء، ومنه ماهو خواص نفسية يتوارثونها بينهم. وأما أهل الله فلا تظهر عنهم كرامة إلاَّ لفيضان وجد أو هداية مريد أو نصرة شرع أو إنقاذ هالك أو حاجة شديدة أصابت الناس. فإنه كما يجب على النبي إظهار معجزته يجب على الولي ستر ولايته. فإذا أظهره الله تعالى من غير إرادة منه فذلك على الله، هذا شأن الكاملين. وأما أصحاب الأحوال فليس كلامن فيهم. وممّا أخطأ فيه الحكماء من هذا الباب ظهور الآثار المختلفة الحكم عن العنصر الواحد العين والحقيقة،  فتأوّلوا وتعسفوا، و الحق أن ذلك ما هو لعين العنصر وحقيقته، وإنما ذلك من حيث القوابل، فإن النار مثلاً، من حيث أنها نار فلا تتغير من حيث ذاتها وحقيقتها، وتظهر عنها آثار مختلفة الحكم فتنير أجساماً ولا تنير أجساماً/ مع أن إنارتها بالاشتعال والهواء له مساعد، وتعقّد أشياء كالطين المبتل وتسيل أشياء كالسمن والعسل و الثلج والجليد، وتسوّد أشياء كوجه القصار، وتبيّض أشياء كالشقة التي يقصّرها، وتلين أشياء كالحديد، وتحرق أشياء كالأشجار، وتنضج أشياء كاللحوم، وهي على حقيقتها واستعداد القوابل يظهر الاختلاف

العين الواحدة والحكم مختلف

 

ويدرك العلمُ ما لا يدرك البصر

وبهذا تعرف خطأ الحكماء في قولهم: لا يصدر عن الواحد إلاَّ واحد. فلم أحكم الله أركان الطبيعة ورتّبها ترتيباً محكماً وأدارها ظهر الوجودُ مرتوقاً قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ﴾[الأنبياء: 31/ 30].

والرتق اتحاد الشيء وانجماعه: ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.

والفتق هو فراقه وامتيازه. ففصل تعالى بين التراب وبين الماء، وبين الماء وبين الهواء، وبين الهواء وبين النار، وبين السموات وبين الأراضي. فأول م أوجد الله من المخلوقات الدنياوية الأرض.

فصل في الأرض 18

ثم خلق الله من الصور الوجودية، بعد فلك الثوابت، وهو الفلك الرابع من الأفلاك التي خلقها الله تعالى للبقاء، ركن الأرض، وهو التراب، وهو بارد يابس، فإنَّ الأدلة الشرعية والكشف الصحيح يقضيان بأنها مخلوقة قبل بقية الأركان، والخلاف في ذلك مشهور، ولا حجة للقائل بخلاف هذا في قوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا{28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30}﴾[النازعات: 79/ 27- 30].

فإن المراد دحاها مدّها بعد خلقها، وتقدير أقواتها فيها. دحاها من أجل السماء أن تكون عليه. فإن أطرا فالسموات على الأرضين، فالأرض أول مخلوق من الدنيا، جعلها تعالى محل أكثر المولدات من العناصر، والمقصودة من بين سائر الأركان. وفيه نكون في الجنّة، وعليها نحشر، غير أن صفتها تتبدّل، فتكون في الحشر الساهرة، أي التي لا ينام عليها. قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ{13} فَإِذَ هُم بِالسَّاهِرَةِ{14}﴾[النازعات: 79/ 13- 14].

وقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ﴾[إبراهيم: 14/ 48].

فتفسد صورتها الآن، وتكون لها صورة أخرى لا نعلمها الآن، ولما كانت هي المقصودة لم تنزل الكتب الإلهية إلاَّ بذكرها. وما جاء ذكر الأرض إلاَّ مفرداً، قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾[فصلت: 41/9].

ثم قال: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾[فصلت: 41/10].

لأنها خزانة أقوات المولدات. ومن جملة أقواتها، وجود الماء والهواء والنار، ومافي ذلك البخارات والآثار العلوية. فمجموع خلق الأرض وتقدير أقواته فيها كان في ستة أيام،  مع خلق السموات: قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾[هود: 11/7].

من أيام الربّ، كل يوم ألف سنة ممّا تعدون، أي من أيامه المعروفة عندنا. وجعل تعالى ما بين مركز الأرض صخرة عظيمة كرة، وفي وسط تلك الصخرة الصماء، حيوان في فمه ورقة خضراء، يسّ[ح الله ويمجّده. وطوّق بالأرض جبلاً من صخرة خضراء، سُمّي بجبل قاف. وقاف اسم الملك الذي جعل الله بيده حكم ما يظهر في الأرض من الزلازل والرجفات والخسف ونحو هذا. فكلُّ ما يحدث في الأرض هو بيد هذا الملك الكريم، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾[ص: 38/ 32].

الحجاب جبل أخضر من ياقوت، محيط بالخلائق. فمنه خضرة السماء التي يقال لها الخضراء، وخضرة البحر من السماء لها يقال البحر الأخضر، وطوّق تعالى بهذ الجبل حية عظيمة اجتمع رأسها مع ذنبها. حكى سيدنا إمام العارفين محي الدين: إنه اجتمع بمن صعد هذا الجبل وكان من الأبدال، من أهل الخطوة قال له: صلّيت الصبح في أسفله والعصر في أعلاه. وأنا بهذه المثابة، يعني من المشي بالخطوة. قال: وكلمّته تلك الحية، وسألت عن الشيخ أبي مدين شعيب، المدفون بتلمسان. وأنه تعالى حلّل ما حلّل، ولطّف ما لطف في جوف كرة الأرض منها، فكان ماء نتناً، وهو البحر العظيم المحيط بالأرض، فدار هذا الماء بالصخرة، وصارت الأرض عليه. ثمَّ حلّل تعالى ما حلَّل من الماء، فكان الهواء المظلم. فدار ذلك الريح بالمركز، الذي هو الصخرة، فاشتدت حركة الريح، فأمسك عليه الماء. والأرض فوق هذا الماء. أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: ((خلق الله الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح)).

ولعل الحوت الوارد في هذا الحديث وغيره هو الذي عبر عنه أهل الكشف بالحيوان الذي هو في وسط الصخرة. وكيفية الدنيا الآن: الأرض على صخرة: أعني مركز الأرض، دار بالصخرة هواء وعلى الهواء ماء، وعلى الماء أرض، وعلى الأرض ماء، وعلى الماء هواء، وعلى الهواء جمد، وعلى الجمد بحر، وعلى البحر هواء، وعلى الهواء نار، وعلى النار السماء الدنيا، إلى السماء السابعة. فأصغرها الأرض التي نحن عليها، طبقة سوداء وطبقة غبراء، وطبقة حمراء، وطبقة صفراء، وطبقة بيضاء، وطبقة زرقاء، وطبقة خضراء.

كذا أخرجه أبو الشيخ عز سلمان. وهي وَإِن كانت سبع طبقات بالأدلة الشرعية و الكشف فقد يعسر الفصل بينهن، فهن معقولات غير محسوسات، كالامتزاج في الممتزجات، مثل النيل والاسفيداج. فإنا نعلم أن أجزاء النيل مجاورة لأجزاء الاسفيداج، مجاورة بالعقل لا يدركها الحشر ولا يفصلها. ولولا أن الشارع أ خبر أنه سبع أرضين ما أدرك ذلك العقل ولا الحس.

وجعل تعالى لكل أرض استعداداً وانفعالاً، لأثر حركة فلك من أفلاك السموات، وطرح شعاع كوكبها، فالأرض التي نحن عليها للفلك الأول الذي يلي فلك الثوابت، فهي أصغر أرض لأكبر فلك. ثم ينزل الأمر من سماء إلى أرض، إلى السماء السابعة السفلى، فأكبر أرض لأصغر سماء.

ثم اعلم أنَّ الأرض متحركة حركة خفية لا تدرك حسًا ، لأن الحق تعالى ـ أخبر أنه دعاها، قال لها وللسماء:

﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾[فصلت: 41/11].

فأجابتا طائعتين، فهما آتيان أبداً، طلباً للكمال، وحركة الأرض حول الوسط لأنها أكر حقيقية بسيطة الطبع، وكلُّ متحرك بالاستدارة متحرّك في حيزه، فهو متحرك ساكن إذ لا يصدق عليه اسم الحركة، وهي الانتقال من حيز إلى حيز، فما انتقل من حيزه، ولا سكن فيتصف بالسكون، فلما خلق الله تعالى الأرض على الماء، و الماء على الريح، اضطربت، ومادت. فقالت الملائكة وكان الحق تعالى أعلمهم أنها محل خلق يخلقون منها على نشأة مخصوصة، لا يمكن التصرُّف معها إلاَّ على ساكن: ياربنا كيف استقرار عبادك على هذه الأرض؟! فما شعروا إلاَّ و الجبال على الأرض. هكذا ورد بمعناه، في خبر أخرجه ابن أبي حاتم.

خلق الله تعالى الجبال من الأبخرة الغليظة المتراكمة الصاعدة من الأرض، فهي مادتها، فلما خلقت الجبال على الأرض تفاوتت جوانبها، وتوجهت الجبال نحو المركز، فمنعتها أن تتحرك كحركة الكواكب، فهي على حركتها الرحوية الخفية. ومن الأرض تفجر الأنهار، وكلُّ ما ينزل من المعصرات فهو من بخارات الرطوبات التي تصعد من الأرض، فمنها تفجر العيون والأنهار، ومنها تخرج البخارات إلى الجو، فتستحيل ماء، فينزل غيثاً وإليها، دولاب دائم.

ثم بعد خلق الأرض خلق الله عنصر الماء.

فصل في الماء 19

ثم خلق الله تعالى بعد الأرض ركن الماء، وهو بارد رطب، فناسب الأرض من جهة البرودة، له عقل وروح وعلم كالأرض، وساير أجسام العالم. جعله تعالى ـ محيطاً بالأرض، فهي مغمورة به، إلا َّ القدر الذي استقرَّ عليه الحيوان البري والنباتات البرية. و الماء العنصري أصله من نهر الحياة، وهو فوق الأركان، ومنه جعل ـ تعالى كلّ شيء حيّ. والماء يعطي الصور في العالم؛ فلذا أوّل شيء يظهر للعين من صور العالم الماء. وهو شفّاف لا لون له في الأصل. فلما اختلط بالأجزاء الأرضية تكاثف. واختلف الحكماء فيه: هل هو مغذّ للأبدان، أم لا؟! وجعل تعالى الماء المحيط بالأرض مالحاً، لما فيه من مصالح العالم. فإنه بملوحته يصفّي الجو من وخم العفونات، التي تطرأ فيه من أبخرة الأرض وأنفاس العالم. فإن الأرض، إذا خالطه الماء، وكثرت عليها الحرارة بما تعطيه الكواكب والشمس من الأشعة، فإذا قويت الحرارة على الرطوبة صعدت بها بخاراً علواً، فمن هناك يكون التعفن في الجو، فيذهب ذلك التعفين مافي ماء البحر من الملوحة، فيصفو الهواء الذي يستنشقه كلُّ متنفس. وجعل تعالى لبقاع الأرض في الماء حكماً. فجعل من الأرض سباخاً تعطي ماءً مالحاً، وأخرى تعطي ماءً مراً، وأخرى تعطي ماء زعاقاً، وأخرى تعطي ماء عذباً فراتاً. وأصل ذلك كله ممّا أعطى الماء الأرض من الرطوبة، وأعطاها الهواء من الحرارة، حكمة إلهية: فالعذب لمصلحة الشرب. والملح لمصلحة إذهاب العفونات. وكلُّ ما ينزل من المعصرات فإنما هو من بخارات الرطوبات التي تصعد من الأرض. ألا ترى البخار الصاعد من الأنهار والبحار يصعد من الأرض ومن البحر، يطلب ركنه الأعظم، فيستحيل ماء، ويلحق بعنصره منه على قدر ما سبق في علم الله من ذلك؟! فجعل تعالى صعود البخار من الماء، وهو ماء استحال هواء، يسمّى بخاراً ليقع الفرق بين الهواء الأصلي والهواء المستحيل. ثم يصير غماماً متراكماً، ثم ينزل ماء، كما كان أوّل مرة،  فعاد إلى أصله الذي خرج منه. ثم يعود الدور، فهو دولاب دائر أبداً. منه يخرج وإليه يرجع بعضه.

فصل في الهواء 20

ثم بعد الماء خلق الله تعالى ركن الهواء، وهو حار رطب ذو روح وعقل وعلم وتسبيح، وهبوبه تسبيحه. وهو الأسطقس الأعظم، خلقه بعد الماء لمناسبة الماء من جهة الرطوبة. وهو أقرب الأركان نسبة إلى نفس الرحمن. فإن الهواء نفس العالم الكبير. وليس في الأركان أقبل من الهواء لسرعة الاستحالة. وإذا تحرّك الهواء سمّي ريحاً، ولا يكون له هذا الاسم إلاَّ إذا تحرك. والهواء أقوى من الماء، وبه يجري الماء ويتحرك وينساب. والماء أقوى من النار، والنار أقوى من الحديد، والحديد أقوى من الجبال، والجبال أقوى من الأرض. ولا شيء أقوى من الهواء إلاَّ الإنسان إذ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. كذا ورد في خبر بمعناه، أخرجه الترمذي. والمراد من ذلك أنه ملك هواه، وجعله مقهوراً تحت حكم شرعه وعقله. وبركن الهواء حياة العالم، كما أنَّ الماء أصل صور العالم. فصورة الهواء من الماء، وروح الماء من الهواء. فلو سكن الهواء لهلك كل متنفّس، وكلُّ شيء في العالم متنفس، لأنّّ كلَّ شيء في العالم ذو روح، والروح نفس. فلولا الهواء ما نطق ناطق ولا صوّت مصوت. ولو منع الحيوان التنفس وهو إخراج الهواء وإدخاله لمات من ساعته. فبالهواء حياته، وباحتباسه موته، فإن القلب يحرقه الهواء بسخونته وباحتباسه. وخلق تعالى الهواء لطيفاً ليقبل سرعة الحركة. فإن المتنفس يحتاج في وقت على نفس كثير، وفي وقت على نفس قليل. وإذا كان الهواء ريحاً بتحرُّكه انقسم إلى أربعة: شمال، وهي مابين الجدي إلى مطلع الشمس وجنوب، وهي مابين مطلع الشمس إلى سهيل. وصبا، وهي مابين مطلع الثريا على بنات نعش. ودبور، وهي ما قابل الصبا. أخرج أبو الشيخ، عن الحسن البصري، قال: جعلت الرياح على الكعبة، فإذا أردت أن تعلم ذلك فأسند ظهرك إلى الكعبة. فالشمال عن شمالك. وهي مما يلي الحجر، والجنوب عن يمينك، وهي ممايلي الحجر الأسود. و الصبا قبلك، وهي مستقبل باب الكعبة، والدبور من دبر الكعبة. ومن الريح رياح لواقح. وهي التي تعطي صوراً: مثل التي تشعل النار، وتلقح الأشجار..... أخرج ابن جرير في تفسيره، أنه (صلى الله عليه وسلم): قال: ((الريح الجنوب من الجنة، وهي من اللواقح، وفيها منافع للناس)).

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: ((ما راحت جنوب إلاَّ سال واد مم رأيتموه أو لم تروه)).

وأخرج عن قيس بن عبادة قال: ((الشمال ملح الأرض)).

وفي صحيح البخاري عنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((نصرت بالصبا)).

ومنها ريح عقيم، وهي كل ريح تذهب الصور، كالتي تطفئ السرج، وتهلك النبات، وتعقم الأشجار، وتضر الحيوان. ففي صحيح البخاري: ((أهلكت عاد بالدبور)).

وأخرج ابن المنذر، عن عبد الله بن عمرو، قال: الريح ثمان، أربع منه رحمة، وأربع منها عذاب، فأمَّا الرحمة فالناشرات والمثيرات والمرسلات والذاريات، وأمَّ العذاب: فالعقيم، والصرصر وهما في البرد والعاصف ولقاصف وهما في البحر ـ. والريح واحدة من العين، وماهي واحدة، لأنَّ صورتها تتجدّد في كلّ نفس، كسائر صور العالم. وفي ركن الهواء يتكوّن ويوجد البرد والثلجُ والجليد والسحاب والطر والضباب والطل والصقيع، وتكوينها في الجبال التي ذكر الله في قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾[النور: 24/ 43].

ومادة ذلك ونشوؤه بإرادة الله تعالى ، من الأبخرة المركبة من الماء والهواء، المرتفع بحر الشمس والكواكب. فالبخار المتصاعد قد تلطف الحرارة أجزاءه المائية، فيصير هواء. وقد يبلغ الطبقة الزمهرية، فيتكاثف، فيجتمع سحاباً، ويتقاطر مطراً إن لم يكن البرد شديداً، فإن أصابه برد شديد، قبل تشكّل القطرات نزل ثلجاً. وخالف بعض أهل الكشف فقال: الثلج ليس هو مما يصعد من الأرض وإنما هو من البحر المحيط بالأرض، وهو محمول بالقدرة الإلهية. فإن أصاب المطر برد شديد بعد تشكله قطرات نزل برداً صغيراً، إن كان من سحاب بعيد، لذوبان الزوايا بالحركة والاحتكاك. وإلاَّ فكبير غير مستدير. ولا يكون البرد إلاَّ في الهواء الربيعي غالباً، أو الخريفي، لفرط التحليل في الصيفي، و الجمود في الشتوي، وأمَّا الرعد فبسببه هبوب الهواء، يصدع أسفل السحاب إذا تراكم فيحدث من تمزيقه ومصاككته صوت، وهو تسبيح لله ـ تعالى ، إذ كل صوت في العالم تسبيح. وقد ورد في خبر أخرجه الإمام أحمد أن الرعد ملك. وهذا الملك مخلوق من الهواء، كالملائكة المخلوقين من أنفاس بني آدم. وفي ذلك الوقت يوجده الله، فعينه نفس صورته، وتذهب صورته وتبقى روحه تسّبح الله تعالى دائماً. وأمَّا البرق فهو نارية لطيفة وهواء مشتعل، تحدثه الحركة الشديدة في الهواء. وذلك أن السحاب يثقل بالماء فينزل، كما صعد أولاً بالحرارة، فيحك وجه الأرض فتقوى حرارة الهواء الذي فيه، فيطلب الصعود إلى عنصره، فيجد السحاب متراكماً فيمنعه، فيشتعل الهواء فيخلق الله ملكاً سماه برقاً، ثم ينطفئ فتزول صورته ويبقى روحه. ولابدَّ أن يكون بعد البرق رعد غالباً، لحكمته تعالى، وخلقه. وأمَّا الصواعق فهي أهوية محترقة لا شعلة فيها. فما تمرّ بشيء كثيف إلاَّ أثرت فيه، لقوّة الهواء ولطافته وتأديته. ومن عجيب أمر الصاعقة أنها تذيب الدراهم في الكيس ولا تحرق الكيس ولا تقطعه. وتقطع ذراع الإنسان ولا يخرج منه دم!! ونزلت في بلاد المغرب ذهب عنّي أيُّ سنة كان على رجل كان راكباً فرساً، لابساً برنساً، ورأسه في قلنسوة البرنس فقطعت رأسه، وما أثرت في قلنسوة البرنس شيئاً!! وفي هذا الركن تحدث حيوانات هوائية جوّية، لأن الرطوبة قد تغلب في الهواء، وتعطيه النار حرارة زائدة فيحدث في الجبال التي ذكر الله تعفين، فإذا تعفّن من الهواء ما تعفّن كوّن الله منه حيوانات.

