موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

متناقضات زينون


لقد كانت الحركة، كنتيجة مباشرة لقانون السببيّة، هي السبب الرئيسي وراء كلّ نظريّات الفيزياء، منذ عهد سقراط وحتى نظريّة نيوتن للجاذبيّة إلى آخر نظريّات النسبيّة وميكانيكا الكمّ والجاذبيّة الكمّيّة. ومع ذلك هناك بعض الفلاسفةالمشهورين الذين شكّكوا في الحركة نفسها، على الرغم من تجاربنا اليومية التي لا تخلومن الحركة. وقد لا يكون من سبيل المصادفة أن نكتشف أنّ هؤلاء الفلاسفة لهم نظريّات مماثلة لرؤية ابن العربي فيما يخصّ وحدة الوجود التي شرحناها في الفصل الخامس. وبشكل خاص كان الفيلسوف بارميندس (Parmenides) الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد يؤكّد أنّ الوجود في أصله وجودٌ واحدٌ وثابتٌ وما عداه من الصور والمظاهر ليس له وجودٌ حقيقي.

ثم جاء بعده تلميذه الشهير زينون السوري صاحب المدرسة الرواقية الذي اعتمد فلسفة الوحدة وأنّ جميع الأشياء التي تظهر في الوجود مجرّدة عن الحقيقة. لقد كتب زينون كتاباً ضمّنه أربعين متناقضة منطقيّة يحاول فيها نفي الحركة بالمفهوم العادي الذي نألفه. وبالرغم من أن كتابه هذا لا يزال مفقوداً إلاّ أنّ أربعة من هذه التناقضات وصلت إلينا عن طريق أرسطو الذي ناقشها في كتابه الشهير "الفيزياء" وهي: الانقسام (Dichotomy) وأخيل[598](Achilles) والسهم (Arrow) والملعب (Stadium).[599]  وجميع هذه التناقضات الأربعة تتحدّى جميع الادّعاءات بأنّ هناك حركة حقيقيّة.

يستنتج تناقض الانقسام بأنّه ليس هناك حركة لأن الجسم الذي يتحرّك بين نقطتين "أ" و"ب" يجب أن يصل إلى منتصف المسافة بينهما "ج" قبل أن يصل إلى النهاية "ب". وكذلك لكي يصل إلى النقطة "ج" يجب أن يصل إلى منتصف المسافة بين "أ" و"ج"، وهكذا إلى ما لا نهاية له من التنصيف. فإذا فرضنا أنّ المسافة بين "أ" و"ب" تساوي الواحد فيجب أن يكون هذا الواحد يساوي نصف زائد ربع زائد ثمن ... إلخ. ولكن من الناحية الرياضيّة فإنّ هذا المجموع يساوي الواحد فقط بعد عددٍ لا نهائيٍّ من الإضافات وبالتالي هو يقترب من الواحد ولا يساويه؛ أي أنّ الجسم لا يمكن أن يصل إلى غايته. بالإضافة إلى ذلك فإنّ ما يحيّر العقل أكثر هو محاولة تنفيذ هذه العملية الرياضية بشكل عكسي، لأنّه قبل أن يصل إلى النصف يجب أن يصل إلى الربع وقبل أن يصل الربع يجب أن يصل إلى الثمن، وهكذا بشكل لا نهائي؛ أي أنّ الحركة لن تبدأ أصلاً، وذلك بسبب محاولة تقسيم المسافة إلى مراحل لا نهائيّة !

وكذلك في متناقضة أخيل يحاول زينون الوصول إلى أنّ أخيل بالرغم من أنّه أسرع بكثير من السلحفاة إلاّ أنّه لن يستطيع أن يسبقها ! فلو فرضنا بأنّ أخيل يسير بسرعة عشر أمتار بالثّانية والسلحفاة بسرعة متر واحد بالثّانية، وأنّه عندما بدأ السباق كانت السلحفاة أمامه بعشرة أمتار. فبعد ثانية واحدة سيصل أخيل إلى النقطة التي كانت بها السلحفاة حينما بدأ السباق، لكن السلحفاة تكون قد تحرّكت متراً واحداً إلى الأمام في هذه الثانية، وعندما يقطع أخيل هذا المتر تكون السلحفاة قد تقدّمت عُشر هذه المسافة، وهكذا إلى ما لا نهاية له. وبهذا الشكل فإنّ أخيل لا يمكنه أبداً أن يسبق السلحفاة !

بالطبع إنّ أخيل في النهاية يسبق السلحفاة وكذلك فإن جميع الأجسام تتحرّك من "أ" إلى "ب"، ولكن من الواضح أنّ تصوّرنا للحركة وآليّة حدوثها يسببّ تناقضاً رياضياً أو منطقياً؛ فلا شكّ أنّ هناك حركة ولكنّ فهمنا للحركة لا يبدو صحيحاً.

يستند زينون في هاتين المتناقضتين أعلاه إلى حقيقة أنّ الكميّات المتّصلة كالمسافةوالزّمن قابلة للقسمة بشكل لا نهائي. والحلّ الوحيد للخروج من هذا التناقض هنا هو أننفرض أنّ المسافة والزّمن كمّيّتان منفصلتان، بمعنى أنّه يوجد حدّ أدنى للقسمة لا نستطيعبعده تقسيمهما إلى وحدات أصغر. ولكنّ التجربتين التاليتين تؤدّيان إلى تناقض فقط إذا اعتبرنا المكان والزّمان كمّيّات منفصلة !

