موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


109. الموقف التاسع بعد المائة

قال تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾[الأنعام: 6/ 103].

وورد في الأثر، أنه (صلى الله عليه وسلم) سئل، هل رأيت ربّك؟ فقال: ((نورٌ أَنَّي أراه)).

وورد أنَّه قال لسائل آخر، ((نعم رأيته)).

والتحقيق عندنا، أنه رآه يقظة ليلة الإسراء، وما زاغ بصره وما طغى، وجوابه للسائل في الرؤية الأولى، إمَّا لكونه (صلى الله عليه وسلم) عرف منه أنه لا يعرف إلاَّ رؤية الذات البحت مجرداً عن المظاهر، ولا يعرف هذا السائل أمر التجلّي فكان هذا الجواب الساذج أولى به، وإمَّا أن يكون السائل لا يعرف إلاَّ الرؤية المعتادة عند العامة، التي تمنع أنوار الأشعة الرائي من تحقيق ما رأى، فورّى له (صلى الله عليه وسلم) بأنَّ الحق تعالى اسمه النور، وأمر النور في منع تحقيق الرؤية مشهور. وما قال: ما رأيته، لأن هذا السائل لا يعرف أنَّ من رأى الحق إنَّما يراه ببصر الحق، لا ببصره المقيد، فإنه قال: ((فإذا أ حببته كنت سمعه وبصره)) الحديث.

﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

ومن لطفه تعالى أنه أخبر: أن هويته هي بصر العبد وجميع قواه، ومع ذلك لا يقدر أن يميّز بين بصره وبصر الحق تعالى ـ، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) رأى ربّه يقيناً في مظهر، وهو التعين الأوّل، وهو الخاص بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ل يشاركه فيه غيره من رسول وملك، والرؤية في غير تعين محال، وهذه الرؤية التي حصلت لمحمد (صلى الله عليه وسلم) من غير سؤال هي التي سألها موسى (صلى الله عليه وسلم) فمنعها على حسب سؤاله لا مطلقاً، وما حصلت له حتى صعق. ثم أفاق فما أطاقها مع بقاء هيكله على حالته، وهو معنى قوله:

﴿ لَنْ تَرَانِي﴾

أي لا تطيق رؤيتي مع بقائك على حالتك حسب سؤالك، وأطاقها محمد (صلى الله عليه وسلم) لما خصّه الله تعالى به من القوة روحاً وجسماً، وأنه صاحب أو أدنى، وسائر الرسل (عليه السلام) منتهاهم قاب قوسين، وهو ظاهر العلم وظاهر الوجود. والرؤية الحاصلة لمحمد ولموسى (عليه السلام) هي غير المشاهدة الحاصلة لكل عارف بالله تعالى من نبيّ ووليّ وإن تفاوتت مراتبهم في المشاهدة. وسواء أكانت المشاهدة حال الغيبة عن العالم أو في العالم. والمحققون من العارفين لا يقولون: إنهم يرون الحق تعالى حالة شهودهم، بل يقولون: إنهم ما رأوه قطعاً، وإنما يرون صورهم ومراتبهم واستعداداتهم في الوجود الحق تعالى فلا يشهد الشاهد منّا إلاَّ نفسه، لأن المشاهدة على قدر ما يعلمه منه، وإن كان العلم خلاف الشهود والرؤية. فكل مشهود معلوم ما شهد منه، ما كل معلوم مشهود، فما يلزم من شهود الشيء العلم بحدّه وحقيقته وإلاَّ فما علمه ولذا كان علمنا بالله شعوراً فقط، والشعور علم إجمالي يعطي أنَّ ثمَّ مشعوراً به، ولكن لا يعلم ما هو، كما إذا رأيت صندوقاً مقفلاً، فحركته فوجدته ثقيلاً، تعلم أن فيه شيئا ً، ولكن لا تعلم ماهو؟ وإنما يقول المحقق: إنه م رأى الحق في مشاهدته، لأن الصور دائماً تتنوع على الرائي. والحق تعالى عين واحدة لا يتنوّع، مع أنَّ المحقّق يعلم أنه ما رأى الصور إلاَّ في مرآة الوجود تعالى ـ، فهو يرى، ولهذا يشير إمامنا وقدوتنا محي الدين:

قلوب العارفين لها ذهاب

 

إذا هي شاهدت من لا تراه

وذا من أعجب الأشياء فين

نراه وما نراه إذ نراه

على أنه في حالة الغيبة عن العالم في المشاهدة، يقال إنهم رأوه، ولكن من الرائي ومن المرئي؟! فإنها فناء محض، فالرائي هو المرئي إذاً، فعلى كل حال م رأوه. وإَّنما يرى الراؤون صورهم ونفوسهم ومنزلتهم. فكل مشاهد للحق تعالى أو الخلق، وكل عالم بالحق أو بالخلق، إنما يشاهد ويعلم من كل مشاهد ومعلوم قدر استعداده ومنزلته، ولكن في الوجود الحق تعالى ، وما رأى ما رأى إلاَّ فيه، فإن قال: رأيت الحق صدق على طريقة التوسع، وإن قال ما رأيته صدق. فإنه تعالى غير متعيّن حال تعينه من حيث الذات، وغير مقيّد حال تقيّده.

وفي قوله: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾[الأنعام: 104].تصريح بما ذكرنا، يعني: أنَّ من أبصر الحق عند نفسه وفي زعمه فإنما أبصر نفسه، بمعنى استعداده ومرتبته، ومن عمي فلم يبصر فإنما عمي عن نفسه. "فعلى" بمعنى "عن" وذلك " أن كل من رأى شيئاً يقظة أو مناماً إنما يراه على قدر استعداده، فنفسه رأى. فما أبصر مبصر الحق من حيث هو، لأنَّ المقيّد لا يبصر إلاَّ مقيداً، ولا يبصر المطلق عن القيود أبداً. فرؤية الوجود الحق تعالى مجرداً عن المظاهر والقيود محال في الدنيا وفي الآخرة لرسول ولملك ولأشرف مخلوق وأقربه محمد (صلى الله عليه وسلم) ولذا يقول إمامنا محي الدين:

ولم يبد من شمس الوجود ونوره

 

على عالم الأرواح شيء سوى القرص

وليست تنال الذات في غير مظهر

ولو هلك الإنسان من شدة الحرص

يريد الشمس يدرك قرصها، ولكن لا يحاط بها ولا تنضبط كيفياتها ولا يعلم ماهي عليه. وكذا الوجود الحق يشهد بالصور و المظاهر لأنها لا تشهد إلاَّ فيه وبه. ولكن لا يعلم ولا يحاط به ولا ينضبط، فما شهد حقيقة، إذ نسبة ما أدرك منه إلى م لا يدرك نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، وقال بعضهم:

كالشمس يمنعك اجتلاؤك نوره

 

فإذا اكتست برقيق غيم أمكن

فمشبّه ظهور الوجود بالشمس، فالشمس إذا كانت عارية من السحاب لا تدرك، وكذ النور الوجودي، إذا كان مجرداً عن المظاهر. فإذا كسا الشمس سحاب رقيق، أمكن شهوده بحسب إدراك الرائي لا بحسب ماهي عليه. وكذا الوجود النوري. قال شيخنا محي الدين:

الشمس تدركنا والشمس ندركه

نعم ومنها إلينا العطف والمدد

وإننا لنراها وهي ظاهرة

 