فصل 21

في ركن النار

ثم خلق الله بعد الهواء ركن النار المسمى عند الحكماء بالأثير، وهو حارٌ محيط بكرة الهواء، خلقه الله تعالى موالياً للسماء الدنيا، لتقابل حرارة برودة السماء الدنيا، فيندفع عن المولدات في الأرض ضرر بردها. وهذا الركن أوَّل ركن قبل الأثير لمَّا دارت الأفلاك وأعطت الاستحالة في الأركان، وفي هذا الركن تحدث النجوم ذوات الأذناب، وسمّيت نجوماً كالنجوم الثوابت والدراري السنّة، لأن الكل مأخوذ من نجم، إذا ظهر. وسبب ظهور النجوم ذوات الأذناب، ومادة تكوينها بإرادة الخالق وقدرته هو أن ركن النار متصل بركن الهواء، والهواء حارٌ رطب، لِمَ في الهواء من الرطوبة، إذا اتصل بركن النار أثّر فيه للحركة اشتعالاً في بعض أجزاء الهواء الرطبة. فماهو في ركن النار في الحقيقة، وإنما يحدث في الهواء، تشعله النار فتظهر الكواكب ذوات الأذناب. وذلك لسرعة اندفاعها، فتظهر في العين تلك الأذناب. فهي سريعة التكوين سريعة الاستحالة، كما نراها تتكوّن وتفسد في ثاني زمان تكوينها غالباً، فمايلي العلو منها يطفيه برد السماء. ومايلي السفلي يطفيه الزمهرير، وهو البحر المسجور، فمادتها ونشأتها من الهواء، فيه دخان غليظ، إذا وصل إلى كرة النار، كما يشاهد عند وصول دخان السراج (سراج منطفئ) إلى سراج مشتعل، فيسري فيه الاشتعال. وكما نرى شرر النار إذا ضرب الهواء النار بالمروحة وغيرها، كالكير تطاير منها شرر أمثال الخيوط في رأي العين، ثم تنطفئ، كذلك هذه الكواكب، جعله الله تعالى بعد بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) والذي حدث لها هو الرجم به وكثرتها لأن بعثته (صلى الله عليه وسلم) كانت في الميزان، وهو برج ريحي، فاشتعلت كرة النار اشتعالاً عظيماً، وكثرت الاحتراقات في الأثير وهو ركن النار والنجوم ذوات الأذناب فعمرت كل مسلك في كرة النار، فضاقت المسالك عن الشياطين الذين يسترقون السمع، وما عرفوا علّة ذلك فقالوا: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾[الجن: 72/ 8- 9].لأن الشياطين وهم كفّار الجّن لهم عروج إلى السماء الدنيا يسترقون السمع، أي ما تقوله الملائكة في السماء، و تتحدث به، مم أوحى الله به فيها. فإذا سلك الشيطان أرسل الله عليه شهاباً، ويبقى ذلك الضوء في أثره طريقاً، وقد يطول بقاؤه نادراً أحياناً ساعة فما دونها.

وما رأيتُ ليلة أكثر نجوماً ذوات أذناب، من ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان، سنة تسعة وثمانين ومائتين وألف. ابتدأ ظهورها من وقت صلاة العشاء إلى الساعة الثامنة من الليل، بكثرة كأنها نيران بارود عساكر في حربها، فحيث توجه الإنسان إلى جهة من السماء يراها ممتلئة من ذوات الأذناب. وكان ابتداء كثرتها إلى جهة الجنوب، ثم صار الجوُّ كلُّه يشتعل، فلا يطرف الإنسان طرفة إلاَّ ويرى عدداً لا ينضبط. فقلت: ما هذا إلاَّ لأمر عظيم سيكون.

ومن عجيب ما رأيت أني ما رأيت واحدة قطعت المجرة، وإنما تخرج وتندفع إلى أفق. وما يخرج من المجرة يذهب على الأفق طولاً ولله الأمر.

وقد يكون الهواء غليظاً لاختلاطه بأجواء تصاعدت من الأرض، فلا يشتعل سريعاً، بل يحترق ويطول فيه الاحتراق فيبقى على صورة حيّة، وربما وقف تحت كوكب مسامت له، ويدور مع الكوكب في رأي العين. وقد شاهدناه أيام كنّا بالمغرب، بقي يظهر لنا بعد الغروب ثم يغيب، قبل مضي الثلث الأول من الليل، نحواً من شهر. فسبحان الفعّال لما يريد، المختار القادر. فإن قيل قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّ السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾[الملك: 67/ 5].

فظاهر الآية، يعطي أن ذوات الأذناب في السماء الدنيا القربى منَّا، وأنه من المصابيح التي هي الكواكب، وأن الرمي بها، أي بالكواكب.... فالجواب: أن ذوات الأذناب، لمَّا كانت تظهر لنا في راي العين كأنها في السماء الدنيا منا، كما تظهر لنا النجوم السيارة و الثوابت كذلك، وأين الثوابت من السيارة؟ وأين السيارة من السماء الدنيا؟ فأخبرنا تعالى على حسب ما تدركه أبصارنا ويعتقده الجمهور منَّا. فاسم المصابيح يعمُّ السيارة و الثوابت وذوات الأذناب، ممّا دخل عموم المصابيح. وأم النجوم السيارة و الثوابت فهي في أفلاكها لا تبرح ولا يرمى بها ولا تزول ولا تفسد إلى يوم القيامة، فالضمير في قوله ﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً﴾ يعود على ذوات الأذناب باعتبار أنها مصابيح واعتبار أنها تظهر كأنها في السماء الدنيا من الناس كما تظهر النجوم السيارة والثوابت فهذا التركيب هو مثل قوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 7/ 156]الآية.

فالضمير في قوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ عائد على الرحمة الخاصة، من حيث أنَّ مسمّى الرحمة يشمل الرحمة العامة والخاصة والذاتية والأسمائية.

وما ذكرناه في الأركان الأربعة الأرض و الماء و الهواء والأثير وكائنات الجوّ، ممّا قال به الحكماء هو ممّا وافق فيه الحكماء أهل الله أهل الكشف والوجود، وورد في بعض الِأخبار وإن كانت ضعيفة . فلا تلتفت إلى قول من يقول: هذه آراء الحكماء والفلاسفة، وهي مبنيّة على نفي الفاعل المختار،  فإنه قول أهل الجمود، فليست آراء الحكماء كله باطلة، فلا ينكر كل ما قالته الحكماء إلاَّ بسيط محجوب عن الدقائق والرقائق، فإن للحكماء إصابات عجيبة لا ينكرها منصف. ثم بعد ما خلق الله الأركان ونظمها خلق السموات.

فصل في خلق السموات 22

ثم بعد ركن النار خلق الله الدخان، وذلك أنه تعالى كسا الهواء صورة النحاس، وهو الدخان. قال: ﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ﴾[الرحمن: 55/ 35].

وكانت حينئذٍ السموات رتقاً ففتقها، أي فصل كل سماء على حدة، بعدم كانت رتقاً، أي واحدة دخاناً،  أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: ((إنَّ الله كان عرشه على الماء لم يخلق شيئاً قبل ما خلق غير الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخاناً فارتفع فسماه سماء)) الحديث.

فالسموات مادتها من العناصر الأربعة، فهي عنصرية، وكذا ملائكة السموات، فهم كلّهم من الطبيعة العنصرية، فلما علا الدخان إلى فلك الثوابت فتق تعالى في ذلك الدخان السموات السبع، وأوحي في كل سماء أمرها، ورتب فيها أنوارها وسرجها، وعمره بملائكته لعبادته، ففي صحيح البخاري: ((أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلاَّ وفيه ملك راكع لله أو ساجد)).

خلق تعالى السموات بعدما خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها: قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾[فصلت: 41/9].

إلى أن قال: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾[فصلت: 41/10].

﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ﴾.

خلق تعالى أجسام السموات شفافة، لا تحجب ما وراءها، ولولا ذلك م أبصرنا الثوابت ولا السيارة، ما عدا القمر، فإنه في السماء الدنيا، وجعل تعالى السموات على الأرض كالقباب، على كل أرض سماء، أطرافها عليها نصف كرة، والأرض له كالبساط. سماء أولى عليا على أرض سفلي، وهكذا كلُّ سماء على أرض، إلى سبع سموات وسبع أرضين، وهذا خلاف ما يقوله أهل الأرصاد من الحكماء. أخرج أبو الشيخ عن إياس بن معاوية قال: السماء مقبّية على الأرض مثل القبّة، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بناء السماء على الأرض كهيئة القبة. وخلق تعالى في كل سماء كوكباً، وهي الجواري السبعة. ثم اعلم: أن السموات مستقرة ثابتة ساكنة غير متحركة الحركة التي توهمها أصحاب الرصد، وأن كل سماء متحركة بكوكبها، وإنَّما حركة السموات كحركة الأرض رحويّة في حيّزها، لأنه تعالى دعاهما فقال لهما: ﴿اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[فصلت: 41/11].

فهما آتيان أبداً، فلا يزالا متحركتين حركة خفية، طلباً للكمال في العبودية، إلاَّ أنه في كلّ سماء فلك، وهو الذي تحدثه سباحة كوكب ذلك السماء. فالكواكب السيارة تسبح في أفلاكها. والأفلاك لولا سباحة الكواكب ما ظهر لها عين في السموات. فليست الأفلاك بأجسام مغايرة للسماوات، كما توهّمه كثير من أهل الأرصاد والآخذين بظواهر الكتاب والسنة. فهي أفلاك من حيث ما تحدثه سباحة الكواكب، سموات من حيث عينها. فالأفلاك في السموات كالطرق في الأرض، يحدث كونها طريقاً بالماشي فيها. فهي أرض من حيث عينها، طريق من حيث الماشي فيها. ولكل كوكب في فلكه حركة طبيعية، ولكل حركة طبيعية، في كل فلك، يوم مخصوص يعدُ مقداره بالأيام الحادثة عن الفلك الأطلس المحيط، وهي التي نعدّها أياماً. فكلما قطع كوكب في فلكه الفلك المحيط على الكمال، كان يوماً لذلك الكوكب في فلكه. ويدور الدور، فلكلّ كوكب من السيارة يوم مقدّر، يفضل بعضها على بعض، يقدر سرعة حركاتها الطبيعية، أو صغر أفلاكها أو كبرها. وبقطع هذه الأفلاك بكواكبها في الفلك المحيط وفلك الثوابت يحدث الله عند قطعه وسيرها ماشاء أن يحدث من العالم العنصري. وجميع الكواكب السيارة وغيرها هي صور أرواح ملكية تدبّرها، فبأرواحها ت فعل، كما أن الإنسان بروحه يفعل. وجعل تعالى في كلّ سماء روحانية نبيّ من الأنبياء، كما أنه تعالى جعل في كل أقليم من أقاليم الأرض السبعة، بدلاً يمسك الله وجود ذلك الإقليم به، يستمد ذلك البدل من روحانية نبيّ من الأنبياء السبعة، في السبع سموات. خلق تعالى السماء الأولى والثالثة على طبيعة واحدة، وهي البرودة و الرطوبة. وخلق الرابعة والخامسة على طبيعة واحدة وهي الحرارة واليبوسة. وخلق السماء الثانية ممتزجة، وخلق السماء السادسة حارة رطبة. وخلق السماء السابعة باردة يابسة.

وأول ما أوجد الله تعالى من السموات السماء الدنيا أي القربى منا.

فصل في السماء الدنيا 23

خلق الله تعالى السماء الدنيا يوم الاثنين، كما ورد في الخبر، وجعل كوكبها القمر، ويعبّر عنه بعض سادة القوم بالإنسان المفرد، وهو مسكن الملك الموكل بهذه السماء، فهي له كالقلعة لسكن الملك، ونور القمر، من نور الشمس، كسائر السيّارة. ونوره يزيد وينقص بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إلى ذاته، فإنه بالنسبة إلى ذاته بدر دائماً ومحاق دائماً. فبقدر ما ينقص من وجهه الذي إلينا، وهو وجهه الظاهر يزيد في وجهه الآخر، وهو وجهه الباطن؛ كالليل والنهار، فما ينقص من النهار يزيد في الليل، وما ينقص من الليل يزيد في النهار، واليوم الذي هو مجموع الليل والنهار م زاد ولا نقص، فهو أربع وعشرون ساعة دائماً. وأسكن تعالى هذا السماء روحانية آدم (عليه السلام) والبدل الذي يحفظ الله به الإقليم الأول من الأرض على قدم آدم (عليه السلام) وآدم هو المسمّى بالإنسان المفرد. وقد ورد في الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجده ليلة أسرى به في هذه السماء، وعن يمينه وشماله نسم بنيه السعداء والأشقياء. فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. ووجه المناسبة بين آدم (عليه السلام) وبين هذه السماء وكوكبها هي سرعة التغيّر والتقلّب. فإن الإنسان كثير التقلب والتغير في خواطره في باطنه. قال بعض المراقبين من أرباب القلوب: إنَّه في اليوم والليلة يتغير الإنسان سبعين ألف مرَّة من خاطر إلى خاطر، وهذا الفلك سريع الحركة، فإنَّ أسرع الحركات الفلكية حركة فلك القمر، لأنَّه يقطع الفلك المحيط في ثمانية وعشرين يوماً، وليس هذا لغيره من الأفلاك، فلهذا كان ظهور الآثار في الكون سريعاً، لسرعة حركته. وله كل حكم يظهر في العالم في الأجسام والأرواح. فكل أثر علويّ في الهواء والنار فمن سِباحة القمر، وكل أثر سفلي في عنصر الماء والتراب فمن حركة فلك السماء الدنيا. وكل أمر علمي يكون يوم الاثنين فمن روحانية آدم (عليه السلام). وروحانية القمر هي المسماة عند الحكماء بالعقل العاشر، العقل الفعال. وهو كغيره من السيارة، يقطع في الفلك المحيط ليتحصل من خزائن البروج، التي هي تقديرات في الفلك المحيط الأطلس، ومن الملائكة الموكلين بالخزائن من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب. والقمر متحرك بالإرادة كغيره من الكواكب، كتحرك الإنسان في الجهات التحرك الإرادي، لأنها مكلفة عاقلة عالمة مأمورة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) في ناقته: ((دعوها فإنها مأمورة)) رواه البخاري، وقال في الشمس: ((إنما تستأذن كلّ يوم في الطلوع فتطلع، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن له ويقال لها ارجعي من حيث جئت)).

فالجواري تريد في حركاتها أن تعطي ما في سمواتها من الأمر الإلهي، الذي يحدث أشياء في الأركان والمولدات الأربعة. وليس في الأفلاك أصغر من فلك القمر، أعني سماؤه، ولصغره كان أسرع دورة. جعل الله تعالى هذه السماء على طبع الماء باردة رطبة، فكان بينها وبين ركن النار الذي هو الأثير، منافرة حكمة بالغة، حتى لا تستحيل ناراً، فيبطل ما يراد بهما ممّا يهب الله المولدات والصور عند حركاتها في عالم الأركان. ولولا أنه تعالى جعل كرة الأثير بينها وبين الأرض ما تولّد نبات ول حيوان لشدة بردها. فلمَّا دار هذا الفلك دورة قسرية فصل مكانه من الجسم الكلّ، فظهر الهواء بينه وبين الذي فوقه، وهكذا الأمر في كلّ سماء من السبع سماوات.

