موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

الانفصال والاتصال


ليس هناك أدنى شكّ في أنّ زينون أثار مشكلة عميقة حول مفهومنا الشائع عن الحركة ورغم قرونٍ طويلةٍ من الجهود لمحاولة حلّها لا نزال نفتقر إلى حلٍّ مقنعٍ حقاً. فكما يقول فرانكل (Frankel) إنّ العقل الإنساني، عندما يفكّر في حقيقة الحركة، يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما وكلاهما حتمي لكنّهما في نفس الوقت متعارضان؛ فإمّا أن نعتبر الحركة تدفّقاً مستمرّاً وبالتالي يكون مستحيلاً علينا أن نتخيّل الجسم في أيّ موقع معيّن. أو أنّنا نعتبر أنّ الجسم يحتل مواقع محدّدة خلال مسار حركته؛ وبينما نحن نثبّت فكرنا على ذلك الموقع المعيّن لا نستطيع إلاّ أن نثبّت الجسم نفسه ونعتبره ساكناً للحظة قصيرة واحدة في ذلك المكان.[603]

وهذه في الحقيقة هي المعضلة الأساسية في الفيزياء والتي قد نتجاهلها أحياناً لكنّها لا تلبث أن تظهر من جديد في بعض أشكال المتناقضات التي تقضّ مضجع الفيزيائيين النظريين: أي هل الزّمان والمكان كميّات منفصلة أم متّصلة ؟ والمشكلة أنّه ليس هناك خيار آخر حتى الآن وكلاهما في النهاية يؤدّي إلى تناقض. فلقد ظهرت مثل هذه المشكلة مثلاً في النقاش التاريخي الطويل حول طبيعة الضوء فيما إذا كان جسيمات أو موجات، ولكن بعد نجاح نظريّة الموجة في القرن التاسع عشر، بدا وكأنّ نظريّة الكمّ المتّصل قد ربحت. ولكن في عام 1899، عندما حلّ ماكس بلانك (Planck) مشكلة إشعاع الجسم الأسود[604] بأن فرض أنّ الذرّات يمكن أن تمتصّ أو تبعث الطاقة فقط بكميّات منفصلة، عندئذٍ بدء عهد النظريّة الكمّية التي تعتمد على الكمّيّات المنفصلة رغم أنّها لا تزال تعتبر الزّمان والمكان متّصلان. بعد ذلك استعمل نيلز بوهر (Bohr) مفهوم التكميم لبناء النموذج الأوّل الناجح للذرّة، وكذلك استطاع آينشتاين أن يفسّر المفعول الكهروضوئي فقط بتبنّي الطبيعة الكمّية للضوء. ولكنّ نظريّة الكمّ ما زالت عاجزة عن تفسير الحركة والتغيّر، حيث يبدو أنّ النظريّة المتّصلة للنسبيّة أكثر نجاحاً.

فالعقل الإنساني تعوّد على تصنيف الكمّيّات إمّا قابلة للعدّ أو غير قابلة للعدّ أي إمّا منفصلة أو متّصلة؛ فهذا حتمي وليس هناك طريق آخر على مستوى التعدّد. لكن على مستوى الوحدة أو بالأخص الأحديّة فلن يكون هناك معنىً لهذه المفاهيم التي لا يمكن تصوّرها عندما نتكلّم عن ذاتٍ واحدةٍ فقط لا تتعدّد ولا تتجزّأ. هذا يعني أنّه بالنظر إلى نموذج ابن العربي للخلق يكون الزّمن على مستوى التعدّديّة كميّة منفصلة حيث يبدو من الواضح أنّه يتبنّى النظريّة الذريّة. لكن القضيّة أبعد من ذلك لأنّ حقيقة التدفّق الأصلي للزّمن كما يجري مع الجوهر الفرد الذي يقوم بخلق العالَم لا يمكن أن تكون منفصلة تماماً ولا متّصلة تماماً كما أسلفنا من قبل عند الحديث في الفصل الثّاني حول طول اللحظة وهل هي مؤلّفة من لحظات ثانوية منفصلة أم هل لها طول محدّد أصلاً، حيث وجدنا أنّه من الصعب تقرير ذلك. بنفس الطريقة، ليس من السّهل الحكم حتى على مستوى التعدّد فيما إذا كان العالَم (أي المكان والزّمان والمادّة الخ) كمّيّات متّصلة أم منفصلة. فبالرغم من أنّ هناك أحداثاً منفصلة تحدث في أوقات منفصلة، لكن لا يزال التغيير من حدث إلى آخر يبدو مستمرّاً، مثل تدفق الأيّام الطبيعية؛ فليس هناك تغيير مفاجئ أو انقطاع بين الأيّام بمعنى أنّنا يمكن أن نقسّم الأحداث بسهولة إلى أيّام ونصنّفها وفقاً للتاريخ، لكنّ العلاقة بين حدثين متتاليين يحدثان أثناء اليوم ليست مختلفة عن العلاقة بين الحدثين اللّذيْن يحدثان بالتوالي أيضاً قبل نهاية اليوم وبعده مباشرةً أو قبل وبعد الصباح أو المساء. وبكلمة أخرى، إنّ حركة الأرض حول محورها، رغم أنّها تولّد أيّاماً منفصلة لا تزال في حدّ ذاتها عمليّة متّصلة. وعلى نفس النمط، إنّ حركة الجوهر الفرد عمليّة متّصلة منذ الأزل ولكنّها هي التي تعطي اليوم والنهار والليل ككميّات منفصلة.