ففي متناقضة السهم يقول زينون أنّنا لو درسنا حركة السهم أثناء طيرانه في الفضاء الذي نفرضه كمّيّة منفصلة فإنّنا نجد أنّه يحتلّ بعض المواقع المحدّدة في الفضاء بين نقطة انطلاقه ونقطة وصوله؛ هذا ما يعنيه فرضنا أنّ المكان كمّيّة منفصلة. لكن وجود السهم في هذه النقاط المحدّدة يعني أنّ سرعته فيها تساوي الصفر. فكيف تكون السرعة النهائيّة للسهم الذي يصل إلى هدفه لا تساوي الصفر وهي عبارة عن مجموع سرعات كل منها يساوي الصفر ! فلو فرضنا أنّ السهم تحرّك بين هذه النقاط لما كان المكان والزّمان كمّيّات منفصلة.

أمّا المتناقضة الرابعة والأخيرة فهي أكثر تعقيداً ممّا شرحناه ولكنّها تؤدّي إلى نفس نتيجة متناقضة السهم أنّ المكان والزّمان لا يمكن أن يكونا كمّيّات منفصلة، في حين أنّنا وجدنا من قبل أنّهما لا يمكن أن يكونا كمّيّات متّصلة !

إنّ هذه المتناقضات الأربع تتحدّى حقيقةً كلّ النظريّات العلمية التي أثبتت نجاحها على نطاق واسع، وتتحدّى أيضاً جميع تجاربنا اليوميّة. لهذا السبب في أغلب الأحيان اعتُبرت هذه المتناقضات هراءً فلسفيّاً. ونجد مثلاً أنّ أرسطو لم يقدّر أهمية حجج زينون واعتبرها مغالطات من غير أن يقدّم دليلاً منطقياً قادراً على دحضها. ولكنّ العديد من الفلاسفة أخذوا هذه المتناقضات على محمل الجدّ وكانت هناك العديد من المحاولات للتخلّص منها عن طريق تطوير علم الرياضيّات وخاصّة علم السلاسل المتقاربة والمجموعات، فهناك بعض العلماء يعتقدون أنّ الرياضيات البديهية الحديثة بدّدت هذه المتناقضات حيث إنّّنا يمكننا الآن الحديث عن الحدود واللانهاية بدون الوصول إلى أيّ تناقض رياضي.

لكن بعض الفلاسفة مثل بيرتراند رسّل والعديد من العلماء الحديثين لا يزالون يعتقدون بصعوبة المسألة خاصّة مع ظهور تجارب حديثة في الفيزياء الذرّية وظهور متناقضات مماثلة ومحيّرة مثل ما يُعرف الآن بمفعول زينون الكمّي.[600] ولقد ظهرت في الفترة الأخيرة العديد من الأبحاث العلمية التي تحاول تغيير مفهومنا عن الحركة.[601]

بالطبع إنّ زينون لا يحاول نفي الحركة برمّتها لأنّ ذلك أمر واقعي مشهود لنا بشكل يومي، ولكنّه يريد أن يقول لنا إنّ مفهومنا عن الحركة ينطوي على الكثير من الأخطاء الأساسيّة. وكذلك وجدنا في الفصل الثاني أنّ ابن العربي لا يقرّ بوجود حركة فعليّة بمعنى انتقال الأجسام بشكل تدريجي ولكنّه يقول أنّ الجوهر الفرد يعيد خلق هذه الأجسام في أماكنها الجديدة بشكل مستمرّ ممّا يوهمنا بحصول الحركة؛ تماماً كما يحصل على شاشة التلفزيون أو الحاسوب. فنحن لا نشكّ مطلقاً أنّه ليس هناك أيّ شيء يتحرّك على الشاشة ولكنّ تعاقب الصور يوهمنا بالحركة. ولقد صرّح ابن العربي بوضوح أنّ الجسم الذي نراه يتحرّك لا ينتقل في الحقيقة وإنّما يُعاد خلقه في الأماكن المختلفة بين نقطة بداية الحركة ونقطة نهايتها،[602] كما رأينا في الفصل الأوّل عندما تحدّثنا عن الحركة.


[598] أخيل (Achilles) هو البطل الإغريقي في إلياذة هومر الشهير.

[599] انظر في:

T. L. Heath,A History of Greek Mathematics From Thales to Euclid(Dover Publications, 1981), pp. 273-83.

وأيضاً في:

Roy Sorensen,A Brief History of the Paradox: Philosophy and the Labyrinths of the Mind(Oxford University Press, 2003), p. 44-57.

وأيضاً في:

David Darling,The Universal Book of Mathematics: From Abracadabra to Zeno's Paradoxes(Wiley, 2004), p. 351.

وأيضاً في:

Justin Leiber,Paradoxes Interpretations, (Duckworth Publishing, 1993), p. 77.

وأيضاً في:

Erickson, G. W. and Fossa, J. A. Dictionary of Paradox (Lanham, MD: University Press of America, 1998), pp. 218-220.

[600] انظر في:

B. Misra, E. Sudarshan, ‘The Zeno's Paradox in Quantum Theory’,Journal of Mathematical Physics18, 756 (1977).

وأيضاً في:

Corey S. Powell, ‘Can't Get There from Here; Quantum Physics Puts a New Twist on Zeno's Paradox’,Scientific American, May 1990.

وأيضاً في:

W. M. Itano, D. J. Heinzen, J. J. Bollinger, D. J. Wineland, 'Quantum Zeno Effect', National Institute of Standards and Technology, Boulder, Colorado, 1989, and: G. Grossing, A. Zeilinger, 'Zeno Paradox in Quantum Cellular Automata',Physica D50(3):321-326, July 1991.

[601] انظر في:

Lynds, P. Time and Classical and Quantum Mechanics: Indeterminacy vs. Discontinuity.Foundations of Physics Letters, 15(3), (2003).

[602] الفتوحات المكية: ج2ص457س31.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!