فصل في السماء الثانية 24

للسماء الدني

ثم خلق الله السماء الثانية، وجعل كوكبها عطارداً، وهو الكاتب. ويومه المتعلق به هو يوم الأربعاء، وهو يوم النور، يوم عطارد. وكل أثر علوي في عنصر الهواء والنار في هذا اليوم فمن روحانيّة عطارد. وكل أثر سفلي في ركن الماء والتراب في هذا اليوم فمن حركة فلك هذه السماء. وكل أمر علمي في هذا اليوم فمن روحانية عيسى، فإن الله أسكنه هذه السماء الثانية، ومنه يستمد البدل الذي يحفظ الله به وجود الإقليم الثاني. والمناسبة بين هذه السماء وبين عيسى (عليه السلام) هي كون هذه السماء هي حضرة خرق العوائد والإعجاز. وعيسى (عليه السلام) نشؤه خرق عادة، وكلامه في المهد خرق عادة، وإحياؤه الموتى خرق عادة. فهو في نفسه وفي أحواله خرق عادة. ومن أمر عيسى يعرف العارف الاستحالات الحسية والمعنوية، وكيف يصير الكثيف مثل الماء والتراب وجسد الإنسان، لطيفاً مثل الهواء والنار؛ واللطيف مثل النار والهواء والملك، كثيفاً مثل الماء والتراب والإنسان. فإنه عليه الصلاة والسلام لما تجسد الروح جبريل لأمه، فكان ذلك عبارة عن تكثف اللطيف، ثم رفعه إليه حيّاً إلى السماء الثانية بجسده؛ فكان ذلك عبارة عن تلطف الكثيف. ثم ينزل من السماء إلى الأرض، كما ورد في الأخبار الصحيحة المتواترة، وهو عبارة عن تكثف اللطيف، ثم يموت، وهو عبارة عن تلطف الكثيف، بل العالم كلّه يستحيل من لطيف إلى كثيف، ومن كثيف إلى لطيف. فمن أدرك الأمر وكشف له عن هذا السر، عرف كيفية عروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بجسده الشريف من الأرض إلى السموات، سماء بعد سماء، إلى الكرسي إلى العرش، إلى أن جاوز جميع الأجسام الحسية، ثم الأجسام الروحية، ثم الأمور المعنوية، إلى حيث لا حيث، وذلك عبارة عن تلطف الكثيف بحسب كلّ مرتبة. فإن اللطائف متفاوتة في اللطافة. ثم رجع على طريقة إلى مامنه عرج، وذلك عبارة عن تكثف اللطيف، بحسب كلّ مرتبة. فإن الكثائف متفاوتة في الكثافة. فكلما وصل العارج إلى مرتبة انصبغ بحكمها، كانت ما كانت، وكلّما وصل إليها هابط على مرتبة انصبغ بحكمها كذلك. وكيف يستبعد عروجه (صلى الله عليه وسلم) بجسمه الشريف مستبعد، وينكره منكر، وهو يرى نفوذ الشعاع البصري وهو جسم في كرة الزجاج إلى ماهو داخلها من الألوان؟!... وما أنكر حشر الأجساد مع الأرواح الذي وردت به الشرائع الإلهية إلاَّ من لم يطلع على حقائق الأشياء.

فصل في السماء الثالثة 25

وهي باردة رطبة كالسماء الدنيا. جعل تعالى كوكب هذه السماء الزهرة، ويومها يوم الجمعة، فكل أثر علويّ يكون في ركن النار والهواء في هذا اليوم فمن روحانية الزهرة. وكل أثر سفلي يكون في الماء والتراب في هذا اليوم فمن حركة فلك الزهرة. وأسكن تعالى هذه السماء روحانية يوسف الصديق (عليه السلام) وكل أمر علمي يكون للعلماء بالله في هذا اليوم فمن روحانية يوسف الصديق (عليه السلام) ومنه يستمد البدل الذي يحفظ به الإقليم الثالث. والمناسبة بين يوسف (عليه السلام) وبين هذه السماء هي أن هذه السماء حضرة التخييل والتصوير والتمثل، ويوسف (عليه السلام) كان من الأئمة في علم التخييل والتعبير، وذلك معلوم من الكتاب والسّنة.

فصل في السماء الرابعة 26

وهي حارة يابسة، جعلها تعالى في قلب العالم، فإن تحتها سبع أكر: التراب والماء والهواء والنار والسماء الدنيا، والثانية والثالثة. وفوقها سبع أكر: العرش والكرسي والأطلس فلك البروج، وفلك الثوابت، وسماء زحل وسماء المشتري، وسماء مريخ. وجعلها قلب السموات، فإن فوقها ثلاث سموات، وتحتها ثلاث سموات. فلهذا سماه تعالى مكاناً علياً، فهو علوُّ مكانة ورفعة لا علوُّ مكان، فإن التي فوقها أعل منها. وجعل كوكبها الشمس، وهو الكوكب الأعظم القلبي. ومنورها جميع الكواكب السيارة وغيرها. ونور الشمس ما هو من حيث عينها، بل هو من تجلّ دائم لها، من اسمه تعالى ـ «النور» فما ثمَّ نورٌ إلاَّ نور الحق تعالى . والناس يضيفون النور إلى الشمس، ولا فرق بين الشمس والكواكب في ذلك. وأن نورها ليس لذاتها، إلاَّ أن التجلّي من اسمه «النور» للشمس، على الدوام. فلا يذهب نورها إلى يوم القيامة زمان تكويرها قال تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: 1].

وتكويرها إذهاب ضوئها، فإن ذلك التجلّي النوري، يستتر عن أعين الناظرين بالحجاب الذي بينهم وبين الشمس. وبخلق الشمس في هذا الفلك ظهر الليل والنهار، فقسّم اليوم بين ليل ونهار. وأمَّا اليوم فإنَّه حدث بحركة الفلك الأطلس، ولم يكن ثمَّ ليل ولا نهار. وكما تضيء الشمس على ما تحتها كذلك تضيء على ما هو أعلى منها. وكلُّ أثر علوي يكون في عنصري الهواء والنار يوم الأحد، وهو يوم الشمس، فمن روحانية الشمس ونظرها. وكل أثر سفلي يكون يوم الأحد في عنصري التراب والماء، فمن حركة الفلك الرابع، فلك الشمس. وأسكن تعالى هذه السماء إدريس (عليه السلام) فكلُّ أمر علمي يكون يوم الأحد، يوم الشمس، للعلماء بالله، فمن روحانية إدريس (عليه السلام) والمناسبة بين إدريس (عليه السلام) وبين هذه السماء هي القطبيّة، وعلوُّ المكانة. فإنَّ تعالى أخبر أنه رفع إدريس مكاناً علياً، وهو السماء الرابعة، فإنه قطب الأفلاك، وعليها تدور رحاها. وإدريس (عليه السلام) هو قطب الوجود العلوي والسفلي، عليه تدور أرواحه وصوره، فهو مظهر حقيقة محمد، ونائبه. فالقطب خليفة الله في الأرض، أي أرض الإمكان ولابدَّ أن يكون الخليفة على صورة من استخلفه، فيظهر بأسمائه وصفاته على الكمال. والخلافة مخصوصة بهذا النوع الإنساني، خصّه بالله به منّة وفضلاً. ولابدَّ أن يكون موجوداً بجسده وروحه، فروحه قطب الأرواح، عليه تدور، وهو يمدُّها، ويدبرها الأرواح العلوية والسفلية. وصورته قطب الصور، عليه تدور، وهو يمدها ويدبرها الصور العلوية والسفلية، فهو مجلى الحق تعالى من آدم إلى يوم القيامة. ولما كان القطب على صورة الحق تعالى لم يصح أن يكون أزيد من واحد في كل زمان: ﴿لَوْكَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 21/ 22].

ولما كان إدريس (عليه السلام) هو القطب لم يصح أن يموت، لأن الله حيٌّ لا يموت، وهو المستثنى في قوله: ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾ [الزمر: 39/ 68].

فإدريس نائب محمد (صلى الله عليه وسلم) على قلبه، كما أن الأقطاب في كلّ زمان، نواب إدريس (عليه السلام) وخلفاؤه، فجميع الأقطاب التي تأتي وتذهب وتتوارث القطبية، كما هو معروف عند أهل هذه الطريق هم نواب إدريس (عليه السلام) ولا يعرف أحد هذا من الأولياء، سوى النواب عند نيابتهم.

فصل في السماء الخامسة 27

وهي حارّة يابسة، جعل تعالى كوكب هذه السماء الأحمر مريخ. ويومه الثلاثاء. فكلُّ أثر علوي يكون يوم الثلاثاء في عنصري الهواء والنار فمن روحانية الأحمر. وكلُّ أثر سفلي في عنصري الماء والتراب، يكون يوم الثلاثاء،  فمن حركة فلك الأحمر، وأسكن تعالى هذه السماء روحانية هارون (عليه السلام) ومن روحانيته يستمد البدل الذي يحفظ الله به الإقليم الخامس. والمناسبة بين هارون (عليه السلام) وبين هذه السماء أنها سماء اللين والتؤدة والرحمة، وأخبار هارون وظهوره بهذه الصفات مشهورة مسطورة في التواريخ والكتب القديمة. وأيضاً أنها سماء الخلافة، وعلم تدبير الله وسياسته، وعلم التقرُّب بذبح الحيوان؛ وهارون (عليه السلام) كان خليفة موسى ووزيره؛ والوزير هو الذي له تدبير المملكة وسياسة الرعايا. ولكون هارون (عليه السلام) كان له علم القربان بذبح الحيوان، كانت الكهونة، وهي تولية القرابين، مخصوصة ببني هارون دون سائر بني إسرائيل، أيام استقامة بني إسرائيل.

فصل في السماء السادسة 28

وهي حارّة رطبة، جعل تعالى كوكب هذه السماء البرجيس، ويسمى المشتري، كما يسمى بهرام، ويومها الخميس. فكل أثر علوي في عنصري الهواء والأثير، وهو النار في يوم الخميس فمن روحانية البرجيس. وكلُّ أثر سفلي يكون في عنصري الماء والتراب يوم الخميس فمن حركة فلك البرجيس، وأسكن تعالى هذه السماء روحانية موسى (عليه السلام) ومنه يستمدُّ البدل الذي يحفظ الله به أهل الإقليم السادس. والمناسبة بين موسى (عليه السلام) وبين هذه السماء أنها سماء الغيرة، وسماء علم خلع الصور من الجوهر وإلباسه صوراً غيرها، وموسى (عليه السلام) كان مظهر الاسم: الغيور، كما علم من أخباره، وفهم من آثاره. قد نقل أنه (عليه السلام) كان إذا غضب ولا يغضب إلاَّ لله اشتعلت قلنسوته ناراً من قوة غضبه لله. وكانت آيته خلع الجوهر صورة العصا وإلباسه صورة الحيّة؛ وخلع الجوهر الصورة التي تكون ليده، وإلباس اليد صورة بيضاء من غير سوء ولا برص ولا عاهة، ليعلم موسى ومن شاء الله من عباد الله، أن الحقائق لا تنقلب، وإنما الإدراكات تتعلق بالمدركات، تلك المدركات له صحيحة لا شك فيها، لأنَّ القوّة البصرية أعطت ما فيها، فيتحيل من لا علم له بالحقائق أن الحقائق انقلبت، وما انقلبت، وإلى هذه إشارة عليم الأسود في قصته المشهورة المتقدمة الذكر فيقوله: «يا هذا، إن الأعيان لا تنقلب، ولكن لحقيقتك بربك تراها هكذا» يعني حقيقتك مع ربّك. فالباء بمعنى مع، أي من حقيقتك أنك ترى ربّك تتبّدل عليه الصور بحسب الاعتقادات والتجليات التي يتجلَّى بها عليك، وهو واحد العين، ولا يمكن أن تراها إلاَّ كذلك. فإن الأمر الذي اقتضته حقيقتك، كما رأيت الجوهر الذي تبدّلت عليه الصور الحجرية والذهبية، وهو واحد العين، كما ترى النور إذا ضرب في الزجاج مختلف الألوان، والنور واحد العين ما تلون ولا اختلف، والألوان ظاهرة الاختلاف، ولا تشكُّ فيها، ولا يمكن أن تراه إلاَّ هكذا.

العين واحدة والحكم مختلف

ويدرك العلم مالا يدرك البصر

فصل في السماء السابعة 29

وهي باردة يابسة جعل الله كوكب هذه السماء زحل، ويسمى المقاتل، ويسمى كيوان، ويومها السبت. فكل أثر علوي في عنصري الهواء والنار يكون في يوم السبت فهو من روحانية زحل. وكل أثر سفلي يكون في عنصري الماء والتراب يكون في يوم السبت فمن حركة فلك زحل. وأسكن تعالى هذه السماء روحانية إبراهيم الخليل (عليه السلام) فكلُّ أمر علمي يكون للعلماء بالله يوم السبت فمن روحانية إبراهيم الخليل (عليه السلام) ومنه يستمد البدل، الذي يحفظ الله به أهل الإقليم السابع. ووجه المناسبة بين هذه السماء والخليل (عليه السلام) هو أنه من هذه السماء يعلم أن ملة الخليل (عليه السلام) هي الملة السمحاء، لا ضيق فيها ولا حرج. وهي ملة محمد (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ﴾[الحج: 78]. وقال: ﴿مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾.

فكلُّ شيء فيه ضيق وحرج على المكلف فليس هو من دين محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا من ملته، ولا جاء به. وكل ماكان فوق الاستطاعة فهو حرج، فليس من الدين. ومن المرجحات عند أهل الله تعالى الذين قعّدوا على قواعد الشريعة المحمدية أن يكون أحد القولين والدليلين أسمح وأسهل من مقابله، فيترجح بذلك على ما هو أصعب وأضيق. فاحفظ هذه القاعدة، واعمل عليها، على أي مذهب كنت. وإن خالفت الفقهاء الذين حجروا على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ما وسع الله به عليهم، فضيّق الله عليهم أمرهم في الآخرة، وشدّد عليهم المطالبة والمحاسبة يوم القيامة لكونهم شدّدوا على عباد الله تعالى ، أن لا ينتقلوا من مذهب إلى مذهب في نازلة، طلباً لرفع الحرج، واعتقدوا أن ذلك تلاعب الدين، وما عرفوا أنهم بهذا القول مرقوا من الدين. بل شرعُ الله أوسع، وحكمه أجمع وأنفع. وهذه السماء أيضاً سماء الثبات في الأمور، ول أثبت من الخليل (عليه السلام) فإنه ثبت على قوله: «حسبي الله» حين رمي بالمنجنيق في النار، حضر إليه جبريل (عليه السلام) فقال لإبراهيم الخليل: هل لك من حاجة؟ فقال إبراهيم أمَّا إليك فلا. فقال: إلى من؟ قال: إلى الله. هكذا ورد في الأخبار النبوية. ولذا قال بعض سادة القوم في قوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾[النجم: 53/ 37].

تنبيه

وما قدّمناه من اختصاص كل نبيّ بسماء، هو على أحوالهم ومراتبهم التي كانت مجالي أحكام هذه السموات، فمن كان الغالب عليه ظهور تجلّ مخصوص أضيف إليه. ولا نشكُّ أن أشباحهم مدفونة في الأرض إلاَّ من رفع حيّاً. وهما إدريس وعيسى (عليه السلام) وأرواحهم ليست بمتحيزة.

تنبيه ب

السموات السبع والدراري لا ترى أعيانها للبعد المفرط، فرؤيتها بالأبصار غير ممكنة عادة. فقد ورد في الخبر: ((بين سماء الدنيا والأرض سبع طباق. بين كلّ طبقتين بضع وسبعون سنة)).

فيكون بين سماء الدنيا والأرض خمسمائة سنة. والزرقة التي نراها جهة السماء هي أدخنة وأبخرة، أشرقت عليها أشعة الشمس والكواكب، وأما الدراري والكواكب الثابتة فإنما نرى الشعاعات التي تنبعث منها إلى جهتنا. فإن السموات وما تحتها من الأكر شفّافة لا تحجب ما وراءها. ولجميع الأكر والسموات وما فوقها وما تحته خاصية، ولكل خاصية صبغة، فلا يدخل شيء في تلك الأكر إلاَّ إن انصبغ بصبغة خاصيتها، فلو قدرت حجراً قذف من الأرض علواً، حتى وصل إلى الأكرة التي تلي الأرض لا نصبغ وتلطف بلطافة ما دخل فيه. وكلما رقى إلى أكرة تلطّف بتلطفها، حتى ينتهي إلى منتهى الدوائر الجسمانية. ولو أن روحانياً نزل من العرش على لطافته إلى الكرسي لتكاثف بحسب ما نزل إليه. وكلما نزل تكاثف، إلى منتهى أكر التكاثف. ومن ثمَّ تسري الأجرام، فتتروحن وتنفذ في الأجرام السماوية، نفوذ الشعاع البصري في كرة الزجاج، حتى تتصل بما في باطنها، من غير أن تفرق اتصالاتها تلك الكرة؛ وتنزل الروحانيات فتتجسم بكثائفها، حتى يكون الروح الذي هو ألطف الأشياء بشراً سوياً. وبهذا تفهم إسراءه (صلى الله عليه وسلم) بجسمه، إلى فوق العرش المحيط.

باب في الاستحالات

فلما كملت هذه الأركان والأفلاك على الترتيب الذي ذكرناه، ودارت الأفلاك الأحد عشر وتحركت، ومنها ما حركته معنوية، وهي الآباء العلويات، وتحرّكت الأركان الأربعة بتحريكها، وهي القوابل والحوامل والأمهات السفليات؛ وأعطت الحركات في الأركان الحرارة فسخن العالم، لأنه تعالى جعل لأنوار الكواكب أشعة متّصلة بالأركان تقوم اتصالاتها مقام نكاح الآباء الأمهات، والكواكب هي صور الأرواح، فبأرواحه تفعل. فالأرواح كلّها آباء. والطبيعة الظاهرة الحكم بالأركان أمٌّ، لأنها محل الاستحالات، تتوجّه الأرواح على الأركان الأربعة القابلة للتغيير والاستحالة فتظهر فيها المولدات، وهي المعدن والنبات والحيوان والجان والإنسان وهو أكملها.

وقد أراد تعالى بحكمته وسابق علمه، أنه ما يوجد شيء إلاَّ وللعقل الأول الذي هو القلم الأعلى، وللنفس الكلية التي هي اللوح المحفوظ، وللعنصر الأعظم الذي هو مادّة الكل وحقيقته، توجّه خاص لما يريد تعالى إيجاده، فالعنصر الأعظم كنقطة الدائرة للعالم، والعقل الأول له كالمحيط والنفس الكلّية ما بينهما. وكما أن نقطة الدائرة تقابل محيط الدائرة بذاتها، كذلك العنصر الأعظم يقابل بذاته جميع أفراد كرة العالم جزءاً جزءاً، فيوجد الله تعالى عند هذا التوجه، توجه الأرواح والحركات، ما يريد، فتوجد الصور الطبيعية العنصرية. فمن الصور مالا نمو له، ول اغتذاء، وهو المسمّى معدناً وجماداً وحجراً؛ ومنها مالها نمو وغذاء، وهو المسمّى نباتاً؛ وهذان النوعان بطنت حياتهما، وأخذ الله بأبصار أكثر الناس عنهما؛ ومنه مالها نموٌ واغتذاء، وظهرت حياته بالحركة الإرادية والإحساس، وهو المسمّى حيواناً؛ وفي نفس الأمر والتحقيق، كلُّ صورة كانت ما كانت هي حيّة نفخ الله فيها روحاً من أمره. ولا يمكن أن تكون صورة في العالم لا حياة لها ولا نفس ناطقة ولا عبادة ذاتية أو أمرية، سواء أكانت الصورة ممّا يحدثها الإنسان أو غيره من الحيوانات، أو غيرها، عن قصد أو عن غير قصد، فما ثمّ إلاَّ حي لأن وجوده عين حياته، والوجود ل يتجزأ، وإن بطن بعض توابعه، وخفي عن الأكثر بعض آثاره.