لذلك فإنّنا نجد أنّ ابن العربي لا يرجّح الانفصال أو الاتّصال لأنّه على مستوى الوحدة لا يكون هناك معنى لذلك، ولذلك يقول إنّ من لا يقبل التحيّز لا يقبل الاتّصال والانفصال،[605] أمّا على مستوى التعدّد والكثرة فإنّ الانفصال أو الاتّصال يكون دائماً أمراً نسبيّاً وليس مجرّداً.[606]

وفي الحقيقة تكون أعيان العالَم منفصلة عن بعضها البعض لأنّها ليست متحقّقة في الجوهر الفرد التي هي صورة من صوره، فإذا شهدت نفسها انفصلت عنه وإن فنيت فيه اتّصلت به واتّصلت عن طريقه بكلّ شيء آخر، وهو الوحيد الذي يصحّ له الفناء بالله تعالى أي الاتّصال به سبحانه وتعالى.

ومن هنا نجد معنى الصلاة لله والصلاة على نبيّه حيث إنّ الجوهر الفرد هو النُّور المحمّدي وهو ذات سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام؛ لذلك فإنّ صلاتنا عليه بقولنا "اللهمَّ صلّ وسلّم على سيّدنا محمّد" هي دعاء له أن يصله الله وبالتالي تكون الصلة لنا لأنّنا من صوره. ولذلك يقول ابن العربي في وجوب الصلاة على النبيّ بعد التشهّد في الصلاة وغيرها إنّها فرض لأنّها دعاء بظهر الغيب من العبد المصلّي لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقد ورد في الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه من دعا بظهر الغيب قال له الملك ولك بمثله، وفي رواية ولك بمثليه؛ فشرع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر بها الله تعالى في قوله في سورة الأحزاب ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ ليعود هذا الخير من الملك على المصلّي عليه من أمّته صلّى الله عليه وسلّم.[607]

وكذلك فإنّ صلاتنا لله تعالى هي قرب منه وكلّما تقرّب العبد من ربّه فني عن الدنيا بالفناء به، ولكّنه على الحقيقة يفنى في نفسه كما أشرنا من قبل وكما يقول الله تعالى في سورة يونس: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)﴾ وكذلك قوله في سورة الزمر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41)﴾، أي إنّ الله تعالى أنزل الكتاب الذي هو كلمات الله على رسوله الذي هو الجوهر الفرد فأنزلها عليه بالحقّ (المخلوق به) وهو العنصر الأعظم؛ فمن اهتدى فإنّما يتّصل بنفسه وهي النور المحمّدي ومن ضلّ ينفصل عنها، ولم يوكّل الله تعالى الرسول بوصل جميع أعيان الوجود بل وكّل ذلك لهم؛ والله أعلم وهو علاّم الغيوب.


[603] راجع:

H. Frankel, ‘Zeno of Elea's Attacks on Plurality’,Amer. J. Philology63 (1942), pp. 1-25, 193-206.

[604] مشكلة الجسم الأسود نتجت من ملاحظة أنّ بعض المواد (وخاصة الأجسام السوداء) يمكن أن تمتصّ جميع الترددات أو أطوال الموجات الضوئية، لذلك فعندما نسخّنها يجب أن تشعّ أيضاً جميع الترددات الضوئية على حد سواء على الأقل نظرياً. ولكنّ التردّدات وأطوال أمواج الضوء الذي تشعّه هذه الأجسام لم يكن متوافقاً أبداً مع هذه التنبؤات للفيزياء الكلاسيكية.

[605] الفتوحات المكية: ج2ص436س28.

[606] الفتوحات المكية: ج3ص324س35-325س18.

[607] الفتوحات المكية: ج1ص431س15.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!