مثل التجلّي ولم يظفر به أحد

النور يمنعنا من أن نكيِّفه

فكيف من لا له كيف فيتحد

فالوجود الحق مرآة تظهر صورة المتجلي له فيها بقدر استعداده، فتظهر أحواله وأحكامه، كما أن الوجود يظهر في مرايا الأعيان بحسب استعدادها وقابليتها لظهور أحكامه وأوصافه. والصورة دائماً حائلة بين الرائي والمرآة، فغير ممكن أن يبصر المبصر الصورة والمرآة في آن واحد،  كم ذلك هو في الشاهد، فلا يبصر أحد الوجود ا لحق من غير صورة إلاَّ إذا فني عن القيود كلها، وحينئذٍ يكون الرائي و المرئي هو الحق، فما أبصر غيره، إذ الغيريّة منتفية حال الفناء. فلو فرض أن الرائي ما ظهرت له صورته ولا صورة غيره، ربما كان يراهن وهذا لا يكون البتة، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) الذي هو أحب وأشرف وأقرب من كل مخلوق، ما رآه في مرتبة أو أدنى إلاَّ في مرتبة التقييد، فكيف يطمع غيره فيما ل مطمع فيه؟ وما نزل وحي ولا أخذت شريعة إلاَّ من مرتبة التقييد. وقد ورد في الخبر: ((الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ)).

أي المؤمن الذي هو الحق، مرآة المؤمن الذي هو الولي، وبالعكس، وإنما خص المؤمن، وإن كانت مرائية الحق عامة، لشرفه، ولأنه هو الذي تنكشف له هذه المرائية لا غيره، وقال أمامنا محي الدين: «هو مرآتك وأنت مرآته».

يعني هو مرآتك في رؤيتك نفسك، وإنّيتك الوجودية العينية ورؤية غيرك كذلك، ومرآتك في شهودك عينك الثابتة العلمية الغيبية، إذا كوشفت بها وكنت من خاصة الخاصة، وأنت باعتبار وجودك العيني مرآته تعالى في رؤية أسمائه التي هي ذاته مأخوذة ببعض النسب والاعتبارات، وليست النسب غير الذات. فتارة هو المرآة والعبد الرائي، وتارة العبد المرأة وهو الرائي والمرئي، فالتبس الأمر، واختلط الشأن، فلم يتميّز الرائي من المرئي من المرآة، فأيها حق وأيها خلق؟ فإنَّ الناظر نفسه في المرآة وهو الوجود الحق، إذ كل راء لا يرى الحق إلاَّ بما فيه من الحق، والصورة في المرآة إنما ظهرت من المتوجه على المرآة، وهو الوجود الحق، والمرآة هي الوجود الحق:

رق الزجاج وراقت الخمر

 

فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

البيتان نسبهما الشيخ الأكبر إلى الحسن بن هانئ، ونسبهما ابن خلكان إلى الصاحب بن عباد، انتهى بخطه.

حار العارفون وحقّ لهم أن يحتاروا، أرادوا أن يجعلوه عين العالم فم صفا لهم ذلك لنزاهته وقدسه، وأرادوا أن يجعلوه غير العالم فما صحَّ لهم ذلك، لأنَّ العالم ليس بشيء زائد على نسب علمية مع اعتبار العلم عين الذات. فالعارف في حجاب، والجاهل في حجاب، وإن اختلف الحجب، والعالم في حجاب، والمشاهد في حجاب، والمكلم في حجاب، وكل ما أشعر بالاثنينيّة فهو حجاب. وإنما الشأن في العينية، وهي لا تجامع الشعور بقيد من قيود الغيرية.

ومن غريب الاتفاق أن إمامنا محي الدين (رضي الله عنه)، ذكر عندم تكلم على الطبيعة أنه رأى أمّه مكشوفة العورة فسترها، قال: فلذلك سترت وما أظهرت ما كنت أضمرت، أو نحو ه ذا الكلام، يريد أنَّه عبّر عن الأم بالطبيعية. وأنا عبد الله رأيت أثناء كتابتي لهذا الموقف في المنام أبانا آدم (عليه السلام) أخرج من قبره عرياناً فسترته بكساء كان عندي، فعرفت أن الذي أتكلم فيه هو الأب الحقيقي الذي منه خرجنا وعنه درجنا. فلذلك رمزت ولوّحت، وسترت وما أوضحت، وفي آخر هذه الرؤي بشارة وأي بشارة، و الحمد لله ربّ العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!