فصل المعدن من المولدات الأربعة 30

فأول ما أوجد الله من المولدات من العناصر الجماد، وهو المعادن، وهو الذي بطنت حياته جملة واحدة، فلم تظهر إلاَّ لأهل الإيمان، وأهل الكشف من أولياء الله.

فالمسمّى جماداً عندهم حي ناطق، نطق وجودي، درّاك بإدراك وجودي. فالحياة سارية في جميع الموجودات، وكذلك المنطق والإدراك والعلم. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾[الإسراء: 17/ 44].

وشيء نكرة. ولا يسبّحُ إلا حي ناطق علام بمن يسبح وبما يسبح.

وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾[الحج: 22/18].

فذكر الجماد والنبات، وهما اللذان بطنت حياتهما، إلى غير هذه من الآيات، وقد ورد في الصحيح تسبيح الحصا في كفه (صلى الله عليه وسلم) وورد في الصحيح أيضاً قوله: (صلى الله عليه وسلم) في جبل أحد: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)).

وهل تكون المحبة إلاَّ من وحي عالم بالمحبّة وبمن يحب؟! إلى هير هذا من الأخبار الصحيحة. وهذا كلّه ينكره غير المؤمن، ويؤوله المؤمن الذي غلب عقله إيمانه، اللهم غفرا. ثم اعلم: أن الكلام والنطق المنسوب إلى الجماد والنبات والحيوان غير الإنسان هو ما يحدث من ذلك الذي يريد إفهامك بما يريد الحق تعالى أن يفهمك، فيوجد فيك أثراً تعرف منه ما في نفسه، ويسمى هذا كلاماً. كما أن العاقل من أي أصناف الإنسان كان، إذا أراد أن يوصل إليك مافي نفسه لم يقتصر في ذلك التوصيل على العبارة بنظم حروف ولابدَّ. فإنَّ الغرض من ذلك إنما هو إعلامك بالأمر الذي في نفس ذلك المعلم. فوقتا بالعبارة اللفظية المنطوق بها في اللسان المسمّاة قولاً وكلاماً، ووقتاً بالإشارة بيد أو برأس أو بما كان، ووقتاً بكتابة ورقوم، ويسمّى هذا كلاماً. فليس المقصود من الكلام إلاَّ إفهام السامع مراد المتكلم بما تكلم به، سواء أكان المتكلم ممّن لا ينسب إليه الكلام في العرف، كالطير والنمل، أو ممّن ينسب إليه النطق والقول بالإيمان، كالأرض والسماء والجلود في قوله: ﴿قَالَتَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[فصلت: 41/ 11].

وقوله في الجلود: ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[فصلت: 41/ 21].

أو ممّن لا ينسب إليه قول ولا نطق ولا كلام في العرف، وهو الذي نسب إليه التسبيح الذي لا يفقه. وما قال لا يسمع، إذ الكلام والقول هو الذي من شأنه أن يتعلّق به السمع والتسبيح، لو كان قولاً أو كلاماً لنفى عنه سمعنا، وإنما نفى عنه فهمنا، وهو العلم، والعلم قد يكون عن كلام وقول، وقد يكون بما أراد الله أن يعلم عبده، وقد قال تعالى: ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾[النحل: 27/ 82].

وكلامها المنسوب إليه في العموم إنما هو نفخها في وجوه الناس الموجودين على وجه الأرض شرقاً وغرباً، براً وبحرا، فيرتقم في جبين كلُّ أحد، م هو عليه في علم الله، من إيمان وكفر، بهذا ورد الخبر النبويُّ.

وجميع المعادن، على تنوع أجناسها تنحصر في خمسة أقسام، فإنَّها إن كانت قوية التركيب وتطرقت فهي المعادن السبعة: الذهب والفضة، والنحاس والحديد، (الآنك) والخارصيني والرصاص والأسرُب، وإن لم تتطرّق، لشدّة صلابتها، وهي الأحجار المعدنية كالألماس والياقوت وغيرها، وإمَّا لشدّة لينها، وهي المعادن السائلة كالزئبق. وإن كانت ضعيفة التركيب، وانحلّت بالرطوبة، فهي المعادن الملحية كالنوشادر، وأن لم تنحل بالرطوبة فهي المعادن الذهبية فهذه خمسة أنواع، تحصر جميع أنواع المعادن. وتنحصر بتقسيم آخر في ثلاثة أنواع: مائيات وترابيات وحجريات. جعل تعالى تكوين المعادن كلها في الأرض، عن سباحة الكواكب السبعة في السبعة الأفلاك، والطبائع الأربعة والعناصر الأربعة، ومادة المعادن كلّها البخار يجتمع في باطن الأرض، فل يجد منفذاً لصلابة الأرض، ويصيبها بردٌ ما فيصير ماءً سائلاً، ويختلط بتراب تلك البقعة التي هو فيها، فيصير رجراجاً وتطحنه الحرارة، ويطول به المكث، ويمرُّ عليه برد الشتاء وحرارة الصيف فيسخن ويبرد، ويكثف ويلطف، ويرطب وييبس... فتخلق منه الجواهر المعدنية، بحسب تلك الأرض وتلك الجهة. فتختلف أنواع المعدن لاختلاف الاستعداد، لاختلاف تربة الأرض التي هي فيها، وكيفية اختلاط البخار المنحلُّ بذلك التراب، ومقدار الطبخ الحاصل بالحرارة، ومدّة المكث... فلكل ماذكر أثر في المعادن. وأكثر تكوين المعادن في الجبال، لأنها أصلب من الأرض، فيتحفظ البخار فيها، وقد قلنا: إن أصلها كلّها البخار، غير أن بعضها يستحيل إلى بعض، كما يستحيل الكبرياء باختلاط الزيبق إلى السبعة المعادن المتطرقة. فكل واحد من السبعة لابدَّ أن يكون أصله من الكبريت والزيبق. والاختلاف للأمور التي ذكرناها، ولتوجّهات الأسماء الإلهية،  وأمَّا الحارة فتتكوّن بأمر الله ـ تعالى وإرادته من عمل الحرارة في الطين، الذي صار بواسطة البخار لزجاً حتى أستحكم رطبه بيابسه، فصار حجراً، كما يشاهد في كوز النقاع إذا تحجّر. وأما الرمل فإنَّه متى صادفت الحرارة الطين اليابس بقوة البخار، وعملت فيه عملاً قوياً، فرّقت أجزاؤه صغاراً على مرور الأيام فصار رملاً. وجعل تعالى في كل نوع من المولدات كملا منها. فأكمل صورة في المعدن الذهب. كما أنه تعالى جعل بين كل نوعين متوسطاً بينهما، كالكمأة، فإنها بين الجماد والنبات، فهي جماد من وجه ونبات من وجه.

ثم اعلم: أن جميع أنواع المعدن تطلب الكمال، وهو مرتبة الذهب، فتعوقه في طريقها عوائق، وتمنعها موانع، وتعدم شروطاً. فتغير أنواع المعدن غير الذهب، بإرادة الله، لمصالح الإنسان الذي خلق الله تعالى كلّ شيء من أجله، بالقصد الثاني. وأما القصد الأول بالخلق فتسبيحه تعالى وعبادته، فإنه تعالى علم احتياج الإنسان إلى آلات وأمور لابدَّ له منها، لا تكون في الذهب. ولا تكون هذه الآلات إلاَّ بعدم بلوغ المعدن إلى رتبة الكمال، فيصير حديداً أو نحاساً، أو ما شاء الله، من غير الذهب، واختلف المعدن بالصورة، كما اختلف النبات بالصورة، كما اختلف الحيوان بالصورة، وهو من حيث الجوهر واحد العين. ولهذا يعمّه من حيث جوهره حدٌ واحدٌ. وما تختلف الحدود فيه إلاَّ من أجل الصورة. والاختلاف في الصورة والشكل واللون والمزاج، لا يخرجها عن كونها يجمعها حدٌ واحدٌ وحقيقة واحدة، سواء المعدن والنبات والحيوان. فلا يخرج المعدن ما ظهر في أنواعه من الاختلاف من كونه معدناً. وكذا النبات والحيوان. بل ولا ما ظهر من الاختلاف في أشخاص كلّ نوع. فإن المعدنية والنباتية والحيوان والإنسانية، في كلّ واحد واحدٌ من أنواعها وأشخاصها، مع ظهور الاختلاف في الصور والمقادير والأشكال والألوان والأمزجة. وقد قدمنا: إنَّ سبب ذلك هو عدم تكرار التجلّي الإلهي، والله واسع عليم. فلا تجد نوعين ولا شخصين من جماد أو نبات أو حيوان أو إنسان متفّقين من كل وجه، هذا محال. وإنما كانت صورة الذهب أكمل الصور في جنس المعدن لأنه مظهر الاسم العزيز تعالى . وجميع المعادن تطلب هذه المرتبة. فلم يكن القصد لها إلاَّ اسم هذه الصورة، فتعارضها أسماء إلهية كالاسم الضار فتمرضها، وتعدل بها عن قصدها وتردُّها عن مطلوبها، فالعالم بعلم التدبير الكيماوي هو الذي يعالج المعدن المريض، ويزيل عنه العلّة، ويردُّه إلى حالة الصحّة. وذلك بأن يلقى الدواء المسمّى عند أهل هذه الصناعة بالأكسير، على الحديد والقصدير، فتنقلب صورته صورة فضّة، وعلى النحاس والرصاص فتنقلب صورته ذهباً، والإكسير واحد، ولكن القوابل تختلف استعداداتها. واختلف الناس في وجود هذ العلم والعالم به، فقال بعضهم: لا وجود له، فهو بلا مسمّى، كعنقاء مغرب، حتى قال قائلهم:

كاف الكنوز وكاف الكيمياء معاً

 

لا يوجدان فدع عن نفسك الطمع

وقال بعضهم: هو موجود، والعالم به موجود، والحق أنه موجود ملحق بالمعدوم، فإنَّا لا نشك أن الله تعالى قد أعطى علم ذلك لبعض الأولياء. غير أنه جعل ذلك أمانة عنده، كبعض الأسرار الإلهية، فهو لا يذيعه أمانة وموافقة للحكمة الإلهية. وكذلك إن أعطى الله تعالى علم ذاك إلى بعض الأشخاص غير الأمناء، الذين ليسوا من الأولياء، فهو يشحُّ به عن الناس بخلاً ونفاسة أن يكون غيره مثله، فهو يترك العمل به مخافة أن يصل خبره إلى الملوك، لا أمانة وموافقة للحكمة الإلهية، فإن الله تعالى جعل للملوك رغبة في علم التدبير والكيمياء، فلو ظهر لهم عالم به سألوه أن يعلمهم. فإن منعهم قتلوه غيظاً وحسداً، وإن علمّهم قتلوه غيرة، فلما عرف العالم بهذا العلم، هذا، وأن مآله مع الملوك إلى هذا لم يظهر بهذا العلم عالمه جملة واحدة، فلهذا هو كالمعدوم. وما ينسب لسيدنا خاتم الولاية محي الدين، من الكتب المؤلفة في علم التدبير والكيمياء، ولغيره من الأولياء الداعين إلى الله تعالى فزور وافتراء، فإنه محال أن يدل ولي من أولياء الله، عباد الله، على ما يقطعهم عن الله تعالى . فإن الدنيا قاطعة لغير الأولياء عن الله تعالى . وكذا م ينسب لسيدنا محي الدين، من الكتب المؤلفة في الملاحم والجفر كالشجرة النعمانية وغيرها. وقد اجتمعت به (رضي الله عنه) في واقعة، وسألته عن الجفر المنسوب إليه فقال: كذب وزور، وكذلك الفتاوي المنسوبة إليه، كذب وزور، وما كنت سمعت أن هناك فتاوي تنسب إليه (رضي الله عنه) حتى أخبرني بعض الإخوان، أنه اجتمع بعالم في مكة المشرفة، أخبره أنه رأى فتاوى تتنسب إلى سيدنا محي الدين. وأمَّا كتابه «المقنع في السهل الممتنع» الذي توهم كثير من الأغبياء الحمقى، أنه موضوع في تدبير الكيمياء المعدنية، وأتعبوا أنفسهم في فهمه، على الطريق الذي توهّموه، فإنما هو موضوع في كيمياء السعادة، كيمياء النفوس، وهذا الإكسير هو الذي يعبر عنه سيدنا الشيخ الأكبر بالحجر المكرم،  وبالكبريت الأحمر العزيز الوجود، يلقى على النفس الكافرة فتنقلب مؤمنة، وعلى النفس العاصية فتنقلب مطيعة، وعلى النفس الجاهلة فتنقلب عالمة، وفيه يقول (رضي الله عنه):

مدّعي الصنعة من غير سبب

عشت في زور ودعوى وكذب

فاستمع قول محبّ ناصح

 

صادق اللّهجة محفوظ الطلب

نزل النيّر من أفلاكه

واسع في تحصيل تركيب النسب

وخذ الآبق من معدنه

 

وأمط عنه القذار المكتسب

فإذا ما رضته واحتملت

ذاته التركيب فيه ورسب

صعد الفاضل وانظر حاله

 

بامتزاج النيّرات في لهب

فإذا أفناه يبقى سبب

يقلب الآنك في العين ذهب

ثم اعلم: أن هذه المعادن نفيسها وخسيسها، تنقل إلى الدار الآخرة على صور أجمل وأحسن وأفضل. فالجنّة مبنيّة، وخلقتها من نفايس المعادن، من اللؤلؤ والمرجان، والجوهر والدرّ والياقوت، والذهب والفضة، والزمرد والمسك، والعنبر والكافور..... وما أشبه ذلك. فإذا سمعت أو رأيت في الأخبار النبويّة، أن مراكب الجنّة من در وياقوت ومرجان، وحورها وولدانها وجميع مافيها... فافهم ذلك، كما تفهم أن خلق آدم من تراب وحمإٍ مسنون، وأن بني آدم مخلوقات من ماء مهين، فذلك تنبيه على الأصل. وكذلك النار، فإن فيها كلّ معدن خسيس، مثل الكبريت والحديد والرصاص والنحاس والقار والقطران، وكلّ نتن وقذر، وقد ورد في الأخبار النبويّة: ((صبَّ في أذنيه الأنك، ويجعل لمن كان يسجد اتقاء ورياء؛ ظهره طبقة نحاس)).

وقال تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾[إبراهيم: 14/ 50].

وقال: ﴿وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾[الحج: 22/ 21].

فصل في النبات 31

ثم أوجد الله تعالى النبات بعد الجماد، مختلف الألوان والأشكال والأحوال والطعوم والروائح والمنافع. فمنه قوتُ الإنسان، ومنه قوت الحيوان، ومنه دواء، ومنه داء لبعض الحيوان، بل كلُّ نبات هو دواء وداء، ومنه ضروري للحيوان، ومنه غير ضروري.

وللنبات نوعان من الحياة؛ حياة تمسك أجزاءه العنصرية، والأخرى تعطيه تغذياً ونمواً في الأقطار. وهو نوعان من وجه: شجر، ونجم، وأربعة أنواع من وجه: مزروعات، وغير مزروعات. وكلُّ منها إمَّا مثمراً أو غير مثمر. وجميعه ذو نفس، عالم بخالقه، ومدرك، مسبح لله، ساجد، كما أخبر تعالى بقوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾[الرحمن: 55/ 6].

ومادة النباتات جميعها الماء الممزوج بالتراب، أجرى الله تعالى العادة أن يوجد صورة النباتات وكيفياتها من الماء والتراب، ففي الماء قوة فاعلة، وفي التراب قوة قابلة، مع ما تعطيه الشمس والكواكب من الحرارة، لأنها تطرح أشعتها إلى الأرض، فتمرُّ بالأثير، وهو ركن النار، فتكتسب حرارة، لأنها غير حارّة في ذواتها، وهي أضواء، والضوء أحد أسباب حرارة الأجسام الكثيفة. والسببان الآخران: الحركة وملاقاة الأجسام. فإذا وصلت الأشعة إلى الأرض أكسبتها حرارة، فتنتعش النباتات بالحرارة، وتصلح وتنمو، ولهذا المواضع التي لا تصل إليها أشعة الشمس لا يتكوّن فيها نبات، فلا يكون فيها حيوان، لأن الحيوان من النبات، مثل الموضعين اللذين تحت القطبين، فإنَّ الذي يستضيء من الارض بالشمس، أبداً هو أكثر من نصفها وأشدُّ ما يكون الضوء في وسط م استضاء منها. فالتراب والماء يَلِدَان، والشمس تربى، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾[السجدة: 32/ 27].وهي التي لا نبات فيه

﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ﴾[السجدة: 32/ 27].

﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقَّا﴾[عبس: 80/25 -26].

بخروج النبات،

﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً﴾[عبس: 80/ 27].

وهو كل ما يزرعه الناس ويربونه: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً﴾.

وهو كل ما يزرعه الناس ويربونه: ﴿وَعِنَباً وَقَضْباً﴾.

النبات،

﴿وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً{29} وَحَدَائِقَ غُلْباً{30} وَفَاكِهَةً وَأَبّاً{31}﴾.

وهو كل ما تأكله الأنعام،

﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.

وافتقار الإنسان وجميع الحيوان إلى التغذي ليس من كونه حيواناً ذا نفس ظاهرة الحياة، وإنما ذلك من كونه نباتاً، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً﴾[نوح: 71/ 17].

