موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


153. الموقف الثالث و الخمسون بعد المائة

قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾[المطففين: 83/ 15].

اليوم هو يوم القيامة، وأوّله يوم الموت، فإن من مات فقد قامت قيامته، كم ورد في الخبر، إذ من يوم الموت يكون في نعيم أو عذاب برزخي خيالي، إلى يوم البعث، حيث يصير العذاب والنعيم حسّياً كحال الدنيا. وربّهم الذين حجبوا عنه هو ربّهم الخاص الذي تولاّهم في الحضرة الجامعة لأسماء الربوبية، وهو الذي زيّن لهم أعمالهم الكفرية، كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾[النمل: 27/ 4].

زين لهم من حيث الاسم الخاص بهم، كما أنه قبّح وكرّه ذلك لآخرين، من حيث الا سم الخاص بهم، قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾[الحجرات: 49/ 7].

وقال: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾[الأنعام: 6/ 108].

وقال: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام: 6/ 122].

وهو الذي جعلهم فرحين بما لديهم، كما قال: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَ لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[المؤمنون: 23/ 53].و [الروم: 30/ 32].

وهو الذي زين لهم حب الشهوات، كما قال: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ﴾[آل عمران: 3/ 14]

وهو مشهود لهم في الدنيا، غير متحجّب عنهم، وإن لم يشعروا، وهم راضون عنه، وهو راضٍ عنهم، وما قالوا في الآخرة عند ذوق العذاب: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَ مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾[المؤمنون : 23/ 107].

ولا قالوا: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾[الأنعام: 6/ 27]

ولا نادوا: ﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾[الزخرف: 43/ 77].

ولا تأوّهوا ولا تضجّروا إلاَّ من انحجاب ربّهم عنهم، فإنَّ العذاب وإن تنوّعت مظاهره فمرجعه إلى الحجاب. و النعيم وإن تنوّعت مظاهره فمرجعه إلى الشهود والرؤية. ولو لم ينحجب عنهم في الآخرة، وبقي مشه وداً لهم م أحسّوا بعذاب، ولا تألّموا بنار، ولكانوا كما كانوا في الدنيا فرحين، مستبشرين، فكهين، يضحكون من أهل السعادة، يسخرون منهم، يتغامزون، كما قالوا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾[المطففين: 83/ 29 – 30].

﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: 2/212]

وهذا كله منهم، رضًى بكفرهم ومخالفتهم في الدنيا، التي تصوّرت لهم في الىخرة، بصور نار وحيّات ومقامع من حديد، وغير ذلك من أنواع العذاب، فإنها ليست إلاَّ أعمالهم، فكلّما تخيّلوا فعلاً من أفعالهم الكفرية، تصوّر لهم ذلك الفعل بصورة جعلها الله لهم من أنواع العذاب، فأحسوا بالعذاب، هذا في البرزخ. فإن الحكمة الإلهية جعلت التخيل فيه مقدماً على الإحساس، فلا يحس بالشيء إلاَّ بعد تخيله. وفي الآخرة التخيل والإحساس متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فما تعذّبوا إلاَّ بتخيلات أعمالهم الكفرية التي عملوها في الدنيا.

﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾[النحل: 16 /34]

فيتصور الزنا بتنور من نار، وَأَكل الربا بنهر من دم، و الكذب بكلوب... ونحو هذا و الكفر والمخالفة عند أهل السعادة في الدنيا بمثابة النار و الحيّات والمقامع التي للأشقياء في الآخرة، وذلك لأن ربّهم الهادي ونحوه من أسماء الجمال والسعادة كرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فهو مشهودهم، وإن لم يشعرو به، وليس ربّهم المضل، ونحوه من أسماء الجلال. ولذلك ترى المؤمن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، كما ورد في الصحيح، بخلاف الكافر، فإنه مستلذ بكفره مستحليه، وأن المؤمن يرى ذنوبه كجبل يخاف أن يقع عليه، فهو دائماً متعّذب بخوف وقوعه، وانتظار العذاب عذاب. ومن أهل السعادة من يستهين الموت في جنب معصية ربّه، وقلع عينه وقطع يده، كل هذا لأن ربهم ما زيّن لهم الكفر والمخالفات، كما زيّن ربّ الأشقياء أعمالهم الكفرية لهم. فإذا نفذ الوعيد، وأخذ الغضب الإلهي حدّه، وتمت كلمة ربّك: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[السجدة: 32 / 13].

تجلّى لهم ربهم الذي كان منحجباً عنهم. فزالت الآلام بشهوده وحصلت اللذات، وتوالت الأفراح، كما كانوا في الدنيا، فرحين بشهوده، متلذّذين بما يدعوهم إليه، متحجبين به مع بقاء جهّنم على حالها، ودوام أهوالها، وأنكالها، ولو دعوا إلى الجنة ونعميها لهربوا وتأذوا، وقالوا: النعيم ما نحن فيه لا غيره، كما كانو يقولون: ﴿إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ﴾[المطففين: 83/ 32].

وكما كانوا في الدنيا يهربون من أحوال أهل السعادة وأعمالهم، وحينئذٍ يصدق عليهم: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 6/ 28]. من الكفر وأعماله، لما وجدوا من اللذة والراحة والفرح على أحد محتملات الآية. و التلذّذ بالآلام مشهود عياناً، فقد رأينا بعض أهل الله تعالى ممّن أخذوا عن عقولهم بمشاهدة مولاهم في بلايا ومحن تئن لها الحجارة، وهم في غاية السرور و البسط و المزح وعدم الاكتراث بما حلّ بهم، ولا يطلبون زوال ذلك، بل لا يحبذون زواله، وراودناهم على التطبب فامتنعوا، وما ذلك إلاَّ لغيبتهم عن الآلام بمشاهدة ربّهم ومحبوبهم. وقد ورد في الأخبار، أن أهل الجنة إذا رأوا ربّهم تعالى غابوا عن الجنّة ونعيمها جميعه من حور وقصور وغلمان ومستلذات. فليس للنعيم صورة مخصوصة، وإنما هو بحسب المتنعّمين واختلاف طبائعهم وأمزجتهم، فقد يكون النعيم عند قوم عذاباً عند آخرين وبالعكس. وهذا أمر موجود في الدنيا. وهذه الآية في أهل النار الذين هم أهلها. لا الذين دخلوها بذنوب أصابوها، فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعات، التي آخرها حثيات الرحمن، وقد ورد في الخبر: إنهم يموتون في النار إماتة مدّة بقائهم فيها حتى لا يحسّوا بآلامها: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾[المطففين: 83/16].

"ثم" تفيد الترتيب. فما أحسّوا بالجحيم وما فيها من الآلام إلاَّ بعد الحجاب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!