أي أنبتكم فنبتّم، لأنه تعالى إنما يخلق الإنسان وجميع الحيوان من النطف، والنطف متولدة من النبات، والنبات متولّد من الأرض. أو يكون المراد آدم (عليه السلام) فإنه ورد في خبر نبويّ، صححه أهل الكشف: ((إن آدم (عليه السلام) كان شجرة بوادي نعمان)) يعني على صورة ترتيب أعضائه التي الآدميون عليها اليوم، ثم ظهر حكم النفس الحيوانية في تلك النفس النباتية فتحركت الشجرة بشراً سوياً، وهو آدم (عليه السلام). فإن النفس التي تحفظ نظام أجزاء الجماد تسمّى نفساً جمادية؛ فإنه كانت مع ذلك تتغذى وتنمو وتولد مثلاً، فهي نفس نباتية؛ فإن كانت مع ذلك تتوهّم وتختار وتتخيل فنفس حيوانية؛ فإن كانت مع ذلك تعقل وتتفكر وتختار فنفس ناطقة. وكلُّ نفس باطنةٌ في التي قبلها بالقوّة، وظاهرة عنها بالفعل، فإذا نظرنا إلى الجمادية كانت النباتية باطنة فيها، والحيوانات باطنة في النباتية، والناطقة باطنة في الحيوانية. وكذلك ورد في خبر، صحّحه أهل الكشف أيضاً في البعث الجسماني، أنها تنش سحابة من تحت العرش، فتمطر مطراً كمني الرجال، فتنبت أجسام الناس كما تنبت الحبّة في حميل السيل. يعني أنهم يكونون كما كان آدم، شجرة بوادي نعمان، ولذا ورد في الحديث: ((إن أهل الجنة يدخلونها على صورة أبيهم آدم)). ستون ذراعاً في الهواء، وإنم كان ستين ذراعاً، وهو شجرة نباتية، وفي صحيح مسلم: ((كل ابن آدم يبلى إلاَّ عجب ذنبه، منه كان، وفيه يحشر، ومنه يبعث)).

وعجب الذنب هو الذرة الأولى، والجزء الذي ينبني منه البدن، وهو يكون جماداً، ثمَّ نباتاً، ثم حيواناً، ثم آدمياً، بحسب ظهور أحكام النفوس متمثلة في صور هياكلها. ثم أعلم: أنه تعالى جعل بين كلّ نوعين من المولدات وسطاً، فجعل بين الجماد والنبات الكمأة، فهي تشبه الجماد والنبات، وجعل النخلة بين النبات والحيوان، فإن رائحة طلعها كرائحة المني، ولطلعها غلاف كالمشيمة التي تكون للولد، ولو قطع رأسها ماتت بخلاف النباتات، وجمارها كالمخّ للحيوان، فإذا أصاب جمارها آفة هلكت. وجعل القرد والنسناس بين الحيوان والنبات، مما جعل الله لهما من قوة الإدراك والفهم، ممّا يقرب من الإنسان، وذلك مشهود لكل أحد. كما أنه تعالى جعل في كل نوع من المولدات كاملاً، وأكمل صورة في النبات شجرة الوقواق، وهذه الشجرة توجد في جزيرة من جزائر الصين، تحمل ثمراً كالنساء، بصورة وأجسام وعيون، وأيد، وأرجل وشعور، وأبزاز وفروج كفروج النساء، هن حسان الوجوه، معلقات بشعورهن، يخرجن من غلف كالأجربة الكبار، فإذا أحسسن بالهواء والشمس يصحن واق واق، حتى تنقطع شعورهن فإذ انقطعت ماتت.

وكما خلق تعالى النباتات مختلفة المنافع والمضار؛ كذلك خلق تعالى ـ بعض أصول النباتات تخالف فروعها في الخاصية، فقد نقل سيدنا الشيخ الأكبر، أن أب العلاء بن زهر، من أهل الأندلس كان من أعلم الناس بالطب والنباتات والحشائش، ركب يوماً هو وأبو بكر بن الصائغ وكان دون ابن زهر في علم الحشائش والنبات، وكان يزعم أنه أعلم من ابن زهر بذلك، فمّرا بحشيشة، فقال ابن زهر لغلامه: اقطع لنا من هذه الحشيشة، فأخذ شيئاً منها، وفتلها بيده، وقرّبها مهن أنفه كأنه يشمها ثم قال لأبي بكر: انظر ما أطيب ريحها؟! فشمَّها أبو بكر فرعف من حينه، فما ترك شيئاً في علمه يمكن أن يقطع به الرعاف، ممّا هو حاضر إلاَّ عمله، وما نفع، حتى كاد يهلك. وأبو العلاء يتبسّم ويقول: يا أبا بكر عجزت!! قال: نعم. فقال أبو العلاء لغلامه: استخرج لي أصول تلك الحشيشة. فجاء بها فقال: يا أبا بكر! استنشقها، فاستنشقها أبو بكر فانقطع الدم عنه، فعرف فضل أبي العلاء عليه في علم النباتات.

ولأنواع النباتات خواص عجيبة، منها: النبات الذي ينفتح به القيد من الحديد عن قوائم الفرس عند إصابته، وهو مشهور في بلاد العجم، والجمهور على أن حركة النبات منكوسة، ووافقهم على ذلك سيدنا الشيخ الأكبر مرة، وخالفهم أخرى، قال: حركة النبات عندنا مستقيمة، فإنه ما تحرّك إلاَّ للنموّ. وما تحرك إنسان ولا حيوان هذه الحركة التي للنمو إلاَّ من كونه نباتاً. والحركة ا لمنكوسة، كلُّ حركة فغي متحرك تكون بخلاف طبيعته، وذلك لا يكون إلاَّ في الحركة القسرية، لا في الحركة الطبيعية، فكل جسم تحرك نحو أعظمه فحركته طبيعية، كحركة اللهب إلى العلوّ، وحركة الحجر إلى السفل، فإذا تحرك بخلاف ذلك فتلك الحركة القسرية. وإن البزرة تمدُّ فروعاً إلى جهة الفوق، وتمدُّ فروعاً إلى جهة التحت، وغذاؤها ليس أخذ النبات له من الفروع التي في التحت، المسماة أصولاً، وإنّضما أخذ النبات الغذاء من البزرة التي ظهرت عنها هذه الفروع. ولهذا يحصل اليبس في بعض فروع التحت، كما يحصل في الفروع الظاهرة الحاملة الورق والثمر، مع وجود النمو وا لحياة في هذه الفروع.

فصل في الحيوان 32

ثم بعد النبات، أوجد الله الحيوان، وهو أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان، لاختصاصه بالقوة الشريفة، وهي الحواس الظاهرة والباطنة من الجاذبة، وهي التي بها يجذب الحيوان الأغذية، والقوة الماسكة، وهي التي به يمسك ما يتغذى به الحيوان. ثم القوّة الهاضمة، وبها يهضم الغذاء. ثم القوة الدافعة، وبها يدفع الفضلات عن نفسه من عرق وبخار ورياح وبراز. فحظُّ القوة الدافعة ما تخرجه من الفضلات.

والقوة الغاذية والمنمّية والحاسية والخيالية و الوهمية والحافظة والذاكرة، فهذه القوى كلّها في الحيوان، بما هو حيوان. وإنَّه تعالى أخبر أنه خلق جميع مافي السموات والأرض للإنسان، ومن جملتها الحيوان، فهو مخلوق لمنفعة الإنسان، فمنه ماهو ظاهر المنفعة كالأزواج الثمانية وهي: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير. فبعضها للأكل والشرب واللبس، وبعضها لحمل الأثقال، وبعضه للركوب و الزينة. ومنها ماهو غير ظاهر النفع كالحشرات وبعض دوا بالبرّ والبحر، فهو ـ تعالى إنما خلقها من عفونات الأرض ليصفو الهواء لنا من بخارات العفونات، التي لو خالطت الهواء الذي أودع الله فيه حياة هذا الإنسان والحيوان، الذي فيه منفعته وعافيته لكان سقيماً مريضاً معلولاً. فصفّى له تعالى الجوُّ، لتكوين هذه المعفّنات، فقلّت الأسقام والعلل. وإنَّ من الحيوان مولدات مرضعات، ومنه حاضنات، ومنه معفنات. وما سمي الحيوان حيواناً، لكونه مختصاً بالحياة دون الجماد والنبات، وإنّم ذلك لظهور الحياة فيه بالقوّة الحسّاسة وخفائها في الجماد والنبات كما تقدم. فالحياة في كلّ موجود، لأنَّ وجود الشيء عين حياته. فإذا كان الموجود موجوداً لنفسه فحياته تامّة، وليس إلاَّ الحق تعالى ؛ وحياة ما سواه حياة إضافية، فهي حياة غير تامّة. لأن المخلوقات جميعها موجودة للحق تعالى لا لأنفسها، لكنه متفاوتة في الحياة، ومنها ما ظهرت فيه الحياة على صورتها التامّة، وهو الإنسان الكامل، ويلتحق به الملائكة المهيمون، والعقل الأول والنفس الكلية، ومنهم من ظهرت فيه الحياة على صورتها، غير تامة، وهو الإنسان والحيوان و الملك وا لجن، ومنهم من ظهرت فيه الحياة لا على صورتها، وهو ما عدا الحيوان. ومنهم من بطنت حيغاته كالجماد والمعدن والمعاني. وقولنا: حياة تامة وغير تامة إنما ذلك بالنظر إلى الأجسام القابلة، وإلاَّ فكلُّ موجود حيٌّ بحياة الله، وهي لا تتجزأ ولا تنقسم. فحياة كلُّ حيّ قديمة، من حيث أنها حياة الله تعالى ـ، ومن حيث الموصوف بها حادثة، فبالحياة يعقل الحيُّ ويسمع ويبص ر ويريد ويقدر ويفعل. وليست البنية المعروفة شرطاً في الحياة فيجوز أن يكون الجوهر الفرد أعلم العالمين وأقدر القادرين. والحيوان أبلغ من الحياة، لما في بنائه فعلان، من الزيادة، ولذا قال تعالى في حياة الآخرة: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾[العنكبوت: 29/ 64].

لما في تلك الحياة من الكمال. وقال في الحياة الدنيا: ﴿إِنَّمَ الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾[محمد: 47/36].

حيث كانت حياة نا قصة، ولما كان كل موجود حيا كان كلُّ موجود عالماً دراكاً، فإن العلم يلازم الحياة، عند أهل الكشف والوجود. فكلُّ حيّ لابد أن يعلم علماً ما، فإن كل الهاميّا فهو علم ما عدا الإنسان، كعلم الحيوان، والهوام بم ينبغي لها، وما لا ينبغي، من المأكل والمسكن والحركة والسكون. وانظر وتأمر في أشياء تصدر من بعض الحيوانات كالنحل في صنعة بيوته المسدسة، التي يعجز عنها أعظم علماء الهندسة، إذ كان أفضل الأشكال الشكل المسدّس، فإنه لا يبقى فيه خلاء يذهب ضائعاً، وانظر إلى العناكب في شباكها التي تضعها لصيد الذباب، وإلى بعض الطيور في صنعة أوكارها، وإلى دود القزّ كيف يصنع تلك الأكر، وكيف يتقنها؟! فمن عرف هذا عرف أن للنفوس الحيوانية مطلقاً قوتين: قوّة علمية وقوّة عملية، كما ظهر ذلك في صنائعها المعجزة للإنسان.

ثم أعلم : أن حركة الحيوان أفقية عند الجمهور، لأنهم اعتبروا الجهات بوجود الإنسان، وجعلوا الاستقامة في نشأته وحركته إلى جهة رأسه، والحركة التي  تقابل حركة الإنسان على سمتها سمّوها منكوسة، وهي حركة النبات عندهم، والحركة التي بينهما، يقابل المتحرك برأسه الأفق سموها حركة أفقية، وهي حركة الحيوان عندهم. والحقُّ خلاف هذا، عند سيدنا إمام أهل الكشف والوجود . بل حركة الحيوان والنبات مستقيمة كالإنسان. فإنه ما تحرّك للنموّ، وم تحرك حيوان ولا إنسان حركة للنموّ إلا َّ من كونه نباتاً. فحركة كلّ جسم حركة واحدة، سواء أكان جسم حيوان أو إنسان أو نبات. فإن حركة الأجسام من أصل البزرة، التي عنها ظهر الجسم بحركة النمو، فيتسع في الجهات كلّها، وهي حركة طبيعية، وكل حركة طبيعية فهي مستقيمة، كانت ما كانت، وفي أي جسم كانت، وإنهّما الحركة المنكوسة م خالفت الطبيعة، وليس إلاَّ الحركة القسرية كما قدمنا.

فصل في الجان 33

ثم بعد خلق الحيوان خلق الله تعالى الجان. ومادتهم من مارج من نار، والمرج الاختلاط، ومنه سمّي المرج مرجاً، لاختلاط النباتات فيه، ومرج أمر الناس اختلط. فهم مخلوقون من نار مركبة فيها رطوبة، ولهذا يظهر لها لهب، وهو احتراق الهواء، ففتح الله في ذلك المارج صورة الجن، فهو عنصري، فيه جميع الأركان الطبيعية، ولكن الأغلب فيه ركن النار والهواء، فلهذا نسب إلى النار. كما أن آدم أبا البشر فيه جميع الأركان، ولكن الأغلب عليه التراب الممزوج بالماء فينسب إلى التراب. فللجن وجه إلى البشرية كان به عنصرياً، ووجه إلى الملائكة به كان لطيفاً ينحجب عن أبصارنا ويتشكّل بالأشكال والصور المختلفة. وللطافته يجري من ابن آدم مجرى الدم حقيقة، وينفذ في باطنه، ويفضي إلى قلبه، كما ورد في الأخبار الصحيحة، ول يشعر به. ولولا إخبار الشارع بوسوسته في صدور الناس ما علم أحد بذلك غير أهل الله أصحاب الكشف. وكما وقع التناسل في البشر بالتناكح، كذلك وقع التناسل في الجان، بإلقاء الهواء في الأنثى منهم، فكان الذرية في صنف الجان. ونكاح الذكر للأنثى هو التواء الذكر على الأنثى والتواؤها عليه، مثل ما تبصر الدخان في فرن الفخار، يدخل بعضه في بعضه، فيلتذُّ الذكر والأنثى بذلك، ويكون ما يلقونه رائحة فقط كلقاح النخلة، كم أن غذاءهم بشم الرائحة فقط. أخبر بعض المكاشفين: أنه يرى الجني يأتي إلى العظم فيشمّه، فيكون ذلك غذاءه، وهذا معنى ما ورد في الخبر الوارد: إن الله جاعل لهم (أي للجن) فيه (أي العظم) رزقاً. ولهذا يشاهد العظم لا ينقص شيء من جوهره. والتغذي للجن هو الفارق بينه وبين الملك، وإن اشتركا في الروحانية. ولم يكن الله تعالى خلق للموجود الأول من الجان أنثى منه، كما خلق حواء لآدم، وإنما خلق الله للموجود الأول من الجان فرجا في نفسه، فنكح بعضه ببعضه، فولد مثل آدم ذكراناً وإناثاً. وكان خلق الجن على ما ذكر سيدنا إمام أهل الكشف محي الدين، قبل خلق آدم بستين ألف سنة، من السنين التي نعدُّها بأيامنا المعروفة، وهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة، ويتفرّعون إلى أفخاذ وعشائر وقبائل. وتقع بينهم حروب عظيمة يقتل بعضهم بعضاً فيها. وليس الحارث الذي سمّاه الله إبليس أباً أولاً للجن، كما كان آدم الأب الأول للبشر، كم يتوهّم الكثير من الناس ذلك، وإنَّما هو واحد من الجن،  وأبو الجن الذي هو كآدم للبشر غيره. قال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾[الكهف: 18/ 49].

أي من صنف الجن، فالحارث أوّل الأشقياء من الجن، كما كان قابيل أول الأشقياء من البشر. ومن الجن: الطائع والعاصي، والشقي والسعيد، مثل البشر. قال تعالى، حاكياً عنهم ومصدقاً قولهم: ﴿{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّ دُونَ ذَلِكَ﴾[الجن: 72/ 11].

وقال: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾[الجن: 72/ 14].

فالشياطين هم الأشقياء، والسعداء بقي عليهم اسم الجن. فأوّل من سمي من الجن شيطاناً الحارث، فأبلسه الله وطرده من رحمته، وطرد الرحمة عنه، ومنه تفرعت الشياطين بأجمعها، فمن آمن من أولاده التحق بالمؤمنين من الجنّ، مثل هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس، ومن بقي على كفره كان شيطاناً. وقال بعض علماء الظاهر: الشيطان لا يسلم، وتأوّل الحديث الواردني ذلك. وقال بعضهم: قد يسلم الشيطان، وهو الذي ذهب أهل الكشف والوجود إليه. ومن آمن من الجن كان أقرب مناسبة لعالم الغيب، فإنه لهم التحول في الصور، ولهذا كانوا أعلم بكلام الله تعالى من الإنس، فقد ورد في الصحيح: ((إن جن نصيبين، لما مرُّوا بنخلة وجدوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صلاة الفجر يقرأ القرآن. فلما سمعوا القرآن أصغوا إليه، فلولا معرفتهم برتبة القرآن وعظم قدره ما تفطّنوا له ورجعوا إلى قومهم وقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَ قُرْآناً عَجَباً﴾[الجن: 72/ 1].

وفي الصحيح: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تلا عليهم سورة الرحمن. فكان كلما قال: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾[الرحمن: 55/ 32].

قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب. ثم تلاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه من الإنس فلم يقولوا شيئاً مما قالته الجن، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إني تلوتها على إخوانكم من الجن، فكانوا أحسن استماعاً لها منكم)) .

وقد قدّمنا في هذا الموقف أنَّ التشكّل و التصوُّر للأرواح النورية والنارية ذاتي لها، وتكون الصورة عين الروحاني. وإذا اتفق موت الصورة، كما في الشاهد مات الروحاني، وقد بينّا هناك معنى موت الروحاني، وقد حدّث الشيخ الأكبر، أنه حدثه الضرير إبراهيم بن سلمان،  عن رجل ثقة حطّاب، كان قتل حية، فاختطفته الجنُّ، فأحضرته بين يدي شيخ كبير منهم، هو زعيم القوم فقالوا له: هذا قتل ابن عمنا. قال الحطاب: ما أدري ما تقولون، وإنما أنا رجل حطّاب، تعرضت لي حيّة فقتلتها. فقالت الجماعة: هو كان ابن عمنا. فقال كبيرهم: خلّو سبيل الرجل، وردوه إلى مكانه، فلا سبيل لكم عليه. أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم): وهو يقول لنا: ((من تصور بغير صورته، فقتل؛ فلا عقل فيه ولا قود)) وابن عمكم تصوّر في صورة حية، وهي من أعداء الإنس. قال الحطاب: فقلت له: يا هذا! أراك تقول سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهل أدركته؟! قال: نعم. وأنا واحد من جنّ نصيبين، الذين قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسمعنا منه، ومابقي من تلك الجماعة غيري، فأنا أحكم في أصحابي بما سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وفي الصحيح: أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((إن عفريتاً تفلّت عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فذعرته، وهممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى ينظر إليه ولدان المدينة فذكرت قول أخي سليمان: ﴿ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾[ص: 38/ 35]. فردّه الله خاسئاً، أو كما قال، وفي رواية: حتى سال لعابه على يدي. فلولا حكم الصورة على العفريت ما تمكّن له (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل به هذا، بخلاف البشر، إذا تروحن وصار له التشكل والتصوّر في الصور، وماتت صورة من تلك الصور في الشاهد، فإنَّه لا يلحقه شيء من ذلك، لأن الشكل والتصوّر ليس بذاتي له، فلا تحكم عليه الصور، ومع هذا فتصوّر الإنسان في حضرة الخيال أقرب وأولى من الملك والجن، لأنه في نشأته له دخول بروحه، التي هي ناطقة إلى عالم الخيال، وله دخول بشهادته، الذي هو جسمه، إلى عالم الشهادة. والروحاني ليس له ذلك، فليس له دخول إلى عالم الشهادة إلاَّ بالتمثّل في عالم الخيال صورة ممثلة. فإن أراد الإنسي أن يتروحن بجسمه، ويظهر به في عالم الغيب وجد المساعد، وهو روحه المرتبط بتدبيره، فهو أقرب إلى التمثّل من الروحاني. وهذا المقام يكتسب وينال، فيظهر صاحبه في أي صورة شاء من صور بني آدم أمثاله، وفي صور النباتات والأحجار والملائكة، فيظهر زيد في صورة عمرو، وليس للملك أن يظهر في صورة ملك آخر غيره.

فصل في المرتبة السادسة (الإنسان) 34

ثم بعد الجن أوجد الله تعالى الإنسان، وهي مرتبة الإنسان الجامعة لجميع المراتب المتقدّمة، ما عدا مرتبة الأحدية، فإنها لا تتجّلى لمخلوق، لمناقضته الأثنينيّة. فلما دارت الأفلاك، ومخضت الأركان بما حملته، ممّا ألقت فيها الأفلاك، كما يلقى الأب النطفة في رحم المرأة، فإن الأفلاك آباؤنا العلويات، والعناصر أمهاتنا السفليات، فهو نكاح معنوي. وظهرت المولدات من جماد ونبات وحيوان وجان. واستوت المملكة وتهيأت، ورتّب تعالى العالم ترتيباً حكمياً، أنشأ تعالى هذه الصورة الآدمية، وسمّاه إنساناً، لأنه بمنزلة إنسان العين من العين، وهو مابه النظر، فإن به نظر الحق تعالى إلى العالم فرحمهم. فكما ابتدأ الأمر بحقيقة الإنسان اختتم بصورته. وكان العالم قبل ظهور الصورة الآدمية، كجسم مسوّى، لا روح فيه. وكان خلق آدم بعد مضي أحد وسبعين ألف سنة من سني الدنيا، ممّا نعدُّ على ما أخبر به إمام أهل الكشف والوجود، سيدنا الشيخ الأكبر (رضي الله عنه). فهذه الصورة الآدمية هي صورة الإنسان الذي هو مادة كل مخلوق، ونقطة الكون التي منها امتدت حروف العالم جميعه. وقد ذكرنا بعض أسمائه في التعيّن الأوّل، وهي المرتبة الثانية، وهو نور محمد (صلى الله عليه وسلم) كما ورد في الخبر، الذي خرجه عبد الرزاق في مسنده، في تجزئة النور المحمدّي المعّبر عنه بالجوهرة الفريدة. وخلق العالم كلّه منه، من أوّل مخلوق إلى أن انتهى الأمر إلى خلق صورة آدم (صلى الله عليه وسلم) التي هي أوّل صورة ظهرت من هذا النوع.

فكانت هذه الصورة كالغصن من الشجرة. فكلُّ المخلوقات خرجت من العدم إلى الوجود إلاَّ الإنسان، فإنه خرج من غيب إلى شهادة، لا من عدم، فإنه أزلي قديم، باعتبار حقيقته التي هي حقيقة الحقائق، وأوّل التعينات، وأوّل عين ثبت في العلم الإلهي. فهو الأول من حيث الصورة الإلهية، فإنه ورد: ((إن الله خلق آدم على صورته)).

والآخر من حيث الصورة الكونية، فأوليته حق، وآخريته خلق. وعلى الصورة الإلهية الإشارة بقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[التين: 95/4].

وإلى الصورة الكونية الإشارة بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾[التين: 95/5].

وقدكانت صورة آدم، بل وصور بنية مبثوثة في العناصر والأفلاك، معلومة معينة في الأمر المودع في السموات، لكلّ حالة من أحواله التي يتقلّب فيها في الدنيا، صورة في الفلك على تلك الحالة، ولا تشهدها الملائكة ولا السموات، مع كونه فيها. وجعل الله وجود الصور في حركات الأفلاك، فمن الناس من يعلم نفسه في ذلك الموطن على غاية الكمال كالأنبياء والكمّل من ورثتهم. ومنهم من يشهد صورة ما من صورة فيحكم على نفسه بها. قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾[فصلت41 / 12].

وهذا ممّا أوحي فيها، فتحفظ هذه الصورة إلى وقت إيجادها في الدنيا. فالصور كلها موجودة في الأفلاك، وجود الصورة الواحدة في المرايا الكثيرة المختلفة الأشكال. ولكلّ إنسان صورة في الكرسي، وصورة في العرش، وصورة في الهيولي، وصورة في الطبيعة، وصورة في النفس الكلية، وصورة في العقل، وصورة في العماء، وصورة في العدم، وكل ذلك مرئيٌّ له تعالى معلوم. خلق تعالى الصورة الآدمية بيديه، وسواه وعدّلها؛ فاختصت لذلك بما اختصت به من علم الأسماء، التي تطلب العالم ويطلبه كلها، ومن التأهل للخلافة عن الحق تعالى على جميع المخلوقات علو وسفلاً؛ وكانت صورة جامعة لجميع أجناس العالم وحقائقه وأنواعه، من عرش وكرسي وأفلاك وأملاك وشياطين وعناصر ونبات وبحار وغيب وشهادة، فهو العالم كلّه. وجعل تعالى جميع المخلوقات للإنسان، كأعضاء الجسم للروح المدبر. فلهذا لا يكون الملك أشرف من الإنسان، فإنه جزء من الإنسان، ولا يكون العضو أشرف من الكل، ومن شرف الصورة الآدمية الإنسانية أنه خلق تعالى ما خلق من المخلوقات، إمَّا عن أمر إلهي كما قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/ 40].

أو عن يد واحدة، كما ورد في الخبر الذي خرجه أبو نعيم في حلية الأولياء:

((إن الله بنى جنات عدن بيده)).

وورد أن الله غرس شجرة طوبى بيده، إلاَّ هذه الصورة الآدمية فإنه تعالى جمع لها بين يديه. فقال لإبليس على طريق التشريف لآدم: ﴿قَالَ يَ إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟!﴾[ص: 38/ 75].

والمراد من اليدين هنا الأسماء الجلالية والجمالية المتقابلة. فلهذ صحّ للإنسان دون سائر المخلوقات أن يتخلّق ويتحقّق بجميع الأسماء الإلهية،  على تقابلها وتضادّها، ويظهر بها ظهوراً حقيقياً أصلياً، وما خلق تعالى مخلوقاً أي مخلوق كان، في العالم العلويّ والسفليّ إلاَّ والقصد الثاني منه وجود الإنسان، والسعي في منفعته ومصلحته، وأما القصد الأول من إيجاد المخلوقات فالمعرفة بالله والعبادة له. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 51/ 56].

وكذا كل موجود. قال: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾[الإسراء: 17/ 44].

وشيء أنكر النكرات. وقال: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾[النور: 24/ 41].

بعد ذكر من في السموات ومن في الأرض. والمعنى بما ذكرنا ه من الشرف الإنسان الكامل، كآدم ومن ورث الخلافة من بنيه. فإذا لم يحز إنسان رتبة الكمال فهو حيوان، يشبه الإنسان صورة.

تنبيه نبيه

قال تعالى : خطاباً للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾[ص: 38/ 71].

وفي صحيح مسلم: ((إن الله خلق الملائكة من نور، وخلق الجن من نار، وخلق آدم ممّا قيل لكم)).

وقال تعالى، خطاباً لأولاد آدم: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾[المرسلات: 77/ 20].

فلا تفهم من هذا خلاف الواقع. فإن الأمر لا يخلو إمَّا أن يكون النور صار ملكاً، والنار صار جناً، و الطين صار آدماً، و الماء المهين، وهو المني، صار إنساناً، فيكون في حالة واحدة طيناً وآدم إنساناً، أو ماء مهيناً، وجسد إنسان، فهو محال. وإمَّا أن يكون ذهبت الطين بكلّيتها، وكذا الماء المهين، وهو النطفة، ولم يبق شيء من ذلك، ثم حصل آدم أو جسد إنسان، وحينئذٍ ما صارت الطين آدم، ولا النطفة جسد إنسان، بل ذلك شيء ذهب، وهذا شيء آخر حصل. وإمَّا أن يكون هناك جوهر معقول، يقبل الصورة و الهيئة الطينية والنطفيّة، ذهبت عنه الصورة الطينية والنطفية، وحصلت فيه صورة آدم أو جسد إنسان، وهو المطلوب. فوجود جوهر معقول يقبل جميع الصور، كانت م كانت، و الهيئات الطينية والنطفية والدموية والإنسانية وغيرها متفق عليه عند الجميع، وإن احتلفوا في تسميته. فسماه العارفون بالله بالهباء. وسمّاه الحكماء بالهيولي الكل. وقد أخطأ من أنكره من أهل السنة.

إشارة لأهل البشارة

(حول التسوية الإنسانية وحقيقة الروح)

قال تعالى ، خطاباً للملائكة في حق آدم (عليه السلام): ﴿فَإِذَ سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[ص: 38/ 72].

وقال في حق أولاده: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار:   82/ 7-8].

وقال: ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾[القيامة: 75/ 38].

فمعنى التسوية و التعديل في حق آدم (عليه السلام) هو جعل صورته على هيئة واستعداد، تقبل به صورة الروح المنفوخ فيه قبولاً تاماً، أتمّ من قبول جميع الصور المخلوقة، ولا الملائكة والأرواح العلوية،  فلابدَّ من فعل في الطين حتى يصير متغيراً متعفناً. فإن المولدات ظهرت عن أربعة عناصر وأربعة أخلاط: صفراء وسوداء ودم وبلغم، فكان السوداء عن التراب، وهو قوله: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾[الرحمن: 55/ 14].

وكان الدم عن الهواء، وهو قوله: ﴿مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾[الحجر: 26].

وكان البلغم عن الماء الذي عند به التراب فصار طيناً، والتسوية والتعديل في حق أولاده هي أن يصير الطين نباتاً، فيأكله الإنسان، فيصير دماً، ثم تأخذ قوّته القوة المميزة، فيصير نطفة، ثم يمتزج بماء المرأة فيزيد اعتدالاً، ثم ينضجه الرحم فيزيد تناسباً، ثم يزيد في الصفاء إلى أن يستعدّ لقبول الروح المنفوخ فيه قبولاً، لا مثل له، كالفتيلة التي تستعد بشرب الدهن وكمال النظافة والغلظ لقبول النار وإمساكها. وأشخاص الإنسان متفاوتون في التعديل والتسوية لصورهم. فكامل وأكمل وناقص وأنقص، وهذا هو السبب الثاني للتفاوت بينهم في الأنوار والعلوم والمعارف، ففتيلة، أعني صورة طبيعية، في غاية النظافة صافية الذهن وافرة الجسم يكون قبولها أعظم في اتساع النور، وفي كميّة جسم النور، أكبر من فتيلة نزلت عن هذه الصفة من النظافة والصفاء. فكان التفاوت بين الأنوار بحسب استعدادات الفتايل. لذ كان في الناس شقي وسعيد، وعالم وبليد. فبالتعديل والتسوية للصورة صارت كالمرآة المجلوّة، تقبل صورة ما فاض عليها وقابلها على الكمال، وتحكيه كما هو، فنفخ الروح عام في كل صورة، والتسوية والتعديل خاص بالصورة الآدمية الإنسانية، فهو كناية عن التجلّي الجاعل لها مثالاً للمتجلّي في قبول المجلّي. فالنافخ كما هو الإنسان، لم يرى منه بواسطة الأجرام الصقيلة، منه ظهرت، وبه قامت، وإليه تعود، لأنها ظلّه ومثاله وهماً، وإلاَّ فهي هو حقيقة وعلماً. فالروح المنفوخ عن الوجود الإلهي روح الله، من حيث أنه حق، وروح من نفخ فيه من حيث أنه خلق. فله خصائص الإله وأحكامه بالحيثية الأولى، وخصائص الخلق وأحكامه بالحيثية الثانية. فانظر ما أجمعه!! ول يعرف كيف ارتباط الحياة الإنسانية لهذا البدن، بوجود هذا الروح، لمقارنة الطبيعة فيه، لوجود الروح الحيواني. فلا يُدري هذه الحياة البدنية، للروح الظاهرة عن النفخ الإلهي، أو للطبيعة، أو للمجموع.

وأمَّا حقيقة الروح ففيه من الأقوال كثرة بلغت ألف قول! والقول الحق هو ما عليه أهل الكشف والوجود، أنه ليس بجسم يحلُّ البدن، ولا عرض يحلُّ في القلب أو الدماغ، وإنما هو جوهر مجرّد، غير متحيّز، ولا منقسم، ولا له صورة من ذاته، ولا هو داخل البدن، ولا خارج عنه، ولا متصّل به، ولا منفصل عنه، ولا هو في جهة. فهو منزّه عن الحلول في المحال، والاتصال بالجهات، وعن جميع عوارض الأجسام فلا يدخل تحت مساحة، ولا يقبل إشارة حسّية، فالأرواح متصلة بالأجسام بالتدبير، منفصلة بالحدّ، والحقيقة. والتدبير للأرواح ذاتي كالشمس، غير أن الشمس لا علم لها بجزئيات ا لجسم الذي تدبره؛ فالإنسان عالم بجميع الأمور المغيبة فيه، من حيث روحه ا لمدبر له، إمَّ تفصيلاً وإمَّا إجمالاً. فهو يعلم ولا يعلم أنه يعلم، بمنزلة الساهي والناسي. وليس المدبر لصور العالم كلّه روح واحدة، كما قيل، وأنَّ روح زيد هي روح عمر. فإنه يلزم أن ما يعلمه زيدٌ لا يجهله عمرو!! لأنّ العالم من كل واحد منهما روحه. واختلف في الأرواح: هل وجودها مع أجسامها أو قبلها أو بعدها؟! و الحق عند أهل الله أنَّ أرواح الكمّل، كالأنبياء والرسل وكمّلأ ورثتهم مساوقة للعقل الأول، فهي موجودة متعيّنة متميّزة قبل إيجاد أجسامهم ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم):

((كنت نبياً وآدم بين الماء والطين))

يريد: أن آدم لم يخلق حينئذٍ، أعلمه الله بذلك وهو روح!! و النبّوة الخبر، ولا يكون مخبراً إلاَّ لمخبرين. وما عداهم من إنسان وغيره فأرواحهم المدبرة لصورهم كانت موجودة في حضرة الإجمال، كالحروف في المداد، غير متميزة لأنفسها، وهي متميّزة عند الله مفصلة في حال إجمالها. فإذا كتب القلم في اللوح ظهرت صور الحروف مفصلة بعدما كانت مجملة في المداد، فقيل: هذا ألف، وهذا باء، وهذا دال...... في البسائط، وهي أرواح البسائط. وقيل: هذا زيد وهذا عمرو وهذا أخرج وهذا قل... وهي أرواح الأجسام المركبة. فإذا سوّى الله الصور، أي صورة كانت، كان الروح الكل كالقلم، ويمين الله الكاتبة، والصور كالحروف في اللوح. فنفخ الروح في صور العالم فظهرت الأرواح متميزة، فقيل: هذا إنسان وهذا فرس وهذه حية وهذا طير.... فعين وجود الصور عين حياتها، عين نفخ الروح فيها، كل صورة بحسب استعدادها ومرتبتها، كم نبهنا على ذلك مراراً. وذكر سيدنا ختم الولاية المقيدة محي الدين (رضي الله عنه) أن الرجل إذا أفضى إلى زوجه وواقعها، واتحدا لهذا الاجتماع المخصوص، وعمتهما اللذة لهذا الاجتماع، فكانا كالمقدمتين، عند ذلك ينفصل من روحيهما روح الولد الذي هو النتيجة، وينفصل من جسديهما جسد الولد، وليس إلاَّ النطفة. فجسد كل إنسان روحه المتجسدة في الخيال المنفصل. وإذا انفصلت النطفة من الوالدين واستقرت في الرحم دبّرت نفسها إلى زمان انطلاقها من قيد التجسّد، إمَّا بالموت الإرادي أو الطبيعي. وتسمَّى هذه الحقيقة المدركة من الإنسان بأسماء كثيرة، بحسب تنزلاتها واعتباراتها فلها بكل اعتبار وتنزل اسم. تسمّى علماً من حيث أنَّها بها تحقّقت الأشياء وبانت مراتبه وتميّزت أعيانها.

وتسمى روحاً من حيث أنها صورة الحياة الإلهية، ومن حيث أنها لا صورة لها تخصّها، فلا تعرف إلاَّ بآثارها في الصور، مشتقة من الريح، فإنها لا تدرك إلاَّ بما تحركه من الأشجار، وبما تحمله من الروائح مثلاً.

وتسمَّى اللطيفة الإنسانية لأنها ظهرت بالنفخ الإلهي، فهي سرٌّ لطيف ينسب إلى الله على جهة الإجمال، من غير تكييف.

وتسمَّى بالنفس الناطقة، عند الحكماء، يعنون المفكرة بالقوة.

وتسمَّى عقلاً، لأنها أول شيء عقل عن الله ما يلقى إليه، ولأنه قيد الأشياء وحدّدها بعد إطلاقها، مأخوذ من العقال، وهو القيد.

وتسمّى نفساً لتنفّسها في صور المراتب وانبساطها وتكثرها مع وحدته الحقيقية.

وتسمى قلباً لتقلبها بحسب المراتب التي تنزل إليها، وانصباغها بكلّ شيء يريده الحق تعالى منها.

وتسمّى سراً لتجرُّدها الحقيقي عن كلّ شيء يتوهم ملابستها له ومباينته لكلّ صورة، فإنها الوجود الحق الذي ليس منه شيء في شيء؛ فلروح الإنسان باطن، وهو السرُّ، وللسر باطن وهو سرُّ السر، ولسرّ السرّ باطن وهو الخفاء، وللخفاء باطن وهو الأخفى. وباطن كلّ شيء حقيقته ومادته، مثلاً، السرير باطنه قطع الخشب، وباطن قطع الخشب الشجر، وباطن الشجر العناصر الأربعة، وباطن العناصر الهيولي الأول. فالروح الأمري، حال كونه في غاية اللطافة يسمّى الأخفى، وحال تنزُّله درجة يسمى الخفا، وحال تكاثفه أقوى ممّا قبله يسمى السر، ثم كذلك فيسمى القلب، ويسمى النفس الناطقة، فإن تنزّل فيسمّى بالنفس الأمارة.

والمراد من هذا المعنى، الذي البدن مركبه ومحل تدبيره وآلات تحصيل معلوماته المعنوية و الحسيّة، وكان ظهوره وتعلقه بالبدن عن وجود لا عن عدم، فم حدث إلاَّ إضافة التولية إليه بتدبير هذا البدن. وأعطي الروح في هذا المركب الآلات الروحانية والحسية، لإدراك علوم لا يعرفها إلاَّ بوساطة هذه الآلات السمع والبصر و الشم لا الآذن والعين والأنف. فهو لا يدرك المسموع إلاَّ من كونه صاحب سمع، ل صاحب أذن، ولا يدرك المبصر إلاَّ من كونه صاحب بصر، لا صاحب حدقة وأجفان. فإضافة هذه الآلات لا يصحُّ ارتفاعها، وليست ترجع إلاَّ إلى عين الحقيقة الإنسانية، وتختلف الأحكام فيها ب اختلاف المدركات، والعين واحدة، هذا مذهب أهل الكشف و الوجود، ول عبرة بمن خالف هذا من الحكماء أهل النظر.

مثال لمن ليس له مثال

(حول المدينة الإنسانية)

لما أنشأ الله الصورة الإنسانية كانت بمثابة مدينة أنزل فيها الروح، وجعل بمثابة الخليفة، عيّن له موضعاً منها هو موضع أمره ومحل خطابه ونفوذ أحكامه، سماه تعالى القلب. أعني القلب النباتي، الذي هو مضغة لحم، في الجنب الأيسر، وهو ل فائدة فيه إلاَّ من حيث أنه مكان لهذا السر المطلوب المتوجّه عليه الخطاب، وهو المجيب إذا ورد عليه السؤال، وهو الباقي إذا فني الجسم والقلب النباتي. ثم بنى تعالى للخليفة متنزهاً عجيباً عالياً في أربع مكان في هذه المدينة الإنسانية، سماه الدماغ، وفتح له فيه طاقات وخوخات يشرف منها على مدينته وهي العينان والأذنان والأنف والفم. ثم بنى له في مقدّم ذلك المتنزّه خزانة سماها الخيال، جعلها تعالى مستقراً، وخزانة للمبصرات و المسموعات و المشمومات والمطعومات والملموسات وم يتعلق بها، ومن هذه الخزانة تكون المرائي التي يراها النائمون وهي خزانة واسعة جداً، وفيها من الأمور العظام وخرق العادات ما لا يوجد في هذه الدار، وفيها توجد المحالات العقلية كقيام الأعراض بأنفسها وحياتها لأنفسها ونطقها وإيراد الكبير على الصغير مع بقاء الكبير على كبره والصغير على صغره، وتكلم الجمادات ووجود الشخص الواحد في مكانين، واجتماع الضدّين... وغير ذلك ممّا لا يتصور وقوعه في هذ العالم، وهي المكنيُّ عنها عند سادات القوم (رضوان الله عليهم) بأرض السمسمة، وهذه الخزانة يسمّيها المتكلّمون بالحسّ المشترك، ويسميها الحكماء البنطاسيا، يريدون لوح النفس. وبنى له تعالى في وسط هذا المتنّزه، وهو الدماغ، خزانة الفكر، وهي التي ترفع إليها المتخيلات، فيقبل الصحيح منها ويرد الفاسد. وبنى له في آخر هذ المتنّزه، وهو الدماغ، خزانة الحفظ، أودع فيها محفوظات الإنسان. وأكثر أهل السنة لا يثبتون الإحساسات الباطنة. ثم جعل تعالى للخليفة الروح وزيراً وهو العقل. لأنَّ الحكمة الإلهية اقتضت أنه لا يستقيم أمر خليفة إلاَّ بوزير، يكون واسطة بينه وبين رعاياه، أوجده تعالى في ثاني مقام من الخليفة، وهو موجود عجيب ومخترع غريب، نور مشرق في القلوب. كما أن العالم الكبير له الروح الكل، والعق لالكل، والنفس الكلية؛ كذلك العالم الصغير، له الروح الجزئي، والعقل الجزئي، والنفس الجزئية. فالروح له الأوّلية، إذ هو أمر الله، والعقل ناشئ عنه. فالروح يمدّ المدينة الإنسانية والصورة الآدمية بالحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام، ويمدُّ العقل بالعمل وكيفية تدبير المدينة. ومن ثمَّ ترى الذين لا عقول لهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون ويقدرون... ومع ذلك ليس لهم تدبير ولا علم بمواقع الأمر والنهي، لخلو مدينتهم عن العقل، فإنه إنّما سمّاه تعالى عقلاً لأنه يعقل عن الله أمره ونهيه وخطابه، وكلّم يلقيه إليه. فإليه يتوجه الخطاب، إذ هو وزير المدينة الإنسانية ومدبرها. فلو كانت المدينة خالية من الخليفة لكانت في حكم الجمادات. ولو كانت خالية من الوزير لكانت من جملة البهائم، وإن كان الروح فيها قائماً عليها، إذ الروح ليس له تدبير المدينة الإنسانية، فلا يفرق بين الحلال و الحرام، ولا بين الطهارة والنجاسة، ولا بين الحس والقبح، وإنما هذا للعقل. فلا تقوم المدينة الإنسانية إلاَّ بالخليفة، ولا يستقيم أمرها إلاَّ بالوزير. أنزل تعالى العقل الوزير، من الروح الخليفة منزلة القمر من الشمس. فليس للقمر نور في نفسه، فأشرقت الشمس بنورها على القمر فاكتسب منها نوراً لضيائه، فكان هو الشمس في نفس الأمر من حيث النور، وافترقا من حيث الرتبة. فإن الشمس نورها ذاتي لها، والقمر نوره مكتسب. فلذلك إذا طلعت الشمس بالنهار وأشرق نورها اختفى نور القمر وغيره. وإذا طلع القمر بالليل وأشرق نوره ظهرت معه جميع الأنوار. فالروح أمر الله، له النور التام، إذا ظهر لا يظهر معه نور، فلا يكون للعقل الوزير حكم. فلهاذ إذا غلب حكم الروح على إنسان بهت، وتراه لا يعقل ول يدرك، كالقمر إذا و قع في قبضة الشمس. فمتى لم يغلب على الإنسان نور الروح أو ظلمة الطبيعة كان معتدلاً يؤدي إلى كل ذي حقّ حقه، لأن الظلمة لها حق في مقام العبودية، فيؤدي حق الخالق و الخلق. ومتى غلب على الإنسان النور أو الظلمة المحض كان الإنسان لما غلب عليه، وليس ذلك بكمال، فإنه إذا توجه بكله إلى النور المحض، ولم يراع م يقتضيه العقل قبل كماله فسد أمر عبوديته والتحق بالمجانين أو الملحدين الإباحيين. وكذلك إذا وقف عند العالم بحيث يمنعه النظر في عالم طبيعته عن النظر في عالم النور و العقل، يمدح باعتبار أنه نور، وعليه يدور أمر الإيمان والشرائع ومقتضيات العبودية، ويذم باعتبار أنه العقل المعاشي المربوط بشهوة النفس، لأن العقل من حيث هو مقيد تحت فلك القمر، فليس له قوة الإطلاق، وهو روحاني مهيّأ لقبول المعاني الإلهية، متوجّه إلى العالم الأعلى، وحيواني مهيّأ لتدبير المعايش الكونية، متوجه إلى العالم الأسفل. فالأول عقل أصحاب الأرواح الطاهرة. والثاني عقل أصحاب النفوس الأمّار ة الحيوانية. فإذا اشتغل الجسم بالأمور الطبيعية السفلية يغيب الخليفة الروح عن المدينة الإنسانية، ويبقى الوزير العقل يفيض أنوار حكمه على المدينة الإنسانية، كالقمر ليلاً. وفيضانه إلى النفس النباتية، فتسوسه نفسه النباتية التي هي جسمه، بما هي عليه من صلاح المزاج، فيكون كالطفل الذي مات أبوه، فمتى احتجب الخليفة، كان للوزير الظهور وإنفاذ الأوامر والإعطاء والمنع. ألا ترى القمر إذ حصل في قبضة الشمس، لا يكون له نور ولا ظهور؟! فإذا كانت الليالي البيض كان له النور التام، لغيبة الشمس عن أعين الناظرين. فالقمر في ذلك الوقت، قد كمل نوره لكمال مشاهدته، لمن هو مستمدٌ منه، والناس لا يشاهدون ذلك الوقت إلاَّ القمر.لم أنشأ الله تعالى بنية العقل الوزير أودع فيه حسن التدبير، وجميع الأمور اللازمة للمدينة الإنسانية، فصار محلاً للعلوم الإلهيّة ورأساً في تدبير الأمور الكونية، ولا يدري المحلات التي يصرفها فيها ولا متى يصرفها حكمة من الحق تعالى ـ ليكون العقل مضطراً إلى الخليفة الروح، ليفيده ويعلمه ما جهل.

وكيفية تلقي العقل الوزير العلوم من الروح الخليفة أنه إذا أراد العقل معرفة شيء في تدبير المدينة الإنسانية وإصلاحها، توجه إلى مشاهدة الروح الخليفة. فعند مشاهدته يلوح له المراد، فيقوم له التجلّي من الروح منزلة الخطاب، من غير حرف ولا صوت، إذ المراد حصول علم تدبير المدينة الإنسانية، فهو كشف روحاني ومعنى ذوقي. وبهذا يعبّر عن مخاطبيه كل ماليس له كلام، إذ لم تكن هناك حروف ولا أصوات ولا غير ذلك من الدلائل. فلك أن تنظر إلى ما تؤدي إليه تلك الأدلة من الأصوات وغيرها في قلب السامع، وهو حصول المعنى، وهو أثر الكلام من المخاطب، فإذا حصل للعقل آثار العلوم من فيض الروح عبّر عنه بالكلام والقول والخطاب.

فإذا أراد الخليفة الأعظم، وهو الروح الكل، العقل الأوّل،  أن يظهر أمراً من الأمور من عالم الغيب إلى عالم الشهادة تجلّى للقلب، فانشرح الصدر لذلك الأمر، وذلك عبارة عن كشف الغطاء عن ذلك الأمر، فارتقم في القلب مراد الإمام الأعظم الروح الكلّ. والقلب هو مرآة العقل الجزئي وزير الروح، المولّى على المرتبة الإنسانية، فرأى العقل في مرآته مالم يكن رآه قبل ذلك، لأنَّ القلب هو النقطة التي يدور عليها محيط الأسماء. فإذا قابلت اسماً من الأسماء انطبع ذلك الاسم، أعني ما يطلبه ذلك الاسم من الأثر. فلهذا سمي قلباً، لسرعة تقلّبه لمقتضيات الأسماء. فإذا رأى العقل ما رأى، وعرف أنه مراد الخليفة الروح الأعظم الروح الكل استدعى الكاتب، وهو الروح الجزئي، فأطلعه على المراد، وقال: اكتب في لوح النفس، أعني النفس الجزئية، كذا وكذا. فإذا حصل في لوح النفس خرج على الجوارح. لا يقال العقل وزير الروح، فهو دونه، فكيف يستدعيه إلى الكتابة؟! لأنا نقول: الروح له حضرتان: حضرة في الغيب، وهو الروح الأعظم الذي ل يعبر عنه بعبارة،  فإنَّه مقدّس عن إدراك العقول، فضلاً عن غيرها، وله حضرة في الشهادة، وهو الروح المنفوخ في الصورة، المدبّر لها بما يلقى إليه من روح الروح، فيكتبه في لوح النفس، بإشارة العقل، لأنه صاحب تدبير المدينة الإنسانية.فهو فرق اعتباري، ولا فرق بينهما في مقام الجمع، لكن له مراتب يظهر فيها، فالتعدد للمراتب لا للظاهر فيها. ومنها يظهر الفرق عند أهل الفرق.

ثم َّ أوجد الله تعالى للروح الجزئي الخليفة على المدينة الإنسانية، النفس الجزئية، وهي متولّدة بين الطبيعة وهي أمها والروح الإلهي أبوها. يقول سيدنا ختم الولاية المحمدية محي الدين رضي الله عنه:

أنا ابن آباء أرواح مطهّرة

 

وأمهات نفوس عنصريات

فللنفس المقام الثالث، لأنها نشأت عن العقل، كما نشأت حواء من آدم فهي بعضه، وكما نشأت النفس الكلية من العقل الأول، فهي بعضه، ولوح كتابته، فالنفس الجزئية لوح كتابة العقل الجزئي.

والإنسان له أربع نفوس: نفس جمادية، وبحياة هذه النفس تشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة؛ ونفس نباتية، بها يطلب الإنسان التغذّي؛ ونفس حيوانية، وبها يحسّ ويتحرّك؛ ونفس إنسانية.

والنفس من حيث هي جوهر شأنه الإدراك والفعل والتعلق بجسم تتصرّف فيه. فإذا كان الجسم لا يقبل إلاَّ تصرفاً واحداً على وتيرة واحدة فهي النفس الفلكية. ثمَّ إنَّ لم يكن أظهر أمور النفس إلاَّ حفظ صورة الجسم ونظامه فهي النفس الجمادية، وإن كانت النفس مع ذلك تعطي تنمية و توليد الأشخاص من نوعه فهي النفس النباتية. وإن كانت النفس مع ذلك تعطي تحريكاً اختيارياً وإحساساً فهي النفس الحيوانية. وإن كانت مع ذلك تصدر الأفعال والحركات منها عن تميّز ونظر ورؤية فهي النفس الإنسانية. ثم إنَّ كانت قوة تمييزها ونظرها حاصلة لها حال تعلقها بالجسم وبعد مفارقته فهي قوّة ربّانية وتسمى النفس باعتبارها روحاً. فالنفس الإنسانية تفيض في النفس الحيوانية قوى فعلية. والنفس الحيوانية تفيض في النفس النباتية قوى حركيّة. والنفس النباتية تفيض في النفس الجمادية قوى هي مبادئ ما تمسك الجسم على صورته ونظامه. والنفس الإنسانية هي محل التغيير بالمخالفات الشرعية، ومحل التطهير بالموافقات والطاعات الإلهية. وفي الحقيقة لا مخالفة للنفس من حيث هي، ولا خبث فيها ولا معصية لها، وإنما الحق تعالى جعلها في كل هيكل على حسب ما يليق به، فتدبره بما هو مكتوب له وعليه من الأزل، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرٌ، فكلما يكتبه الكاتب في لوح النفس حسن جميل، لأنه أمر الله، حتى يصدر عن النفس، فيحكم عليه الشرع بحكمه، من حسن وقبيح. فالنفس طاهرة مقدسة، تنفّذ أمر الله بالعبد خبثاً أو غيره، فلها وجهان: وجه إلى الملكوت، وهي بهذا الاعتبار أمر الله وروحه المقدسة، ووجه إلى الملك وهي النازلة إلى أسفل سافلين. فتدنّست بتدنّس أوانيها، كالماء الطاهر ينزل في الأواني النجسة، فلا تذمُ النفس إلاَّ بتصريفها آلاتها في المذموم شرعاً، والنفس برزخ بين ظلمة الكون ونور العقل، والعقل برزخ بين النفس وظهور الروح، والروح برزخ بين الخالق و المخلوقات. فالروح صورة الحياة، والنفس ظل الروح، والجسم قابل الروح والنفس، فالروح باق، والنفس فان، والجسم موات، فمنزلة النفس الإنسانية الناطقة من الجوهر الروح الكل منزلة قوى النفس الناطقة من الجوهر الجسم.

فقد تبيّن مما ذكرنا: أن مجموع حقيقة الإنسان، باعتبار التفصيل روح وعقل ونفس، فهم الحاكمون على المدينة الإنسانية. أمَّا الروح فهو واحد قدسي، تختلف أحكامه باختلاف الأعضاء، فهو واحد كثير، ولا يدبر الجسم، لأنه الخليفة، له الاحتجاب. وأما العقل فهو نور الروح، وهو يدبر المدينة الإنسانية بأمر الروح، وأمَّ النفس فهي نور العقل، وهي بمنزلة الخادم، يصرّفها كيف شاء. فإن كمل العقل في تدبيره كملت النفس في خدمتها، والعكس بالعكس، وجملة هذه الثلاثة في الحقيقة أمر واحد، هو أمر الله الواحد بالذات،  المتكثر بحسب كثرة مراتبه.

مثال ذلك: الشمس إذا قابلت الجسم الصقيل فإنه ينبعث من ذلك الصقيل نور، يضيء به موضع لا تقابله الشمس بقرصها، بانعكاس الشعاع، كضوء القمر، فإنَّ الشمس بالليل تحجبها عنَّا الأرض فيضرب نورها إلى السماء. فإذا كان القمر فوق الأرض في السماء ضرب فيه نور الشمس، لكون القمر صقيلاً، وهو يقابل الشمس، فيخرج من القمر نور ينعكس إلى الأرض، فتشرق الأرض. فمن أراد أن يرى الشمس، من غير أن ينظر إليه فلينظر الموضع الذي ضرب فيه نور الشمس من الجسم الصقيل، فإنه يشهد الشمس في ذلك الموضع، من غير أن ينظر إليها في السماء، لأن الذي رآه هو عين مافي السماء. فهن ثلاثة أركان: قرص الشمس، والجسم الصقيل، وموضع ضرب الشعاع المنعكس.

ولما أوجد الله تعالى الروح الخليفة، على الكمالات التي ذكرناها، والأوصاف العلية التي أسلفناها أراد تعالى أن يعرفه بعجزه وافتقاره، وأنه لا حول له ولا قوة إلاَّ بالله مبدعه ورّبه ومولاه، أوجد له تعالى منازعاً في مملكته، وأثار عليه في مدينته التي ولاّه الله عليها ثائراً قوياً كثير الخيل والرجل، سمّاه تعالى الهوى، وهو كل ما تميل إليه النفس وتستحليه من الأمور الطبيعية واللذات المعجلة المحببة لها، المزينة في عينها في الوقت، فوقعت النفس بين أمرين قويّيين: هذا يناديه لطاعته ومشيها على ما يرضيه، وهذا يناديها لطاعته واستعمالها لما يشتهيه. وإن أجابت النفس داعي العقل، الذي هو وزير الخليفة ومدبر المدينة الإنسانية حصل له اسم المطمئنة. وإن أجابت داعي الهوى والشيطان حصل لها اسم الأمَّارة بالسوء، والكلُّ من عند الله تعالى، قال: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[الشمس: 91/8].

وقال: ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾[الإنسان: 4/ 78].

وقال: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَ كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾[الإسراء: 17/ 20].

فعندما حصل الحرب و المنازعة بين الروح الخليفة والهوى المنازع له، رجع الروح بالشكوى إلى الله تعالى يطلب منه النصر والعون على دفع الثأر وقمعه وردّه على عقبه. وهذا كان مراد الحق تعالى وهو الحكمة في إجابة النفس داعي الهوى والشهوة، وعماها عن رشدها وطريق سعادتها. وأن النفس عرفت ما عندها ومالها، من حيث حقيقتها في إجابة دعوة الخليفة. ولما سمعت داعي الهوى يدعوها أرادت أن تعرف م عنده، وماذا تحت طيّ دعوته.

فأصل النفس روح الله، وروحه أمره، وأمره صفته، وصفته عين ذاته، فم أعماها وأضلّها عن أصلها إلاَّ القرب المفرط وما تشهده الحواس من العالم الطبيعي الكثيف، فلهذا صارت النفس جاهلة بأصلها، وهو الحق تعالى ولولا ذلك لظهر بالفعل ما هو باطن فيها من الكمالات الإلهية.

خاتمة (حول الأرواح الإنسانية)

أسأله سبحانه حسن الخاتمة

اعلم: أن الروح المسمى باللطيفة، لما تعلق بالجسم وتدبيره، وشهد ما هي الأجسام عليه، وما تنتجه ممّا لم يشهده في عالمه، عالم المجرّدات، إذ عالم المجرّدات، لا ذوق له في عالم الأجسام، فلما أهبط إلى عالم الأجسام تولّع بها وعشق الهيكل وأحبه حبّاً لا يتصور أشدّ منه ولا أعظم، لأنَّ الهيكل هو الواسطة في شهوده لعالم الأجسام، وإدراك الجزئيات من العلوم، وغيرها، وتحصيل مالا يحصل إلاَّ من تعلقه بالأجسام. ولشدّة محبة الأرواح لهياكلها غفلت عن أنفسها. وذهلت عنها، ولم يثبت عندها إلاَّ أجسامها، فإنها نظرت إلى أجسامها نظر الاتحاد. فحلّت فيها حلول الشيء في هويته ومادته، فاكتسبت التصوير الجسمي. فليس عندها إلاَّ الأجسام، كم يذوقه جميع الناس، حتى قالت طائفة: مسمّى الإنسان ليس إلاَّ الجسم فقط، وهذا وإن ورد في القرآن فهو ظاهر لا نص، والحق أن مسمّى الإنسان: مجموع الجسم و الروح، ل الجسم وحده، ولا الروح وحده. وإنما أحبَّ الروح وحده الظهور لأن الوجود الحق الساري في جميع الموجودات، الذي هو أصل الروح أحب الظهور، كما ورد في قوله: ((أحببت أن أعرف)).

وإذا فارقت الأرواح هياكلها وأجسامها لا ترى أنفسها إلاَّ على صورة هياكلها وصورها قبل الموت الطبيعي وبعده. ولا تغفل عنها طرفة عين، إلاَّ أهل الكشف والانسلاخ، من أهل الله، فإن أرواحهم مطلقة في الدنيا والبرزخ، وأرواح من عداهم مقيدة دنيا وبرزخاً. والتجسّد والتصوّر للأرواح المقيدة إنما هو في نظرها وشعورها، وإلاَّ فهي مجردة أبداً، فهيكل كلّ إنسان وصورته هو روحه المتجسّد حالة تجرُّده في عالم الخيال المطلق، كما يتجسّد العلم في الخيال المقيّد، ويظهر بصورة اللبن وهو هو. فتجسّد الأرواح وظهورها بالهياكل والصور ليس إلاَّ في شعورها لا غير. فإذا زال عنها ذلك الشعور، بالموت الطبيعي أو الإرادي، بقيت عند نفسها على ما كانت عليه في نفس الأمر من التجرُّد. فإنها حال تجسّدها في شعورها كانت في نفس الأمر مجرّدة، ول يزول عنها هذا الذهول والغفلة إلاَّ بالموت الطبيعي أو الإرادي. قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 50/ 22].

فالروح على حالها من الأزل إلى الأبد،  وما كان تنزله إلاَّ بحسب شعوره بالمراتب الخلقية، والتّنزلات الوهمية، ما انتقل إلى غيره ولا ارتحل إليه غيره، وإنَّ أوّل المراتب التي تنزل إليها نشأة العقل الأوّل، وذلك عبارة عن شعوره بها لأنه لما شعر ـ وشعوره عينه وعين ما شعر به انصبغت ذاته بها عنده. فظهر عند نفسه بصورتها، ل أنه انتقل إليها ولبسها، ولا أنها انتقلت إليه وقامت به. فإذا علمت أن الأرواح مجردّة حال تجسّدها، ومجسّدة حال تجردّها أعني بعد الموت، وما ورد في الآيات القرآنية والإخبارات النبوية، من نسبة الدخول و الخروج وغير ذلك من صفات الأجسام كالحلول والقبض عليها، والدخول والخروج، وفتح أبواب السماء لها، وغلقها دونها ونحو هذا، فكلّه تمثيل وكناية وتوصيل، إذ الأرواح عند تعلّقها بالأجسام وتدبيرها لها ل تفارق أصلها، وهي ناظرة إلى أجسامها وهياكلها. فهي تحلُّ موضع نظرها من غير مفارقة لمركزها الأصلي. وهذا تحيله العقول المعقولة بعقال الحسّ والعادة. ويُعَدّ نظره إلى الأجسام دخولاً وحلولاً.

وإذا بطل تدبير الأرواح لهذه الأجسام العنصرية بالموت الطبيعي انتقلت إلى تدبير أجساد خيالية طبيعية. واختلف أهل الطريق في هذه المسألة على ثلاث فرق. والحق أن الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة برزخاً وآخرة، لأنها لم تظهر إلاَّ عن تدبير وهيكل مدبر، وهو أصل وجودها. فلا تنفكُّ عن التدبير أبداً، فهي تدبر صوراً طبيعية عينية حسّية لها دنيا وبرزخاً. وآخرة، وحيث كانت. فأوّل صورة لبستها الصورة التي أخذ عليها الميثاق فيها، ثم الصورة الدنياوية، فإذا مات وموت كل صورة هو بطلان حكم روحها فيها فإذا مات الإنسان حشر روحه إلى صورة أخرى، إلى وقت سؤاله. فإذا جاء وقت سؤاله حشر إلى جسده الموصوف بالموت، فيسأل فيه، وغير بعيد في الاقتدار الإلهي أن يصير جسم الأرض كجسم الهواء، أو جسم الماء، فإنَّ كثافة الأرض ماهي ذاتية لها. ثمَّ بعد سؤاله يحشر إلى صورة أخرى في البرزخ، إلى نفخة البعث، فيبعث من تلك الصورة التي كان فيها في الدنيا، إن كان عليها سؤال. فإن لم يكن عليه سؤال حشر في الصورة التي يدخل بها الجنة. والمسؤول، إذا فرغ من سؤاله حشر إلى الصورة التي يدخل بها الجنة أو النار. وفي كلّ صورة ينسى صورته التي كان عليها، ويرجع حكمه إلى الصورة التي انتقل إليها. وتنتقل القوى مع الروح إلى الصورة التي انتقل إليها، فتكون درَّاكة بجميع القوى سواء، لاسيّما أهل الهياكل المنّورة، فإنهم ل يبالون لمفارقته متى كانت، لأنهم في مزيد علم دائماً، فهم ملوك أهل تدبير دائماً. والآلات مصاحبة لا تنفكّ في الدنيا ولا في البرزخ، ولا في الآخرة. والصور البرزخية، للأرواح على صور أخلاقها، وهي قوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾[الانفطار: 82/ 8]. أي الصور الروحية.

فثمَّ شخصٌ، الغالب عليه البلادة والبهيمية، فروحه روح حمار، فتكون صورته في البرزخ صورة حمار، وثم شخص الغالب عليه المكر و الخديعة والروغان، فروحه روح ثعلب، فصورته في البرزخ صورة خنزير، وكذا كلُّ صفة. وأكمل الأرواح صفة الإنسان وروحه، فليس الموت بعدم محض، ولا هو ضدُّ الحياة، عند المحققين من أهل الله، أعني الحياة التي هي بغير سبب. فإن للأشياء حياتين: حياة بسبب، وحياة بغير سبب، وهي ذاتية للأشياء، إذ الحياة فيض من حياة الحق تعالى فالأشياء حيّة في حال ثبوته وعدمها. ولهذا سمعة و امتثلت الأمر «كن» فكانت لأنفسها. فما نسب تعالى الكون إلاَّ لها بقوله: «فيكون» فمنه تعالى الأمر بالكون فقط.

وإنَّما الموت عبارة عن عزل الوالي عن تدبير الجسم، وتوليته لتدبير آخر، لا على طريق التناسخية. فإنهم يقولون برجوع الأرواح إلى تدبير أجسام عنصرية في هذا العالم المحسوس. فالموت بطلان تصرف الروح في الجسم، الذي كان لها التصرف فيه فقط.

وإذا أراد الله أن ينشئنا النشأة الآخرة كانت الصورة التي ينشئه للبقاء طبيعية لا عنصرية فتقبل الاستحالة والفناء، فهي كالأجسام التي خلقها الله للبقاء: العرش والكرسي والأطلس، وفلك الثوابت، أعني صور السعداء، وأمَّا الأشقياء فإنَّ صورهم عنصرية، ولذا قبلت النضج والتبديل في الجلود، كما ورد. فالنشأة الآخرة ما هي الأولى من كل وجه، ولا نشأة الناس كلّهم فيها سواء. ولذا قال تعالى: ﴿وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[الواقعة: 56/ 61].

وورد في الأخبار النبويّة من صفات أهل الجنة والنار، ما يخالف هذه النشأة التي علمناها: قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾[الواقعة: 56/ 62].

بعد قوله: ﴿وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وأما قوله: ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾[الأعراف:7/ 29].

فمعناه: كما بدأكم على غير مثال سبق، كذلك تعودون على غير مثال. فالخطاب للأرواح الإنسانية، يخبرها أنها تعود إلى تدبير أجسام في الآخرة، كما كانت في الدنيا، على المزاج الذي يخلق الله تلك الأجسام عليه، فهذه فائدة قوله: «تعودون». فلا تلتفت إلى أقوال المتكلمين وكثرة اختلافهم في هذه المسألة، أعني مسألة ما يعاد من الإنسان، فإنهم خبطوا خبط عشواء.

فإذا سوّى تعالى الصور الآخرة كانت كالحشيش اليابس، وهو الاستعداد لقبول الأرواح، كاستعداد الحشيش لقبول الاشتعال، والصور البرزخية كالسراج، مشتعلة بالأرواح التي فيها، فينفخ إسرافيل (عليه السلام) فتمرُّ النفخة على الصور البرزخية فتطفيها. وينفخ نفخة أخرى، فإذا هم قيام ينظرون. وقد ورد في الخبر الذي قدمناه: أن السماء تمطر مطراً شبه المني، فتمخض به الأرض، فتنشأ منه الأجسام على عجب الذنب، ويؤيّد هذا الخبر، ما ورد في آيات كثيرة، من تشبيه البعث بإخراج النبات من الأرض. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً﴾[ق: 9].

إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾[الروم: 19].

الخروج يعني البعث، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾[الأعراف: 7/57].

إلى أن قال: ﴿ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى﴾.[الأعراف: 7/57].

وقال: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾[الروم: 50].

ونحو هذا كثير في القرآن. وقد ورد في الصحيح:((كل ابن آدم يأكله التراب: إلاَّ عجب الذنب)).

وعجب «كفلس» وهو الذرة التي هي أ صل شجرة الجسم، وحبة بذرة وعليه إنشاء الله النشأة الأولى، وعليه ينشأ النشأة الأخرى. واختلف أهل الطريق في تفسير عجب الذنب الذي تركب عليه النشأة، وهو لغة، ما ضمّه الوركان من الحيوان، وهو العصعص. فقال حجة الإسلام الغزالي: «هو النفس» يعني الجمادية. وقال أبو زيد الرقراقي: هو جوهر فرد عليه تركبت النشأة الأولى للدنيا، ويبقى لا يتغير، وعليه تركّب النشأة الأخرى، يعني بهذا الجوهر حقيقة الماء، الذي هو أصل الأجسام. فإنَّ أصل كلّ مركّب: جوهر صفته النفسية الجوهرية والفردية وقبول التحيّز والاتصاف بأمور وجودية تحلُّ فيه وترتفع منه، وبسيلانه يصنع مقداراً ذا أبعاد، وهو الجسم. وهذا الجوهر يقبل التغير والبلى. ولولا أن الشارع أخبر أنه لا يبلى ولا يأكله التراب، إن كان هو مراده (صلى الله عليه وسلم) وقال ختم الولاية المحمدية سيدنا محي الدين (رضي الله عنه): عجب الذنب هو ما تقوم عليه النشأة، وهو لا يبلى. أي لا يقبل البلى، فإذ أنشأ الله النشأة الآخرة وسوّاها وعدّلها، وإن كانت هي الجواهر فإن الذوات الخارجة إلى الوجود من العدم لا تنعدم أعيانها بعد وجودها، ولكن تختلف فيها الصور بالامتزاجات، والامتزاجات التي تعطي هذه الصور أعراض تعرض لها بتقدير العزيز العليم. ففّسر (رضي الله عنه) عجب الذنب بما تقوم عليه النشأة الجسمانية، وهي إنّما تقوم على عدة جواهر روحانية. وإن كانت في الحقيقة جوهراً واحداً، وهذه الجواهر لا تبلى، أي لا يجوز عليها البلى. فإن الجواهر لا تنعدم بعد إيجاده أبداً، بخلاف الجوهر الذي فسّر به الرقراقي، فإنه يقبل البلى، وأكل التراب إيّاه، لول أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبر أنه لا يأكله التراب، ولا يبلى، إن كان هو المراد. وإنَّما عبَّر (صلى الله عليه وسلم) عمَّا يتركب عليه جسم الإنسان بعجب الذنب، حيث كان الإنسان نباتاً ينمو إلى فوق، وإلى تحت، كالنبات، وما يتركب عليه جسم الإنسان كالبذرة، ثم ينمو إلى فوق وإلى تحت، فحركته ونموُّه، من عجب الذنب الذي هو البذرة، إلى الرأس، حركةٌ مستقيمة، وإذا ظهرت الرجل والساق، فعن حركة منكوسة، والكل في التحقيق مستقيمة، فإنها طبيعية، كما تبين فيما تقدم.

فها قد تمَّ ما أراد الحق تعالى إظهاره على لسان عبده، من كشف بعض أسرار التجلّي، بكلّيات المراتب، وبعض الأنواع تتميماً للفائدة، مع تقييد م لساداتنا في ذلك من إطلاقات، وتفسير ألفاظ مبهمات، وتفصيل أشياء أرسلوها مجملات، وتنوير مسائل ما برحت مظلمات وحسر النقاب عن مخدرات، لم تزل من وراء حجب الغيرة مصونات، ربم لا توجد في كتاب، فإنها من فتوح الوقت، وهب الوهّاب، حرصاً على توصيل العلم لإخواني، فإني قاسيت الجهل فعناني وأعياني، فمن عرف هذا الموقف حق المعرفة، وأقام جدارة فاستخرج كنزه وكشفه كان ممّن فتح له الباب، ورفع بينه وبين ربه الحجاب، وقيل له: ها أنت وربّك ، فإن الأمر كما قال بعض سادات القوم: ((من دلّك على الدنيا فقد غشك. ومن دلّك على العمل فقد أتعبك. ومن دلّك على الله فقد نصحك)). وليست الدلالة على الله إلاَّ العلم به. ومن شاء فليجعل هذا الموقف، رسالة مستقلّة، يسميها «بغية الطالب، على ترتيب التجلي بكليات المراتب».


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!